منذ الإعلان عن حلول المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم، ضيفا لأول مرة على المغرب (يوم 1 يونيو)، أثير حوله الجدل بين مرحب ورافض، بسبب دعوته من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في إطار الدروس الحسنية المقامة في رمضان. وهذه ليست المرة الأولى التي يثار حوله الجدل، فالرجل، أينما حل وارتحل، واستمع إليه وشوهد، اعتاد أن “يخلخل” المناخ الديني السائد.
اشتهر عدنان إبراهيم (مواليد 1966)، الفلسطيني الأصل والمقيم منذ تسعينات القرن الماضي بالنمسا، بكونه المفكر والخطيب “المستنير” بمظهره وأفكاره “المزلزلة والمزعجة”؛ فمن على منبره وداخل مسجده، تحدث بجرأة بالغة عن حياة الصحابة، وعن شخصيات دينية “مقدسة” لدى المسلمين. بالإضافة إلى إنكاره بعض المعتقدات الراسخة في التراث الإسلامي؛ كالمهدي المنتظر، نزول عيسى (ع)، أحاديث صحيح البخاري.. وموافقته للمقولات الفلسفية والنظريات العلمية؛ كنظرية التطور لداروين.. وغيرها.
كل هذا، جلب عليه وابلا من الانتقادات، لكن، ورغم ذلك، فالرجل الذي درَس الطب والعلوم الإسلامية بجامعة فيينا، استطاع في المقابل أن يحيط علما ودراية بمجالات معرفية وفكرية شتى، شهد له بها ذوو الاختصاص.
وبمناسبة مقامه بالمملكة، خص عدنان إبراهيم، “تيل كيل عربي” بحوار مثير ومطول (3 أجزاء)، ولأول مرة بشكل حصري مع منبر إعلامي مغربي، تناول فيه مواضيع فكرية ودينية، لا يزال بعضها يحدث إشكالا داخل الأوساط الدينية، والتي من بينها: الحريات في المجتمع الاسلامي، صراع التراث والحداثة، العلمانية، العنف والتطرف والإسلام المعتدل، أوهام الإسلام السياسي، الحركات الإصلاحية.. وغيرها من المواضيع التي يدلي عدنان إبراهيم برأيه فيها بشكل مفصل ودقيق.
مرحبا بك دكتور في المغرب، وشكرا على قبول إجراء هذا الحوار. أولا، كيف تعرّف نفسك في ظل الصراعات الفكرية التي تعيشها ؟
رجل تخومي، يعيش بين ثقافتين كبريين، ينهل منهما، و يسعد بهما، على أنه مدرك لتحيزاته، وتحيزاتهما. يرى جذوره أعمق من أن يتنكر لها، فهو يسعى جاهدا إلى أن يعيش بالثقافتين كلتيهما، فالأولى جذوره التي بدونها يذوي و يفنى. والثانية فضاؤه وبعض غذائه، التي يستمر بها شاهدا على عصره.
يؤمن بعمق بأن دينه وتراثه لم يستنفدا أغراضهما، وأنهما لو أحسنت قراءتهما مستعدان وبكثير من الجدارة على الإسهام المقدور في إثراء العصر، بل وفي إنقاذ الإنسان، وتصويب مساره.
الحقيقة عشقه، والوفاء لها عبادة لله وقربى إليه، وهو يرى أن نشدان هاته الحقيقة، عملية ممتدة مستمرة، ويرى في البحث عنها روعة لا تقل عن روعة مكافحتها (النظر إليها كفاحا) وتمليها، هذا إن جاز أصلا أن تكافح مرة وإلى الأبد. وإذ كان كذلك فلا جرم أن يصطدم كثيرا بمن يريدونه وفيا لأطر جاهزة، وبرامج ناجزة، يتغيا بعضها المصلحة لا المعرفة، والهيمنة لا الاكتشاف.
يفكر إلى حد بعيد بصوت مرتفع، وهو إذ يفعل إنما يثير تساؤلات أكثر مما يقدم أجوبة، يحرك بها الماء الراكد، و يزرع علامات الاستفهام، هنا وهناك، ليعالجها رفقاء درب المعرفة، كل على طريقته ومن زاويته.
قضيت سنين طويلة في الفكر والدعوة، و في العقد الأخير، أثرت بشكل واسع على عدد كبير من المسلمين. لكن ينتقدك الكثيرون بكون أطروحاتك ومواقفك الفكرية، أضحت متقلبة ومتناقضة أحيانا؟
على كل حال، يبقى النقد علامة مؤكدة على صحة المشهد الثقافي وتعافيه. لكن بكل الصدق لا أرى في أكثر ما وجه إليّ ـ وبالطبع إلى غيري ـ مما يزعم فيه أنه نقد، أكثر من هجاء خالص. وبين أغراض الهجاء وأغراض النقد بون جدُّ بعيد. ولا يخفاكم أن صلتنا كمسلمين في هذا العصر بالنقد بمعناه العلمي المحترم لا تزال شديدة الوهاء، بحيث يمكن المعادلة بين زعم النقد وإرادة النقض، فالنقد مجرد عنوان جميل يُتوسل ذريعة لمقصد قبيح.
أما كون أطروحاتي أضحت متقلبة أو متناقضة، فالأمر يتوقف على تحديد المقصود بهذه الألفاظ. من جهتي أرى أن الوفاء للمبادئ والمقاصد مع تغيير الموقف وزاوية النظر، تغيرا محمودا، ومرونة مطلوبة، في حين أراها انتهازية ونزوية الحالة المعكوسة.
هل لا يزال عدنان إبراهيم يؤمن بأولوية الإنسان على الأديان؟
فيما يتعلق بأولوية الإنسان على الأديان، فإذا سلمنا بأن الأديان ـ وأعني هنا الإلهي منها على وجه الخصوص ـ إنما كانت لأجل الأرض وعمّارها، لا لأجل السماء، فالسماء غنية عن الأرض بالمطلق، وقد تبدو العبارة متناقضة، فما مأتى الأولوية هنا، والحال ألا تعارض بين الأديان والإنسان، تماما كما لا تعارض بين المريض و الدواء، ولا بين الجائع و الغذاء، ليُبحَث بعد ذلك لمن تكون الأولوية بينهما.
لكن بالالتفات إلى أن المقصود الممارسة البشرية للدين، فهما وتطبيقا، يغدو الأمر أكثر من واضح. فالأديان المنظمة Organized religions عبر التاريخ، والتي حولت الدين إلى مؤسسة اجتماعية، الدين فيها نظام اعتقاد محدد أقرب الى الإنغلاق، أو الدوغما، وطقوس منظمة، وقوانين مكتوبة Codification للأدوار والممارسات، ومعبد وكهنة، قد يتسم ـ لكن ليس بالضرورة ـ بهيراركية (نظام هرمي) صارمة. الأديان بهذا المعنى تنكرت كثيرا، بقدر أو بآخر للإنسان، وبدّت مصلحة رجال الدين، ومصلحة السلطة الرسمية على مصالح الشعوب، وتجاوز الأمر إلى تضحية ملايين البشر، تحت شعارات خادعة في سبيل إرادة الهيمنة والمصالح الضيقة لفئات محدودة.
تضحية الأفراد في سبيل العقيدة المحضة ممارسة بالغة الإجرامية، مهرت فيها النظم الشمولية عبر التاريخ
بهذا المعنى لا تردد لديّ فيما يتعلق بضرورة تأويل الدين على مستوى النص المؤسس بالذات، و الانتخاب من والتحيز للقراءات من التراث الديني، بما يجعل الدين قوة معنوية متحالفة مع الإنسان بأوسع معانيه. عنيت الإنسان كنوع، لا كأتباع حصريين أو مفتوحين لهذا الدين أو ذاك، وإن مثّلوا نصف البشرية، أو حتى ثلاثة أرباعها. فتضحية الأفراد في سبيل العقيدة المحضة ممارسة بالغة الإجرامية، مهرت فيها النظم الشمولية عبر التاريخ، الأمر الذي يؤذن حال تكراره باسم الدين بإدخال الدين في محاق نهائي، في عصر تتراكم فيه قناعات كونية مرفودة بممارسات واسعة بأهمية الفرد وقدسيته.
اشتغلت كثيرا على موضوع الحرية، بما في ذلك أطروحتك للدكتوراه، وأنت تعيش في بيئة ومناخ “ديمقراطي وحر”. كيف ترى ممارسة الحرية في السياق العربي و الإسلامي؟ أو بشكل أدق؛ هل يحق لغير المسلمين، في إطار الحرية، أن يمارسوا شعائرهم و طقوسهم في البلاد الإسلامية، بما فيها حقهم في الدعوة إلى دين آخر علنا؟
في العقود الأخيرة تردّت ـ للأسف الشديد ـ الممارسة المسؤول عنها أعلاه بشكل مقلق للغاية، و ذلك بفعل صعود تيارات متشددة بالغة الحصرية والضيق في منظورها الفكري الديني. وهو على كل حال أمر تكرر في تاريخنا في محطات كثيرة، على أنه لم يبلغ من الكثرة و الشيوع بحيث تسودّ منه صحائف هذا التاريخ، بل ظل في العموم في حكم الإستثناء من القاعدة العامة التي طبعت تاريخنا بهذا الخصوص، كما شهد بهذا غير واحد من غير المسلمين، مثل توماس آرنولد، و جورج قرم، و أمين معلوف.
لكن اللافت في الموضوع، أن ثمة نمطا ظل يتكرر، وبالتالي يتأكد عبر تاريخنا بطوله، وهو الأمر الذي انطبق على عصرنا هذا أيضا دونما فرق؛ كلما كان المسلمون أقوياء واثقين، ثقافيا وعسكريا، أبدوا درجة عالية من التسامح و التساهل، وحين يضعفون و يتراجعون ماديا ومعنويا، يتقلص بينهم ظل التسامح وترين على المشهد روح التعصب والحصرية.
والنظر الحر في النصوص المؤسسة للإسلام يعطي بغير إرهاق أو تكلف، أن حقوق غير المسلمين في ممارسة شعائرهم و التبشير بأديانهم والدفاع عنها، مكفولة مصونة، وهو الأمر الذي لا يتردد للأسف بالقدر الكافي، ولا حتى قريبا منه، في أدبيات المسلمين المعاصرة. رغم أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تحاجج أهل الكتاب مثلا، وتعرض لوجهات نظرهم؛ ومن هذا آيات آل عمران التي وثقت محاججة الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام لوفد مسيحيي نجران.
تاريخنا غاصّ بوقائع مناظرات شيوخ المسلمين لرؤوس المسيحيين واليهود وسواهم من أهل الأديان. وقد كان بعض تلك المجادلات يجري في مجالس الخلفاء والوزراء..
و من الذين صرحوا من المعاصرين بحق غير المسلم في التبشير بدينه والدعوة إليه، أبو الأعلى المودودي في رسالته عن حقوق أهل الذمة عام 1948، رغم كونه أحد كبار الأصوليين المعاصرين، وإسماعيل راجي الفاروقي.
أما تاريخنا فهو غاصّ بوقائع مناظرات شيوخ المسلمين لرؤوس المسيحيين واليهود وسواهم من أهل الأديان. وقد كان بعض تلك المجادلات يجري في مجالس الخلفاء والوزراء، كمناظرات طيموثاوس الأول Timothy I في حضرة المهدي العباسي، و مناظرة أسقف حران ثاودوروس أبي قرّة مع كلثوم بن عمرو العتّابي في حضرة المأمون. من المثير أن المخالفين كانوا يتوسعون و بحرية في عرض آرائهم الرامية إلى تفنيد القرآن و تزييف نبوة النبي، ولهم كتب معنونة بجرأة بالغة بهذه المقاصد، من مثل (تفنيد القرآن) Refutation of the Quran لأبي نوح الأنباري، ومقال الرد على العرب لديونسيوس يعقوب بن الصليبي، إلى كتب يحيى بن عدي، وبطرس البيتراسي، وإيليا النصيبني، وقبل هؤلاء جميعا كتابات يوحنا الدمشقي.
كإمام ورجل مثقف داخل المجتمع الأوروبي، المتسم بالحداثة، تحاول هناك إظهار الجانب التنويري من التراث الإسلامي. هل استطعت أن تجد مخرجا و صيغة “سحرية”، إن جاز التعبير، للخروج من أزمة “الصراع بين التراث والحداثة”؟
سأكون مباشرا وصريحا، فأقول: على المستوى الشخصي لم أعد أشعر ـ في آخر عقدين تقريبا من حياتي ـ بهذه الأزمة. وذلك بفضل اقتناعي التام المبرر دينيا ـ وفقا لقراءتي للنص ـ بجملة قضايا، رفعَتْ عن عقلي وعن ضميري معا الحرجَ الذي يمكن أن يعانيه مسلمُ العصر، وخصوصا من يعيش في مجتمع غربي حر.
في رأس هذه القضايا، إيماني بأن الإنسان هو أولوية الأولويات، و بأن الحرية هي أولوية الإنسان، و في رأس الحريات حرية التفكير والإعتقاد وحرية التعبير، ثم بجملة حقوق الإنسان المعروفة. كما أني توصلت إلى بناء منظور شديد الإتساع فيما يتعلق بمصير غير المسلمين، يبرأ من الحصرية، ويسمح بإعادة اكتشاف النص القرآني في هذا الخصوص على نحو معجِب، لجهة انفتاح هذا النص وعمق إنسانيته وواقعيته.
لم أقع ضحية نزعة علموية ضيقة، يعاني منها كثير من الحداثيين، ولا بالمقابل ضحية نزعة نصوصية مغالية، سطت بكثير من الأصوليين، تبخس العلم وتستعيض عنه بالنص، مصدرا مطلقا للحقيقة الشهودية..
وعلى صعيد الأحكام الشرعية العملية تأكد انحيازي إلى الروح والمقصد، خصوصا في أبواب المعاملات وما يلتحق بها، بما مكنني من التعاطي مع صور الأحكام بطريقة أكثر مرونة وعملية، تقوم على إيلاء السياقات الأهمية اللائقة بها، لا لجهة تنزيل الأحكام فقط، أو ما يعرف بلغة أصول الفقه بتحقيق المناط، بل أيضا لجهة سن تلك الأحكام ابتداء.
وفيما يتعلق بمصادر المعرفة، لم أقع ضحية نزعة علموية ضيقة، يعاني منها كثير من الحداثيين، ولا بالمقابل ضحية نزعة نصوصية مغالية، سطت بكثير من الأصوليين، تبخس العلم وتستعيض عنه بالنص، مصدرا مطلقا للحقيقة الشهودية، بل اعتمدت منظورا مركبا، يجمع بين الحس والعقل، والوحي والحدس، كل في مجاله، على طريقة الأروقة المتمايزة Non-overlapping magisteria، التي انحاز إليها الراحل ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould في عمله الشهير. الأمر الذي زودني بالشجاعة الكافية لأعيد قراءة النص في ضوء العلم، فيما هو أساسا من اختصاص العلم، ونفى عني في الوقت نفسه الحرج في تسليمي للنص، في كل ما هو أساسا من مختصات النص. وهكذا لم أغترب عن عصري، ولم أتنكر لمعتقدي الديني.
وعلى الأرجح، ستثير مثل هذه المقاربة، بما تبدو عليه من يسر ووضوح، تساؤلا بخصوص ذلك الكم الهائل من الأدبيات حول النزاع بين التراث والحداثة في فكرنا الإسلامي الحديث والمعاصر. ومن رأيي أن ذلك يعزى جزئيا إلى مغالاة كلا من الطرفين بما عنده، التراثيين والحداثيين، ما يجعل الشقة بينهما تزداد بعدا.
تلك المغالاة قد تعزى بدورها إلى الإخفاق في تلمس جوهر الأمر، فإدارة العصر بفهوم التراث جملة وتفصيلا، عملية محكومة بالفشل، كونها تهدر السياقات، وتتنكر لما راكمه الإنسان عبر الزمن من مكتسبات علمية وفكرية، بالقدر نفسه الذي تفشل به عملية التنكر للتراث والرغبة في الإستغناء عنه، كونها تتنكر لروح الأمة وتطمس أقوى مشخصاتها. (..)
كيف تنظرون إلى دور المدارس الإصلاحية والمشاريع الفكرية والدينية، في ظل وجود حركات الاسلام السياسي؟
من رأيي أن محاولة جمال الدين الأفغاني و صاحبه الإمام محمد عبده من جهة، والحركة السلفية العلمية التي أسس لها محمد بن عبد الوهاب، على بعد ما بينهما، وعلى اختلاف الناس في تقييم كل من التجربتين، وبقدر أقل منهما حركة الإمام أحمد بن عبد الرحيم، المعروف بشاه ولي الله الدهلوي في شبه القارة الهندية، ومحمد بن علي السنوسي في ليبيا، وحركة سير سيد أحمد خان في الهند، مؤسس جامعة عليكره الإسلامية، وإن بقدر أقل كثيرا من المدارس السابقة، هي التي يمكن نعتها بالمدارس، لاعتبارات غير خافية على المراقب.
أما ما أتى بعد ذلك فضربان بينهما بون بعيد؛ مدارس حركية بطبيعتها، هي التي صارت تعرف مؤخرا بحركات الإسلام السياسي، أو التيارات الأصولية، والتي يبدو من تقييم أعمالها وأدبياتها أن الإصلاح العلمي لم يكن في القلب من اهتماماتها، بل أرجئ معظمه لحين الوصول إلى السلطة السياسية، ليستكمل المشروع الإصلاحي من الرأس لا من القاعدة. وأخرى هي كما وصفتها حضرتك، مجرد مشاريع فكرية لم يفلح أي منها في الاستحالة إلى مدرسة فكرية.
حركات الإسلام السياسي قد ساهمت بقدر هائل، في إفشال و إجهاض عمل المدارس الإصلاحية التي كانت تعد بالكثير.
ومن وجهة نظري أن حركات الإسلام السياسي قد ساهمت بقدر هائل، في إفشال و إجهاض عمل المدارس الإصلاحية التي كانت تعد بالكثير، لاسيما مدرسة عبده. فهذه الحركات تفتقر إلى برنامج إصلاح علمي متين ورصين، بدليل تسجيل بعض كبار روادها ـ القرضاوي وأحمد العسال وجمال الدين عطية ـ عليها منذ فترة مبكرة، أن عقلها أصغر بكثير من جسمها، فالأول يضمر مع الزمن، بينما الثاني يكبر ويتضخم. ولكونها بهذه الصفة فقد عجزت عن الحيلولة دون تناسل حركات اعتراضية ـ إن جاز التعبير ـ اتسمت بطابع تدميري ذاتي، جزئيا عبر الإمعان في التكفير، تكفير الحكومات و الجماهير أيضا، و جزئيا عبر تحويل الجهاد الذي ينبغي أن يقصر دوره في الأساس على الدفاع عن حدود الدول واستقلالها إلى داخل الدولة وقلب الأمة.
بل إن التحالف والتداخل الذي وقع بين بعض حركات الإسلام السياسي، والتي عينها على السلطة، من جهة، والمدرسة السلفية العلمية في نسختها السعودية خصوصا، و التي عينها على إصلاح الفكر والسلوك، قد أسفر عن مخرجات شديدة الخطورة، أدخلت بل ورطت عالمنا الإسلامي في صراع دام مع الدول الكبرى، على نحو خرج معه الإسلام نفسه وأمته خاسرين أعظم الخسارة. والمقصود كما لا يخفى، تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة وملحقاتهما.
وماذا عن اختلاف المشاريع الفكرية، وتأثير ذلك في مسيرة الإصلاح ؟
المشاريع الفكرية المختلفة هي كثيرة جدا، وإن كان بعضها أقرب إلى أن يكون إسهامات، لا ترقى إلى حجم مشروع متكامل وواع بحدود عمله وغاياته، بدءا من أعمال الجمال القاسمي ورشيد رضا و شكيب أرسلان في بلاد الشام، وأعمال محمد إقبال، (..) وعلال الفاسي في المغرب، والطاهر بن عاشور في تونس، والبشير الابراهيمي في الجزائر، ونصر حامد أبو زيد و حسن حنفي و أبو القاسم الحاج حمد و محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، و طه عبد الرحمن ، جمال البنا ومحمد شحرور والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وغيرهم في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه من القرن الواحد و العشرين.
أعرب عن استبشاري واستبشار كل راغب في الإصلاح، ناشد للتجديد، والتغيير الذي يقيلنا من عثرتنا الحضارية التي لجت بنا لقرون، ويبعثنا من جديد أمة قادرة على تمثل الخير الذي سبق إليه غيرنا، ومن ثم مشاركته.. بجعل الحياة أكثر طيبة وخيرية، والعالم أكثر سلاما وعدلا ورحمة.
الاختلاف في مشاغل واهتمامات هذه الأعمال والمشاريع، فضلا عن اختلاف مناهجها و مقارباتها، الأمر الذي يحتاج معه إلى عدد من الطروحات العلمية، على مستوى الماجستير و الدكتوراه، لتقييمها و مقارنتها. وأكتفي هنا بالإعراب عن استبشاري واستبشار كل راغب في الإصلاح، ناشد للتجديد، والتغيير الذي يقيلنا من عثرتنا الحضارية التي لجت بنا لقرون، ويبعثنا من جديد أمة قادرة على تمثل الخير الذي سبق إليه غيرنا، ومن ثم مشاركته في ما نستقبل ويستقبل من خير جديد، يساهم في تخصيب التجربة البشرية، ومباركتها، بجعل الحياة أكثر طيبة وخيرية، والعالم أكثر سلاما وعدلا ورحمة، والإنسان أقدر على ارتفاق الوجود، بفهمه وتسخيره.
وبديهي أن هذا الاستبشار وفسح الصدر لكل إسهام على طريق الإصلاح والتجديد، لا يعني شيكا على بياض لكل قائل وما يقول، لكنه يعني مكافأة الاجتهاد، ومباركة المحاولة والاهتمام. ومن وراء هذا، سيعمل غالبا الانتخاب الثقافي عمله، على سنّة “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
هل الإصلاح الديني يحتاج إلى دعم وإرادة سياسية؟
تاريخنا يحوي بعض الأمثلة الموحية بهذا الخصوص، لرجال دولة كبار أحاطوا أنفسهم بالعلماء والمصلحين الناصحين، الحريصين على مصلحة الأمة واستقرار الدولة، من مثل عمر بن عبد العزيز، و مظفر بن محمود من ملوك أحمد آباد حاضرة الهند في وقتها، وبعده السلطان “عالم كير أورنك زيب”، من أحفاد تيمور لنك.
وكذلك يزودنا تاريخ أوروبا الحديث بجملة أمثلة مضيئة في هذا الصدد، منها روجر الثاني ملك صقلية، وأفضل ملوكها النورمانديين لجهة دعم العلم واحتضان العلماء، وكان من مشاهير رجاله الجغرافي المسلم الشهير، الشريف أبو عبد الله الإدريسي، ومثل أسرة ميديتشي Medici في فلورنسا، التي امتد حكمها قرابة ثلاثمئة سنة (من 1434 الى 1737)، والتي قادت ولادة النهضة Renaissance برعايتها للفنون والعلوم، وقد شركها في هذا أسر أخرى مثل آل سفورزا و آل فسكونتي.. وغيرها من الأسر الكبيرة.
وبعد أن حكم على الامبراطور الروماني المقدس تشارلز الخامس، على مارتن لوثر بالإعدام، بإيعاز من بابا روما، لم ينجه من ذلك، إلا تدخل أمير سكسونيا الذي نجح في إخفائه عن الأنظار لمدة عام كامل، وقد كان الأمراء الألمان أقوى مؤيدي لوثر، في الوقت الذي كانوا فيه على خلاف مع الإمبراطورية الألمانية. ومن جهته، أوصى لوثر هؤلاء الأمراء ـ الذين بلغ عددهم 500 أمير ـ بإنشاء كنائسهم الخاصة لقطع صلة الكنائس المحلية بروما، وللقضاء على مجلس الكنائس الأعلى.
كما شهد عصر التنوير أمثلة عديدة على رعاية الملوك ـ رغم كونهم مستبدين منفردين بالحكم ـ لعدد من كبار رجالات التنوير، منهم فريدريك الكبير وامبراطورة روسيا كاثرين الثانية المعروفة بكاثرين الكبيرة، اللذين كان بلاطهم يموج برجال التنوير.
هؤلاء المستبدون العادلون هم الذين بعثوا الإمام محمد عبده على القول: إنما ينهض بالشرق مستبد عادل، مستبد يُكره المتناكرين على التعارف، و يُلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، و يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة،… فهو لهم أكثر مما هو لنفسه، فهل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله، عادلا في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة، ما لا يصنع العقل وحده في خمس عشرة قرنا؟
وما الذي يمكن استنتاجه من هذا للفترة الراهنة ؟
قد يرى المرء أن النظام السياسي الذي يُؤمَّلُ في دعمه لمشاريع الإصلاح الديني، على قدر ثباته واستقراره يخلو دعمه من شوب توظيف مشاريع الإصلاح لتبرير أوضاعه، و تسويغ ممارساته. و أيا ما كان، فإن من بين أبرز الدروس التي أملتها الحقبة الأخيرة، بكل ما شهدته من فصول الصراع والاحتراب العنيف، أن كل تأويل للدين يكون أقرب الى إشاعة قيم الرحمة و التسامح، و ثقافة الإنفتاح و الحوار مع الآخر، سيوفّر على الأمة كثيرا من المعاناة، و سيقربها من إنجاز مشاريع التحديث والتنمية في أجواء أكثر استعدادا، وأفضل قابلية.
في الإصلاح الديني.. إما أنجزنا المهمة بنجاح، وإما تركناها لينجزها من لا يحسن، فيزيد الأمر عنتا وهولا.
ولما كان الدين ضرورة لا يمكن تجاوزها، وخصوصا في عالم المسلمين، فما بُدٌّ من التعامل مع ملف إصلاحه وتجديده على نحو يفي لمقاصده وروحه، بتلبية متطلبات الروح، وتطلعات العقل، وإسناد المجتمع بقيمه الفاضلة، وتقاليده الإيجابية، وبما يحقق التواصل مع التراث، والحضور في العصر في آن. فإما أنجزنا المهمة بنجاح، وإما تركناها لينجزها من لا يحسن، فيزيد الأمر عنتا وهولا.
هل في نظرك للإسلام السياسي والحركات الدينية، في الوقت الراهن، دور في ترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك مع باقي الأديان، أم تراه يزيد من تأزم الأوضاع ولم تعد الحاجة إليه ضرورة في المجتمعات؟
ليس من همّ الإسلام السياسي ترسيخ القيم التي ذكرت، بل في القلب من همه نيل السلطة السياسية، وهل ننسى تصريح أحد كبار رموز الإسلام السياسي ـ بل كبيرهم في ذلك الوقت ـ عام 1997 بعدم جواز دخول الأقباط في مصر الجيش الوطني ووجوب دفعهم للجزية، ما يعني أن مفهوم (أهل الذمة) يعتبر ساري المفعول لا يزال في فهم هؤلاء، والفتاوى المانعة من بناء الكنائس ودور عبادة غير المسلمين في المدن و البلدات التي فتحها المسلمون عنوة.
وقد رأينا ولسنوات عدة جماعة من كبار رموز ومنظري الإسلام السياسي، ولا همّ له في كثير من برامجهم ولقاءاتهم المتلفزة إلا استفزاز شركائنا في الأوطان من إخواننا المسيحيين بالنيل من كتابهم وتاريخهم وعقائدهم، وقرفهم بتهمة الائتمار بالدولة والوطن وتخزين السلاح في الكنائس، للانقضاض في الوقت المناسب.. الخ من هذه الترهات والأفائك.
الإسلام السياسي بنزعته شبه الشمولية ومرجعيته الماضوية، ذات الطبيعة الفقهية أساسا، يتعارض إلى حد بعيد مع مشروع الدولة المدنية الحديثة بمرجعياته المعروفة والقائم على أساس المواطنة المتساوية..
من كان أمينا مع الحقائق يعلم يقينا ومن أقصر طريق، أن الإسلام السياسي بنزعته شبه الشمولية ومرجعيته الماضوية، ذات الطبيعة الفقهية أساسا، يتعارض إلى حد بعيد مع مشروع الدولة المدنية الحديثة بمرجعياته المعروفة والقائم على أساس المواطنة المتساوية؛ ففي ظل أفضل الصيغ لدى حركات الإسلام السياسي لن يكون غير المسلم في أفضل أحواله إلا مواطنا من الدرجة الثانية. وهذا طرح لم يعد مقبولا في وقت تزداد فيه مجتمعاتنا تنوعا وتباينا لجهة العقائد والأفكار، بعد انفتاحها على العالم الكبير بدرجة غير مسبوقة، وأيضا في ظل شيوع منظمات حقوق الإنسان المستندة إلى مرجعيات ذات بعد عالمي تقريبا.
لقد رأينا و لمسنا كيف نجحت هذه الحركات في شق المجتمعات رأسيا، حتى في داخل المساجد، التي من المفروض أن تكون لله، وألا يدعى فيها إلا إليه، ما يثير قلقا له مبرراته الموضوعية بخصوص مصير غير المسلمين، ومن بينهم بالطبع المرتدون عن الإسلام، في ظل حكم هذه الحركات.
من المهم الإشارة إلى حقيقة؛ كيف ألجأت الممارسة العملية، لعملية حكم هذه الحركات ـ في تركيا و تونس تحديدا ـ إلى تبني توجه مختلف عما كانت تعلنه قبلا، تحت عنوان فصل الدعوي عن السياسي، والذي هو في حقيقته تقنيع للفصل بين الديني والسياسي، ما يعني في الواقع العودة إلى الطرح أو الحل العلماني.
إذن كيف ترى مستقبل هذا الاسلام السياسي؟
لست أرى أي مستقبل واعد لحركات الإسلام السياسي، مستقبلها صار خلفها لا أمامها. يوم كانت بقدراتها التعبوية والمالية قادرة على احتكار المشهد الدعوي ـ إن جاز التعبير ـ في ظل مناخ فكري وثقافي يغلب عليه التجانس إلى حد بعيد، فضلا عن انغلاقه على نفسه تقريبا، بعيدا عن المرجعيات العالمية لحقوق الإنسان، والمصادر الأوسع والأكثر تنوعا للفكر، يوم كانت تقدم وعدا يخلب ألباب قواعدها الجماهيرية، وعدا لم يجر تجريبه بعدُو اختبار جدواه ونجاعته في أرض الواقع بطريق الممارسة. والآن كل ذلك قد صار من الماضي. (…)
هل لا يزال الفكر الوهابي اليوم مؤثرا على الإسلام والمسلمين؟
بالتأكيد، فالفكر لا يستأذن بالإنصراف، كما ينصرف فرد من مجلس، و لكنه يضمحل ويتراجع شيئا فشيئا، كما يتلاشى الفصل من فصول العام، لا في ساعة ولا في يوم.
لكن من يخطئ ملاحظة ما تلقاه هذا الفكر الضيق من ضربات قاسية، في العقد الأخير، جعلته ينحسر انحسارا يؤذن بزواله في حين قريب، بإذن الله. ومثله في هذا الفكر الأصولي عموما.
مع تنامي أحداث العنف في أوروبا من طرف المحسوبين على الجماعات المتطرفة، وأفول نموذج “تطبيق الشريعة”، وفي ظل “الاندماج الإجباري” للمسلمين في منظومة العلمانية و التعايش معها. هل يمكن اليوم للإسلام التصالح و قبول العلمانية كنظام حكم، في الوطن العربي كذلك؟
إن عالمنا العربي أساسا من لحظة الاستقلال التي أنهت حالة الاستعمار الغربي، يعيش إلى حد بعيد ـ إذا تجاوزنا عن الفقرة النمطية في دساتير هذه الدول والمتعلقة بكون الإسلام دينها الرسمي والشريعة المصدر الأساسي للتشريع ـ حالة علمانية الدولة، وبأكثر من وجه، مع التنبيه على أن علمانية الدولة لا تعني ديموقراطيتها بالضرورة، ولا حتى ليبراليتها، فنظام الحكم في الدول الشيوعية مثلا، وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي سابقا، وفي الدول الفاشية، وفي مقدمها ألمانيا النازية، كان علمانيا، لا دينيا. و بهذا اللفت أكون قد أبنتُ عن نوع العلمانية الذي أتعاطف معه، والنوع الذي أحذر منه.
علمانية الدولة لا تعني ديموقراطيتها بالضرورة، ولا حتى ليبراليتها
وكل قراءة للنصوص الدينية المؤسسة والهامشية ـ القراءة التي تتوفّر نسخ متعددة منها ـ تخلص إلى إنكار حق الدولة في الإملاء العقدي، وتلزم المؤسسات الدولتية المعنية بالوقوف على مسافة واحدة من مختلف الأديان و الملل، وتطالب بحقوق متساوية للمواطنين على أساس المواطنة فقط، من غير أن يكون الدين أو المعتقد خط فصل في هذا الخصوص، إنما تمعن في طريق علمنة الدولة.
إن الوعي المتزايد لدى المسلم المعاصر بنجاعة الدولة المدنية من جهة، ودور العلمانية في كفالة مدنية الدولة من الجهة الأخرى، في اللحظة التي يعاني فيها عالمنا العربي من صراعات عدمية دامية تتوسل الطائفية الدينية، مع الإدراك المتزايد لضرورة الفصل بين الذاتي والعرضي في الدين، وإدراك أن كل ما يخدم غايات هيمنية وتسلطية يتعارض بطبيعته مع جوهر الدين، مهما بدا منسجما مع أهداف الدين المنظم، كل أولئك يصب في صالح الفكرة العلمانية، خصوصا مع إدراك أن العلمانية ليست عقيدة أو رؤية كونية يمكن أن تنازع الدين، أو تزاحمه في مجاله ودوره العتيد، بل إن العلمانية في جوهرها لا تصلح نعتا للفرد إلا باعتبار واحد، وذاك هو اقتناعه بها وصفا للدولة وطبيعة الحكم فيها، ما يسمح بوجود فرد متدين بعمق و تحمس في نطاقه الخاص على رأس حكومة او دولة علمانية.
العلمانية ليست عقيدة أو رؤية كونية يمكن أن تنازع الدين، أو تزاحمه في مجاله ودوره العتيد، بل إن العلمانية في جوهرها لا تصلح نعتا للفرد إلا باعتبار واحد، وذاك هو اقتناعه بها وصفا للدولة وطبيعة الحكم فيها..
ولعلك تلاحظ أن الحركات الإسلامية السياسية التي أتيح لها ممارسة السلطة أو المشاركة فيها، في الفترة الأخيرة، برهنت عمليا على أن مدى نجاحها بات رهنا بمدى انسجامها ـ و لو عمليا، دون مواجهة قواعدها الجماهيرية بالحقيقة الصعبة ـ مع البرنامج العلماني في إدارة السلطة وممارستها، الأمر الذي كشف عن الطبيعة الحقيقية للاحتياجات والاستحقاقات، بعيدا عن أشكال التنظير التي تغيت بطريقة أو بأخرى تعبئة الجماهير وتحشيدها، بالتأكيد الزائد ـ الذي قد لا يخلو من انتهازية في حال كان موعى به، أو من سذاجة في حال كان مغفولا عنه ـ على الصفة الدينية للسلطة.
لكن، لماذا في نظركم “نجح” مشروع “داعش” في الحكم، ولم ينجح مشروع الإسلام الذي يسمى معتدلا؟
اسمح لي ابتداء أن أختلف معك، فما هي علامات نجاح مشروع داعش في الحكم، و أين تصيبها؟ أفي إقامة المجازر الجماعية، أم ذبح الأسارى وحرقهم أحياء، أم في ترويع الآمنين وجلد المدنيين على أهون المخالفات، أم في استحياء مؤسسة الرق وأسواق النخاسة، أم في إغراء الولد بقتل والديه، والقريب بقتل قريبه، واستحلال حرمات المساجد بتفجيرها بمن فيها من الركع السجد، أم في ترويع و تهجير المسيحيين واليزيديين من أهالي المنطقة عبر مئات السنين وسبي نسائهم وسوقهن إماء وسراري، أم في تدمير تراثات المنطقة، التي تمثل ذاكرتها الحضارية وتشهد بقدم إسهامها بل تأسيسها لحضارة البشر.. الخ. وعلى فرض أنه أصاب هذا النجاح، فقد صار هذا النجاح من الماضي، وبأسرع مما توقع الكثيرون.
إن كان ثمة نجاح لداعش فهو في تشويه صورة الإسلام على نحو كوني كما لم يحدث من قبل قط، وفي تنفير جيل من الشباب والشواب من المسلمين من دينهم
ومن رأيي أن داعش التي لا تجد محللين اثنين يتفقان على تحليل وضعيتها، فالغموض يكتنف هذا التنظيم من كل جوانبه، والأصابع الإستخباراتية حاضرة بقوة في كل ما يختص بهذا التنظيم، وقد كان لجهات كثيرة متصارعة مصالح متعارضة في دعمه، أما من الذي استفاد في النهاية، وخرج بأكبر الأرباح فأمر بات واضحا هذه الأيام.
إن كان ثمة نجاح لداعش فهو في تشويه صورة الإسلام على نحو كوني كما لم يحدث من قبل قط، وفي تنفير جيل من الشباب والشواب من المسلمين من دينهم واضطرارهم إلى الارتماء في أحضان الشكوكية والإلحاد كفرا بالدين، وبما يجلبه من متاعب وما يخلقه من عذابات.
أما الإسلام السياسي المعتدل ومشروعه في الحكم فليس أزيد من فقاعة كبيرة، خدع بها الناس ردحا من الزمن، لتتكشف أخيرا عن لا شيء، وليس هذا موضع التفصيل.
سؤال يتكرر و لا يزال يبحث عن جواب شاف وكاف: إذ لا يزال العنف الديني ينهل من تأويله للنص الديني، أي من القرآن و السنة وأقوال العلماء.. ومن التاريخ الإسلامي كذلك. كيف ترى سبيل الخروج من هذه الإشكالية؟
يقع الجواب عن هذا السؤال في عدد من النقاط، تتكامل ولا تتعارض:
1- من قديم أدرك الإمام علي بن ابي طالب لب المسألة، وذلك حين قال: إن القرآن حمّال أوجه، وهو سطر مكتوب بين دفتين، لا ينطق وإنما ينطق به الرجال.
فالنص، سواء أكان دينيا أم غير ديني، ليس محصنا ضد التأويل، كل تأويل مهما بدا مقتصدا أو مغاليا، رصينا أو تافها، أصيلا أو مبتذلا. ومن هنا لا تعود المعركة معركة نصوص، لكن معركة قراءات للنصوص، وإذ هي كذلك، فستئيض في نهاية التحليل معركة سلطات، سياسية، أو علمية، أو نخبوية، أو جماهيرية. وستجد في كل نهاية نصا للسلطة، لا يتطابق بالضرورة مع سلطة النص، بل ستكون سلطة النص في أغلب الحالات متغيرا تابعا، ومجرورا للسلطة لتنمسخ في كونها نصا من نصوص السلطة.
النص، سواء أكان دينيا أم غير ديني، ليس محصنا ضد التأويل، كل تأويل مهما بدا مقتصدا أو مغاليا، رصينا أو تافها، أصيلا أو مبتذلا.. وستجد في كل نهاية نصا للسلطة، لا يتطابق بالضرورة مع سلطة النص
2- يحضر الدين بنصوصه ومفاهيمه بشكل تضخمي في ثقافتنا العامة المعاصرة، ما يجعل مقاربة شتى القضايا مشروطة بالنص، ما يمكن دعوته بالنزعة التنصيصية. وهي النزعة التي فتحت بابا عريضا لكل من يحسن ولا يحسن، للقول باسم الدين في قضايا حساسة وخطيرة. وذلك في ظل فوضى المرجعيات، بسبب غياب المرجعيات الموحدة الموثوقة في عالمنا الإسلامي المعاصر. وإذا كان المفروض أن تمتلك المرجعية الموثوقة صدقية معرفية، بحيث تكون دوافع التأويل لديها من طبيعة مرجعية، وأن تكون عملية التأويل محكومة بضوابط منهجية مرعية، فإن الذي حصل للأسف هو أن الدوافع التأويلية لدى الجماعات الأصولية على اختلافها أتت من طبيعة أيديولوجية، ولم تحكم العملية التأويلية بالضوابط المشار إليها، بل عانت من اختلالات منهجية شتى، يعسر كشفها أمام القواعد الجماهيرية لدعاة الأصولية ورؤوس الحركات المتشددة.
3- قد كانت عملية التأويل ستكون أكثر انضباطا وتحصينا ضد المغامرات العبثية لو توفرت ثقافة راسخة ترعى وتترجم المقاصد العامة للدين، وتترجمها في العملية الإجتهادية والتأويلية، كما تتواصل مع العالم و تتفاعل معه عبر الأخذ والعطاء، لكن صدمة اللقاء العسكري بالغرب التي عانى منها عالمنا الإسلامي قبل أكثر من قرنين بقليل، في مستهل الحقبة الإستعمارية، ولم يتعاف منها بالشكل الصحيح، أفرزت طروحات إسلامية منغلقة في هم هوياتي، يختزل الذات المركبة في بعض مكوناتها التي تصوَّرها خطأ مكونات جامدة عابرة للزمان والسياقات. ومن هنا تلك المساعي العبثية في سبيل طهرانية تقطع مع قيم العصر وآفاقه لصالح إحياء قيم عصر مضى وبعثه من جديد.
صدمة اللقاء العسكري بالغرب التي عانى منها عالمنا الإسلامي قبل أكثر من قرنين بقليل، في مستهل الحقبة الإستعمارية، ولم يتعاف منها بالشكل الصحيح، أفرزت طروحات إسلامية منغلقة في هم هوياتي
من جهة أخرى، تولد عن الإنفتاح المفاجئ على العالم الغربي، خصوصا في عمق نظمه الفكرية والسياسية والاجتماعية، غياب مقلق للتجانس الثقافي في عالم المسلمين، فصرت ترى ثقافات متجاورة متشاكسة غير متفاهمة في فضاءات شتى؛ الجامعة، والمؤسسة، والشارع، والتلفاز والمسرح، ومنابر الفكر والإعلام المختلفة، من الصحيفة والمجلة والكتاب، وأخيرا الشبكة العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي المعروفة.
هذه الوضعية من الاستقطاب الحاد، أفرزت تفضيلات فكرية متقابلة في أحيان كثيرة، تتذرع بصور من التأويلات المتعارضة.
في هذا السياق، ألا تلاحظ أن الأجيال الصاعدة والجديدة، مع التقنيات الحديثة أصبح لها جرأة أكثر (أي أكثر نقدا بإزاء ما تتلقاه) تجاه النصوص والمرويات الدينية (لا سيما الخرافية)؛ وكأن العقل تطور! وبالتالي هل يجعل هذا، النص المؤسس للإسلام (والإيمان عموما) في محك وأمام اختبار تطور العقل؟
بالتأكيد. وتعزى هذه الجرأة، وذلك التطور إلى التعرض المستمر لسيال معرفي متحرر من كل القيود، يتدفق من أربع نواحي العالم، ومن شتى الثقافات والمرجعيات. الأمر الذي رفع سقف الجدال، وسقف التوقعات إزاء كل سؤال أو استشكال. والأكثر من هذا كله، أنه أشكل على الكثير، والكثير جدا، مما كان يرسل في ثقافتنا إرسال المسلمات، وقد يدرج ضمن قائمة القطعيات والمحكمات.
إن آراءنا وتفضيلاتنا لم تعد تحاكم إلى تقاليدنا الفكرية والدينية وحدها، بل صارت تقاليدنا هذه تحاكم إلى أطر أوسع ومرجعيات عابرة للحدود من كل نوع؛ ثقافية وجغرافية وعرقية ولغوية. إنها حالة غير مسبوقة بالمرة، لكنها فرصة تتهيأ لأول مرة، لاختبار مدى صلوحية نصنا الديني للعالمية.
إن آراءنا وتفضيلاتنا لم تعد تحاكم إلى تقاليدنا الفكرية والدينية وحدها، بل صارت تقاليدنا هذه تحاكم إلى أطر أوسع ومرجعيات عابرة للحدود
وإذا الفكر كله لعبة مقارنة، كما قال آينشتين مرة، ففي هذه المرة سيغدو التراث كله والدين كله تحدي مقارنة. واستحقاقات هذا الإنفتاح أكبر مما يُقَدّرُ ـ ربما ـ معظمنا، يتمثل بعضها في إعادة قراءة الدين وصوغ خطابه الذي سيتلى على مسامع العالم، وهذه المرّة لا من موقع المسيطر، بل من موقع الند يحاور أنداده، وبما يفترض أن يجيب عن تحديات العالم لا تحديات عالمنا الخاص، وبما يلبي احتياجات العالم لا مجرد احتياجاتنا نحن، وبما يلتئم بمعايير العالم، لا بما يرضي معاييرنا نحن.
لا تزال بعض القضايا شائكة لم تقنع العصر الحالي، منها الإرث، التعدد، الحجاب، حرية الإفطار في رمضان، الحرية الجنسية… الخ. هل نحتاج إلى تجديد شامل لمنظومة التشريع الفقهية (المتحكمة في دسترة القوانين)، أم إلى حركة نهضوية للوعي والتفكير الإسلامي.. أو إلى حلول أخرى؟
الحركة النهضوية للوعي لا تتعارض مع تجديد المنظومة الفقهية، بل ينهض هذا التجديد حال وقوعه دليلا على وجود حركة الوعي هذه.
من وجهة نظر أصول فقهية يفترض أن يتغير كل حكم معلل حين تتغير علته، وهي قاعدة بالغة العقلانية، ذات قدرة تفسيرية و تغييرية هائلة، والمجال الأساسي لعملها أحكام المعاملات. ولست أرى مانعا من إعمالها في مجالها بالشكل المطلوب إلا الجمود ورهبة التجديد.
وهذا لا يمنع أن منهج فهم النص الديني وتأويله يحتاج أيضا، فضلا عن التفعيل، إلى تجديد وتثوير، ويمكن اختبار كل جديد بمعايير يجتهد أولو العلم و الفكر في وضعها، من مثل قدرة الجديد على الاشتغال بانسجام مع مقاصد الشريعة وروحها العامة، لاسيما المدلول عليها بنصوص تفصيلية فرعية في خصوص قضية ما./
انتهى الحوار.
حاوره غسان الكشوري
صحفي وباحث مغربي مهتم بالشؤون الدينية والفلسفية”
أضف تعليق