كمسلمين، لا يمكن أن يكون ردّ فعلنا الأولي والطبيعي على الفظائع التي تُرتكب باسم ديننا إلاّ الإدانة والسخط والتبرّؤ من مرتكبيها. فلنهتف بصوت واحد: «لا لهذه الأعمال الوحشية!». ولئن كان رد الفعل هذا مفهوماً، فإنّه قابل للنقاش على المستوى الفكري. فهل نقبل بالفرضية القائلة إنّ الحروب الصليبية «لا علاقة لها» بالمسيحية؟ وبينما يعرب كثيرون منّا عن غضبهم إزاء الرسوم الساخرة التي تُنشر في الصحف الغربية فإنهم يتوانون عن إدانة المهزلة الرهيبة التي تتسبّب بها الجماعات المسلحة مثل «داعش» و»بوكو حرام». وعلى رغم ما للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والعنف الذي تمارسه الشرطة (والذي يبدو أن الذباح الداعشي المعروف بالجهادي جون قد وقع ضحيته) من دور في تعزيز التطرّف الذي يعتنقه بعض شبابنا، فإنها تعجز عن تفسيره في شكل تامّ.
ولحسن الحظ، يزداد عدد المسلمين الذين يدركون خطورة هذه المشكلة ويطالبون بإنجاز مهمة الإصلاح الديني الذي تعتوره كمصطلح تساؤلات عدة. ولا شكّ في أنّ تجديد الفكر الإسلامي والزخم الجديد لإعادة تفسير النصوص أصبحا شرطين لا غنى عنهما لحماية الدين الإسلامي المستنير، والذي من دونه سيبقى المسلمون أسرى تقادم القراءة الحرفية للمصادر الدينية.
تشكّل الحرية، والحقوق المتساوية لجميع المواطنين، وسيادة القانون، والاقتراع العام، والمساءلة السياسية، والفصل بين السلطات (الدينية والسياسية) كلّها مبادئ تلتزم بها غالبية المسلمين ويحسن في هذا السياق لفت الانتباه إلى ما كتبه عالم الدين الباكستاني محمد خالد مسعود: «لطالما أدرك الفقهاء المسلمون ضرورة التوفيق بين التناقضات التي نشهدها في المعايير الاجتماعية والقانونية؛ فكانوا يقومون بتعديل القوانين على نحو مستمرّ لتتماشى مع تقاليد الشعوب ومعاييرها». ولكن الأسس المعيارية للمؤسسات وللمفاهيم، من قبيل الأسرة، والفقر، وحقوق الإنسان، والمسؤولية، والجريمة، والطاعة المدنية، والنظام الاجتماعي، والتدين، والعلاقات الدولية، والحرب، والسلام، والمواطنة، تغيّرت في شكل ملحوظ في القرنين الماضيين»، وعليه لا بدّ من التصرّف.
لكن هل إعادة التفسير أمر كافٍ؟ هنا تجدر الإشارة إلى ضرورة التفريق بين النصوص المؤسسة والنصوص الثانوية الشارحة. وإذا نظرنا نظرة مسؤولة وجادة على عدد من النصوص التي لا تزال تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المناهج الدراسية المعتمدة من قبل المؤسسات الأكاديمية المرموقة سنصطدم بما يدير رؤوسنا.
وفي الواقع، يجب التمييز بين الهمجية التي يُظهرها بعض «المؤمنين» والتي «لا علاقة لها بالإسلام» والاحترام الذي يبديه عدد من العلماء إزاء نصوص معينة تحمل طابع العنف. فثمة في بعض الكتب وصفات عنفية بحق أي كلام يقترب من تناول المقدسات، وأفعال يُعاقب عليها بالقتل. وفي ضوء هذه النصوص، لا عجب بأن ينظر إلى جرائم وفظاعات «داعش» و «بوكو حرام» على أنها ممارسات مقبولة في الدين الإسلامي وموصى بها.
والجدير ذكره أنّه تمّ اضطهاد عدد من النساء والرجال أو استعبادهم أو قتلهم ببساطة باسم المسيح على مرّ القرون. ويصف بارتولومي دي لاس كاساس في كتابه «قصّة تدمير بلاد الهند»، تفاصيل دقيقة عن الفظائع التي ارتكبها المستوطنون الأسبان ضدّ السكان الأصليين أثناء الاستعمار في منطقة البحر الكاريبي. ويحسب لكاساس إنكاره لعمليات القتل تلك وتأكيده على آدمية الضحايا ومساواتهم لغزاتهم بهذا الاعتبار. إلاّ أنّه منذ ذلك الوقت، سمحت الإصلاحات الدينية والاجتماعية والسياسية المستوحاة أساساً من عصر التنوير، للمسيحيين بتحرير أنفسهم من هذا النوع من القيود الإيديولوجية والممارسات التي تنطوي عليها.
في أوروبا مطلعَ القرن العشرين، نظر عدد كبير من المحافظين إلى المقال الذي كتبه «المثقف» الفرنسي جوزيف غوبينو حول عدم المساواة بين السلالات البشرية كعمل «علمي». لكنه لم يلبث أن أخذ طريقه سريعاً بعد ذلك إلى خانة «التاريخ» أو «علم الإنسان» في رفوف المكتبات. وقد حان الوقت ليكون هذا مصير جزء من أعمالنا.
ألم يحن لنا نحن المسلمين، من نعتبر أنّ نبينا الكريم صاحب رؤية عالمية ومستقبلية، أن نستعيد دورنا التاريخي الذي لا يمكن إنكاره في تحديث القواعد الاجتماعية والثقافية؟
ومن أسف أنه بدل التركيز على المثل العالمية للرحمة والحرية والعدالة في ديننا، اتّخذ كثيرون منّا موقفَ الضحية بينما أصبحوا أتباع مؤامرة مفجعة فكرياً. وكثيراً ما سمعنا أحاديث حول كيفية الوصول إلى هذه المثل العليا. ويعود هذا الانحطاط بالضبط إلى الارتباك الذي نشعر به في ما يختص بالعـلاقة بين أهداف الدين الإسلامي ووسائل تحقيقها؛ علماً أنّ هذا الارتباك يرتبط أساساً بعدم قدرتنا على الحفاظ على التقارب المبدئي بين الإيمان والأخلاق، التقارب الذي يشكل أساس الضمير السليم: أي الروحانية. والحق أنّ الدين يفقد مغزاه ومعناه من دون الأخلاق.
ألم يحن الوقت بعدُ لنشرع في مناقشة صريحة لتحديد أين ينتهي الدين وأين تبدأ الثقافة؟ إنّه لمن الواضح أنّ الدين والثقافة يتداخلان، ولكن إذا لم يكن المسلم المغربي أقلّ شأناً من المسلم المشرقي ولا أهمّ من المسلم البلجيكي، أفليس من غير المعقول أن نفترض أن الدين هو القاسم المشترك الوحيد الذي يجمعهم في فهمهم وممارستهم للإسلام، في حين أنّ الثقافة تتكوّن من الأمور الباقية (مثل لباسهم وعلاقتهم بالحكومات في بلدانهم، وما إلى ذلك)؟ لقد أبلى الإسلام أحسن البلاء في مناهضة روح التقليد والأبوية مدركاً لدورها الرديء في الصد عن الحق وتعطيل ملكات العقل والفهم، والعجب أن تتنامى باسم الإسلام في عصرنا هذا نزعة تقليدية بالغة التسطيح وعنيفة في وثوقيتها وإقصائيتها، ومقلقة في جمودها وانغلاقيتها.
لقد آن الأوان ليسهم المسلمون من كل الجنسيات في مهمة الإصلاح الإسلامي بإثراء المنظور الديني وتعميقه عبر إعادة الاعتبار للعلم والمعرفة وتأكيد المطالبة بتوفير حقوق الإنسان والسعي إلى ذلك والانفتاح على العالم على قاعدة أخوة البشر وتعارفهم كما عبر تحديد خطوط الفصل بين النص المقدس والأعراف والتقاليد.
أضف تعليق