منعطف
بقلم الدكتور عدنان ابراهيم
ـ أخسأه الله عبّود الأقرن، هو هكذا دائما ما يتغيّر، لا أمل في إصلاحه، لقد نذر نفسه للشّر ومحضّها للجحود.
جالسةً وسط حوش الدار بادنةً واثقةً ولكأنّما هي ملكةٌ غير متوّجة علّقتْ الأمّ السبعينية بغضب مدفوع بالإحباط على الخبر الذي نغّص به عليها يومها إبنها رشيد، هل قلت يومها؟ سوف نرى، فنكد هؤلاء الناس ليس متواضعا الى هذه الدرجة.
ـ تصوّري أمي! لم يرض الخبيث بأن يأخذ الزُبدية الخزفية ـ آه لو رأيتِها ما أجملها، قطعة فنية لا يحلم بها أمثاله ـ وعرضتُ عليه ـ الطمّاع ـ المِدَّقة الخشبية، لكن عبث لا حياة لمن تنادي و ..
ـ لكن بالله لمَ لمْ تخبئ تلك الأغراض جيدا كما نبهتك؟ لو كنتَ..
ـ لم أخبئها؟ كيف؟ لقد أخفيتها جيّدا في وسط البطاطين القديمة، و لكن ماذا تفعلين مع ذلك الشيطان، في البداية حدجني ببصره، رشقني بنظره، حدّق فيّ باتهام وعرف، نعم لقد عرف، خطفته ستون مصيبة.
ـ وأنت يا غلبان تستغرب لمَ لمْ يأخذ الزُبدية، زبدية ماذا؟ حتما اللص سيضع يده على نصف الأغراض، واحسرة قلبي راح الشال السميك، وراحت السجّادة التركية، ومؤكّد أنّه لن يوفّر المبخرة المطعمة بالفضة، كلّ شيئ راح، منه لله اللّص.
ـ قبلي لو ترين يا أمي شيخٌ مسكين واهن لعلّه في مطلع الثمانين ظلّ يكبّر في هذاكِ العبود و يتوسّل إليه: سيّدي، يا سيّدي، يا رجل يا محترم، والله من شكلك عرفتُ أنّك إبن أصول، ظاهر يا عم، و الله لي سنة كاملة وأنا أوفّر ثمن هذه البطانية الصوف، إنّها حتى ليست لي، بل لعجوزي المسكينة المريضة، عليم الله لقد تركتها مقرورة ترتجف، لا قوة بها على احتمال البرد في هذه الأيام الزمهرير الفظيعة، لقد شرثت يداها و قدماها من البرد (1)، هذا ليس بردا، هذا موت أحمر، عذاب، يسري في العظم كما السّم، وأنا يا سيدي..
ولم يدعه عبّود يكمل مرافعته، انفجر فيه صائحا:
شيئ حلوٌ والله، تلقي عليّ محاضرة في عجوزك وأحوالها مع البرد، وما علاقتي أنا بالأمر؟ أنا يا هذا إبن حكومة، سمعت؟ إبن حكومة، لا لعب معي، أم تريدون أن تفلس الحكومة؟ وقد نبهتكم مئة مرة لا تهريب، لا تهرّب من الجمارك، وإلاّ المصادرة، احمدوا ربكم مئة مرة أنني أعفيكم من الغرامة واكتفي بالمصادرة. ثم تعال هنا تتحدث وكأنّنا في أربعينية الشتاء (2). ونحن لا نزال في الخريف، ماذا أتستهبل؟ و بيمناه نحّى الشيخ من وجهه: هيّا انكشح من هنا، لا وقت لديّ، وبالأخرى ألقى بالبطانية فالتقطها موظف واقف هناك كالمسمار ـ ينظر بشماتة و يُنغض إلينا رأسه يُحرّكه فوقَ تحتَ كالمتعجب و أحيانا شمالا ويمينا كالشامت ـ ودخل بها الى غرفة يجمعون فيها البضائع المصادرة ليقيّدوها في سجلّ خاص، وطبعا ليسرقوا منها ما شاؤوا، جماعة لصوص.
ـ المهم وبعد ذلك أتى دورك؟
ـ يا حسرة، ظننت أنّ حظي سيكون أفضل مع صاحب الرأس الكبير، لكن أنا الملوم، فمن يؤمل في هكذا رؤوس؟ في حياتي كلّها ـ صدقيني ـ ما رأيت رأسا عريضا ضخما بجلد ثخين وصوت أجش خشن إلاّ كان صاحبه دابّة، شيطانا، بل كثير عليه (شيطانا) بغلا، المهم، تقدمتُ بعد أن دعوتُ ربّما عشر دعوات من تلك الدعوات القوية المجرّبة أتبسّم في لطف بالغ واستكانة، فهو زميل دراسة في أيام الإبتدائي: السلام ـ و مددتها ـ عليكم ورحمة الله وبركاته يا أستاذ عبّود، فما رفع إليّ رأسه، و بادرني بغلظة ـ وهو يُقلّب أوراقا بين يديه ـ قائلا:
أهلين وسهلين، هيا قل لي ماذا تخبّئ معك؟ وهنا رفع عينيه إليّ وحدّق فيّ بقسوة واشمئزاز كما أخبرتك، وبصراحة أخافني، شعرت أنّني مكشوف، عريان، و سرى تيّار بارد في بدني من أعلى الى أسفل.
ـ يا لطيف، وبعدُ؟ ماذا حصل؟
ـ لن أطيل عليكِ، شيئ لا يسرّ البال ولا الخاطر، أخذ كلّ شيئ، فقط البطاطين القديمة المهترئة تركها لي، ماذا يصنع بها؟ تعبي وسهري لأربعة شهور ضاع في لحظة بسبب إبن الحرام، لا سامحه الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإلاّ كنتُ سأبيع تلك الأشياء بتسعين ليرة وربحي فيها كان سيكون على الأرجح أربعين ليرة، والله لو كان لديّ ما أدفع به الجمارك لدفعت، لكن من أين يا حسرة.
ـ والشال، والسجّادة؟
ـ لا، لا، الشال لك، كان سيكون لك، فقد وعدتك وأنا ـ تعرفينني ـ لا أرجع في كلامي، و.. آه هل رأيت يا أمي حتى الدعوات المجرّبة لم تفلح معه، يخيّل إليّ أنّ الملائكة لمّا سمعت إسمه فرّت مذعورة لم تحمل دعواتي، شؤم، هذا الصنف من البشر ليس الاّ محض شؤم وعذاب، الله يجيرنا
ـ أخزاه الله عبّود اللئيم، طاح أملي في كل شيئ، لن نزور أختك بدرية في الأسبوع المقبل كما نوينا، من سنة لم ترنا المسكينة، و زوجها لا يكفّ عن تعييرها بذلك، أهلك لا يسألون عنك، أهلك لا يهتمّون بشأنك، أهلك نسوك،حسبي الله ونعم الوكيل.
ـ الله كريم يا أمي وإن شاء الله سيعوضّنا خيرا، الأمل في الله
ـ سلوى، يا سلوى، هل سخّنت الماء؟ نادت أم رشيد على كَنّتها (3)
ـ ليس بعدُ يا عمّتي، لي أكثر من ساعة وأنا أحاول مع هذا البابور المنحوس(4)، لقد تعطّل.
ـ تعطّل؟ كيف وقد غلّينا عليه الشاي بالليل.
ـ صحيح عمتي ولكنّه أصبح اليوم وقد تعطّل، إنّه قديم جدا كما تعرفين.
ـ طيّب، أُنكشي عينه!
ـ أنكش عينه؟ نكشتها حتى طلعتْ عيني.
ـ لاذت العجوز بالصمت لبرهة ثم جعلت تتمتم: كلّه منك يا عبّود اللعين، أخزاك الله في مصبحك وممساك، كنّا اشترينا بابورا جديدا، ماذا كان سيكلّف؟ ثلاث أو أربع ليرات، لكن العين بصيرة واليد قصيرة. واستتلت رافعة صوتها مدفوعة بموجة غضب جديدة: وماذا سأفعل الآن؟ من خمسة أيّام لمْ أغتسل والليلة سيزورنا جيراننا، وبالمناسبة ـ تخاطبُ كنّتها ـ إنسي موضوع الفستان، وقولي لمَمْجُودة الخيّاطة أن تستبقي لديها قطعة القماش حتى ييسّر الله، وهو وحده العليم متى.
ـ أمّي ـ مستذكرا ـ هل لا يزال دار أبي العبد على موعدهم الليلة؟
ـ نعم سيأتوننا الليلة إن شاء الله، ألم تلحظ انشغال أختك منذ الصباح بإعداد الحلوى والفطائر؟ فالجماعة لا يقصّرون كلّما زرناهم، شاي وقهوة وفاكهة وحلوى وأحيانا فتّة وأرز ولحم بارك الله فيهم، ولسنا أقلَّ منهم. ردّتْ الأم.
الوقت مساء وها هو أبو العبد جالس إلى جوار مضيفه رشيد يدخّنان، رشيد على عادته ينفث دخان سيجارته زاما شفتيه خاسفا خدّيه ـ هيئة من يشفط أنبوبا ضيّقا جدّا ـ فهو شاب نحيف أقرب الى الطول فيه عصبية ونرفزة، وأمّا أبو العبد فينفث دخانه نافخا خدّيه، فإذا فعل انمطت شفتاه من تلقائهما، فهو قصير بادن، تُغذّي حركةٌ كهذه بشكلٍ ما ثقته في نفسه، ولا ننسى أنّه أُميّ .
وفي الجهة المقابلة قعدت أم رشيد وجارتها أم العبد، وهاتِ يا كلام.
ثمةّ فتاة لا تخطئ العينُ ملاحظة ارتباكها فهي لا تجلس الاّ ريثما تقوم، تُحضر في كلّ مرّة شيئا، تفرّقها عامدة، فهذا الشاي وهذه القهوة وتلك الفاكهة ثمّ الحلوى والفطائر وهلمّ جرا، وكلّما دخلت المطبخ تناولت على عجل مرآة صغيرة وضعتها هناك فنظرت في وجهها وشدّت جبينها وبسطته عرضا بيديها تزيل تلك التجاعيد البغيضة، ثمّ تأخذ بطرف سبابة يمناها شيئا من بودرة فتضعه تحت عينيها، فكم تعصر قلبها تلك التغضنات البشعة التي تهمس لها على الدوام: فات القطار
هي أنيسة شقيقة رشيد التي تكبره بنحو ثلاث سنين، فهي الآن بنت تسع وعشرين سنة. أتمّت المرحلة الإعدادية ثم رأى أهلها أن لا حاجة بها إلى المزيد، فلزمت البيت ليبتلع المطبخ وحوش الدار حياتها كلّها، خلا حلمها اليتيم بالزواج والخروج من هذا الفخ، الحفرة المسماة دارا
قبل تسع سنوات كان سرحان ثاني أبناء أم العبد قد تقدّم إلى خطبتها، وهو نجّار لا بأس به، أميّ كأبيه نعم، لكنّه يجني من حرفته ضعفي ما يجنيه مدرّس ثانوية، لكنّ أنيسة رفضته مُدلةً بشهادة الإعدادية وطامعة في سلمان إبن خالها الأكثر وسامة، ثم هو متحصّل على شهادة الثانوية، وقد أسمعها مرّة ـ كما تظلّ تؤكّد في كلّ مناسبة ـ حين كانت في الفصل الخامس الإبتدائي أنّه يحبّها، لكن سلمان طار، تزوّج، ولم يُعد سرحان الكَرّة ثانيةً، لكنه لا يزال عزبا، فالأمل قائم، ورهان أم رشيد كان على السجّادة
ـ آه لو كانت السجّادةُ لعلّقناها إذنْ على حائط الصالون ولرأوا أنّنا بخير ووضعنا ممتاز، صحيح أنّنا جرحناهم برفضنا آنذاك، لكن تسع سنوات حتما كافية ليندمل الجرح، أليست كافية؟ هكذا منّت أم رشيد نفسها في نفسها، وفجأة صدمتها الحقيقة المروعة أن السجّادة ليست هنا، ماذا ستفعلين؟ في ماذا تؤملين؟ وبدون وعي نطقت هامسة: الله يخزيه الأبعد، والتفتت أم العبد لكنّها لم تتبيّن ما سمعت
ومرّت ساعة ونصفها وسرت نسمة باردة رطبة، فقد شارف الخريف على الرحيل وآذن الشتاء بالحلول، فرفعت أم العبد شالها البنّي الثخين من حجرها وألقته على كتفيها وصدرها، ورغم أنّ عمره يناهز العشر سنين إلاّ أنّه لا يزال قادرا على أن يبعث في نفسها مشاعر الفخار والزهو
ـ برد، كأنّ الشتاء حلّ مبكّرا هذا العام
فردّت أمّ رشيد شاعرة بالحرج
ـ برد؟ وأين البرد، لا برد، الحمد لله، صدق الدكتور زاهي لمّا أخبرني قبل نحو ثلاث سنين أنّ دمي قوي، الحمد لله لا أكاد أشعر بالبرد.
وفي تلك اللّحظة كانت أم العبد تحادث أنيسة فلم تأبه لرسالة أم رشيد الملغومة.
مرّ وقت وأم رشيد صامتة لكن فرحانة، من يدري لعلّ الله ييسّر ونفرح بالبنت، قالت في نفسها.
لكنّها بعد قليل ـ كإمرأة ـ لم تلبث أن شعرت بالضجر، وكونها تمثّل دور الغافلة عن الحديث لئلا تظن أم العبد انها تدلّل على ابنتها، آثرت ان تدخل من باب كرم الضيافة فقشّرت موزتين وقطّعت تفاحة ونقفت رمانة كبيرة، وقالت:
ـ هيّا يا أختي، لمْ تأكلي شيئا، تفضّلي، بالله كلي.
ـ أكلتُ، وأنا آكل، ألا ترينني، أوسع الله عليكم وزاد خيركم
ـ برد. خرجت الكلمة عفوا من أم رشيد استجابة للذع البرد، فقد أخذها شفيفه على رغمها، ولم تجد بُدّا ـ وإن على استحياء وانكسار ـ من أن تلقي عليها شالها الخفيف الصفيق
ـ قلتُ لك من ساعة أنّ الجو بارد، لا أبغض شيئا بغضي البرد، يا لطيف
ـ صدقت يا جارتي، ردّت أم رشيد ثم تمتمت بحسرة مشوبة بتغيّظ: لعنه الله الأبعد!
ـ من؟ كفى الله الشر؟ على من تدعين؟
ـ عبّود الأقرن ذاك اللئيم الشرير
ـ ما باله؟ أعرفه، ابن سميحة الضريب التي ماتت في السيول، تذكرين؟ موظف الجمارك، أليس هو؟
ـ بلى، خيّبه الله.
ـ ما له؟ ماذا فعل؟
وتعالي يا فرصة، وانبعثت أم رشيد بحماس حانق في الحديث عن المصيبة التي نزلت على رؤوسهم، الكارثة التي دهاهم بها الأقرن، وبالطبع مع كل ما يلزم من الصور والأمثال والدعوات ـ أعني اللعنات ـ وشتّى أشكال المبالغة والتهويل، الأمر الذي تتقنه معظم النساء، لا سيما العجائز
و بعد أن بلغت ما تريد من بثّ شكواها ولعن خصمها ـ بالأحرى من هي خصمه، فالرجل لا يشعر بها ولعلّه لا يذكر شيئا من حكايتها، يعني حكاية إبنها، فعشرات وعشرات الوقائع كهذه تمرّ به يوميا ـ عادت لتؤكّد هذه المرّة بلا خجل أو تحرُّج: بالفعل برد يا أُخيّتي، وشدّت عليها شالها قليل الغناء في مثل هذا الجو ثم قالت بثقة: كلّه منه، الملعون، لو كان فيه خير لكان لديّ الآن شال جديد سميك، رأيته في محل (الفردوس) ووعدت فارس القشطة بشرائه هذا الأسبوع، لكن حسبي الله ونعم الوكيل
ـ وماذا عن بدرية؟ ما أخبارها؟ أذكر أنّك أخبرتني عن نيتك زيارتها.
ـ بدرية؟ يا لوعة قلبي! من سنة لم ترني قليلة الحظ.
ـ إذن اذهبي اليها، سافري، ما المانع؟
ـ ما المانع؟ وعمّاذا كنّا نتحدّث لساعة؟ كيف أسافر بعد ما حصل؟ من أين؟
قالتها وشعرت بالإحباط يجتاحها فجأة فيحطم كل آمالها جملة واحدة، فلا فائدة الآن حتى من التظاهر بحسن الحال.
ما هذه الحماقة التي تورّطتُ فيها؟ لم أخبرتها بما حصل؟ فالحكاية كلها ليست في صالح أنيسة وزواجها، يا الله! الله يلعن ساعة الغفلة، بل لعنة الله على من كان السبب. في نفسها قالت أم رشيد.
وأيقظها من غمّها صوت أبي العبد يستأذن بالإنصراف تاركا إيّاها على موعد بل مواعيد مع سائر الجيرة لتجترّ مأساتها معهم واحدا واحدا وإلى أجل غير مسمى.
قصة جميلة لا باس بها لكنني أحب خطب الدكتور ومقالاته الدعوية الدينية اكثر
واجد فيها بغيتي حيث تطير روحي لعالم غير ملموس
عالم الصفاء والروحانيات بكل معنى الكلمة
على العموم بالتوفيق ان شاء الله ولابأس ان يغير الانسان ويجدد في إبداعاته وعطاياه
ابنتكم ام ريان
كنت أنتظر نهاية أفضل