إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَعَظِيمنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، الرّحمة المُهداة، والنّعمة المُسداة، والسِراج المُنير، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ۩ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
طلع هلال المُحرَّم، وبدأ عام جديد، هو العام الحادي والثلاثون من المائة الخامسة عشرة أو من القرن الخامس عشر على هجرة سيد الخلق والأنام، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وهذه الذكرى تُثير في نفوس المُؤمِنين والمُؤمِنات ألواناً من المعاني والتأثرات والانفعالات، تبدو أحياناً مُلتبِسة وأحياناً أُخرى واضحة، إلا أن الخطر في هذا الموضوع أننا اعتدنا على أن نستهلك هذا الحدث الجلل المفصلي من تاريخ أمتنا بل من تاريخ البشرية طراً استهلاكاً بلاغياً وإنشائياً وخطابياً، ونشعر بعد ذلك براحة الضمير، وكأننا أدينا ما علينا أو بعض ما ينبغي أداؤها علينا، وليس الأمر كذلك.
ليختبر أحدنا نفسه، إن نزوله عن كم ضئيل جداً من النقود – مثلاً – في سبيل الله شيئ عسير على النفس، بعض المُسلِمين لا يُخرِجون زكاة أموالهم، صدِّقوا هذا! بعض أغنياء المُسلِمين الذين موَّلهم الله وأثراهم حتى أنهم يمتلكون الملايين يُخادِعون الله تبارك وتعالى – وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۩ – بإخراج صدقات مرةً هنا ومرةً هنا، إلا أنهم لا يُحصون ما عليهم من زكوات دورية، سنوية أو غير سنوية، لكنهم يُحافِظون على رسوم الصلاة، وعلى الجُمعات خصوصاً، يخرجون بأزيائهم وزينتهم بين الناس، ما هذا؟ ثم يلذ لهم أن يسمعوا حديث الهجرة، نبأ الهجرة! ويحتفلون بها بإيقاد السُرج والشموع والأضواء المُزيَّنة، ويُوزِّعون الحلوى على أولادهم وأولاد الجيران، لأنهم مُسلِمون أتقياء، ولو نُكِب أحدهم في شطر يسير جداً مما ملكه الله لمات بالذبحة الصدرية ربما، لمات هماً، لأُصيب بالسكري، لكنه تعوَّد أن يستهلك الحدث خطابياً وإنشائياً، نثر وشعر وقصص وحكايا أوشك أكثرها أن يكون معروفاً ومعلوماً للجميع، في مثل هذا الموضع اعتدنا أن نُكرِّر القصص، هذه قصص طيبة وجميلة، لكن للاستهلاك البلاغي والإنشائي، لتزجية الأوقات، ليس هكذا!
الهجرة حدث حقاً جلل عظيم، له نُبله وشرفه وجلاله وقدسيته وفرادته، ومن هنا لاحظت – أيها الإخوة والأخوات – أن القرآن الكريم – وهذا لم يلتفت إليه كثيرون منا للأسف – يحتاط لهذا المُصطلَح، احتياطه للحدث ذاته، الحدث العظيم بل ربما الأعظم في تاريخ هذه الأمة، يحتاط له كثيراً ويغار عليه، القرآن يغار على هذا المُصطلَح، ولا يُريد أن يُشرِّكه، لا يُريد أن يئيض أو يُصبِح هذا المُصطلَح من باب المُشترَكات، يدل على معانٍ كثيرة بوجوه مُتعدِّدة، لا! القرآن لم يفعل هذا مرةً، صدِّقوني، وهذا عجب، وهذا الذي قلت لكم لم يُلفتَت إليه من قبل، هذا درس دلالي جديد.
القرآن تحدَّث عن الذين خرجوا وعن الذين أُخرِجوا، وهذا الخروج وذاكم الإخراج قد يكون في سبيل طلب الطمأنينة والمُستقَر، وقد يكون طلباً للرياء ومُحاداة الله ورسوله، قد يكون أيضاً هكذا! وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۩، هؤلاء خرجوا، قد يكون لياذاً بالأمر وطلباً للمنجاة وهرباً من الموت المُحيق، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ۩، من بني إسرائيل، خرجوا! لا يُقال هاجروا، نحن نبتذل المُصطلَح القرآني، نُنزِله من عرش جلالته، نعم نبتذله، ونُكرِهه على ما لا يُريده الله – تبارك وتعالى – منه أن يدل عليه وأن يُؤشِّر إليه.
نقول العقول المُهاجِرة، نحن في دارة هجرة، ونحن المُهاجِرون، عقول مُهاجِرة ماذا؟ العقول مُغترِبة، العقول خارجة، تطلب أرزاقها وتطلب أمنها ومنجاتها، هجرة ماذا؟ لماذا نبتذل المُصطلَح؟ تُصبِح هذه هجرة وهذه هجرة وتلك هجرة! ليس كل مَن خرج مُهاجِراً في سبيل الله.
هل التفتنا كيف عرَّف القرآن الهجرة؟ والقرآن ليس من شأنه أن يُعرِّف هكذا، لأنه ليس كتاباً في التعاريف والحدود والمُصطلَحات، لكنه مع الهجرة بالذات آثر أن يُعرِّفها تعريفاً لم تنتبه إليه الأمة، القرآن عرَّفها، الهجرة لها تعريف قرآني، وهذا التعريف هو المفتاح الذي يُمكِّننا من الدرس الدلالي الصائب والسليم لهذه المُصطلَحات، لمُصطلَحات الخروج والإخراج والهجرة، هذا هو المفتاح!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۩، إيا هنا ضمير منصوب طبعاً، ليست للتحذير، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۩ أي والمُؤمِنين، ضمير منصوب هذا، من الضمائر المنصوبة، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ۩، ثم يقول إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۩، لأن ليس كل خروج هو جهاد في سبيل الله وابتغاء المرضاة منه ولديه سُبحانه.
هذه هي الهجرة، الهجرة هي أن يخرج الإنسان على هذا النحو، انتبهوا، يخرج الإنسان، مع أنه أُخرِج، لا! موقف المُهاجِر الحق الصادق ليس موقفاً سلبياً، أُريد على الإخراج فخرج، فهو فعل وانفعال، من المقولات العرضية، يُصبِح الموقف كله عرضياً، لا! إنه موقف جوهراني، ليس حتى جوهرياً بل هو جوهراني، هكذا حتى النخاع، حتى الامتلاء، وحتى قاع النفس والضمير والنية أبداً، هم أرادوهم على المهانة والخسف والذل والعذاب والسخرية والموت والاضطهاد والإخراج أيضاً إن أمكنت فُرصة، هذا الإخراج الذي عرض له القرآن وصوَّره على أنه شر من الحبس والسَجن – الصيغة المصدرية -، بل شر من القتل والإماتة، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ۩، أي ليأسروك سجيناً، هذا شر، وشرٌ منه: أَوْ يَقْتُلُوكَ ۩، بلا شك هذا شر، وشرٌ من الاثنين: أَوْ يُخْرِجُوكَ ۩، إنه إعدام أدبي ومعنوي حقيقي للإنسان، ماذا يسوى الإنسان بغير أهله وترابه ووطنه وناسه ومراتع صباه – سقا الله أيامها -؟ ماذا يسوى؟ لكن هذا في سبيل الدين، لا نقول في سبيل الآن أشياء أُخرى، وإنما في سبيل الله، وفي سبيل الله والدين يهون كل شيئ، ويُصبِح هذا الخروج الطائع المُختار اليقظ البصير الواعي هجرةً في سبيل الله، ابتغاء مرضاة الله وجهاداً في سبيله، إنه ضرب من ضروب الجهاد.
ولذلك مفهوم الجهاد أوسع من مفهوم الهجرة، الهجرة أحد تعينات الجهاد، يقول إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۩، إنه ليس فعلاً سلبياً إزاء فعل إكراه، كلا! إنه فعل مُختار، وقمن أن أُوضِّح الفرق، كيف؟ لم يضح الفرق بعد، هناك فرق واضح.
تُرى يا أخي المُسلِم وأختي المُسلِمة لو أن أحد أولئكم المُؤمِنين الأوائل الأطواد الشوامخ اختار أن يرتد – والعياذ بالله – وأن يعود في دين قومهم وفي وثنيتهم، أكانوا يضطهدونه بعد؟ كلا، أكانوا يُلجئونه إلى أن يخرج؟ كلا، بالعكس! كانوا يُكرِمونه ويُشرِّفونه ويُمجِّدونه، سيكون ورقة رابحة لزلزلة وإلباس عقائد الآخرين، من المُؤمِنين المُستقيمي المسلك، كان يستطيع هذا، ولو قد فعل لبقيَ آمناً مُستقِراً مُعزَّزاً مُكرَّماً بين أهله وذويه في وطنه، إذن هل كان للمُؤمِنين الأوائل والمُؤمِنات خيار؟ كان لهم خيار، لكنه مُكلِف جداً في نظرهم، خيار أن يعودوا في مِلة قومهم، وينتهي كل شيئ، لكنهم لم يفعلوا، آثروا أن يتركوا – هل تركوا مائة يورو؟ هل تركوا مائة ألف يورو؟ هل تركوا مليون يورو؟ – كل شيئ، أموالهم كلها ومنازلهم.
لا نُريد أن نستهلك الحدث إنشائياً وأن نبتذله، نحن نبتذل الحدث ونُفرِّغه من دلالته، يُصبِح شيئاً مُمِلاً مكروراً، وهاجروا وفي الغار واختفى والحمامة والبيضة! ما هذا؟ ليس هكذا، هذا حدث جلل رهيب جداً، يفضحنا أمام أنفسنا، يُعرينا، يجعلنا نقف هكذا عرايا أمام أنفسنا وأمام دعاوانا، دعاوى الإيمان والتقوى والصلاح والإصلاح والدعوة الإسلامية والتبشير وإرادة الأستذة والتعليم للبشرية جمعاء، ليس أمثالنا – إلا مَن رحم الله – مَن هو مُهيأ أصلاً أن يستوعب درس الهجرة، درس صعب جداً جداً.
الذي لا يُخرِج زكاة ماله بالله – وأنا على منبر رسول الله – ليس قمناً ولا مُهيئاً أن يفهم ما هي الهجرة، بالله العظيم! ليس مُهيئاً نفسياً، هذا يبخل بمائة يورو على مَن يستحقها مِن المعاويز والمحاويج، أهذا يفهم درس الهجرة؟ أهذا يتحدَّث عن الهجرة؟ أهذا يكتب فيها نثراً وشعراً؟
هذه أمة يُمكِن أن تُوالي وأن تتبرأ وأن تُعادي وأن تُجَن على كرة قدم، نعم مُمكِن أن تفعل هذا، لكن ليس على دين وعلى أوطان ومُقدَّسات ومبادئ وتراث محمد – صلوات ربي على محمد وآله وأصحابه وتسليماته -، أصبحت بعيدة من هذا، ولتسأل نفسها ما هي خيارات وأولويات ساستها اليوم؟ الساسة والحكّام ما هي خياراتهم؟ ما هي خيارات وأولويات قادة الفكر والتربية والإعلام والتعليم والثقافة في بلاد العرب والمُسلِمين؟ انظروا إلى خياراتهم في مناهج الدرس والتعليم وفي الفضائيات والصحف والمجلات والجرائد السيّارة، انظروا إلى خياراتهم، أمة تنحط، أمة تهوي، لا تزال تهوي من حالق، أمة فيها المهرة، فيها مهرة كثر، استطالت ألسنتهم وأصبح لهم منابر ومنائر للسخرية من دين الله، من كتاب الله، ومن رسول الله نفسه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والله العظيم يسخرون من تراث الأمة، من تاريخها، من أمجادها، ومن همومها وجروحها وآلامها وتباريحها.
ثم بعد ذلك ترون الواحد منهم أعجز من أن يتقدَّم بجُملة واحدة أو بخُطوة واحدة أو بحركة وحيدة يتيمة في سبيل صلاح هذه الأمة المنكوبة، أمة منكوبة! نُكبِت برجالها، بكبارها وصغارها، اجلسوا مع المُراهِقين والمُراهِقات، مع الشباب والشواب، واستمعوا إليهم بصدق، ما هي خياراتهم؟ ما هي قدواتهم؟ مَن هو قدوتهم؟ مَن هو مثلهم في الحياة؟ أصبحنا نرى المُحجَّبات الآن حتى وربما بعض المُلتحين – نراهم في الفضائيات – الذين عندهم خيارات عجيبة جداً جداً، لا تمت إلى روح هذه الأمة، بأي معنى أخذ هذا الدين؟ مَن الذي علَّمه الدين على هذا النحو؟ دين يبدو أنه كحبة السكر، يتناولها ثم يفعل كل ما شاء، يأكل كل ما شاء، لا زلنا نهوي!
ولذلك لم يفتأ القرآن العظيم يُذكِّر بدرس الهجرة بل بدروس الهجرة وبعبرة الهجرة على مدى القرآن المدني بطوله، بحسب المنظور البسيط كان ينبغي أن يُذكِّر القرآن بهذا الحدث الكبير الجليل في أوائل ما نزل من السور المدنيات وينتهى الأمر، كأن يذكره في البقرة وينتهى الأمر، لكننا نجد حديث الهجرة في البقرة، كما نجده في آل عمران، في النساء، في الأنفال، وفي التوبة، فضلاً عن أننا نجده في النحل، ولذلك رأي جابر بن زيد – رحمة الله عليه – وقتادة بن دعامة أن آيات النحل من الآية تقريباً الحادية والأربعين – وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۩ – إلى آخر السورة مدنية، يقولان النحل أولها مكي، إلى الآية الحادية والأربعين، من بعد أتت آيات مدنية، لأن هذه الآيات – هذه الآيات من سورة النحل – تناولت الهجرة غير مرة، في هذه الآية وفي الآية أعتقد العاشرة بعد المائة، فقالا هذه آيات مدنية، الهجرة لما تقع في مكة، انتهى! انتهى المرحلة المكية بالهجرة، فقال جابر بن زيد وقتادة من هنا إلى آخر السورة مدني، في النحل نجد حديث الهجرة، وكذلك في الحج، في النور، في العنكبوت، في الحشر، وفي المُمتحِنة، وتذكَّروا أن التوبة من آخر السور القرآنية المدنية نزولاً، معنى ذلك أن القرآن ظل يُردِّد عبرة الهجرة وحديث الهجرة وحدث الهجرة باستمرار على طول الفترة المدنية، والنبي كذلك، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.
وعودة إلى الفرق الدقيق بين الخروج كاستجابة لدافع ذاتي أو استجابة لفعل إكراهي – وهو الإخراج بغض النظر عن أي شيئ – وبين الهجرة في جلالها وفرادتها، هذا الذي خرج – كما قلنا – الدوافع عنده مُختلِفة والخيارات مفتوحة أمامه، وهذا الذي هاجر الوضع مُختلِف تماماً أمامه، مُختلِف تماماً!
أهل فلسطين يُقال هاجروا، فهل هذه هجرة أم لا؟ في الحقيقة لا نستطيع أن نقول إنها هجرة، هذا إخراج من الأرض، أهل فلسطين أُخرِجوا من أرضهم، لكن ليس لإخراجهم روعة هجرة أصحاب رسول الله، لنكن واضحين، حتى لا تُمتهَن المُصطلَحات، كيف؟ أهل فلسطين لم يكن أمامهم خيار أن تهودوا – مثلاً – أو اكفروا بدينكم أو افعلوا كذا وكذا وسوف نُبقي عليكم في أراضيكم، أراضيهم هي المطلوب، هي المرام! لذلك لم يكن أمامهم خيار، إما أن يُذبَحوا وإما ان يفروا، ففروا، لم يُهاجِر فلسطيني بدينه أو لأجل دينه أبداً، هاجر بحياته، وهذا مشروع، أن يُهاجِر بحياته مشروع، طلب الأمن مشروع، لكن هذه ليست هجرة، انتبهوا! ولا يُقال عنها هجرة، خطأ! قرآنياً هذا يُعتبَر خطأ، وكل الهجرات الأُخرى خطأ أن ننعتها بأنها هجرة قرآنياً، هي خروج، إنها خروج في سبيل الله، علم في سبيل الله، في سبيل الرزق، في سبيل المأوى والمُستقَر، طلباً للنجاة وللأمن، خروج نعم، أُخرِجوا من ديارهم أو خرجوا من ديارهم، لكن ليست هجرة، القرآن – كما قلت – يغار على هذا المُصطلَح، هذا مُصطلَح فريد جداً جداً، والقرآن يحوطه، وقد عرَّفه، تحوطاً وإعزازاً له عرَّفه، قال إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ ۩، ولم يكتف، قال جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۩، هذا الخروج مُقيَّداً بالقيدين يُساوي الهجرة، فلو أردنا أن نُعرِّف الهجرة قرآنياً لقلنا هي الخروج من الأوطان والديار والأهل والأبناء والمُلك والعقارات جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته سُبحانه وتعالى، هذه هجرة!
ولذلك لا يُمكِن أن يُقال إن الكفار هجَّروا المُسلِمين، القرآن لم يستخدم هذه الصيغة ولا مرة واحدة، ما رأيكم؟ أخرجوهم نعم، ألجأوهم إلى الخروج، لأن الكافر لا يُمكِن أن يكون في قصده وخاطره أنه يُريد أن يُكسِب المُسلِم جهاداً في سبيل دينه وابتغاء مرضاة ربه الذي يُؤمِن به ويكفر به الكافر، لا يُمكِن! وإنما يُخرِجه لكي يضمحل ويذوب مع الأيام والسنين، ويضمحل ويتشتَّت وتخسر قضيته العقدية، قضية المبدأ والدين، هذا هدف الكافر بإلجائه إلى الخروج، فقط! أن يُعدِمه أبداً، أن يُفنيه معنوياً، لكن لا يُقال إنه هجَّره، لم يُهجِّره، هو أخرجه فهاجر، الاستجابة جاءت إيجابية واعية يقظانة، أخرجني فلم أخرج، إذا استخدمت خرجت فلابد أن أستخدمها مُقيَّدة، فخرجت في سبيل ربي وابتغاء مرضاته، والقرآن استخدم هذا قليلاً جداً جداً، لكن دائماً يستخدم الهجرة.
والعجيب أن القرآن لم يستخدم الهجرة بالصيغة المصدرية أو الاسمية، لأن القرآن هنا يُركِّز على جانب الإنسان، على الجانب الشخصي في الحدث، ليس على الجانب المعرفي، ليس على جانب المبدأ، وإنما على الجانب الشخصي، الهجرة هذه كسب بشري، لبشر أطواد شوامخ، لأناس أقاموا بالبرهان على صدقهم، صدقوا الله ما وعدوه، قال – تبارك وتعالى – لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، هذه صيغة قصر، وهو قصر ادعائي كما يقول علماء البيان، هذا قصر ادعائي بسبب ضمير الفصل، لم يقل أولئك الصادقون، كان يُمكِن ان يقول أولئك الصادقون، مُبتدأ وخبر، لا! لكنه أراد أن يأتي بصيغة القصر الادعائي، بسبب ضمير الفصل، أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩.
وهذا القصر الادعائي يُفيد – أيها الإخوة والأخوات – التنويه بالمحل، بمحلهم الأعلى من الصدق، كأن صدقهم هو الصدق وما عداه هو كذب، كأن الله يقول كل صدق مُدعى غير صدق هؤلاء المُهاجِرين هو كذب، هل تُريدون صدقاً أفقع وأنصع من هذا الصدق؟ هناك مَن ترك بيته وأهله وماله، بعضهم ترك أهله لأنهم لم يُسعِدوه بمواطئته على دينه الجديد، لم يُسعِدوه! ظلوا على كفرهم ووثنيتهم فتركهم، خلاهم وراح، الله أكبر! أتترك زوجك وأولادك؟ أترك زوجي وأولادي، هل تركت منزلك وأهلك وذويك وأموالك وذكرياتك؟ هل تركت بلدك، وطنك، ترابك، وروحك؟ نعم، وتركت أهلي أيضاً، الله أكبر! شيئ والله كبير.
سمعت بعض الناس مِمَن ليس عنده ذوق في العربية وللأسف بدوافع اعتقادية فاسدة يقول ليس كل المُهاجِرين كانوا هكذا، الله يقول لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ۩، يتحدَّث عن فقرائهم، لكي يغض من قيمة بعض المُهاجِرين، ألم تطرح على نفسك سؤالاً ما الفرق بين قوله تعالى – وقد قاله – لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ۩ وبين قوله – لو قاله – للمُهاجرين الفقراء؟ هل أنت لا تعرف مبادئ العربية؟ حين تقول للمُهاجِرين الفقراء يكون هذا وصفاً لثابت موصوف، ما هو الثابت الموصوف؟ الهجرة، هاجروا! لكن منهم الفقير – والقرآن شرَّفه بهذا – ومنهم الغني، وقد يسأل سائل أين الغني؟ إذا كان أغنى أغنياء المُسلِمين فيما بعد ابن عوف مُملِق؟ ذهب مُملِقاً، لا شيئ عنده، ولا دينار، ولا زوجة، ولا شيئ المسكين، وأنتم تعرفون قصته، لذلك انظروا إلى الدقة القرآنية والإحكام الإلهي، لم يقل للمُهاجِرين الفقراء، فيُفهِم أن منهم أغنياء، لم يقل هذا، افهموا العربية، قال لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ۩ فالثابت أنهم كلهم فقراء، ووُصِفوا بما ذكرت مع فقرهم الطارئ، الطارئ بماذا هذا؟ بالهجرة، حين هاجروا صاروا فقراء، تركوا كل شيئ، لم يأخذوا أموالهم، وتعرفون قصة صهيب بن سنان، بخ بخ، ربح البيع أبا يحيى، كلهم صاروا فقراء، وهذه الدقة القرآنية العجيبة، فرق بين للمُهاجِرين الفقراء وبين لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ۩، ولذلك ذيَّل الآية وختمها بالقصر الادعائي، أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، كأن الله يُحذِّرنا أشد التحذير من أن نُشكِّك أو نغمز صدقهم وحُسن بلائهم في نُصرة هذا الدين، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم، قال أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩، وكلهم فقراء، كلهم وافوا المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها ألف مليون تحية وسلام – فقراء مُملِقين، لا شيئ عندهم، في سبيل ماذا يا الله؟ يا رب كيف السبيل إلى رضاك؟ هذا السؤال عرفوا جوابه، ونحن نهزأ بالسؤال ونلعب بالجواب، مَن يسأل هذا السؤال؟ مَن يقول كيف الوصول إلى رضاك يا رب؟ علماً بأن هذا اسم كُتيب للشيخ عبد الحميد كشك رحمة الله عليه، هم طرحوا هذا السؤال بصرامة وبجدة أو بجدية على أنفسهم، وأجابوا عنه وبرهنوا الجواب بالصدق، رضيَ الله عنهم وأرضاهم، وعُلِّقت عليهم الميدالية، هذه ميدالية ربانية، أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩.
سأله أعرابي جلف غليظ في حديث ابن عمرو، قال له يا رسول الله ما الهجرة؟ الهجرة إلى أرض مخصوصة أم إلى قوم مخصوص أم إليك ما دمت حياً فإن مت انقطعت أم ماذا؟ فسكت عنه النبي سويعة، ثم قال أين السائل؟ قال ها أنا ذا يا رسول الله، قال الهجرة أن تهجر ما نهى الله عنه، ثم قال – صلى الله عليه وسلم – الهجرة هجرتان، هجرة البادي وهجرة الحاضر، فأما البادي فإذا دُعيَ أجاب وإذا أُمِر أطاع، وأما الحاضر فهو أعظمهما بليةً وأعظمهما أجراً، عنده ما يتخلى عنه، أو وقع عليه خيار الترك في سبيل الله تبارك وتعالى، سنتخلى عنه لله، شيئ صعب جداً!
لكي نُدرِك صعوبته على الواحد أو الواحدة منا أن يسأل نفسه عن مقدار الصعوبة والعنت الذي يتكابده ويجده حين يُريد نفسه على تغيير عادة مقبوحة ابتُلي بها، كعادة شرب السجائر أو غيبة الناس أو السخرية منهم أو ترك الصلوات في أوقاتها أو النوم عن صلاة الفجر، عادة كبائر هذه والعياذ بالله، طريق جهنم! يقول صعب جداً جداً، حقيقةً جرَّبت هذا – يقول – وهو من الصعب جداً، أنت مثل هذه العادة السخيفة – أن تذبح نفسك بسيف الدخان – لا تستطيع أن تتركها، تذبح نفسك أنت وتحرق مالك ولا تستطيع أن تتركها، ما شاء الله! وتقع في أعراض الناس، القريب والبعيد، ولا تستطيع أن تترك هذا، أتظن نفسك تستطيع أن تترك بلدك وأهلك ومالك وأموالك وكل شيئ في سبيل الله؟
ولذلك هذا من رحمة الله وألطافه، من رحمة الله ولُطفه بنا أنه لم يبتلنا بمثل هذه الهجرة، ونسأل الله العافية، لأننا ضعاف، لأننا مُخادِعون مُتكلِّمون، نحن أساتذة في الكلام، أساتذة في تدبيج المقالات والخُطب على المنابر، هذا هو! لكن الله وبعدله – لا إله إلا هو – لم يُخلِنا من ابتلاء آخر، ابتلاء نُختبَر به يومياً، ربما في كل ساعة! إنه هجرة ما نهى الله عنه، الله سيقول لنا الهجرة الكُبرى لم تستطيعوها، لم تتشرَّفوا بها، ولم تبتلوا بها، الهجرة الصُغرى هذه ماذا فعلتم بها؟
الهجرى الصُغرى هي أن تهجر ما نهى الله عنه، تهجر الكبائر والذنوب والإصرار على الصغائر، لماذا لم تُفلِح في هذا؟ ثم تأتي تلتذ بحديث الهجرة، هجرة ماذا؟ عن أي هجرة تتحدَّث أنت؟ وعن أي هجرة تستمع؟ تستمع لأي هجرة؟ ولذلك في صحيح البخاري والمُهاجِر مَن هجر ما نهى الله عنه، وقد روى الإمام أحمد في مُسنَده برجال الصحيحين وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شُعب الإيمان وابن عساكر في تاريخه والطبراني في مُعجَمه وكثيرون – كثيرون رووا من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – المُسلِم مَن سلم المُسلِمون من لسانه ويده، والمُهاجِر مَن هجر ما نهى الله عنه.
وفي حديث لأبي داود الطيالسي أيضاً من رواية عبد الله بن عمرو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لأعرابي – قال له في رواية أُخرى في حديث الأعرابي – اهجر ما نهى الله عنه، ثم أنت مُهاجِر وإن مت في بيتك، أتُريد أن تكون مُهاجِراً وقد ضاعت عليك الهجرة؟ بعض الناس هكذا يتهدد ويقول آخ لو كنت في زمانهم، آخ! لا تقل هذا، أنت تُبتلى بأقل من هذا بكثير وتعجز وتقصر عنه وتخيب، أكنت ستترك كل شيئ؟ أتظن هذا سهلاً؟ ليس سهلاً بالمرة، الحمد لله على عافيته، ونسأل الله المدد والقوة منه، لا إله إلا هو! حتى يكون لدينا بعض الصدق الذي يُحاج عنا يوم القيامة، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، كم مللنا الكلام يا أخي! كم مللنا الدعاوى من أنفسنا – والله – ومن غيرنا!
إذَا نُصِبُوا لِلْقَوْلِ قَالُوا فَأَحْسَنُوا وَلَكِنَّ حُسْنَ الْقَوْلِ خَالَفَهُ الْفِعْلُ.
والله المُستعان، هناك سؤال يطرحه بعض الناس، ولماذا لم يعد – صلى الله عليه وسلم – حين فتح الله عليه مكة أحسن فتح وأرحمه وأظفره وأشرفه إلى مكة؟ لماذا لم يعد إلى مكة – مسقط رأسه، موطنه الأصلي والأول – وآثر أن يعود ليُدفَن بين أنصاره وأشياعه من أهل المدينة – رضوان الله عنهم أجمعين -؟ بعض الناس مُباشَرةً يقول وفاءً وتطييباً وجبراً لخاطرهم، وهذا حسن ولا بأس به، لكن دافع رسول الله أعظم من هذا، دوافع رسول الله عالية جداً جداً، دافع رسول الله هكذا، وعبَّر عنه بشكل واضح بالمُناسَبة، وصح عنه هذا، هذا صحيح ثابت، لا كلام في هذا، دافع رسول الله: ما خرجت عنه لله لا أُريده، حتى الوطن يا رسول الله؟ حتى الوطن، الله أكبر! مكة تركتها لله، سأجعلها لله، لن أعود إليها، وكان يرثي لمَن عاد مِن أصحابه ومات بمكة، يقول بائس هذا، يا ليته مات بمُهاجره، أي بدار هجرته.
روى الشيخان وأصحاب السُنن الأربعة وغيرهم كثيرون – فالحديث صحيح ثابت بلا مثنوية وبلا تردد – عن عامر بن سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله تعالى عنهما -، جاءني – صلى الله عليه وسلم – عام حجة الوداع يعودني في مرض، فدخل علىّ وقد اشتد بي الوجع، فقلت يا رسول الله قد ترى ما بي من الوجع، وأنا إن مت فليس لي مَن يرثني إلا ابنة واحدة، أنا رجل ذو مال، وليس لي مَن يرثني إلا ابنة، أفتصدق بثُلثي مالي؟ قد يقول أحدهم لك لا، هذه ابنة وحيدة، مهيضة الجناح، وكسيرة الجانب، يا رسول الله لو تصدَّقت علىّ بالقليل حتى أُعظِّم ثروتي فأضمن لها مُستقبَلاً لمائة سنة – إن شاء الله – قادمة، كما يُفكِّر أكثرنا، أي الحمقى منا، أنا أقول لكم هذا أحمق، يجمع ويمنع ويبخل، ويأخذ من حل ومن حرام، لكي يُؤمِّن مُستقبَل أولاده، أنت أضاعتهم، أتُريد أن تُؤمِّن مُستقبَل أولادك؟ أعط لله، أعط الكثير، أعط ما يُؤلِمك، أعط ما يصعب عليك، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩، كل ما تُعطيه سهلاً هذا ليس عطاءً ذا معنى عند الله، انتبه! كل واحد ينبغي أن يُعطي بحسب ما عنده، هناك مَن عنده خمسة ملايين، هذا حين يُعطي خمسمائة ألف لا يجد صعوبة، هذا كلام فارغ، حتى لا يُؤلِمه، مُمكِن أن يُعطي هذا، لكن هذا صعب جداً عليه، لا يُعطي خمسمائة ألف، مُستحيل! فكيف له أن يُعطي مليوناً أو مليونين أو ثلاثة ملايين؟ سعد يُريد أن يُعطي ثُلثي ما عنده، وهذا ينبغي أن يُعطي ثلاثة ملايين وأكثر من خمسة ملايين، سعد كان يُحِب هذا، هذا هو! هذا الذي يصعب، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩، جهاد! ليس أن تُعطي خمسة ملاليم من خمسة ملايين ثم تقول لي أنا تصدَّقت وأعطيت وتكفَّلت بكذا وكذا أسرة، لا! مسكين أنت، كل إنسان حسابه على قده إن شاء الله، انتبه! كل واحد حسابه على قده، فنسأل الله أن يكون حسابنا يسيراً، كل واحد حسابه على قده، لا يُوجَد لعب مع الله عز وجل.
فسعد يُريد أن يُعطي ثُلثي ماله، قال لا، قال يا رسول الله أُعطي ثُلث مالي، قال الثُلث والثُلث كثير، إنك أن – المصدرية وليس الشرطية إن – تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، يسألون الناس ببواطن أو بطون أكفهم، قال يا رسول الله – انظر إلى الرجل الذكي المُؤمِن، أنا أقول لك أنا رجل ذو مال وليس لي إلا ابنة، أتقول لي ورثتك؟ فهم! رسول الله كلامه ليس كلاماً هكذا مثل كلامنا، (حوشي بوشي) هكذا، لا يُوجَد عنده هذا، كل كلامه في موضعه، لم يقل إنك أن تذر ابنتك، فهذا معناها أنك لن تُرزَق غيرها، قال له ورثتك، ففهم سعد، انظروا إلى الذكاء وإلى النور الإلهي – أُخلَّف بعد أصحابي؟ كأن لي عمراً بحسب هذا المعنى، أي لن أموت في المرض هذا وسأعيش، وأصحابي ماتوا في بدر وفي أُحد وفي الخندق وما إلى ذلك، لا يُحِب أن يعيش سعد، يُريد أن يموت، فهذا أحسن له، لكي يلتحق بإخوانه، قال يا رسول الله أُخلَّف بعد أصحابي؟ حزن! فقال له – صلى الله عليه وسلم – إنك إن تُخلَّف بعد أصحابك يا سعد خيرٌ لك، ولعلك أن تُخلَّف فينتفع بك أقوام ويُضَر بك آخرون، وإنك لا تُنفِق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها أجراً ورفعةً، حتى ما تجعله في في امرأتك، ثم قال – صلى الله عليه وسلم – اللهم امض لأصحابي هجرتهم، انظر إلى الروح الكبيرة، هذه الآمال، هذا ما يُرضي الرسول، هذا ما يُريده من الدنيا، لم يقل أنا فرحان، أنا كذا وكذا وكذا وكذا، وفُتِح علىّ، وأصحابي – الحمد لله – تموَّلوا وأثروا وأصبحوا رجال أعمال وأغنياء، لا! ليس هذا هو، أهم شيئ أن يُختَم لنا بالخير، أن يمضي الله لنا هجرتنا، ألا تبطل أعمالنا، الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة، إياك أن تقيس على ما مضى، إياك أن تُعوِّل على ما مضي، ركعت قبل عشرين ألف سنة مائة ركعة، وتصدَّقت قبل ثلاثين سنة بمائة يورو، إياك! انظر إلى نفسك الآن، ماذا تفعل؟ وماذا ستفعل؟ اترك الماضي، أتمن على الله بماضيك؟ أهم شيئ الخاتمة، نسأل الله حُسن الخواتم.
قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة – سعد بن خولة أحد الصحابة المكيين المُهاجِرين، هاجر وقاتل في بدر، واختُلِف بعد ذلك في وفاته، لكن تُوفيَ بمكة قولاً واحداً – كان النبي يرثي له، لماذا يرثي له؟ يرثي له أن مات بمكة، كان أفضل بكثير ألا يعود، شيئ خرجت عنه لله لا تعد إليه، اتركه لله، حتى الوطن، اتركه لله، لكي يشهد لك.
نسأل الله أن يرزقنا الصدق في مُعامَلته والجد في خدمته وخشيته بالغيب والشهادة، اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
اللهم لا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا مَن لا يخافك فينا ولا يحرمنا.
اللهم اجعل هذا العام من خير أعوامنا، واجعل هذه السنة مُبارَكةً علينا وعلى أمة محمد، صلى الله عليه وسلم.
اللهم أعِدها دائماً بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والظفر والعز والتمكين، وأبرِم لهذه الأمة المرحومة أمر رشد تُعِز فيه أولياءك وتُذِل فيه أنوف أعدائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(18/12/2009)
أضف تعليق