إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَعَظِيمنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۩ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ۩ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ۩ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ۩ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۩ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ۩ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ۩ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۩ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
لم يخل دين من الأديان ولم تعر أمة من الأمم من عبادة أو شعيرة أو شريعة القُربان، حتى أن الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم قص علينا من نبأ هابيل وأخيه قابيل بالحق ما قص، وكان من جُملة ذلك أنهما تقرَّبا إلى الله – تبارك وتعالى – بقُربان، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ۩، إذن هي شريعة قديمة قدم الإنسان، قدم الجيل الأول من آبناء أدم أو من أولاد آدم، عرفتها الأديان البدائية، والأديان المُتحضِّرة – إن جاز التعبير -، أديان الفرد، وأديان الشعوب، الأديان في أكثر أشكالها بساطةً وفي أكثرها تعقيداً وتركيباً.
لكن من أنواع القرابين نوع إذا ذُكِر ذُكِرت معه القسوة والاشمئزاز والبُعد من الرحمة، إنه تقريب الكائنات الآدمية، ومن أسف أيضاً أن مُعظَم الحضارات والديانات والشعوب أيضاً قد عرفوا هذا النوع من القُربان، عرفه قدماء المصريين، وكانوا يُقرِّبون أولادهم أيضاً للآلهة على اختلافها، وخاصة الإله أوزوريس Osiris، وكانوا أيضاً يُقرِّبون إلى النيل الذي يُعتقَد أنه كان من أكبر آلهتهم العذروات، اللاتي يُحجَزن في أمكنة مخصوصة، ويُسمَن ثم يُزيَن ليوم العيد المخصوص بهذا الإله، النهر المائي الجاري، ثم كان ما كان مما طرأ على هذه العبادة أو على هذا الطقوس مما يُعرَف بالتضحية الصورية أو التمثيلية، كانوا يُقرِّبون ما يُعرَف بعروس النيل، وهذا من باب التضحية الصورية، التضحية الصورية أو التمثيلية تعني أنهم يُقدِّمون صورةً للإنسان أو تماثيل – تماثيل مُعيَّنة – على صورة الإنسان.
أيضاً عرفه قدماء اليونان، هذا الطقس الدموي اللاإنساني عرفه قدماء اليونان، والرومان أيضاً عرفوه، ولم يُبطَل رسمياً إلا في السنة السابعة والتسعين قبل ميلاد المسيح، بمرسوم من مجلس الشيوخ الروماني، عرفته الهند الصينية، عرفه شعب بورما، عرفته شعوب غربي إفريقيا وإفريقيا الوسطى، شعوب كثيرة تقريباً عرفته، وكما ذكرنا في خُطبة العيد صباحاً حتى اليهود عرفوه كما في سفر الخروج، عرفوه وكانوا يُقرِّبون أبكارهم، أبكار الحيوان وأبكار الإنسان، إلى أن طرأ عليه ما طرأ.
ثم بعد ذلك يُعتقَد أنه مع نشأة الزراعة – وهذا محل نقد شديد جداً – واعتماد الإنسان على المأكولات الزراعية وتخففه من الغذاء الحيواني بدأ الإنسان يُقرِّب القرابين النباتية، مُشتَقات النباتات المُختلِفة والحبوب المُتنوِّعة، كما أيضاً مُشتقَات الألبان، أو ما يخرج من الحيوان والنعم، هكذا يُعتقَد، واستعاض أيضاً الإنسان بما يُعرَف بهذا التقريب أو بالقُربان الصوري أو التمثيلي عن القُربان الحقيقي، فكانوا ربما يجرحون الضحية جرحاً غير مُميت، ويعتقدون أنه من باب تقريبه قُرباناً، وربما قَّربوا – كما قلنا – صورةً أو هيكلاً له، وربما قاموا بتمثيلية حقيقية، كأنه يُقرَّب، نوع من التمثيل! كالذي يحصل الآن – مثلاً – في شعوب آسيوية كثيرة من تقريب بعضهم على شكل السيد المسيح، ويُصلَب صلباً تمثيلياً، مع أنه تُدَق فيه مسامير أيضاً، لكن لا يُترَك ليموت، ثم يُنزَل بعد ذلك.
طبعاً هذا يُؤشِّر إلى أن الديانة المسيحية أيضاً للأسف الشديد فكرتها الرئيسة تقوم على موضوع التقريب، جوهر هذه الديانة يقوم على موضوع تقريب الإنسان، وأن الله – سُبحانه وتعالى – قرَّب ابنه الوحيد، تخليصاً وفداءً للبشرية، وهي فكرة خطيرة جداً، فكرة مُتعاطِفة مع فكرة تقريب الكائنات الحية العاقلة، بما فيها بنو آدم أو الكائنات البشرية.
من أغرب صور التضحية أو القُربان التمثيلي أو التصويري هو تقريب خيال الإنسان أو ظل الإنسان، فلدى شعوب البلغار هذه العادة الأشد غرابةً في بابها، إذا أراد أحدهم أن يبتني بناءً أو يُعمِّر عمارة وقف هكذا يتلبَّث مُنتظِراً مرور أول مار، فإذا مر هذا المار قاس ظله بخيط، ثم أخذ هذا الخيط ووضعه في الأساس، وبنى عليه الأساس، ويعتبر أنه قرَّب ظل هذا المار، ومما يزيد هذا الاعتبار قوةً في اعتقاده أن هذا المار الذي قُرِّب ظله لابد ميت عما قليل، أي من قريب، أي سيموت من قريب، لأنه قُرِّب ظله، هذه عقيدة غريبة جداً.
العرب في جاهليتهم لم يعروا ولم يخلوا أيضاً من تقريب البشر للأسف الشديد، وفي القرآن الكريم آيات كثيرات تُشير إلى هذا الموضوع الدموي المأساوي، قصة عبد المُطلب شهيرة جداً، حين احتفر زمزم ولم يكن وُلِد له إلا ابنه الحارث، فأرادت قريش أن تغلبه عليها، وفعلت! فنذر لله نذراً، إن رزقه – سُبحانه وتعالى – عشرةً من الولد ليُقرِّبن أحدهم لله، ثم كان أن خرجت القُرعة أو السهم على عبد الله، الذي سيصير والد سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، فأشفقت قريش من ذلك ومنعته، وتكرَّر الأمر عشر مرات، المُهِم هو قصته مع الكاهنة الشهيرة، حتى نجا عبد الله، وفُدي بمائة من الإبل، بمشورة الكاهنة.
إذن كانوا يُقرِّبون الأولاد، وربما قرَّبوا إذن الذكور وليس الإناث، ولذلك القرآن يذكر في بعض الآيات قتل الأولاد، ليس موضوع قتل الأولاد مِنْ إِمْلاقٍ ۩ أو خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ۩ فقط، هذا موضوع بحياله، هذه مسألة برأسها، هناك مسألة أُخرى، وهي مسألة التقريب والتضحية بالأولاد، قال – جل من قائل – في سورة الأنعام قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ۩، هؤلاء قتلوا أولادهم لاعتقاد ديني، كطقس أو شعيرة دينية، وليس موضوع الإملاق أو خشية الإملاق.
ولذلك قال في آية سبقتها بقليل وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۩، إذن المسألة دينية، لا يجوز أن تُؤخَذ الآيات جميعاً ويُقال هذه الآيات كلها في قتل الأولاد والمقصود بالأولاد البنات والمقصود بالبنات وأد البنات، هذا تبسيط مُخِل جداً جداً، ونظر قاصر في كتاب الله، الآيات التي تتحدَّث عن وأد البنات وعن قتل الأولاد آيات كثيرة، ولها مواضع كثيرة في كتاب الله، وتُشكِّل شبه نظرية مُتكامِلة تعكس وتُترجِم لنا هذه العادة بالغة السوء، التي اعتادها وأنس بها العرب في جاهليتهم.
طبعاً أكثر مظهر يبعث على الأسى ويبعث على الإشفاق هو مظهر وأد البنات المولودات صغيرات، وبالمُناسَبة لم يكن العرب جميعاً يتورَّطون أو يتقحَّمون هذه المهلكة وهذه المقبحة، وإنما بعض عشائرهم، كبعض عشائر من قريش وتميم وربيعة وكندة وطيء، وهؤلاء هم الذين يُؤثَر عنهم هذا الفعل السوء المقبوح، ليس جميع العرب، بعض عشائر مِمَن ذكرنا، الآخرون لم يفعلوا هذا جميعاً، حتى قريش، ليس كل عشائر قريش، وإنما بعض عشائر قريش، معروف هذا! وإلا هناك عشائر في قريش وغيرها كانوا يُنزِلون البنت منزلةً كريمةً جداً، ويُبارِكون ويُهنئون، حين تُولَد لأحدهم بنت كانوا يُهنئونه، يقولون هنيئاً لك النافجة، يُبرِّكون ويُرحِّبون بمقدمها إلى هذا العالم، لماذا؟ طبعاً لأنهم كانوا إذا كبرت هذه البنت وخُطِبت وزُوِّجت يأخذون مهرها، فيضم أبوها مهرها إلى ماله، فتنتفج به – أي بالمهر – ثروته، فسُميت النافجة، لأنها تُعظِّم وتُبارِك ثروة أبيها، لكن كانوا يفرحون بهذا، وكانوا يُعدوهن للزواج على الأقل وانتظار استلاب وتغول مهورهن، هنيئاً لك النفاجة!
ليس كل العرب فعلوا ذلك، لكن مسألة اليوم – والوقت ضيق جداً، لدينا زُهاء عشرين دقيقة – لماذا وعلى أي خلفية كان هؤلاء يفعلون ما يفعلون؟ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ۩ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ۩، هناك مذهبان رئيسان في التفسير، المذهب الأول ذهب أصحابه إلى أن العرب كانوا يفعلون – أي بعض العرب كانوا يفعلون – ذلك خشية الفقر أو لوقوع الفقر، قال الله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۩، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۩، آية الإسراء وآية الأنعام على التوالي، وهذا غير دقيق، الآية تتحدَّث عن قتل الأولاد، وتُعلِّل نعم بالإملاق، وهو الفقر الشديد المدقع، لكنها لم تتحدَّث عن خصوص وأد البنات.
ومن المعروف – ويعرف هذا مَن درس آداب العرب وعوائدهم وتواريخهم – أنهم ربما قتلوا أنفسهم أيضاً، هناك عادة ذكرتها مرة على المنبر، تقريباً ربما لم تعرفها أمة غير أمة العرب، وهذا يحكي لنا طرفاً من الكرامة وحماوة الأنف وعزة النفس التي كان يمتاز بها العربي الصميم القح، العربي الذي يرى الموت أرحم من أن يمد يده يستجدي الناس، كان يرى الموت أرحم، إنها ظاهرة الاعتفاد، مادة عجيبة جداً، تُترجَم ظاهرة اجتماعية، ربما لم يعرفها شعب من الشعوب الأُخرى سوى العرب، ظاهرة الاعتفاد! كان إذا برَّحت بالعربي خصاصة وقعدت به وأوشك أن يُضطَر إلى أن يستجدي الناس ويتكففهم أبت عليه عزة نفسه وكرامتها فعل ذلك، فأخذ أهله أجمعين – زوجه وأولاده -، فأجلسهم في مكان، ثم بدأ يُشيِّد عليهم بناء من لبن ضيق صغير من جميع الجوانب، وهكذا حتى تكون آخر لبنة تُغلَق من داخل هذا البناء الصغير، وهكذا لا يسمع بهم أحد، يموتون ويقضون جميعاً في مكانهم، حتى لا يتكفف الناس، ولا يترك أحداً يتكفف الناس من ولده، هذا هو العربي، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩.
لذلك الصحابة والجيل الأول من المُسلِمين لم يكونوا لصوصاً ولا قطّاع طريق ولا طلّاب مغانم باردة، بالعكس! كانوا حملة رسالة، وهم من أعز الناس نفوساً، ومن أعظمهم إباءً وكرامةً، لذلك اختارهم الله لنُصرة نبيه، وأن يكونوا حملة مشاعل هذا الدين الكريم، فعلينا أن نعرف عوائدهم.
فربما قتلوا أولادهم الذكور والإناث وربما قتلوا أنفسهم وأهليهم لهذا السبب، وهو مُتعلِّق بالإملاق، مُتعلِّق بالفقر، ليس له علاقة بوأد البنات على جهة الخصوص أو التخصيص، وأد البنات مسألة أُخرى، ثم لو كان العرب يئدون بناتهم بسبب الإملاق لماذا البنات وحدهن؟ لماذا ليس الذكور إذن؟ وقُبيل قليل كانوا يُهنئون، هنيئاً لك النافجة، فأحرى أن يُولَد الذكور وليس الإناث، لأن الأُنثى مصدر ثروة وإثراء وتأثل أموال عظيمة لأبيها، لأنها النافجة، فلماذا كانت تُخَص هي بالذات بأن تُقتَل؟
ثم ما يدل على ضعف هذا المذهب من وجوه النقود وهي كثيرة أن هذه العادة السيئة أو السوءة لم يعرفها فقراء العرب فقط، بل عرفها الأعزة والأغنياء، وفعلوها! وهناك حكايا – لضيق المقام الأسف لن نذكرها – وقصص كثيرة تُؤكِّد سريان هذه العادة في أغنياء العرب، كانوا يئدون بناتهم، إذن ليس السبب الفقر، قد يقول أحدكم القرآن قال هذا، لكن القرآن لم يقل هذا، القرآن يتحدَّث عن عادة مُختلِفة تماماً، قتل الأولاد بالإطلاق ذكوراً وإناثاً بسبب الفقر، كان يفعله بعض العرب، لعزة النفس، أما وأد البنات على جهة التخصيص فغير موجود، لا توجد آية واحدة ربطت بين وأد البنات وبين الفقر، هاتوها! أين هذه الآية؟ على جهة التخصيص غير موجودة في كتاب الله أجمع، حتى نكون دقيقيين، فهذا مما يدل على ضعف هذا المذهب.
وذهب بعضهم أو بعض آخرون يلتمس أسباب التعليل في شيئ آخر، فقال إنه الشرف، الذي كان أعز شيئ على العربي، يُناضِل دونه بنفسه ونفيسه وأهله وولده، حتى لا يُجرَح وليُسلَم هذا العرض، ولو بكلمة من قريب أو بعيد، ولذلك كان يتقي العربي الصميم ما عساه يُصيب هذا العرض بشيئ يخدشه ويخدش جنابه المحمي، وهنا يأثرون قصة مشهورة عن أحد كبراء العرب وعظمائهم، المعروف بقيس بن عاصم، رضيَ الله عنه، لأنه صار صحابياً وأسلم، وتُوفيَ سنة عشر من هجرة المُصطفى، عليه الصلاة وأفضل السلام.
قيس بن عاصم – وكان كبير قومه وعظيمهم وكريمهم – فيما يُحكى أن قبيلة غازية صائلة صالت على قبيلته يوماً، فسبت ضمن مَن سبت ابنةً له، يُقال هي البنت الكُبرى، ثم وقع بعد ذلك الصلح بين القبيلتين، الغازية والمغزوة، وكان من ضمن شروط الصلح وبنوده أن تُعاد أو تُستعاد السبايا لقاء فدىً – جمع فدية – تُدفَع، إلا أن ابنة قيس بن عاصم شُغِفت حُباً بمَن وقعت في يده، فأبت العودة إلى أبيها، فآل على نفسه وأقسم غير حانث ليئدن كل أُنثى تُولَد له، قالوا وكانت هذه بداية وأد البنات، بسبب الدفاع عن الشرف والعرض والسُمعة، وقلَّدته عشيرته من ورائه، وقلَّد عشيرته كما قلَّده سائر العشائر من بعد.
وهذا قول ظاهر السقوط والبُطلان، لأن قيس بن عاصم كان قريب عهد جداً بالإسلام، حتى أنه أسلم وتنوَّر بأنوار هذا الدين، ومات – كما قلت آنفاً – في السنة العاشرة من هجرة المُصطفى، فبعيد جداً أن تكون هذه العادة عُرِفت قُبيل شروق شمس الإسلام بسنوات قلائل أو ببضع سنين، يستحيل هذا، بالعكس! بضع سنين قُبيل الإسلام كانت هذه العادة على وشك أن تفنى وتزول، لم تبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء، بقية خفيفة باهتة! فلما جاء الإسلام على ما ذكرت صباحاً ضربها الضربة النهائية، فقضى عليها، لم يُبق منها ولم يذر، حتى أنه حين ارتد مَن ارتد وبعض قبائل يسيرة من العرب بقيت على دينها لم يُؤثَر أنها وأدت البنات بعد وفاة رسول الله، لم يُؤثَر! لا تُوجَد حكاية واحدة، انتهت هذه العادة، فأن يُقال هذه العادة سنها قيس بن عاصم المنقري هذا كلام ساقط.
ثم من جهة قوانين علم الاجتماع والهيئة الإنسانية هذا الكلام لا يقبله عالم، فعهدنا بالسُنن والعوائد والظاهرات الاجتماعية أنها لا تنشأ تقليداً لفرد أو لفعل فرد من الناس، هذا غير صحيح، لا يقبله أي سوسيولوجي في العالم على الإطلاق، ولا ابن خلدون وهو رأسهم وعميدهم، لا يقبل هذا الأسلوب في التعليل أبداً، وهو أسلوب غير علمي، الظاهرات الاجتماعية دائماً إنما تنبثق وتنبع من العقل الجمعي، وتعكس عوائد المُجتمَع الجماعية، لا يُمكِن أن تكون تقليداً لفعل فردي، أياً كان هذا الفرد، هذا تقريباً ما يُطبِق عليه كل علماء الاجتماع، فهذا تفسير ساقط، وغير علمي بالمرة.
من وراء ذلكم اقترح بعض العلماء الأذكياء الآتي، ولعله في نظري – هو لم يذكر هذا – استفاد من إشارة في مُنتهى الذكاء، أوردها جار الله محمود الزمخشري – الإمام الزمخشري المُعتزِلي الحنفي في الفروع – في تفسيره العظيم البياني الكشّاف، قال فإن قلت فما الذي حملهم على وأد بنات؟ قلت نسبتهم البنات إلى الله، فألحقوهن بالله، إشارة عجيبة جداً، وهي تُعبِّر عن ذكاء مُنقطِع النظير لدى هذا العالم، الذي حاول أن يُفسِّر القرآن هنا موضوعياً، التقط الإشارات من جُملة الآيات، الآيات القرآنية إذا أُخِذت في جُملتها غير تفاريق ولا عضين وأجزاءً أفهمت أن العرب على خلفية دينية اعتقادية كانت تعتقد أن البنات نجسات، رجسٌ من عمل الله، لا من خلق آلهتهم التي يحترمون، ولذلك نسبوا إلى الله كل أُنثى، حتى الملائكة جعلوها إِنَاثًا ۩، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ۩، ما هو الجُزء؟ الإناث، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ۩.
وهذا الاعتقاد الديني الفاسد – هذا اعتقاد ديني – سوَّل لهم وزيَّن لهم أن يُصنِّفوا وأن يُقسِّموا ما يُنتِجه الحيوان وما يلده الإنسان إلى قسمين، قسم من خلق آلهتهم، وهو طاهر، زكي، ومُبارَك، فهذا يُترَك، وقسم ليس من خلق آلهتهم، وهو في مُعظَم الحال من خلق الله – والعياذ بالله -، كان شركهم شركاً بالغاً جداً، عكس ما كنا نعتقد، وهو شرك قبيح وقذر، هذا من خلق الله، والإناث من هذا القسم، وهو قسم نجس، غير طيب، ومُستخبَث، ولذلك ينبغي أن يُتخلَّص منه، وهذا يُفسِّر لنا عادتهم في التخلص من البنات، ليس بالذبح – مثلاً -، وإنما بالوأد.
وعادتهم التي كانت شائعة وسائدة أنهم يحفرون لدى المرأة التي تكون في مخاضها حفرةً إلى جانبها ويُعمِقون فيها، يُقال أعمق في الحفرة إذا غمَّقها، يُعمِقون فيها ثم يتلبَّثون، فإن جاء الولد ذكراً تركوه وفرحوا واستبشروا، وإن جاء أُنثى ألقوها في الحفرة العميقة، وأهالوا عليها التراب، حتى لا ينتثر شيئ من دمها، أو حتى يعود شيئ من رفاتها، لأنه نجس، رجس!
قريش كانت تُبالِغ في هذا، تفعل هذا لكن بعيداً من المنازل – الفصيح أن نقول بعيداً من وليس بعيداً عن كما نلحن -، بعيداً من منازلهم وديوراتهم كانوا يفعلون هذا، ويفعلون هذا في جبل مشهور بجبل أبي دلامة، يحفرون هناك في جبل أبي دلامة ثم يُهيلون على البنات، حتى لا تتدنس ولا تتنجس الديورات والمنازل برفاتهن أو ببقايا جثثهن، في حُفرة عميقة!
إذن القضية لها خلفية دينية، قال تعالى في سورة النحل – وتلوت شطراً من هذه الآيات عليكم، تلوت الشطر المعني من جهتنا بالتفسير إن شاء الله في هذا المقام – وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ۩، ما المقصود بالذين لا يعلمون؟ الآلهة، الشركاء! أي ويجعلون لشركائهم، لأن شركاءهم – الآلهة – لا علم لديهم، لا سمع ولا بصر ولا علم ولا فهم! وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ۩، قال القاضي البيضاوي – بيَّض الله غُرة أحواله – لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ۩ أي لآلهتهم التي لا علم لها ولا دراية، أصنام وأوثان وأخشاب! وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ۩، أي من الحرث والزروع والأنعام، كما قلنا هناك أشياء تُنسَب من جهة الخِلقة إلى آلهتهم، تبقى لآلتهم هذه، وهناك أشياء تُنسَب إلى الله، تكون هذه لله والعياذ بالله، يقولون هذه من خلق الله، نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ۩، كما في سورة الأنعام وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ۩، إلى آخرها! وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ۩ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۩… ما سر عطف هذه الآية على تلك؟ المبدأ واحد، مبدأ ديني! وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم ۩… لمَن؟ ليس للجاعلين من المُشرِكين، لشركائهم، قال البيضاوي لآلهتهم، أي لشركائهم، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ۩، منسوبات لله، يجعلون البنين لهم، وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ۩، ما الذي يشتهونه؟ البنين، يشتهون البنين، ويجعلون البنين لآلهتهم، هؤلاء مُكرَّمون، طيبون، وزكيون، وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ۩، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۩، نفس الشيئ!
عقَّب الله – تبارك وتعالى – في سورة الأنعام، قال وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ ۩، انتبهوا إلى التفسير القرآني، ما معنى وَكَذَلِكَ ۩؟ ما سر التشبيه هنا؟ وَكَذَلِكَ ۩ أي مثل ما ذكرنا، ما الذي ذكره؟ ذكر أنهم أيضاً كانوا يُوزِّعون ويُصنِّفون هذه المُنتجَات والمُتولِّدات صنفين وقسمين، قسم ذكور وقسم إناث، الإناث لله والذكور لآلهتهم، قال وَكَذَلِكَ ۩، أي مثل هذا الجعل، مثل هذا التصنيف، ومثل هذا التوزيع، أي بسببه، بمثله وبسببه! وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۩، إذن مرة أُخرى القضية دينية، ليس لها علاقة لا بالعرض والشرف ولا بالفقر، هذه قضية أُخرى، هذه قضية وهذه قضية، انتبهوا!
إذن هذا مذهب لعله يكون صائباً، وبه ينتظم شمل تقريباً جُملة عظيمة من الآيات، طبعاً في كتاب الله آيات أُخر تذكر صراحةً وتُشدِّد وتُقرِّر ما كان مُقرَّراً عندهم بلا مثنوية وبلا جمجمة، أن الإناث من خلق الله وهن لله أو تبع لله، طبعاً يستحيون هم من هذا، ويرون ذلك مثل سوء يضربونه لله، هذا لله – قالوا – وليس لآلهتنا التي لها الكرامة والإعزاز، لذلك قال بعقب آيات النحل، قال لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ۩… ماذا؟ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ۩، واضح جداً، كانوا يعتقدون هذا، أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ۩، أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ۩ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ۩ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ ۩ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ۩، أهذه الآلهة هي خالقة الذكور، ويُجعَل لها خلق الذكور، وخلق الإناث يختص به الله، وأنتم تستعرون من هذا، وتستقبحونه، وتتخلصون منهن؟ قسمة ظالمة، قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ۩! ثم قال عُقيب ذلك بقليل إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ۩، يجعلوهن، ماذا؟ إِنَاثًا ۩، هذا مُعتقَد العرب! إذن هي قضية اعتقادية.
وغير بعيد أن العرب كانوا يعتقدون مثل هذه العقائد التي اعتقدها أو اعتقد بها كثيرٌ من الشعوب والحضارات والأمم السالفة والغابرة، وربما بعض القبائل البدوية أو البدائية إلى يوم الناس هذا، هذا غير بعيد بالمرة! لكن القرآن ذكر هذا مُفرَّقاً في آيات ينبغي أن يُؤتى بها وتُتلى، هذا ما يُعرَف بالتفسير الموضوعي، ينبغي أن تُتلى جُملة واحدة، وألا يُشاكَس بين بعضها البعض، بالعكس! بل أن يُبحَث عن مصداق هذه في هذه، وعما تتأيد به هذه في تلك، وسنرى أن القرآن يتصادق ولا يتكاذب، ويتعاضد ولا يتشاكس، ليُكوِّن لنا في مُنتهى المشوار نظرية شبه مُتكامِلة، تعكس لنا هذا الجانب الخفي من الحياة العقدية لعرب الجاهلية، والذي تقريباً ظل خفياً إلى مُدة قريبة جداً.
أكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة:
وطلعت شمس الإسلام ولم يُعِد الإسلام الاعتبار للأُنثى فقط، إنما جعلها أصلاً أصيلاً للإنسان، في هذا المقام أعتقد قبل زُهاء سنتين كان لنا إسهام أو نوع من الاجتهاد، قد يكون صواباً وقد يكون غير ذلك، الله – تبارك وتعالى – أعلم وأعز وأجكم، كان لنا اجتهاد انتهينا به ومن خلاله إلى أن الأُنثى بحسب المنظور القرآني هي أصل البشرية، الأُنثى! حواء وليس آدم، وهذا بنص آية واضحة جداً في كتاب الله تبارك وتعالى، على كل حال وناقشنا بعض الأشياء السائدة والمعروفة في فكرنا، والتي تحتاج إلى إعادة نظر، فالإسلام لم يُعِد فقط الاعتبار الذي سلبه الذكر للأُنثى، بالعكس! أحلها منزلةً لائقةً بها، تتظاهر أدلة كثيرة من علوم شتى على تقرير هذه المنزلة والتصديق بها.
الإسلام شأنه شأن كل دين إلهي صحيح، لكنه بقيَ النُسخة الإلهية الوحيدة السليمة من التحريف ومن الزيادات ومن النقائص والتحريفات، لكن شأنه شأن كل دين إلهي صحيح قويم، هو وحده معقد ومرجع النظر المُسوي بين البشر، وبغير دين يستحيل على كل فكر وعلى كل فلسفة أن تُنهِض لنا أو تُقيم لنا أساساً نظرياً مقبولاً وغير قابل للنقد أو الرد على استواء أفراد بني آدم، يستحيل!
ولذلك أختم بسؤال طرحته ربما قبل أسبوعين في درس، قلت مرة – وربما ذكرته في خُطبة – كارل ماركس Karl Marx كان يرى أن الدين هو من اختراع الأقوياء لتطويع الضعفاء، والفيلسوف المجنون نيتشه Nietzsche قال لا – العكس تماماَ -، الدين اختراع الضعفاء لخداع وختل الأقوياء، أي النظريتين أدنى إلى القبول؟ كلتاهما باطل طبعاً بلا شك، لكن من باب الاعتباط والتنزل لو أردنا أن نقول الدين اختراع بشري – أستغفر الله العظيم – فأي النظريتين ينبغي أن تكون أدنى إلى القبول؟ قلنا نظرية نيتشه Nietzsche، لماذا؟ لأن الأقوياء – وهذه نظرية ماركس Marx – يُمكِنهم تطويع الضعفاء بغير الدين، بغير بدعة الدين أو بغير اختراع الدين وفكرة الله واليوم الآخر – إلى آخره – يُمكِن للأقوياء أن يُطوِّعوا الضعفاء بعشرة آلاف وسيلة أُخرى، طبعاً وهذا موجود الآن، بالقوة يُطوِّعونهم، وبالظلم أيضاً، هكذا! يُعلِنون اللامُساواة والحرب على كل ضعيف، (وذراعك – كما يُقال – وقوتك تُعطيك)، يُمكِن! وهذا حصل ويحصل واقعياً، أما بغير الدين – أنا أقول لكم هذا، والتاريخ والحقائق تقول هذا – يستحيل أن يقتنع الأقوياء بحق الضعفاء وبمُساواة الضعفاء لهم، لا يُمكِن أن يقتنع قوي ومُتفوِّق يا أخي – هو مُتفوِّق في ذكائه أو في قوته أو في سُلطانه أو في ماله أو في تنفذه – أنه يستوي مع الضعفاء أو الضعفاء يستوون معه وعليه أن يُعطيهم حقوقهم كاملةً غير منقوصة، القرآن الكريم يقول هذه حقوقهم، وليست حقك أنت.
أكثر من هذا أنه يقول وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۩، إذا أردت أن تتصدَّق فلتتصدَّق بالأحسن، الله يقول تصدّق بأحسن ما عندك، بالجيد على الأقل مما عندك، في أضعف الإيمان بالجيد، لماذا؟ لأنك لو أردت أن تأخذ لن تأخذ هذا الرديء المُسترذَل الذي تتصدَّق به، سيقول أحدهم الله أكبر، ما هذا التحريج؟ أنا أتصدَّق يا أخي، أتصدَّق حتى بالتراب، لا! ليس هذا منّة منك، تتصدَّق رُغماً عنك ورُغماً منك، وتُعطي حسناً مما عندك أو أحسن، لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۩، لأن القضية ليست خُدعة وليست كذبة، هناك آخرة، وهناك حساب وعذاب وجنة ونار، إن آمنت بهذا ستتصدَّق رُغماً عنك، ستتصدَّق عن طواعية وتُعطي أحسن ما عندك، ربما تُعطي شطر ما عندك، بعض الناس أعطوا كل ما عندهم، من الصحابة والتابعين، خرجوا من كل أموالهم في مرات كثيرة، هذا هو الدين.
هنا لا يُضطَر المسكين أن يأتي ويسفح ماء وجهه ويتكفف ويستجدي ويتوسَّل ويُؤلِّهك لكي تُعطيه يورو أو عشرة يورو، لا! أنت تُعطي رُغماً منك، لأن الرب الذي خلق الجميع فعلاً ويستوي في شرعه الجميع هو الذي فرض هذا، إذن نظرية نيتشه Nietzsche ستكون هي الصحيحة حال تنزلنا واعتبطنا وقلنا نُريد الأقرب إلى الصحة منهما، بغير دين يستحيل أن تُبرَّر المُساواة بين البشر، لذلك هناك وسيلة وحيدة للضعفاء أن يُنادوا بالمُساواة، وهي الدين، مع غير الدين لا تُوجَد مُساواة، وإلا ضاع هؤلاء.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا الدين وأن يُفقِّهنا في التأويل.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، تقبَّل منا وجُد علينا وعُد علينا بأحسن العوائد يا كريم، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، وسلوه يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
أقِم الصلاة يا أخي.
أضف تعليق