نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة السابعة
ولادة النظرية – الجزء الأول
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المُرسَلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
أما بعد أحبتي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، ثمة سيرة مُعاصِرة – أي كُتِبَت من طرف كاتب مُعاصِر – مشهورة جداً وناجحة على مُستوى كبير لعالمنا تشارلز داروين Charles Darwin وهى بعنوان The Reluctant Mr. Darwin، أي السيد المُتردِّد داروين Darwin، وقد ترجمها المُترجِم المصري القدير مصطفى إبراهيم فهمي على ما أعتقد، وهو من أحسن مُترجِمي الكتب العلمية خاصة في حقل الكيمياء والبيولوجي Biology أو علم الأحياء، وقد لاحظ فيها الكاتب ديفيد كوامين David Quammen أن أصل الأنواع رُغم أنه النص المُؤسِس لنظرية التطور العضوي Organic Evolution إلا أن بإمكان أي طالب على مُستوى الدكتوراة في هذا الحقل – أي في البيولوجيا التطورية – أن يتحصل على الدكتوراة من جامعات أمريكية ومُمكِن أيضاً – كما يقول كوامين Quammen – حتى من بعض الجامعات الإنجليزية مسقط رأس داروين Darwin – أي في بريطانيا أو المملكة المُتحِدة – دون أن يقرأ أصل الأنواع، وهذا شيئ عجيب أن تتحصل على الدكتوراة في علم الأحياء التطورية دون أن تقرأ النص المُؤسِس لنظرية التطور العضوي والتي تُعتبَر بحق أعظم وأكبر تعميم في حقل البيولوجي Biology ، فأكبر تعميم على الإطلاق هى نظرية التطور، لأن علم الأحياء لم يشهد تعميماً كهذا التعميم ومِن هنا محورية ومركزية هذه النظرية، وهذا إن دل هذا على شيئ فإنما دل على أن ما بقيَ من أصل الأنواع قليل، حيث بقيَ الجوهر Core لكن كثير من الحُجَج وكثير من المُجادَلات لم يبق منها شيئ، والعجيب أن تشارلز داروين Charles Darwin نفسه بحدسه النفّاذ لاحظ هذا وسجله في حياته وقال “أنا أعتقد أن بعد حين طويل من الزمن ستُعتبَر أشياء كثيرة في كتابي هذا من سقط المتاع”، فهو أدرك هذا إذن، ويبدو أنه أدرك هذا اتكاءاً منه على إدراكه للصعوبات الجمة التي والتحديات الجمة التي عانت منها نظريته في التطور العضوي وفي نشوء الأنواع واستحالتها – أي تحولها – من نوع إلى نوع إلى نوع وهلم جرا، لكنه قال خاتماً حدسه هذا بأنه يرجو أو يأمل في أن أصل النظرية أو جوهر النظرية – كما نُعبِر – ألا يتغير، فسيظل يشتغل عليه العلماء لكنه واثق تماماً من أن نظريته في الجوهر صحيحة، وإن كان هناك بعض الهوامش وبعض الحواشي وبعض الأدلة وبعض المُجادَلات التي تتغير بلا شك، وهذا الذي حصل بالضبط!
بعض الناس ربما من المُتعاطِفين مع نظرية التطور العضوي يظن%D إلا إن كانت فعلاً مُعظم أسس هذه النظرية ومُعظم ما يُلهِم بهذه النظرية معروفاً سلفائماً، وهذا غير صحيح بالمرة، فنستطيع أن نقول إن نظرية التطور في حياة صاحبها في آخر عشرين سنة – تقريباً هو نشرها في سنة ألف وثمانمائة تسع وخمسين وتُوفيَ في سنة ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، أي بعد حوالي ثلاث وعشرين سنة فقط وليس أكثر – كانت تقريباً مُنيَت بهزائم ساحقة، فإلى ألف وتسعمائة لم يبق منها تقريباً إلا أقل القليل، فالتعاطف معها أصبح ضئيلاً جداً في بعض الاجتماعات العلمية للمُؤسَسة العلمية البريطانية ثم تم تجاهل هذه النظرية تماماً كأنها غير موجودة، وبعد ذلك تم إحياؤها فيما يُعرَف بصيغة الداروينية الجديدة Neo-Darwinism على يد الطبيب وعالم الأحياء الألماني الشهير طبعاً أوجست وايزمان August Weissman، علماً بأننا سنتحدَّث عنه بالتفصيل في حلقة أو في حلقات مُقبِلة حين نتحدَّث عن هذه النظرية والنظرية التي استُنسِلَت أو استُخلِصَت منها بعد ذلك وهى أكثر شموليةً وأكثر تركيبيةً، وهى النظرية التطورية المعروفة بالتركيبية الجديدة Modern synthetic أو التركيبية التطورية المُعاصِرة التي تُعرَف بالنظرية التركيبية، وسنتحدث عن هذا بالتفصيل طبعاً.
مئتا سنة غبرت على النظرية، بعد أن سجلت النظرية انتصارات ساحقة وأصبحت – كما قلت لكم – أهم تعميم في البيولوجي Biology وأكثره مركزية وأهمية على عكس ما يظن بعض الناس أنها ظلت في تراجع مُستمِر، فهذا غير صحيح، هى اُنعِشَت من جديد ثم بعد ذلك جاءت العلوم لكي ترفدها بمزيد من الأدلة ومزيد من البراهين – إن جاز التعبير لأن البرهان Proof دائماً له طابع رياضي ومن ثم الأفضل أن يُقال أدلة أو مُؤيِدات، ولأن للبرهان دائماً هذا الطابع الرياضي لا يصح استخدامه علمياً في هذه المجالات مثلاً، فلا نقول في مجالات العلوم الحيوية كلمة براهين ولكن نقول كلمة أدلة – طبعاً، وعلى كل حال سنبدأ هذه الليلة في أن نتعرف على النظرية وكيف توصل إليها صاحبها – كما وعدتكم – وكيف استنبطها ومن أين استلهمها خطوة خطوة عبر المُلاحَظات التي جمعناها في الحلقات السابقة، وسوف تبدو لكم كما بدت لكل من أحبها ولكل من درسها وحتى لكل من عاداها وأتخذ منها موقفاً لاذعاً نظرية في مُنتهى البساطة، فهى عميقة في قدرتها التفسيرية وعميقة في تخطيها لحدود الخبرة البشرية ولا أقول اليومية بل حتى العمرية، فعمرنا لا يسمح لنا أن نخبر أشياء على هذا المُستوى الزماني المُمتَد جداً، لكن يبدو أن ذكاء داروين Darwin الهائل هو الذي سمح له بذلك وقد سبقت الإشارة إلى هذا، لكن هى نظرية في مُنتهى البساطة لغاية أن وكيل داروين Darwin – ربما ليس الحصري طبعاً ولكنه الوكيل الذي كان يُسميه داروين Darwin بوكيلي المُعتمَد – توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley كان يُعَد بفضلها ثاني أعظم علماء الأحياء في القرن التاسع عشر بل بعضهم يُغامِر ويقول هو أعظم عالم في البيولوجي Biology نبت في القرن التاسع عشر، فهو أعظم من داروين Darwin نفسه كعالم أحياء، لكن المشهور أنه ثاني أعظم العلماء في علم الأحياء بعد تشارلز داروين Charles Darwin، بفضل طبعاً داروين Darwin وبفضل نظريته في التطور، فلولا هذه النظرية لكان من المُستحيل أن يُصبِح داروين Darwin أعظم عالم أحياء، وإنما كان سيُصبِح من كبار علماء الأحياء، فهذه النظرية كانت استثناءً عجيباً في حياة هذا العالم الكبير وهى التي بوأته هذه المكانة البالغة، والفيلسوف الأمريكي من أصل إنجليزي ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead- لا أدري إن كنت ذكرت هذا مرة أم لا – يقول “تشارلز داروين Charles Darwin بلا شك عالمٌ عظيم ورجلٌ عظيم لكنه أبلد العُظماء”، ذكاؤه لم يكن من الذكاء المُلتمِع المُتألِق بشكل دائم وسريع أيضاً لكنه كان من نوع خاص وقد وصفناه في حلقات سابقة، وعلى كل حال الوكيل المُعتمَد لداروين Darwin أو كما كان يُلقب بالكلب الحارس لداروين Darwin – قيل هو كان يُلقِب نفسه بذلك ويفتخر بأنه البولدوج Bulldog الخاص بداروين Darwin – توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley حين أخذ كتاب أصل الأنواع وقرأه صُدِمَ وصاح بعبارة سُجِلَت له وعليه، حيث قال “How foolish of me not to have thought of it”، أي يا لحماقتي أنني لم أُفكِر في هذا، بمعنى كم أنا أحمق لأنني لم أُفكِر في هذا من قبل، فهو يتساءل كيف لم يُفكِّر في هذا لأن العملية واضحة وبسيطة جداً، وطبعاً لا يُمكِن لعالم كبير لوذعي مثل توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley أن يقول ويشهد على نفسه بالحماقة بالطريقة التي سمعتم إلا إن كانت فعلاً مُعظم أسس هذه النظرية ومُعظم ما يُلهِم بهذه النظرية معروفاً سلفاً طبعاً، فلو كان لتشارلز داروين Charles Darwin أصالة حقيقية وأصالة ضاربة بجذورها وأصالة استثنائية ما قال لا هكسلي Huxley ولا غير هكسلي Huxley مثل هذه العبارة، طبعاً لأنه لن يخطر على باله هذا أصلاً، فهذا الموضوع سوف يكون أصيلاً جداً جداً وسوف يبدأ هذا الرجل تقريباً من الصفر أو تحت الصفر، لكن الأمر لم يكن كذلك، وسوف ترون هذا، فمُعظم الأشياء كانت معروفة على الإطلاق، فهى كانت معروفة تماماً، وكان لداروين Darwin مصادره الخاصة، ومن هنا يقول بعض العلماء الكبار “داروين Darwin لم يكن خالقاً للتطور بل كان وارثاً”، فهو لم يخلق هذه النظرية ولم يخلق هذه الفكرة وإنما ورثها، لكن أين فضله إذن؟ إذا كان كتابه بهذه البساطة وبهذا الوضوح وبهذه المُباشَرية فأين يكمن فضله؟ سجل العالم المصري الجليل في علم الوراثة والأحياء المرحوم أحمد مُستجير – رحمة الله تعالى عليه – فضله قائلاً “فضل تشارلز داروين Charles Darwin يظهر ليس في أنه عرض لهذه الفكرة أو أنه افتجرها أو ابتكرها – الأمر لم يكن كذلك – وإنما يظهر فضله في أنه قدر وتمكن من إقناع العلماء الكبار بها”، لكن كيف هذا؟ لماذا لم يتمكن غيره مِمَن حدس بأشياء كثيرة من أسس هذه النظرية في أن يفعل هذا؟ لأن الرجل – كما تعلمون – سلخ من حياته عشرين سنة وربما أزيد بقليل في تدبيج مُحاجَة طويلة جداً هى كتاب أصل الأنواع، فإذا قرأتم أصل الأنواع سوف ترون تشارلز داروين Charles Darwin في أكثر من موضع دائماً يُعرِب عن حسرته أن هذا الكتاب كان مُختصَراً – وفعلاً أصل الأنواع مُختصَر – وأنه لو أراد أن يكتب كل ما يعرف لجاء الكتاب ربما أربعة أو خمسة أضعاف أصل الأنواع، فهذا الرجل لديه كميات هائلة جداًمن البيانات ومن المعلومات ومن المُعطَيات التي يدعم بها وجهة نظره والتي راكمها عبر عشرين سنة لغاية أنه شبه نفسه مرةً بالآلة، حيث قائلاً “ها قد غدوت مثل آلة Machinery – أي Machine كما نقول – مُتخصِّصة في جمع المعلومات وتحليلها واستخلاص النتائج منها”، فهو يشتغل ليل نهار ومخه دائماً مشغول بهذه الفكرة، فهذا هو الفضل، ولذلك استطاع أن يُقنِع كبار العلماء بنظريته، مثل بعض علماء النبات وعلماء الحيوان وعلماء الأحياء وعلماء التاريخ الطبيعي والفلاسفة الطبيعيين وغير هؤلاء من مشاهير علماء عصره الكبار جداً، فجوزيف هوكرJoseph Hooker من أكبر علماء النباتات، وتوماس هكسلي Thomas Huxley – كما قلنا – من أعظم علماء الأحياء على الإطلاق في عصره، وعالم الجيولوجيا Geology الكبير تشارلز لايل Charles Lyell اقتنع أخيراً بفكرته، وكذلك الحال مع عالم النبات الأمريكي الشهير جداً آسا جراي Asa Gray، فهؤلاء علماء كبار جداً واقتعنوا بهذه النظرية وبدأوا يُدافِعون عنها، والعالم الشهير هيويت Hewitt أيضاً اقتنع بهذه النظرية، كثيرون جداً إذن مَن اقتنعوا بها، وهذا هو مكمن نجاح هذا الرجل.
ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace إلى حد ما هو صديق داروين Darwin – كما تعلمون طبعاً – وهو شريكه في اكتشاف جوهر النظرية والعمود الفقري لها وهو الانتخاب الطبيعي Natural Selection، فألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace بتواضعه الجم – علماً بأن هذا الرجل لا يُمكِن ولا تملك إلا أن تُحِبه وأن ترفع له القبعة كما يقولون وذلك لتواضعه وطيب أخلاقه وطيب نفسه – فعل هذا، واكتشف النظرية نعم في شكل مُلخَص في حوالي عشرين صفحة فقط ولكنه لخصها بأسلوب عبقري كما يشهد داروين Darwin نفسه له، وذلك حين قال “لو أنا أردت أن أُلخِّصها لا يُمكِن أن أُلخِصها بأحسن من هذه الطريقة وبأحسن من هذا الشكل”، فأسلوبه كان عبقرياً وعباراته كانت واضحة، في حين أن داروين Darwin لم يكن قوياً في اللغة، وكان عنده أخطاء إملائية داروين Darwin حتى حين يكتب بالإنجليزية، فمثلاً كلمة وراثة – Heredity – لا يكتبها بشكل صحيح وإنما يُخطئ فيها بين حرف الـ E وحرف الـ I، فهو كان عنده مشاكل مع اللغة لكنه كان،لا يهتم بهذه الأشياء بخلاف والاس Wallace، فوالاس Wallace كان كاتباً بارعاً جداً وكان شاعراً وكان عنده قصائد شعر فضلاً عن أنه كان عالماً فاضلاً طيب الأخلاق وطيب النفس، وهو الذي اكتشف هذه النظرية في الظاهر قبل داروين Darwin، لكن في الحقيقة داروين Darwin هو الذي كان يشتغل عليها من عشرين سنة والأدلة تُؤكِد هذا، لكن هو اكتشفها مُستقِلاً وأعطى ورقته لتشارلز داروين Charles Darwin حين بعثها بالبريد من أرخبيل ملايو Malay Archipelago، أندونيسيا حالياً ، فطبعاً نُسِبَت بعد ذلك إلى داروين Darwin، ومن طيب أخلاق والاس Wallace أنه كان يتحدث عن الداروينية Darwinism ولا يقول الانتخاب الطبيعي، فكان يُعبِّر عن الانتخاب الطبيعي بقوله الداروينية Darwinism أو المبدأ الدارويني Darwinian Principle، وهذا شيئ غريب وتواضع شديد جداً وإنكار للنفس يدل على وجود روح عالية لعالم حقيقي يُحِب الحقيقة ويُحِب العلم للعلم وليس لمُجرَد أن يرفع من قدر نفسه أو تُسجَل له أسبقية، فكتب على كل حال هذا بكل تواضع العالم وطيب أخلاقه ونبل نفسه، ولا عجب بعد ذلك أن أصبح من كبار المُشتغِلين بالعلوم الروحية، فألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace اهتم بالروحانيات وألف فيها مُجلَدات ومارس تجارب روحية عديدة، لكن المُهِم هنا هو أن والاس Wallace كتب يقول: على كل حال ما كتبته أنا تقاضني فقط زُهاء أسبوع، فما قيمة أسبوع إلى عشرين سنة؟ أي أنه يقول أن داروين Darwin اشتغل عليها لمدة عشرين سنة، وعنده هرم من المعرفة وهرم من الأدلة، لكن أنا اشتغلت لأسبوع واحد فقط فلا مُقارَنة إذن، وسوف يأتيكم بُعيد قليل أن الذي قدح وأورى فكرة هذه النظرية في لحظة إبداعية هو نفس العامل الذي فعل هذا مع داروين Darwin، وهذا شيئ غريب، لكن سيأتي هذا بعد قليل إن شاء الله تعالى.
طبعاً الآن من خلال السرد الذي سأسرده عليكم سيتبين لكم أن داروين Darwin لم يجد نظريته وإنما بناها، فهو لم يجدها على طريقة أرشميدس Archimedes، لأن داروين Darwin لم يقل يوماً في لحظة ما “أوريكا”، أي لقد وجدتها، لكن هناك مُلاحَظات كثيرة عبر سنوات طويلة كانت تختمر في ذهنه وفي هذه الذاكرة وفي هذه العقلية الهائلة والغامضة كما سماها شيئاً فشيئاً إلى أن أوفت على الغاية، فبلغت غايتها وأوفت عليها ومن ثم وجد النظرية أمامه، فهو لم يقل يوم وجدتها وجدتها فجأة هكذا وإنما توصل إليها، تماماً كما فقد إيمانه بالمسيحية وربما بالإله كشخص – أي بالإله الشخصي – على مراحل طويلة، فأكيد طبعاً لم يفقده كما يفقد اليوم ملاحدة شبابنا إيمانهم في شهر أو في يومين أو بانتقاد آية أو بانتقد فكرة أو بفكرة فلسفية يقرأها لأن هذه صبيانية، وإنما فقد إيمانه عبر عشرات السنين شيئاً فشيئاً، ولذلك ستجدون في أصل الأنواع أنه يُصرِّح بإسم الخالق وبلفظ الخالق Creator، ففي أكثر من مرة يتحدَّث عن الخالق بل ويختم كتابه بالخالق، أي الخالق الذي نفخ ونفث النفثة الأولى التي أظهرت الحياة والتي أوجدت سر الحياة، فالخالق هو الذي فعل هذا، فإلى هذه اللحظة في ألف وثمانمائة وتسع وخمسين يبدو أنه لم يفقد إيمانه بالكامل، فهو كان مازال مُؤمِناً بالخالق، وعلى كل حال هو فعل هذا، فهكذا هى طبيعته لأنه رجل مُتأني، وبالتالي كان يبني بناءً له، فهو لا يكتشف ولا يخترع وإنما يبني طوبة طوبة وحجراً حجراً، ومن هنا وثاقة هذه النظرية وبالتالي – كما قلت لكم – بعد مائتي سنة تقريباً كان على هذه النظرية أن تتعزز بطريقة غير عادية على الإطلاق.
سنبدأ الآن بعدد من المُلاحَظات، وطبعاً أكثر هذه المُلاحَظات ذكرناها، لكن لابد أن نذكرها الآن ونرى كيف فسرها داروين Darwin، لأن في الحقيقة داروين Darwin عبر السنوات الخمس إلا قليلاً التي قضاها على متن البيجل Beagle – سفينة البيجل Beagle – لم يهتد إلى النظرية ولم يهتد إلى إطار نظري يُفسِّر هذه المُلاحَظات المُجتمِعة، فهو لم يفعل هذا، وبالتالي هو لم يجد شيئاً جديداً بالمرة إذن، ولكن لماذا كان لديه شعورٌ عميق وقوي بأهمية ما لاحظ؟ فهو كان يُسجِل هذا دائماً وكان هذا يُؤرِقه وكان يطيل تفكيره فيه لأن طبيعة تشارلز داروين Charles Darwin هى طبيعة ذاك الرجل الذي يُحِب التغيير، فهو يُؤمِن به ويحبه ويلتقطه، وهذا يُسمى في لغتهم بالـ Meta-philic، فالـ Meta-philic تعني عاشق أو مُحِب للتغيير، لكن هناك أُناس لا يُحِبون التغيير لأنهم جامدون وتقليديون ومُحافِظون بل ورجعيون – كما نقول الآن – طبعاً، وهؤلاء يُقال عنهم Meta-phobic – مُشتَقة من كلمة فوبيا Phobia – لأن الواحد منهم يُعاني من رهاب التغيير، فلذا يُقال Meta-phobic، مثل فيتزروي Fitzroy طبعاً، فالكابتن Captain فيتزروي Fitzroy كان ذا شخصية توصف بأنها Meta-phobic لأنه لا يُحِب التغيير، ويقول أن الحقائق كلها موجودة في الكتاب المُقدَس والعالم ثابت وكل شئ ثابت كما هو وكما خلقه الله بالخلق الخاص المُستقِل وانتهى الأمر، لكن داروين Darwin لم يكن كذلك، فأيهما أولى بعصره إذن؟ أيهما يُجسِد عصره أكثر؟ داروين Darwin طبعاً، فهو يعيش في العصر الفيكتوري The Victorian era في المملكة المُتحِدة – في عصر الملكة فيكتوريا Victoria – الذي يموج بالتغيير، وهو عصر الثورة الصناعية وعصر الأفكار وعصر الفلسفات وعصر الاتجاه الطبيعي حتى في علم الأحياء، فتشارلز داروين Charles Darwin كان طبيعياً مثل ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace الذي كان أيضاً طبيعياً، لكن ما معنى الاتجاه الطبيعي في علم الأحياء؟!
الاتجاه الطبيعي في علم الأحياء هو نوع من التدعيم للاتجاه الطبيعي في علم الطبيعة وفي علم الفيزياء وفي علم الكونيات أيضاً، فالاتجاه الطبيعي باختصار وبجملة واحدة يُؤمِن بأن لكل ظاهرة سبباً – Cause and Effect – ومُسبَباً، أي علة ومعلول أو سبب وأثر، فلابد من هذا، وبالتالي لا يُوجَد مجال للمعاجز – Miracles – إذن ولا لتدخل الله ولا للخوارق والكرامات، فلا يُوجَد مثل هذا الكلام لأن عندنا القوانين الطبيعية.
وهذا غير صحيح، فالقوانين الطبيعية طبعاً لا تتناقض مع وجود الله ولا مع إدارة الله لكونه، فتشارلز داروين Charles Darwin مثله مثل والاس Wallace كانا من علماء الأحياء الطبيعيين وكان يُؤمِنان أن في حقل العلوم الحيوية أو الأحيائية يُوجَد لكل ظاهرة سببها، فلا يُوجَد شيئ إسمه أن الله أراد هذا وخلق هذا وانتهى الأمر، حيث لابد من وجود سبب، فإذن من حقي كعالم أن أبحث عن هذا السبب وأن أضع أصبعي على هذا السبب وأن أُشرِّح هذا السبب، وهذه كانت نزعة غريبة جداً عن علم الأحياء، وهى تُعتبَر نزعة مادية وتميل ربما إلى الإلحاد والإنكار.
والعجيب طبعاً أن إلى زمان داروين Darwin – تشارلز داروين Charles Darwin – لم يكن علم الأحياء مهنة علمانية Secular، وإنما كان أقرب ما يكون إلى أن يكون مهنة دينية، فكان مُعظم علماء الأحياء يعظون الناس في أيام الآحاد في الكنائس، فكان يقول لك الأب فلان أنه عالم أحياء كبير وأنه يدرس الأحياء لكي يُدلِل على وجود الله وعلى طريقة برهان التصميم لويليام بيلي William Paley، وذلك لكي يرى كيف الله خلق العين وكيف خلق الأذن وكيف خلق القلب وكيف الرئيتين وكيف خلق الدورة الدموية الصُغرى والكبرى وكيف حدث التمويه – كاموفلاج Camouflage – في عالم الحيوان وكيف حدث هذا وذاك، فهم كانوا يدرسونه إذن ويعظون الناس في أيام الآحاد، وفي سائر أيام الأسبوع يبحثون عن الحشرات والخنافس والكائنات الغريبة التي
يستدلون بها على حكمة الله وقدرة الله، فهكذا كان علم الأحياء إذن، فأن يأتي أحد ويقول أن علم الاحياء يُعَد علماً قانونياً لأنه محكوم بالقوانين ومن ثم دعونا من الخوارق والمُعجِزات والتدخل المُباشِر لله فهذا غير صحيح، وهذه كانت نزعة مُخيفة، لكن داروين Darwin كان طبيعياً، وهذه النزعة – كما قلت لكم – من حيث ذاتها لا تتناقض بالضرورة ولا تتعارض لا في بعض الخط ولا على طول الخط مع وجود الله ومع خلق الله للأشياء ومع إدارة الله لكون، ولذلك داروين Darwin كان في مرحلة إيمانه مع كونه طبيعياً يقول أن الله هو خالق، وبالأحرى كان يقول أنه مُعطي القوانين الـ Laws Giver، فهو المُعطي والواهب لهذه القوانين، فهو الذي خلقها وهو الذي قدرها وهو الذي أعطاها، فإذن هو موجود لأنه هو الذي يُعطي القوانين، فالله ليس صانعاً للمعاجز – Miracle Maker – كما قال داروين Darwin – وإنما هو واهب القوانين – Laws Giver – الذي يُعطي القوانين ولا يصنع المعاجز، فهذا هو مُلخَص الاتجاه أو النزعة – Tendency- الطبيعية في علم البيولوجيا وعلم الأحياء، وداروين Darwin بطبيعته وبهذه النزعة بلا شك كان مُحِباً لأن يتلمس القانون إن وُجِد وحيث وُجِد وأنى وُجِد، ولذلك كان لديه أيضاً هذا النزوع المحموم إلى مُلاحَقة التغيرات والتباينات والتحولات لأنه يُحِبها،وإن كان ليس لديه إطار نظري يُفسِّر لماذا وكيف تحدث هذه الأشياء وهل تمتد أو لا تمتد، فهو لم يكن لديه هذا الشيئ إلى الآن.
سوف نبدأ نحن من البداية إذن الآن، فنحن قلنا أنه في الأرجنتين – علماً بأننا شرحنا هذا لكن سنذكره للتذكير فقط – لاحظ أشياء كثيرة، ومن الأنماط التي لاحظها واستلفتته وجود هذا الطائر الذي لا يطير – هناك مجموعة طيور لا تطير طبعاً ومنها الدجاج والبط وما إلى ذلك – والذي يُشبِه النعام لكنه أصغر حجماً، وهو طائر الريا Rhea، فطائر الريا Rhea الأرجنتيني استلفت داروين Darwin لأنه يعيش في شمال الأرجنتين بأحجام كبيرة، وفي جنوب الأرجنتين – كما قلنا في الإقليم الكبير بتاجونيا Patagonia – بأحجام صغيرة، فلماذا إذن؟ فنفس الريا Rhea يُوجَد بحجم صغير في الجنوب ويُوجَد بحجم كبير في الشمال، وهو لم يفهم لماذا لكنه سجله لأنه أثار فضوله، حيث يُوجَد نمط واحد ولكنه يتكرر باستمرار، فلا تجد الريا Rhea الكبيرة في الجنوب، وكذلك لا تجد الريا Rhea الصغيرة في الشمال، ففي الشمال كل الريا Rhea كبيرة، وفي الجنوب كل الريا Rhea صغيرة، فلماذا إذن؟ على كل حال هو لم يفهم هذا الآن وسوف نرى هذا فيما بعد.
ثانياً عندنا السلاحف التي ذكرناها، وهى سلاحف جُزر الجلاباجوس Galápagos، وهى جُزر البركانية مُكوَّنة من ثلاث عشرة جزيرة بركانية غرب الإكوادور Ecuador – الإكوادور Ecuador في آخر أمريكا الجنوبية من فوق على خط الاستواء، فهذه تقريباً تبعد ثمانمائة كيلو متر غرب الإكوادور Ecuador أو ستمائة مايل Mile – ولذا هى جُزر غريبة، وقد سماها أو نعتها البحّارة الشهير الكابتن Captain فيتزروي FitzRoy بأنها مأوى الشياطين، فهى جزر سمراء بركانية وتعيش عليها مخلوقات عجيبة غير موجودة في أي مكان آخر، فيُوجَد سلاحف عملاقة – Gaint – وضخمة جداً ويُوجَد عظايا وسحالي – Lizards – ضخمة أيضاً، فبعضها يزيد طولها على المتر، وقد لاحظ داروين Darwin – كما قلنا – أن بعض هذه السحالي أو العظايا تنزل في الماء، وهذا أمر غريب، فالعظايا لا تفعل هذا في أي مكان في العالم، لأن السحالي لا تدخل في الماء لكن هذه السحالي تغطس في الماء كما يغطس السمك والحوت والدولفين وتبقى في الماء في الأسفل نصف ساعة، وهذا شيئ غريب ومن ثم لم يكد يُصدِّق، لكن طبعاً نظر إليها فيتزروي FitzRoy على أنها شياطين، فقال هذه هى الشياطين السمراء، فهى شياطين حقيقية وإلا كيف تدخل عظايات في الماء وتبقى نصف ساعة؟ كيف تفعل هذا إذن؟ هذه ليست سمكة، هذه سحلية وتلك عظايا من رباعيات الأطراف، لكن طبعاً في المُقابِل هناك سحالي أخرى برية – تعيش على البر فقط – وليست برمائية، وهى تأكل الأعشاب ويختلف شكلها ولونها عن هذه السحالي السمراء التي تدخل في الماء وبعد نصف ساعة تخرج بعد أن تكون قد بردت، أي أنها تستبرد بالماء ومن ثم تخرج وتبدأ تزحف على الصخور كالشياطين، وقد لاحظها داروين Darwin – كما قلنا – ومن ثم أثارت إعجابه الشديد وإن كان لم يفهم لماذا يُمكِن لعظايا أن تسبح في الماء في حين أن هناك عظايا أُخرى تعيش في البر، فلماذا ليست كل العظايا نوعاً واحداً ومن ثم عيش كما تعيش كل عظايا الدنيا في البر وتأكل الأعشاب؟ فما قضية الماء هذه؟ ما هى القصة؟ فهذه عظايا وهذه عظايا ومع ذلك يُوجَد اختلاف بينهما، لكنه لم يفهم طبيعة هذه السحلية الكبيرة إلى الآن.
أخبره الإنجليزي لجُزر الجلاباجوس Galápagos – كما قلت لكم في الحلقة السابقة – عن أنه يستطيع أن يُميّز أي سلحفاة بمُجرَّد أن يراها ويستطيع أن يعرف وأن يُحدِّد من أي جزيرة أو إلى جزيرة تنتمي، وقد شرحنا لكم ذلك، وأيضاً داروين Darwin اختلف عليه الأمر، لكن لماذا اشتبه عليه الأمر؟ لأنه لم يكن سر الاختلاف المُتواجِد عند هذه السلاحف، فلماذا تختلف أشكالها ولماذا تختلف تروسها رغم أنها تعيش في أرخبيل Archipel واحد؟ علماً بأن الأرخبيل Archipel هو مجموعة جُزر، فهناك ثلاثة عشر جزيرة كبيرة فضلاً عن الجُزر الصغيرة التي لا عبرة بها يُشكِّلون أرخبيل الجالاباجوس Archipel Galápagos، فهذا أرخبيل Archipel كامل ويُوجَد فيه نفس المُناخ – Climate – طبعاً، فلماذا إذن تختلف السلاحف من جزيرة إلى جزيرة؟ ولماذا يستطيع الحاكم أن يُميِّز ذلك؟ فداروين Darwin أيضاً لم يفهم هذا ولكن سجَّله على كل حال.
حدثناكم أيضاً عن الطيور المُحاكية – Mockingbirds – التي جمعها داروين Darwin لأنه كان يُحِبها، ومن حسن الحظ أنه كتب على كل واحد بطاقة تُنبيء بالمكان الذي ينتمي إليه كل طائر، فأوضح أن هذا الطائر من جزيرة كذا وهذا من جزيرة كذا، وفي الحقيقة هو أتى بها من ثلاث جزر، لكن هذه الطيور المُحاكية تعيش في نفس الأرخبيل Archipel وفي نفس المناخ، ومع ذلك هناك فروق في أشكال مناقيرها، فأشكال مناقيرها مُختلِفة، ومن ثم لم يفهم داروين Darwin كيف ولماذا هذا.
لدينا أيضاً الطيور المشهورة جداً التي أصبحت تُسمى في كتب العلم بطيور داروين Darwin أو حساسين داروين Darwin أو شراشير أو براقش داروين Darwin كما يُترجِمونها العرب، فنحن لدينا مُشكِلة كبيرة في الترجمة العربية، فالترجمة العربية تعكس لكم تماماً بعض أو مظهراً من مظاهر أزمة العرب المُعاصِرين وكيف أنهم مُتشاكِسون في كل شيئ ولا يجتمعون، ولذلك تفسد أعمالهم، فأنت حين تقرأ وحدك تتعب، لأنك إذا أردت أن تقرأ وحدك وأن تتعلم وحدك وخاصة إذا لم تكن تعرف لغة أجنية فلن تتعلَّم، وبالتالي يا ويلك إن فعلت هذا، فكل كاتب عربي وكل مُترجِم عربي يُترجِم لك المُصطلَح نفسه – مُصطلَح واحد بالإنجليزية – بتراجم عدة، فتجد للكلمة الواحدة – والله – سبع ترجمات أوعشر ترجمات أو أكثر، وقد ذكرت لكم في الحلقات السابقة – مثلاً – نظرية مُعينة في علم طبقات الأرض الجيولوجيا Geology إسمها بالإنجليزية Uniformitarianism، لكن هذه الكلمة الواحدة تم ترجمتها إلى كلمات عدة للتعبير عن النظرية، فقيل عنها أنها الاتساقية والامتثالية والتنميطية والنمطية والنظامية والانتظامية وغير ذلك، فقد أحصيت لها أكثر من عشر ترجمات، لأن كل مُترجِم يُترجِم المُصطلَح كما يُحِب، وبالتالي أنت حين تقرأ لا تعرف أي نظرية هذه رغم أنك قد قرأت عنها خمسين صفحة لكن المُشكِلة في أنها أُعطيَت الآن إسماً أخراً، وهذا – سبحان الله – من تشاكس العرب، فهم لا يعملون عملاً مُؤسَساتياً وليس لديهم روح الفريق ولا روح الجماعة ولذلك لا يتعاونون على إنجاز شئ بشكل مُوحَد، فكُلٌ يمشي في طريق لأنهم تفاريق، ومن هنا لا يُمكِن أن نُفلِح، فإذا بقينا هكذا لا يُمكِن أن نُفلِح أبداً، وبالتالي يجب الآن أن تتأسس مُؤسَّسات على مُستوى العالم العربي كله مُلزِمة للجميع من أجل أن تُترجِم المُصطلَحات الطبيعة والأحيائية والتاريخية والفلسفية، فلا ينبغي لكل أحد أن يُترجِم كما يُحِب ومن ثم يجب أن تكون هذه المُؤسَّسات مُلزِمة، لكن الحاصل أن هذه الأمة مُمزَقة، فهى تهوى – سبحان الله – أن تكون كذلك، وكلنا رؤوس – ما شاء الله علينا – ولكن كرؤوس الثوم – والله العظيم – مثلما قال الأستاذ على الطنطاوي، فكل واحد فينا يدّعي أنه يفهم كل شيئ وأنه عبقري وأن ترجمته هى الأحسن وأن فهمه هو الأحسن، وهذا الواقع لا يُمكِن أن يُنقِذ منه إلا عمل مُؤسَّساتي مُلزِم على مُستوى الأمة وعلى مُستوى الإقليم، فينبغي أن يكون مُلزماً للجميع وخاصة في المدارس وفي الجامعات, فالألمان – مثلاً – لا يُوجَد مثل هذا الكلام عندهم، هذا مُستحيل أن يحصل، فالمُصطلَح الإنجليزي له ترجمة ألمانية واحدة مُوحَدة وهى مُلزِمة للكل، وكذلك الحال مع الفرنسيين ومع اليهود الذين يتحدَّثون باللغة العبرية بل ومع الكل، إلا العرب طبعاً، وقد آن للعرب أن يُشرِّحوا بعض أسباب مآسيهم، فهناك أسباب كثيرة جداً جداً، وهذا شيئ بسيط منها.
على كل حال نحن نتحدَّث عن طيور داروين Darwin وعن هذه الفنشيز Finches، فالفنش Finch هو الحسون، ويُوجَد أكثر من ترجمة له طبعاً، فهو يُترجَم إلى حسون أو شرشور أو برقش أو طائر مُغرِّد كما قال بعضهم عنه، لكنه ليس طائراً مُغرِّداً طبعاً، فالهامينج بيرد Hummingbird هو المُغرِّد وليس الفينش Finch، لكن هذه كلها ترجمات ما أنزل الله بها من سلطان ولا نعرف من أين أتت، فأحسن شيئ هو أن نقول فينشز Finches أو فينشز داروين Darwin’s Finches وينتهي الأمر، فهذا هو الأسهل لنا لكي نفهم، فلا نقول مرة شراشير ومرة حساسين ومرة براقش – جمع برقش – ومرة غير ذلك، وعلى كل حال من سوء الحظ أن هذه الفينشز Finches لم يكتب عليها – أي لم يُكتَب على العينات طبعاً – بطاقات تُخبِر أو تدل على أماكنها، لنعرف من أي جزيرة أتى هذا الفينش Finch، فداروين Darwin لم يكتب هذا للأسف، فقط جمعها عينات وشحنها إلى بلده ولم يكتب شيئاً، لكن بعد ذلك تم التعرف عليها وتم التأكد من أنها تنتمي إلى جُزر مُختلِفة أيضاً، فهى ليست من جزيرة واحدة.
طبعاً كانت صدمة داروين Darwin تمثل في أنه حين عاد إلى بريطانيا من رحلة البيجل Beagle والتقى بعالم الطيور وبخبير الطيور الشهير جون جولد John Gould أنه أخبره أمام الجمعية العلمية ثم أخبره بشكل شخصي بعد ذلك بأن هذه الطيور التي تبدو لك يا سيد داروين Darwin طيراً واحداً أو صنفاً واحداً أو نوعاً واحداً هى في الحقيقة ثلاثة عشر نوع، فهذه ثلاثة عشر نوع وليس نوعاً واحداً وإن كانت كل العينات لطائر الفينش Finch، وهذا شيئ غريب، لكنه قال أن هذه أنواع – Species – مُختلِفة، فصُدِمَ داروين Darwin طبعاً، فمناقيرها تدل على أنها مُختلِفة، فعلى الأقل من حيث الشكل نجد أن مناقير مُختلِفة تماماً، لكنه قال له أن الحكاية لا تتوقَّف على أن المناقير مُختلِفة، فهى عدة أنواع وليست نوعاً واحداً، مثلما نقول الكلب نوع والقط نوع، فهذا نوع وهذا نوع، وهذا شيئ غريب جداً ولذا داروين Darwin كان يتساءل لماذا اختلفت إذن؟ لأن من الواضح حين تنظر إليها أنها ربما تكون مُنحِدرة من أصل واحد ومن فينش Finch واحد فكيف تنوعت هذا التنوع؟ كيف أصبحت أنواعاً مُتباعِدة؟ ما الذي حصل إذن؟
طبعاً الفكرة كانت صادمة – كما قلت لكم – مع أن داروين Darwin كان ابن عصره، وفكرة التطور لم يبتكرها لأنها كانت موجودة، ومع ذلك تبقى صادمة، فإلى أن جاء داروين Darwin لم يُمكِن لأحد أن يواجه العالم – العالم العلمي والعالم الديني – بالقول أن الأنواع تتطور وأن الأنواع تتغير وأنه يُوجَد تغير حقيقي، لم يستطع أي أحد أن يقول هذا، فهناك قناعة حتى عند أصحاب النظرية التنميطية الانتظامية التي ترجمناها الآن بالترجمات المُختلِفة مثل الإسكتلندي هوتن Hutton ومثل الإسكتلندي أيضاً والإنجليزي لايل Lyell بأن بالتغيرات الجيولوجية لها دور هام، فهم يُؤمِنون بها ولكنهم يُؤمِنون بأن الأنواع إما ثابتة وإما مُتغيرة لا بالتطور ولكن بالخلق المُستقِل، فدائماً الله يخلق أنواعاً أخرى مُختلِفة، فمن المُمكِن أن تتشابه مع أنواع ثانية في الشكل لكن هذا النوع لم يُنسَل من هذا النوع، وهذا النوع لم ينحدر من هذا، فالله خلق هذا وخلق هذا خلقاً مُباشِراً وخلقاً مُنفصِلاً مُستقِلاً وهكذا، فلايل Lyell كان يُفكِّر وينظر هكذا مع أنه يُؤمِن بأن الأرض تغيرت وأن تضاريسها تغيرت بفعل عوامل معروفة، لكن في الأنواع الحية بالذات لا يُؤمِن بهذا، ولذلك كتب مرة داروين Darwin إلى أستاذه عالم النبات الكبير جوزيف هوكر Joseph Hooker قائلاً “إن التصريح بتحول الأنواع – Transformation – أشبه بالاعتراف بجريمة قتل”، فداروين Darwin في الطبعة الأولى من أصل الأنواع لم يستخدم كلمة التطور – Evolution – هكذا كمُصطلَح أبداً، وإنما كان يستخدم مُصطلَحات أخرى، فيقول التحول – Transformation- مثلاً، وهذا كان مُصطَلحاً كريهاً أيضاً ومن ثم هم لا يحبونه، وكان يقول بالانحدار أو التحدر – أي السلالي – مع التعديلات – Descent With Modification – وهكذا، فكان يستخدم مثل هذه المُصطلَحات، لكن لماذا يفعل هذا؟ قال لهوكر Hooker “لأن التصريح بأن الأنواع تتحول أو تتغير بالآلية التي اكتشفتها – أي الانتخاب الطبيعي – أشبه بالاعتراف بجريمة قتل”، أي أنني سوف أنتحر وسوف أُدمِّر نفسي إذا قلت هذا بشكل فواضح، فهذا دمار لأن المُجتمَع لن يهدأ إذا قلت هذا.
طبعاً أكيد سيخطر لكم على بال الآن مُباشَرةً أن تُفكِّروا في حال أوروبا والمملكة المُتحِدة – أي بريطانيا أو إنجلترا – في القرن التاسع عشر، فهذا كان يحدث بالأمس لأن الحكاية كلها تتعلَّق بمائة سنة أو بمائة وعشرين سنة، فما الذي حصل إذن؟ هؤلاء الناس لم يتركوا الدين ولم يُلحِدوا ويكفروا هكذا في مثل لمح البصر أبداً، ولكن هناك مئات السنين من التغير، وأنا أقول لكم أن هناك تغيرات حقيقية عانتها المُجتمَعات الأوروبية، مثل التغيرات الفكرية والفلسلفية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية الحقيقة، بخلافنا نحن الآن العرب – سبحان الله – البؤساء التُعساء، فنحن نُريد أن نُلحِد وأن نكفر بكل شيئ، نُريد أن نكفر بالله وبمحمد وبالقرآن وبكل شيئ من غير أن نُعاني من أي شيئ، فلا يُوجَد عندنا نظريات ولا يُوجَد عندنا فكر ولا يُوجَد عندنا أشياء ابتدعناها حقيقة، نحن لا يُوجَد عندنا أي شيئ ومن ثم نُريد أن نُقلِّد فقط لأننا مُقلِّدة، فتقول أن الغرب ألحد ومن ثم نحن سنُلحِد لأن إلحاده هو الصحيح، لكن الغرب ألحد يا رجل لأن عنده ميراث هائل، فمن قرون وهو يُقارِب المسائل بهذه الطريقة حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، لكن ما الذي عندك أنت؟ ما هى مُشكِلتك؟ فضلاً عن أن دينه ليس دينك، فالمسيحية الغربية ليست هى الإسلام تماماً، وهناك فروق كبيرة جداً وهائلة بين الدينيين، والإنجيل – Bible – ليس هو القرآن فلماذا تُريد أن تُقلِد؟ التقليد لعنة، والتقليد لم يكن يوماً إبداعاً، ولم يُقلِّد أحدهم وفلح أبداً، فمَن يُقلِّد لا يفلح، وإلا أحضر لي الآن أي فيلسوف أو مُفكِر عربي من هؤلاء المُقلِدة والوكلاء الفكريين للغرب وعنده إبداع، هذا مُستحيل، ولذا يعيش بعضهم هنا في الغرب – لن أذكر أسماء لأن بعضهم مات إلى رحمة الله – لمدة أربعين سنة وخمسين سنة ثم يموت وهو مأزوم نفسياً وساخط على الغرب بعد أن كتب عشرات الكتب، وذلك لأن الغرب لم يعترف له بالأصالة، فالغرب يقول له “لقد كتتب عشرين أو ثلاثين كتاباً ولكن لا يُوجَد كتاب واحد أصيل، فأنت لم تأت بأي شيئ جديد، أنت مُجرَّد رجل تتطفل على موائدنا، فأنت تسرق نظرياتنا وتحاول تطبقها بطريقة اعتسافية على قرآنك ودينك، وهذا كلام فارغ، فأنت لم تعمل أي حركة إصلاحية في عالمك العربي والإسلامي أصلاً ولم تُؤثِر في أحد، والآن أنت تخطب ودنا فقط بأن تلبس نظرياتنا وأنت ليس عندك أصالة، وهذا كله كلام فارغ”، ولذلك هم يغضبون رغم أن هذه حقيقة، فأين أصالتك إذن؟ أنت لا يُوجَد أي عندك أصالة، فالمُقلِّد لا يكون مُبدِعاً أبداً، ولكي تُبدِع لابد أن تكون أصيلاً، والأصالة تُكلِّف طبعاً، فالأصالة تحتاج إلى تعب وإلى مجهود وإلى عشرات السنين من التعب الحقيقي ومن العبقرية، أي أنها تحتاج باللغة الدينية إلى فتح إلهي عندما يفتح الله – عز وجل – عليك، فنسأل الله أن يفتح علينا وأن يحفظ علينا ديننا وإيماننا وعقولنا وأن يجعلنا أصلاء غير دخلاء.
فإذن هو يقول لهوكر Hooker أن هذا أشبه بالاعتراف بجريمة قتل لأن المسألة كانت صعبة في هذا المُناخ، مع أنه مناخ تغيير – كما قلت لكم – لأنه كان في العصر الفيكتوري The Victorian era الذي اتسم بالتغيير، لكن ليس ببساطة يُمكِنك أن تنتقص من وجود الرب أو الخالق أو قيومته على كونه إو إداراته للوجود، فالأمر ليس بهذه البساطة لأن العلماء سوف يقفون لك وليس فقط رجال الدين، فهناك علماء كبار في الجيولوجيا Geology والاحياء والفيزياء والرياضيات سوف يقولون لك هذا غير صحيح، لكنك تقوله لأنك عالم جاهل وإلا كيف لك أن تقول مثل هذا الكلام؟ ولذلك حين نشر داروين Darwin أصل الأنواع كان من أكبر الذين قدموا عروضاً لا نقول سيئة لكن عروضاً فعلاً لاذعة فأساءت داروين Darwin جداً وكربته هو أستاذه العجوز الفظ الكبير في كامبريدج Cambridge زالذي درَّسه الجيولوجيا Geology الميدانية وهو آدم سيجويك Adam Sedgwick، فقد كتب عرضاً لأصل الأنواع وقال “هذا الكتاب عبارة عن وجبة – Meal – من المادية الفاسدة، لكنها أُعِدت وقُدِمَت على طبق للقراء”، أي أنه يستنكر هذا ويقول أن هذا ليس علماً، فهذه مادية Materialism – فاسدة غير مُبرهَنة وغير مُدلَلة وغير مُعلَلة علمياً، وكتب لتشارلز داروين Charles Darwin بصفة شخصية يقول له “لقد قرأت كتابك، وحين قرأت هذا الكتاب ضحكت حتى استلقيت على ظهري”، أي أن هذا يُعَد كلاماً فارغاً، فهذا ليس علماً وليس له أي نصيب من العلم، وبالتالي لا تُحدِّثني عن تحول أنواع وما إلى ذلك، فعن أي علم تتحدَّث أنت؟
إذن آدم سيجويك Adam Sedgwick قال له”لقد قرأت كتابك، وحين قرأت هذا الكتاب ضحكت واستلقيت على ظهري”، وهذا كرب داروين Darwin جداً لأن هذا الكلام يصدر عن عالم كبير، فهو من كبار علماء الجيولوجيا Geology الميدانية في العالم الأوروبي وفي المملكة المُتحِدة بالذات، لكن لا علينا من هذا، فهذا الذي حصل على كل حال.
إذن لدينا الفينشز Finches ولدينا الموكينج بيرد Mockingbird ولدينا الإجوانات ولدينا السلاحف، وكل هذا ينتمي إلى الجالاباجوس Galápagos، وقدذكرنا لكم أيضاً عدداً من المُنقرِضات التي اكتشفها داروين Darwin، فقط اكتشف حفريات – Fossils – خاصة به بنفسه، ومنها الكائن العملاق المُنقرِض الذي يشبه الأرماديلو Armadillo الصغير الذي يُمكِن أن تمسكه بيدين، فهذا الـ Mastodons مُنقرِض وغير موجود، ولذا تساءل داروين Darwin لماذا حدث هذا ولماذا يُوجَد منه نُسخة مُصغَرة، فهو لم يفهم أيضاً، وقد تحدَّثنا أيضاً عن المايليدن دارويني Mylodon Darwinii كما سماه العالم المُشرِح وجامع الحفريات الكبير ومُؤسِس المتحف طبعاً ريتشارد أوين Richard Owen، علماً بأننا حدَّثناكم عنه بالتفصيل في الحلقة السابقة، لكن على كل حال هذا كان أيضاً عملاق وهو كسلان أرضي مُنقرِض وليس كسلاناً شجرياً، لأن الكسلان الموجود الآن هو كسلان صغير وقذر ويتسلَّق الأشجار، لكن المُنقرِض كبير الحجم، فلماذا انقرض الكبير وبقيَت منه نُسخة مُصغَرة؟ ما هو السر وراء هذا، لكن داروين Darwin لم يفهم السبب حتى الآن.
تحدَّثنا أيضاً عن الميجاثيروم Megatherium الذي كان مثل الفيل، وهذا الميجاثيروم Megatherium اكتشفه داروين Darwin أيضاً وهو كائن مُنقرِض، فهذه كلها حفريات في أمريكا اللاتينية اكتشفها داروين Darwin بنفسه وشحنها أو شحن بعض العظام الضخمة منها إلى المملكة المُتحِدة كان عند داروين Darwin أيضاً مُناسَبة للالتقاء مع السكان البدائيين الأصليين لأرض النار – هذه الجُزر في أقصى أمريكا الجنوبية وفي المُحيط الهادي وإسمها أرض النار، أي تيرا ديل فويجو Tierra del Fuego، فتيرا ديل فويجو Tierra del Fuego بالأسبانية تعني أرض النار – أيضاً، وهذه الجُزر يسكنها حالياً حوالي ثلاثة عشر ألف نسمة فقط، وعلى كل حال بريطانيا أخذت مجموعة من السكان البدائيين – علماً بأن الكابتن Captain روبرت فيتزروي Robert FitzRoy ساهم في هذا بنفسه في بلده – وعلَّموهم الآداب والعادات واللباس وآداب المائدة وآداب اللقاء وآداب التحية والأتيكت Étiquette وكل شيئ، ثم ردوهم بعد سنوات إلى بلادهم عسى أن يُفلِحوا في نقل ثقافة الرجل الإنجليزي – الجنتل مان Gentleman الإنجليزي – إلى أرض النار تيرا ديل فويجو Tierra del Fuego، وكان من ضمن هؤلاء يُوجَد رجل أسموه جيمي بوتون Jimmy Button، فمن المُؤكَّد أن هذا ليس إسمه الحقيقي لأنه من أرض النار طبعاً، لكن الإنجليز أسموه جيمي بوتون Jimmy Button، وقد كان صديقاً لداروين Darwin، فقد تعرَّف عليه داروين Darwin وصادقه، وفيتزروي FitzRoy كان يعرفه طبعاً من قبل، وكان فعلاً يلبس كالإنجليز وكان رجلاً مُهذَباً، وإنساناً مُتطوِّراً – ما شاء الله – ويتعامل برقي ويُلقي بالتحية على الناس، لكن كان هناك فرصة في رحلة العودة لكي يمر داروين Darwin وفيتزروي FitzRoy وهم على متن البيجل Beagle على أرض النار، فرأوا صاحبهم بوتون Button، ومن ثم صُعِقَ داروين Darwin لأنه وجده رجلاً همجياً – Barbaric – ويتصرَّف بطريقة همجية في أكله وفي شربه وفي كلامه وفي حركاته، فليس هذا هو الجنتل مان Gentleman الذي صنعناه في بريطانيا، ومن ثم صُعِقَ داروين Darwin وكان مصدوماً حقاً، فكتب يقول “هذا مُستحيل، فيستحيل على المرء أن يُقنِع نفسه أن هؤلاء إخوة لنا”، وهذه نزعة عنصرية طبعاً، فهنا تفوح رائحة عنصرية كريهة في كلام داروين Darwin، وهذه من أخطاء داروين Darwin التي وقع فيها طبعاً، لأنه الآن – كما قلنا – يحمل جراثيم – Germs – أو بذور فكرة التغير والتطورالتي لم يبتدعها أصلاً وكانت موجودة، وكأن هذه الفكرة أثَّرت عليه وهو يقول هذا، ثم أنه يقول مُستتلياً “كأن هؤلاء انحدروا من سُلَم التطور”، كأن هناك سلم ما لكن هؤلاء رجعوا وانحدروا إلى الحضيض، وهذا أوحى له بالفكرة التي سيعمل عليها في الكتاب الكبير -لذي حدثناكم عنه والذي سوف يُنشَر في سنة ألف وثمانمائة واثنين وسبعين وهو كتابThe Descent of Man، أي ارتقاء الإنسان أو انحدار الإنسان، علماً بأنه يُترجَم إلى نشوء الإنسان أيضاً، فلا مُشكِلة في هذا، لكن المُهِم هو أن هذه الفكرة أوحت له بأفكار مُعينة ذكرها في الكتاب، فقد تساءل: هل مثل هذه الأجناس لديها اللياقة والقدرة أن ترتقي حقاً أم إنها على المُستويين العقلي – Mental – والأخلاقي – Moral – معاً – أي عقلياً وأخلاقياً Mentally And Morally – غير قادرين على هذا؟ وهذه عنصرية فظيعة وسقطة رهيبة من داروين Darwin طبعاً، فهذه من السقطات السوداء في سجل داروين Darwin، وبهذه المُناسَبة أتذكَّر أن زميله وصديقه وشريكه في اكتشاف مبدأ الانتخاب الطبيعي والنظرية بشكل عام والاس Wallace – الآن تعرفون جيداً ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace – لم يكن كذلك، فهو إنجليزي أيضاَ ولكن يختلف عن داروين Darwin في نواحي كثيرة، فداروين Darwin أرستقراطي ومن عائلة أرستقراطية طبعاً لكن والاس Wallace كان فقيراً لأنه ابن عائلة فقيرة ومُتواضِعة جداً، وهذا انعكس – سبحان الله – على داروين Darwin، وهذا يتضح من الموقف من جيمي بوتون Jimmy Button، فواضح أن موقفه يعكس النزعة العنصرية الاستثنائية ذات الأصول الأرستقراطية التي كانت لديه، لكن والاس Wallace لم يكن كذلك أبداً، فوالاس Wallace عاش فترة طويلة نسبياً في حوض الأمازون Amazon وفي أماكن أخرى أيضاً وفي أرخابيل الملايو Malay Archipelago بضع سنوات، وعايش الهنود الحُمر في حوض الأمازون Amazon وكان مُعجَباً جداً بهم، وفيما رآه داروين Darwin بدائيةً وربما همجية رآه والاس Wallace شيئاً رائعاُ، فهو رأى فيه إنسانية جميلة جداً وبريئة من لوثة الحضارة ولوثة الثقافة، وكتب قصيدة شعر – لأنه كان شاعراً كما قلت لكم – عن هذا، علماً بأنني قد قرأتها بطولها – عند برونوفسكي Brunovska في كتابه The Descent of Man، وكان يقول في آخر هذه القصيدة “كم أود لو كنت هندياً – أي هندياً أحمراً – فأعيش قانعاً راضياً وأصيد السمك والحيوانات وأُجدِّف بقاربي الصغير وأرى أطفالي يكبرون مثل أولاد الظباء في البرية – Wild – صحيحي الأجسام بعقولٍ هادئة وبسلام، أغنياء بلا ثروة وسعداء بغير ذهب”، فهذه هى الترجمة العربية لشعره، وهو شعر جميل جداً، فهو يحسدهم على هذا، وهذا موقف مُناقِض تماماً لموقف تشارلز داروين Charles Darwin الذي سينعكس في مُقارَبة – لن نقول نظرية وإنما سنقول مُقارَبة بتواضع لأن هذه ليست نظرية حقيقة – جديدة لراسل والاس Russel Wallace عن الانتخاب الطبيعي فيما يخص الحالة الإنسانية وحالة البشر، وهذه المُقارَبة – Approach – سوف تُشكِّل ضربة قاسية جداً للمُقارَبة الداروينية، لكن كيف هذا وما هى الحكاية؟ هذا ما سنعرضه – إن شاء الله – أو نعرض له في الحلقة المُقبِلة، فإلى أن ألقاكم أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
أضف تعليق