إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله عز من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.
ثم أما بعد/
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/
يقول الله جل ثناؤه في كتابه الحكيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا *
صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.
إخوتي وأخواتي/
لا شك أنكم استشعرتم العتب الشديد، والدمدمة المقلقلة المزلزلة، في هذا السياق الكريم! شيء يخلع قلب المُتأمل وقلب الخاشع؛ لأن العتب مُوجه هنا إلى سيد الخلق وحبيب الحق – صلوات الله وتسليماته عليه -.
لست هنا بصدد تفسير هذه الآيات الجليلات الكريمات البينات الصادعات الزاعقات؛ لأن تفسيرها سلف في مُناسبة أُخرى، في هذا المكان، الذي أسأل الله أن يُباركه ومَن حل فيه، إنما بصدد أن أُوظف هذا السياق الكريم لطرح موضوع، هو في درجة عالية جدا من الأهمية! كما يُهم المسلمين، يهم البشر أجمعين، من حيث أتوا، لو كانوا يفقهون ولو كانوا يعقلون.
وقبل أن أُدلف إلى موضوعي، أحبتي، أود أن أُذكر بمعنى جليل، قد لا يفطن له بعضنا، وهو أننا في الامتحان. ما دام المرء في قِيد الحياة، فهو في الامتحان، فهو في الاختبار، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ *، على أن من الناس مَن لا يفقه معنى الامتحان، ولا ضوابط الامتحان ومُقتضياته.
لو ضربنا مثلا بامتحان واختبار دنيوي، حين يلحظ المُمتحِن المُراقب الأخطاء والأغلاط التي يتورط فيها المُمتحَن، هل يُعاجله بالتصحيح؟ هل يُنكر عليه؟ هل يتدخل؟ إن كان مُحايدا نزيها، ينبغي ألا يتدخل، بل ينبغي ألا يُعطي إيماءة بالغلط، ينبغي ألا يُعطي حتى مُجرد إيماءة، لهذا المُتهور من المُمتحنين في أغلاطه وأخطائه. لا بُد أن يتركه، كما هو، بحريته التامة؛ لأن هذا مُقتضى الامتحان، هذا مُقتضى الامتحان! ثم يأتي بعد ذلك الحساب ونقاش الحساب.
هذا الذي يحصل معنا، دون أن يفطن كثير منا – لا أقول بعضنا -، إلى حقيقته! لأنه لا يرى حسابا عاجلا، لا يرى مؤاخذة تأخذه من حيث لا يدري، فهو يظن أنه في عموم أحواله، ما لم يُناد بعضها عليه بالفسق والفجور والعصيان والخطأ الظاهر للعيان، يظن أنه في عموم أحواله بخير. وهذا هو الغرور! تغره نفسه – والعياذ بالله -، كما يغره الضالون المُنحرفون من شياطين الإنس والجن، ويُزينون له ما يقع فيه ويتهور من أخطاء وأغلاط وخطايا – والعياذ بالله -. قضية خطيرة!
خُطبتي اليوم، أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، تتعلق بالموضوعية، بالنزاهة، بالحيدة، بالعدل، بالإنصاف، بأن نُنصف غيرنا ونُنصف من أنفسنا. كان من هديه وأدبه وتعليمه – صلوات ربي وتسليماته عليه -، أنه كان يضرع ويبتهل إلى الله تبارك وتعالى، أن يرزقه كلمة الحق، في الرضا والغضب. لا أن يفوه بها حين يكون عنك راضيا، بل حين يكون منك وعليك غاضبا أيضا! ألا يتكلم فيك إلا بالحق، الذي يُرضي الله، شيء عجيب! أدب عال.
اليوم عن لي لو أن الله تبارك وتعالى سألنا يوم القيامة، وأنا من ضمن المسؤولين؛ هل تشهد يا عبدي على أمتك التي عايشت، هل تشهد على أمتك التي عايشت وعشت بينها وبين ظهرانيها، أنهم في مجموعهم، أنهم في عموم وغالب حالهم أو أحوالهم، كانوا أهل عدل وإنصاف؟ سأقول بلا تردد، وكلي أسف وحُزن؛ اللهم لا، اللهم يا ربي لا أشهد! ولعلي إن شهدت بضد هذه الشهادة، لأجاوز الحق ولأُبعد النُجعى.
ولا أستثني يا رب مشايخهم وعلماءهم. يا ربي إن غالبهم وإن مُعظمهم لم يعرفوا العدل ولا الإنصاف، ولا قضوا به ولا عملوا به، بل اختطوا الخُطة المُعاكسة تماما، وظلم بعضهم بعضا، جهارا عيانا بيانا، كما يُقال! وتعمدوا ذلك، وأصروا عليه، ولجوا فيه! والله المُستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونسوا، أو تناسوا، واغتروا بأنهم في الامتحان، وأن الله لم يترك مُعاجلتهم؛ لأنه راض عنهم! بل لأن هذا من مُقتضيات الامتحان، إنها فتنة، إنها فتنة! نسأل الله ألا نكون من المُفتتنين، ولا من المفتونين، وألا نكون فتانين، نفتن الناس في أديانهم وفي عقائدهم وفي أخلاقهم ومسالكهم.
باختصار، دون أن نُطوّل في المُقدمات، أحبتي، هذه الآيات الكريمات، كما سلف تفسيرها في غير مُناسبة سابقة، نزلت في جماعة من الأنصار، إنهم بنو أبيرق، هكذا يُدعون! جماعة من الأنصار، سرقوا من رجل آخر، في رواية هو عم لهم، سرقوا طعاما، وضعه في مشربة، علية، غرفة هكذا! أو الصُفة التي تكون بين يدي الغرفة، اختُلف في تفسيرها! نقبوها، نقبوا المشربة، وسرقوا الطعام. وقد كان الطعام وصل حديثا من الشام، والناس كانوا في جوع وفي ضنك وقلة طعام وزاد! ولكن سرقوا درعا له وسيوفا وما يُصلحها. فلما حامت حولهم الشُبهة، وكانت ظاهرة فيما يبدو لبعض الناس الذين يعرفونهم، رموا بجريمة السرقة يهوديا، ألقوا بما سرقوا في داره، من فوق السور، من فوق الحائط! ورموه.
وفي البداية، على ما ورد في الروايات، صدق النبي شهادة هؤلاء الفجرة الفسقة. الله سماهم ونعتهم بالخائنين، هؤلاء الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ *، وخانوا الله ورسوله، حين أدلوا بشهادة باطلة، ورموا رجلا بريئا، لم يكن مسلما مهاجريا، ولا مسلما أنصاريا – من الأنصار -، بل كان يهوديا، لم يُسلم، لم يدخل في ملة محمد – صلى الله على محمد وآله إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين -، فنزل هذا السياق المُزلزل الراعد البارق المُخيف! عتب شديد، على رسول الله. لا أُريد أن أُعيده، قد استمعتم إلى تلاوته!
وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *، فعيل بمعنى مُفاعل، لا تكن مُخاصما عنهم، لا تُدافع عنهم. قال ابن جرير – رضي الله عنه وأرضاه – وقد قيل إنه لم يُخاصم عنهم، وإنما همّ بذلك، فعاتبه الله على ما همّ به. الله! هذه أبلغ! إذا كان النبي لم يُخاصم، ولم يُدافع عن هؤلاء الشهود، الذين اجترموا الجريمة، ورموا غيرهم بها؛ هذا اليهودي المسكين البارئ الساحة، فهذه أبلغ وأشد، والله وأشق. همّ! الله قال له وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا *، وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * في الآية السابقة، لا تكن للخائنين مُخاصما، لا تُخاصم عنهم، فعيل بمعنى مُفاعل.
هذا هو بالمُختصر المُفيد. نزل القرآن! لم تظهر لا بينة، ولا حصل إقرار من وسائل الإثبات المعروفة في القضاء، وإنما نزل القرآن، من فوق سبع سماوات. ثم يقولون لك القرآن من تأليف محمد! ما الذي لز محمدا – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – أن يتقول مثل هذا القيل الشديد الصعب المُستصعب؟ عتب على محمد! لا أُريد أن أقول أكثر من ذلك. في آخر السياق؛ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ *، من أصحابك، هؤلاء الذين يدعون أنهم أصحابك، أَن يُضِلُّوكَ *، الله أكبر! كدت أن تضل. الله يقول لرسول الله كدت أن تضل.
والآن يجترم أحدنا الشهادة في غيره، ولعله لا يعرف عنه شيئا. الآن تجد العوام يشهدون في القريب والبعيد، وفي العالم والجاهل، وفيمَن يعرفون وفيمَن لا يعرفون. وادخلوا على وسائل التواصل الاجتماعي، شوفوا **، انظروا، قفوا على كلام الناس، بعضهم في بعض، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا لا أستنكره، ولا أستغربه، ولا أستهوله، من عامة جهلاء وملاحدة مثلا وأُناس لا علاقة لهم بالله ولم يرفعوا اسم الله ولا اسم رسوله واسم دينه، لكن أستغربه ويكاد يجنني، لا أكاد أفهمه! مِمَن يدعون أنهم أهل دين وأهل علم وأهل دعوة، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! شيء عجيب هذه الحالة التي نحن فيها! ولذلك لست مِمَن يستغرب كل ما يحيق بنا، كل ما ينزل بنا. والله ما يدفع الله هو أعظم وأكثر بكثير، ولله الحمد على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.
إخوتي وأخواتي/
قد يسألني أحدكم ويقول أنت قلت هذا الموضوع يهم المسلمين، والبشر أجمعين، من حيث أتوا، أي بما هم بشر، بحُكم التعريف! لماذا؟ قلت وأوجزت، لكن لا بُد أن أُفصل. وما سيتلو، هو مُجرد تفصيل، أو تفاصيل، وتهميش! لأن الموضوع هو موضوع العدل والإنصاف، موضوع الحيدة والموضوعية، موضوع النزاهة. والبشر يعلمون – هذا علمه الكفار، قبل أن يعلمه ربما المسلمون المُعاصرون. أتحدث عن المُعاصرين – هذا.
يتحدث العلماء والخبراء والدارسون، عن أنه ما من ميزة خُص بها الإنسان، إلا ووُجد من العلماء والمُفكرين والباحثين، مَن يُنازع في الاختصاص. يقول لك لا، ليست مما يختص به الإنسان، أو يُخص به الإنسان، موجودة في الحيوانات، وخاصة في الرئيسات، ال Primates، أي في ال Apes! في الغوريلا Gorilla، في الشمبانري Chimpanzee، في البونوبو Bonobo، في الأورانغوتان Orangutan، أقل منها طبعا! موجودة، هذه الأشياء موجودة، حتى إنهم تحدثوا عن الوعي والوعي بالذات، بل منهم مَن جازف – لا نقبل هذا فلسفيا، وهذا خطأ، لكن أنا أحكي لكم ما الذي يحصل في المشهد الثقافي الفكري العالمي، الغربي بالذات – وتحدث عن العقلانية! تحدثوا حتى عن العقلانية!
قالوا الرئيسات لديها قدر من العقلانية. عجيب! لا نُصدق هذا. تفسير العقلانية لدينا يختلف تماما، على كل حال هذا قد يكون اختلاف مُصطلح. إذن ليس لنا ميزة؟ اختلاف فقط في الدرجة؟ يقولون اختلاف في الدرجة، وليس في النوع. نحن تشركنا هذه الرئيسات في كل هذه المزايا، التي ظننا مُفتخرين مُتباهين، أنها مزايا لنا، خصائص لا يشركنا فيها غيرنا! قالوا لا، مع استثناء وحيد. وهذا عجيب! وجميل أنهم وقعوا على هذا الاستثناء.
قالوا هناك حالة واحدة استثنائية. لم يُوجد إلى الآن مُفكر أو عالم أو فيلسوف، نازع في أنها ميزة واختصاص إنساني. ما هي؟ الموضوعية Objectivity، الموضوعية! ما معنى الموضوعية؟ موضوع طويل، عشرات التعريفات، وتضارب واختلافات! لكن باختصار، القدر المُتفق عليه، الجامع المُشترك، بين التعريفات المُختلفة للموضوعية، التي هي اختصاص إنساني بامتياز، ولم يُوجد مَن نازع فيها، ما هو؟ ما هو القدر المُشترك؟ ما هو الجامع المُشترك؟ القدرة – أي ال Ability، Abilitate بالألمانية – على تغيير زاوية النظر. أنا أنظر إلى الموضوع من هذه الجهة، ومن الجهة الثانية. جهة مَن؟ جهة خصمي. والجهة الثالثة؛ جهة خصمي الآخر. والجهة الرابعة؛ خصمي الرابع! وهكذا! ليس فقط من زاويتي أنا! لا بُد أن أمشي في حذاء غيري، لا بُد أن أتقمص الحالة الفكرية المفهومية التوعوية لغيري. أُحاول أن أنظر كما ينظر هو! كيف يُمكن أن يبدو لي الأمر؟ قال لك هذه الحالة غير موجودة إلا عند البشر، عند الإنسان.
الموضوعية بهذا المعنى؛ القدرة على تغيير زاوية النظر، اختصاص إنساني بامتياز. إلى الآن لم يُناقش فيها لا فيلسوف ولا عالم ولا باحث، فيما عدا ذلك، وقع فيه النزاع وادعاء المُشاركة، وقع فيه النزع بادعاء المُشاركة! واضح يا إخواني؟
طبعا هذه القدرة، أيها الإخوة، هي التي تُفرق بيننا أيضا، وبين الحواسيب، الروبوتات Robots، طبعا! الروبوت Robot يُفكر، وعنده ذكاء، لكن في نهاية المطاف ماذا؟ هو مُبرمج، إلى الآن على الأقل هو مُبرمج. حتى الحدود التي نجح في أن يتعدى فيها البرمجة المُباشرة، لا تزال بنت البرمجة، ومعروفة للمُبرمج بطريقة أو بأُخرى. ولذلك لا يستطيع الحاسوب وحده أن يُعدد زاوية النظر، استقلالا، من غير برمجة، يستحيل، لا يستطيع! لذلك إبداع حقيقي، غير موجود!
الإنسان وحده الذي يستطيع أن يُبدع، وأن يُضيف إلى الرُقعة قطعة جديدة، لم تُوجد من قبل. وهكذا تُولد الفلسفات والأفكار والنظريات العلمية والأشياء المُستجدة تماما بنحو أو بآخر. الإنسان ليس حيوانا، حتى لو كان قردا من القرود العُليا، لا! يختلف تماما، والإنسان ليس حاسوبا، ليس روبوتا Robot. ولطالما أشاد المُفكرون والأذكياء والفلاسفة بهذه القدرة لدى الإنسان.
العبارة الجميلة، لفيلسوف القرن التاسع عشر الإنجليزي جون ستيوارت مل John Stuart Mill، صاحب مذهب النفعية في الفلسفة، وهو أحد العباقرة الكبار! يقول ذلك الذي لا يعرف إلا الجانب الذي يخصه من القضية – من المسألة، من الحكاية، أي ال Case-، لا يعرف إلا القليل عنها. جميل! He who knows only his own side of the case knows little of that. ذلك الذي لا يعرف إلا الجانب الذي يخصه – His own side – من القضية، لا يعرف إلا القليل عنها.
إذن الذين يُحاولون أن يعرفوا الجوانب الأُخرى مُتميزون. ما الذي يُحققونه؟ قدرا أكبر من الإنسانية. هذا هو الإنسان، هذا اختصاصك، هذا الذي يُميزك من الحاسوب ومن القرد والشمبانزي Chimpanzee والغوريلا Gorilla والبونوبو Bonobo. حين تكون كذلك، أنت الان إنسان أكثر، أنت إنسان ولك أجدرية الإنسانية.
كأين من مرة ذكرنا فيها تعريف عبقري الفيزياء في القرن العشرين ألبرت أينشتاين Albert Einstein! أن العلم، بل الفكر كله، وليس فقط العلم، الفكر عموما، الفلسفة وأي شيء، لعبة مُقارنة. العلم، والفكر عموما، لعبة ماذا؟ لعبة مُقارنة. مُقارنة، تعديد زاوية النظر! لعبة مُقارنة.
والمثل الإنجليزي، ذكرته مرة على هذا المنبر، الرائع! الذي يقول ماذا يعرفون عن إنجلترا، الذين لا يعرفون إلا إنجلترا؟ What do they know of England, who know only England? أو who only England know، أحسن! who only England know. ماذا يعرفون؟ ليت شعري! كأنه يقول ليت شعري! ماذا يعرفون عن إنجلترا، الذين لا يعرفون إلا إنجلترا؟ تقريبا لا شيء.
في خُطبة قريبة ذكرت أن التباين شرط الوعي. التباين شرط الوعي! والتباين لا يحصل إلا بماذا؟ بالمُقارنة. لا تُوجد مُقارنة، لا يُوجد وعي. ولذلك العلماء، كما العامة، يُرددون لا خيار في واحد. هل هناك خيار في واحد؟ واحد يعرض عليك إمكانية واحدة، ويقول لك اختر! أختار ماذا؟ ليس لدي الإمكانية. أختار ماذا؟ لا خيار في واحد. نحن نقول ولا رؤية في واحد. وأنت لا ترى أيضا الواحد، والواحد المُطلق، لا تراه، مُستحيل!
فسرنا بهذه المقولة لماذا لا نرى الله؟ لماذا لا نحس بالله؟ أي Sensor perception! لماذا لا يُوجد إدراك حسي بالله؟ لأنه واحد أحد من كل الجهات، لا إله إلا هو! يستحيل عقلا أن يُحس، انس! لو كان منه اثنان فقط، كان يُمكن أن يُحس، وأن يُرى، وأن يُسمع، مُباشرة! لكن لا يُوجد منه إلا هو، لا إله إلا هو! وهو مُوجد كل موجود. إذن لا تُوجد إمكانية، انس! فله الحمد على أن عرفنا بنفسه. كذلك في عالم الأفكار والنظريات والفهوم يا إخواني، لا رؤية في واحد.
الحالة التي نعيش حالة مؤسية ومُحزنة ومُخزية، وهذا بعض أسباب خزينا! ماذا تُريد يا عدنان بالخزي؟ هذا التخلف، هذا الفقر، هذا التكالب علينا، هذا الفشل في كل شيء! الفشل التعليمي والثقافي والأخلاقي والمسلكي والعسكري والسياسي، كل شيء! والديني والتدييني! فشل على جميع المُستويات. النجاح قليل، موجود، لكن قليل! بسبب ماذا؟ بسبب ماذا؟ بهذا السبب؛ أننا لا نرى إلا في الواحد، فنحن عُمي تقريبا، نحن عُمي، نحن أقرب إلى الروبوتات Robots، إلى الحواسيب، أبدا! نحن نقول فقط ما نُلقن، وما اخترنا أن نقوله، أو اختير لنا أن نقوله.
ستقول لي لا، دعوى عريضة، أنت تظلم نفسك وأمتك. أقول لك فقط ادخل على وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الحالة لا تُرضيني، تُحزنني! طبعا بما فيها المواقع التي تخصني أنا العبد الفقير. لا أُريد أن أُشهد الله تبارك وتعالى، أشعر بأسى، وأشعر بحزن، حين أنا أرى أن مُعظم التعليقات مُجرد مدح! ما شاء الله عليك يا دكتور، أنت وأنت! وماذا بعد؟ ما هذا؟ أي ماذا استفدنا؟ إلى متى؟ سنظل دائما فقط هكذا؟ يا رجل، حاول أن تستوعب الكلام، وحاول أن تدخل، إن كنت مؤهلا، في هذا. إن كنت غير مؤهل، فحاول أن تؤهل نفسك، ولو بصدد مسألة واحدة، أن تتساءل، أن تُسائل، أن تُناقش، أن تنتقض، أن تعترض، وبأدب! في سبيل الإثراء، ليس فقط لإظهار أنك تُريد أن تُعارض، لا! لديك اعتراض حقيقي، صُغه بأدب، وخل إخوانك، اترك إخوانك، يتناقشون معك، يتجادلون.
على فكرة، المواقع هكذا، بما فيها مواقعي؛ لا يدخل عليها إلا مَن يُحب الراية وحامل الراية. هم يرونك حامل راية مُعينة، يُحبون هذه الراية، يدخلون للهتافات، للتصفيق! مُحزن، هذا وضع مُحزن. ماذا إن دخل غيرهم، مِمَن لا يُحب الراية وصاحب الراية؟ يدخل ليلعن ويسب ويشتم ويُقذع! لا لينتقد، ولا ليُثري، أبدا. فقط للسباب! وهم قلة. وهذا يتكرر تقريبا مع الكل، وفي كل المواقع.
البسيط والساذج – أي ال Naive، الشخص الذي يكون Naive، أي من أمثالنا -، إذا كان عالما، مُفكرا، فيلسوفا، داعية، أيا كان! البسيط من هؤلاء، هو الذي يظن أنه ما شاء الله جاوز القنطرة، وأوفى على الغاية، وأنه نجح في الامتحان؛ امتحان التنوير، وامتحان التعليم والدعوة والإصلاح والتجديد والتفهيم! نجح! لماذا؟ لأن كل مَن يأتون يصفقون له. يا رجل، هذا يحدث مع الجميع! ادخل على مواقع الملاحدة، كل مَن يدخلون، يُصفقون للمُلحد، حتى وإن كان مُلحدا صغيرا جدا، لا يعرف شيئا، يهرف بما لا يعرف. هو لا يعرف ماذا يقول! والربوبي كذلك، والشكوكي كذلك، والإباحي المشاعي كذلك، هناك إباحيون! والخونة كذلك، الذين يؤلبون على أمتهم وقضايا أمتهم وعلى بلادهم وعلى أديانهم وعلى ثقافاتهم! هناك مواقع لأمثال هؤلاء الخونة، الجهيرين أو المُستخفين. وهناك أيضا الذين يدخلون، يدخلون ليصفقوا ويهتفوا ويسبوا الآخرين، مِمَن لا يرضون بهذه الخيانات وبهذه البذاءات وبهذه الحقارات. الكل هكذا، كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ *.
وجربوا أن تصطنعوا، وقد جربنا هذا، إلى الآن التجربة ناجحة – بفضل الله -، وهذا سرني جدا! جربوا أن تصطنعوا مجموعة مُعينة، يدخل فيها الشباب الواعد، مُفكرون، علماء، أصحاب الرأي، القراء، المُثقفون، جربوا! وبلا شك لا بُد أن يحدث تباين في وجهات النظر، تباين في الآراء، تباين في التوجهات. انظروا كيف يتم التفاعل! إن تم بسلاسة، وبصدر رحب، وتسامح، فهذا جيد. وعلى فكرة، هذا هو الحد الأدنى. هذا لا يكفي، هذا لا يكفي ولا يُرضي. سوف تقول لي هناك شيء بعد ذلك؟ طبعا، طبعا!
هنا في أوروبا بعض المُفكرين، ومن قديم بصراحة، من مئتي سنة، فجوته Goethe مثلا واحد منهم، لم يرضوا بالتسامح! بعض المُفكرين لم يرضوا به، ولعل جوته Goethe كان أولهم، ثم بعد ذلك توماس بين Thomas Paine! هؤلاء لم يرضوا حتى بالتسامح. قال لك التسامح فيه منية؛ لأنه من فعلا لاتيني؛ tolerō بمعنى يتحمل. أريد أن أتحملك! لماذا تتحملني يا أخي؟ لا أتحملك، ولا تتحملني. هذا رأيي، وهذا رأيك. لا بُد أن تتفهم حقي في أن أبوح برأيي، وأن أُعرب عن موقفي. وأنا نفس الشيء؛ لا بُد أن أتفهم، وأن أتقبل. ليس أتقبل رأيك، أتقبل حقك، تقرير حقك، في أن تبوح وأن تُعرب عما تُريد. هذا هو، هذا المُستوى اللائق، لكن أتسامح بأي معنى؟ وإذا لم تتسامح؟ ستقمعني. لا، ليس لديك الحق أن تقمعني أصلا.
ولذلك التسامح كلمة أخافت جوته Goethe، لم يرض بها، وأخافت توماس بين Thomas Paine، ورأيا فيها تقنيعا – أي Masking، تقنيعا -، لماذا؟ للاستبداد، للطغيان! في قلبه! التسامح في قلبه روح ماذا؟ روح الطغيان! لكن مقموعة، باسم التسامح، بقشرة التسامح، بقشرة التسامح! لذلك مثل هذا التسامح خطير، أليس كذلك؟ هذا سجلته في رسالتي للدكتوراة قبل سنوات، ونوقشت فيه. قلت بكل موضوعية، وبكل أكاديمية، التسامح الغربي لا أثق فيه كثيرا. في الدكتوراة، نوقشت في هذه النُقطة. لماذا يا عدنان إبراهيم؟
قلت لهم حين ذهبت أقف على كل التبريرات الثقافية والفلسفية للتسامح في السياق الثقافي الغربي، وجدت أنهم يفعلون هذا، باستثناء قلة قليلة، مثل جوته Goethe، ومثل توماس بين Thomas Paine، ومثل كارل بوبر Karl Popper، هذا أحدثهم طبعا! تُوفي قبل وقت يسير، النمساوي الإنجليزي، الإنجليزي من أصل نمساوي. باستثناء هؤلاء تقريبا، وباستثناء هربرت ماركوزه Herbert Marcuse، حتى أكون صادقا، من مدرسة فرانكفورت Frankfurt، باستثناء هؤلاء، وجدت كل التبريرات، تؤكد هذا المعنى الضمني للتسامح! لماذا؟ لأنها تُبرر التسامح باللامُبالاة. لأنني لا أُبالي القضية الدينية، فأنا أتسامح فيها. عجيب! لكن أنت لا تُبالي فيها؛ لأنك فيلسوف مثلا، أو لأنك ربوبي، أو لأنك شكوكي ربما، أليس كذلك؟ فماذا عن المُتدينين، وهم يشكلون مُعظم سكان الأرض بصراحة؟ مُعظم الناس عندها أديان، وتتعصب لأديانها، تُحب أديانها، إذن أين التسامح؟
لذلك رأينا جميعا انهيار هذا التسامح. وأنا قلت، قلت هذا التسامح الغربي بمثل هذه التبريرات، التي لا تزال قائمة إلى الآن، خطير. لم ينجح جوته Goethe، ولا بين Paine، ولا ماركوزه Marcuse، ولا كارل بوبر Karl Popper، الذين دمغوا التسامح، لم يرضوا به، قالوا لا بُد أن نتجاوزه. التسامح مرحلة، كانت! لا بُد أن تكون مرحلة انفصالية أو مفصلية أو انعطافية، ثم نتجاوزها، لا بُد أن نتجاوزها! نحن لم نفعل. كانوا قلقين، كانوا يخافون، وهذا الذي أخافني، وانتهيت إلى أن التسامح الغربي يُعاني من نُقطة انهيار أو نُقطة انكسار! بمُجرد أن تبرز لديك قوى مُنظمة وممأسسة، دينية أو أيديولوجية، أيا كانت! تؤمن بفكرة مُعينة، وأنت هذه الفكرة لا تؤمن بها، وربما تُعاديها، ربما أنت على الضد منها! ستُنتهك، مُباشرة! والتبرير موجود.
الآن في الأسابيع الماضية، مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، رأينا كيف انهار التسامح في وقت واحد، وعلى لسان أكثر من مُراسل غربي، وبطريقة ساذجة صبيانية مُخيفة! هؤلاء مثلنا، عيونهم زرق، هؤلاء شقر، يقودون نفس السيارات! أي نفس الماركات! يقودون نفس الماركات التي نقود. سيارات؟ أنتم تُقيمون البشر، وحقوق البشر في الحياة والهجرة والأمان، بماركة السيارات التي يقودونها؟ شيء مُرعب! نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين! وحقوق الإنسان وثقافة حقوق الإنسان! ورطة كبيرة، ورطة كبيرة!
لذلك – بفضل الله تبارك وتعالى – كنت، ولا أزال، وسأظل، إلا أن يبدو لي شيء آخر، وهو لم يبد إلى الآن، أُكرر وأؤكد على أن التسامح ذا الأصل الديني القرآني، نص إلهي! أقوى مئات المرات، من تسامح بتبريرات فلسفية واجتماعية أُخرى! كلها تسامحات لا تخلو من نُقطة انهيار، من نُقطة انكسار. هذا التسامح الديني لا، يخلو! إلا أن نكفر بالله ونُلغي قرآنه.
والقرآن في زُهاء خمسمائة آية يُقرر أن البشر لهم حرية الاعتقاد، وحرية حتى الدفاع والتبشير بمُعتقداتهم، ما رأيك؟ ولذلك سُئلت، وإذا كُرر السؤال علي، فسأقول الجواب عينه! هل ترى يا عدنان أن من حق غير المسلمين – ليس فقط اليهود والمسيحيين، يهود ومسيحيين وبوذيين وكونفوشيوسيين، وأيا كانوا! – أن يُبشروا بأديانهم؟ اللهم نعم، على خلفية قرآنية نعم، من حقهم أن يُبشروا بأديانهم في ديار الإسلام، ومن حق المسلم أن يُبشر بدينه في العالم. القرآن أكد هذا، وليس أقل من الآيات التي تحكي وثبتت وخلدت حُجج وشُبه، ماذا؟ الذين يُدافعون عن عقائدهم، بما فيها الشرك والوثنية. لماذا خلدها القرآن الكريم؟ لماذا؟ ولن آتي بالآيات الأُخرى، قلت لكم زُهاء خمسمائة آية تُقرر هذا الحق.
لذلك الوزير اللبناني الأسبق والمُفكر العربي الكبير جورج قرم، في رسالته للدكتوراة، التي ناقشها في الستينيات، أواسط الستينيات، في باريس، وهي رسالة مُتميزة، بكل معنى الكلمة! تعدد الأديان وأنظمة الحُكم، طرح سؤالا عجيبا! هو رأى باختصار طبعا، وحدثتكم عن هذا مرة، أن الحاضرة الإسلامية؛ الحاضرة الإسلامية عبر التاريخ، تكشفت عن وأعربت عن قدر من التسامح، وإمكانية تقبل الآخرين المليين الدينيين، بطريقة لم تُضارعها، بل لم تقترب حتى منها فيها، لا المسيحية ولا اليهودية ولا غير ذلك. عجيب! وهو مسيحي طبعا، هو ماروني لبناني، مسيحي! جورج قرم! لماذا؟
قال فكرت في هذا كثيرا، ودرست. رسالة دكتوراة، وفي باريس! قال وجدت أن النص هو الذي منع المسلمين أن يتغولوا على الآخرين. القرآن! قال القرآن ترك لهم هامشا ضيقا جدا جدا، يتحركون فيه. ممنوع! ولن نُفصل، هذا ليس موضوع اليوم، لكن – سُبحان الله! – جاء لتعزيز نُقطة فقط، تعزيز نُقطة في خُطبة اليوم. لا بُد أن نكون واعين بهذا!
وطبعا لا تقس لي الحاضرة الإسلامية، التي تحدث عنها المُفكر الكبير جورج قرم، بما يفعله الدواعش اليوم وبعض المأفونين وبعض المجنونين من أبناء المسلمين، الله يخليك، الله يخليك! على الأقل قليلا من العلمية، قليلا من الأكاديمية، قليلا من الإنصاف، قليلا من الجدية. أنا أتحدث لك عن أئمة، عن مناهج أئمة، عن مذاهب أربعة وخمسة وثمانية وتسعة، عن دول حكمت باسم الإسلام مئات السنين! كيف تعاملت مع الآخرين؟
لا تُحدثني عن جماعات، لا يُعلم مَن خلقها ولا مَن أنشأها ولا مَن يدعمها ولا مَن دعمها، وتقول لي هذا الإسلام! أنت في عقلك؟ خاطب بهذا الأطفال، لا تُخاطبني. الغربيون للأسف الذين سكنتهم عُقدة ولعنة الإسلاموفوبيا، يُحبون هذا. يتحدثون ويختزلون الإسلام، خمسة عشر قرنا، في عشرين سنة، في عقدين! يشطبون على المذاهب التسعة، وعلى دول الإسلام عبر التاريخ، ويأتون إلى جماعات، هم يعلمون مَن الذي أنشأها ومَن الذي يدعمها! عيب، عيب! تخففوا من هذه الغوغائية. نُريد أن نتكلم بجدية.
تتحدث عن دين عمره خمسة عشر قرنا، دخل المُختبر والاختبار مئات المرات، في الجُملة – لا أقول في كل تفصيل – نجح نجاحا مُبهرا، بهذا الخصوص على الأقل نجح نجاحا مُبهرا، لا نعلم دينا مثله! على فكرة، أنا قلت هذا أيضا، قلت هذا في مُحاضرة قديمة، في ال AKH هنا، وحضرها أيضا Intellectuals نمساويون كبار، صحافيون، وبعضهم مُفكرون، المُهم، ما علينا، قلت هذا، وأقول هذا بكل صدر رحب. أوروبا إلى اليوم، من نواح كثيرة، لم تبلغ ما بلغته الحاضرة الإسلامية، من تقرير حريات وحقوق الآخرين، الآخرين! الآخرين إثنيا أو دينيا بالذات، لم تبلغ، طبعا.
أنت هنا في أوروبا الآن – أي عاصمة أوروبية أو أمريكية أو كندية أو أسترالية -، لا يُمكن أن تُطبق كل أحكام شريعتك كما تُريد. هل يُمكن أن تُعدد الزوجات؟ تدخل السجن يا حبيبي. لا يُمكن! قال لك نعم، دينك هذا أنت حر فيه، في أشياء مُعينة. إذا خالف قوانيننا، فستخضع لقوانيننا وتدخل السجن. عجيب! في الشريعة الإسلامية والحواضر الإسلامية لا، نظامي ملت! نظام الملل! كان يسمح لغير المسلمين أن يتقاضوا في شؤونهم الشخصية بحسب أديانهم وشرائعهم. لا نُريد أن نُرهقهم. لم يُلزم غير المسلمين، وهم مواطنون، لهم الحقوق الأساسية على الأقل، إن لم تكن كل الحقوق، فأكثرها، حتى نكون مُنصفين، لكن ليس كل الحقوق، هذا أنا أعترف به، لكن لم تُلزمهم بخدمة العلم، بخدمة الجيش. لماذا؟ لأن هذه دولة أيديولوجية، دولة الإسلام دولة دينية. لماذا يجب عليه أن يخوض حروب دولة لا يؤمن بدينها؟ قالوا لا نُرهقك، ليس واجبا عليك. تُريد؟ لا نمنعك، وتأخذ كما يأخذ المسلم من الغنائم والأرباح وكذا. شيء عجيب! تسامح غير طبيعي! ولن نأتي بالأدلة، أدلة كثيرة!
أقول لكم كم مسجدا في أوروبا له مئذنة ويرفع النداء خمس مرات في اليوم؟ قليل جدا جدا جدا، تُعد على رؤوس الأصابع. فيما عدا ذلك، كلما تقدم المسلمون، لا يُلبون! ممنوع، لا، هذا مُزعج. وهم يرون أن هذا شعار، من شعار دين آخر، أي هذا يُخل بالتوازن، يُخل بالطابع المسيحي الأصلي للبلاد. ما شاء الله! في حين أن معلوف قال الآتي، في كتابه الهويات القاتلة، وأنصح بقراءته، من أروع الكُتب، على صغر حجمه، رائع جدا! لأن الكاتب أيضا أديب عالمي، وحائز على جوائز عالمية، وفي نفس الوقت أيضا ماروني، مسيحي لبناني، ماروني، مُقيم طبعا في باريس.
معلوف في الهويات القاتلة قال في إسطنبول، التي كانت حاضرة المسلمين، في القرن التاسع عشر، كان عدد غير المسلمين في العاصمة، يفوق عدد المسلمين. النظام سمح بهذا، لا تُوجد مُشكلة. اليوم عندنا إيران، قلت هذا، وهذا عتب منا على إخواننا المسلمين عموما. في إيران، في طهران، غير موجود مسجد جامع للسُنة. هناك مساجد للسُنة، طبعا هناك مساجد؛ حتى لا يُضحك علينا، لكن لا يُوجد مسجد جامع لهم. والذي يعرف، يقل لي، يُصححني، لا أقول يُكذبني؛ لأنني لا أكذب، لكن يُصححني، يقول لي لا يا عدنان، أنت غالط! أو ربما بُني هذا المسجد الجامع! أي مسجد جامع تُقام فيه صلاة الجُمعة، مثل هذه الصلاة، في أيام الجُمع. ممنوع في طهران!
الفقه الشيعي، والعقلية الشيعية الأيديولوجية، تمنع هذا، ممنوع! مساجد نعم، وفي غير طهران موجود. مساجد للصلوات الخمس موجود للسُنة. لا، لكن صلاة جُمعة هكذا، ممنوع في طهران، طهران العاصمة. ما شاء الله على التسامح الإسلامي، الحمد لله، إسطنبول العثمانية، السلطانية – السلاطين الذين نسبهم على مدار أربع وعشرين ساعة -، سمحت بأن يفوق عدد غير المسلمين المسلمين، وفقا لمعلوف، تخيل! وقطعا هو صادق، ليس من مصلحته أن يؤلف مثل هذه الحقيقة الصادمة، لغير المسلمين بالذات، ولمُتعصبة المسلمين اليوم. وطبعا إسطنبول كان ولا يزال تُقرع فيها نواقيس الكنائس في الأوقات المُعتمدة، من غير نكير. مسموح، مسموح! الأدلة كثيرة جدا.
على كل حال، كان ينبغي على المسلمين، كان ينبغي علينا، أن نُواصل المسيرة، وأن نُثري مثل هذه المرونة الفكرية، وهذه الاستيعابية الثقافية المُجتمعية والفكرية أيضا، أن نُثريها بأمداد زائدة، من أفكارنا وتنظيراتنا وتأويلاتنا وإعادة تأويلاتنا للنصوص، أليس كذلك؟ وللتراث، خاصة في جانبه البشري الاجتهادي، لكننا لم نفعل وارتكسنا وانتكسنا، والذي يفعل الآن، كما نُحاول أن نفعل، يُلعن في اليوم عشرة آلاف مرة وخمسين مرة، شيء عجيب! لكن في نهاية المطاف، كما أقول دائما، لا بُد للحقيقة أن تبزغ شمسها، ومُغالب الغلاب مغلوب، هذا دين الله. وهذا الدين موعود أهله وأمته وصاحبه – صلوات ربي وتسليماته عليه – بأن يُظهره الله على الدين كله، ليس بالحروب وليس بالسيف كما قد يُظن، أبدا! بقوته الذاتية، حين يُكشف عن وجهه الحقيقي.
أُريد أيضا أن أعطف بمُلاحظة مُهمة جدا، لم أجد مَن أشار إليها ونبه عليها؛ اليوم لا تجدون مُحارَبا ومُشنعا عليه ومُنكرا عليه فقط مَن كان مُتعصبا أو مُتطرفا، وهو يستحق، من المسلمين ذلك، لا! انتبهوا. تجدون بالقدر ذاته، وأحيانا بقدر أشرس وأكبر، التبكيت والتنكيت والإنكار والدمدمة، على مَن؟ على مَن يدعو إلى مزيد من الحب، من الرحمة، من التسامح، من التفاهم، من التعايش، من الاستيعاب. كما نفعل نحن مثلا! لماذا؟ انتبهوا، هؤلاء بالذات، أيا كانوا، مسلمين أم غير مسلمين، شرقيين أم غربيين، أنا واحد من الناس، وأُحب أن أُحسّن الظن بالناس، لا أُحسّن الظن بهم البتة، البتة! هناك الذي يقول لك لا تسمع لفلان، هذا يُرقع، الإسلام ليس كذلك، هذا ترقيع، الإسلام دين شرس مُخيف غير قابل للإصلاح، الإسلام ديني كُلياني، شمولي مُخيف، طاغوت! لا تسمع لفلان وعلان، هؤلاء يرقعون، حين يُحدثونك عن رحمة الإسلام وتسامح الإسلام وجمال الإسلام واستيعابية الإسلام، هؤلاء يرقعون! أنا أقول لكم احذروا تماما من هؤلاء!
والله، الذي لا إله إلا هو، هؤلاء ليسوا دعاة تعايش، وليسوا دعاة تسامح، وليسوا دعاة استقرار وأمن وأمان للبشرية. هؤلاء بالذات من شرار الخلق، ومدفوع لهم طبعا. هؤلاء مدفوع لهم، أكيد مدفوع لهم؛ لكي يفعلوا هذا، لكي تواصل المُخططات الانتهاكية التدميرية مسيرتها، مسيرة تفعيلها وتنفيذها على الأرض. ماذا أعني؟ حتى أكون واضحا؛ المسلمون اليوم قريب من ملياري بشر. نحن زُهاء ربع البشرية، بمعنى أنك حين تمشي في الشارع – أي شارع، خُذ نفسك، ضعها في أي قارة هكذا -، كل أربعة تقع عينك عليهم، احتمال كبير جدا أن يكون أحدهم مسلما! في كل شارع، في كل مكان في العالم! نحن ربع العالم. مَن الذي يستفيد من مُحاربة المُصلحين والمُنورين والمُجددين، الذين يُريدون أن يُفهموا المسلمين بالذات وأولا وبشكل أساسي، أن دينكم ليس كما تفهمون من عشرين أو ثلاثين سنة؟ إن دينكم ليس دين القتل، وليس دين الحرق، وليس دين الكره، وليس دين رفع راية البغضاء والكراهية للبشرية جميعا، إن دينكم ليس انخراطا في حرب ضد العالمين! كل هذا خطأ، غلط. لقد استُلب وجُرف وعيكم، استُنزف وعيكم. هؤلاء يُحاربون مَن يقول هذا! لا، غير صحيح، هذا كذاب، هذا مُرقع، والإسلام هو كذا، كذا، كذا.
انتبهوا، لو وُجد مُلحد – أنا لا أتحدث عن يهودي ونصراني وبوذي، مُلحد Atheist، شخص مُلحد – مُهتم حقيقة بحال البشرية، بحاضرها ومُستقبلها، لا يُتوقع ولن نتوقع من هذا المُلحد الصادق في اهتمامه بخير البشرية ورفاهها واستقرارها وأمنها وأمانها، إلا ماذا؟ إلا أن يُشجع كل دعوة وكل مُبادرة، بكل كل قولة، كل جُملة، وليس في الإسلام، في إطار الأيديولوجيات والأديان كلها، تعمل في ماذا؟ في أي اتجاه؟ في اتجاه تعزيز مزيد من التعايش، من الحب، من التسامح، من القبول، من الأمن، من السلامية. هذا المُلحد الصادق، سيُبارك هذا، ويُثمن هذا. أما الذي يرفع راية دين أو غير دين أو أي أيديولوجيا، مسلما كان أم غير مسلم، ثم يُحارب المُصلحين والمُنورين المُجددين، الذين يُريدون الانتعاش، مزيدا من السلامية والمحبة والتعايش والتسامح، فوالله مُريب. أُقسم بالله هؤلاء الأشخاص مُريبون جدا، انتبهوا! افتحوا عقولكم.
وللأسف الشديد هذه المسائل تنجح، وهذا ما يعوق المسيرة، يعوق مسيرة حتى البشرية، ويُكلفها مثل هذه الحروب المُدمرة، التي قد تأتي عليها وعلى مشوارها الطويل. تنجح لماذا؟ هذا موضوع الخُطبة اليوم! للأسف الشديد لأننا كبشر مُعظمنا لا نُكوّن آراءنا باستقلال، ولا بوعي. للأسف نحن نُمارس نشاطنا الفكري كروبوتات Robots. لسنا مُستقلين للأسف الشديد. هذا شيء مُحزن! على أن ماهيتنا كإنسان، تجعلنا ماذا؟ مُستقلين، مُبدعين للأفكار. لا نقبل أن تُلقى الأفكار، أو نُلقمها إلقاما، كلُقم الطعام! نستجوفها، ثم نقيؤها. لا، لا نقبل هذا! لكن للأسف مُعظم البشر – لا أتحدث عن المسلمين، البشر! مُعظم البشر – يفعلون، وهذه كارثة!
جزء من وظيفة المُنورين والمُصلحين والمُجددين والمُهتمين بالشأن البشري، أن يعملوا في الاتجاه المُعاكس، أن يُحفّزوا البشر على أن يستقلوا في تفكيرهم، ألا يحقروا أنفسهم. الإسلام طبعا والدين هنا له دور، والإسلام بصراحة بكيفية خاصة مُتفرد جدا في هذا الباب، ما رأيكم؟ مُتفرد جدا في هذا الباب. مَن الذي رفع مثل هذا الشعار؛ لا طاعة لمخلوق في معصية الله، أو في معصية الخالق؟ حديث في الصحيح هذا، لا طاعة! أي لا يُوجد أحد يحل ويربط، غير الله تبارك وتعالى. لا تقل لي لجنة كذا أبدا!
ولذلك روى أبو سعيد فيما أخرجه ابن ماجه في سُننه – أبو سعيد الخُدري، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا – إن الله تبارك وتعالى ليسأل عبده يوم القيامة – أي يسأله في أشياء كثيرة. هذا اسمه نقاش الحساب، نسأل الله ألا نُناقش الحساب. ليسأل الله عبده يوم القيامة، أي في أشياء كثيرة -، حتى ليقول – أي تبلغ النوبة أنه يقول له – يا فلان، قد رأيت مُنكرا، فما الذي منعك أن تُنكره؟ كان هناك شيء غير صحيح في المشهد، وأنت سكت! يقول يا رب مخافة الناس. خفت من الناس. فيقول الله تبارك وتعالى فإياي كنت أحق أن تخشى. كان أجدر بك أن تخشى الله، بدل أن تخشى الناس.
ولذلك سألني مرة أحدهم، وأنا سُئلت هذا السؤال أكثر من مرة؛ يا فلان، أي فلان، ما الذي يُجرئك على أن تفوه بآراء شديدة الصادمية للمسلمين، للمُثقفين، للعلماء، بعضهم ما قال بها أحد من قبلك، شديدة المُخالفية لما ساد؟ قلت له تُريد الصدق؟ بكل صدق؛ لأنني لست أحمق، ولست طفلا صغيرا، أنا في العقد السادس من عمري الآن، توسطته! هل يُمكن لعاقل، أو إنسان عاقل في الحد الأدنى، أن يعمل ضد نفسه ماديا ومعنويا؟ يستحيل. إذن لماذا أفعل أنا؟ لماذا لا ألوذ بالصمت؟ لماذا لا أُلحن ولا أغني الأغنية التي يُحبها الجمهور للناس، وأحظى بمزيد من التصفيق، ومزيد من المغانم المادية والمعنوية؟ لا والله، الذي لا إله إلا هو، لا أفعل، وأسأل الله أن يُثبتني على ألا أفعل.
قلت له بكل صدق أقول لك الذي يُحفزني ويُشجعني على أن أفعل هذا؛ مُراقبتي لربي، لا إله إلا هو! دائما أتوهم أنه يوم القيامة يقفني بين يديه، ويسألني؛ أي فلان، حين اطمأنت نفسك واطمأن قلبك، برأيك واجتهادك في الموضوع الفلاني، لماذا سكت؟ طبعا قد أكون، وبنسبة تسعين في المئة، وبنسبة مئة في المئة، مُخطئا فيه. اجتهادي خطأ مئة في المئة، لا بأس! لكن الله يعلم، أنك لم تعلم، أنك مُخطئ، الله يعلم أنك علمت، أنك قدرت ورجحت، أنك في السليم، أنك على صواب. الله فهمك، علمك شيئا، تعلمت شيئا، انتهى وأداك اجتهادك إلى رأي مُعين! لماذا لا تقوله؟ مثل ماذا مثلا؟ مثل أشياء كثيرة من التي أجتهد فيها أو أقول فيها برأيي، وقد أكون مُخطئا – دائما أقول هذا – أو غالطا.
لذلك لا يتبعني أحد على اسمي. مَن أنا؟ أنا بريء من كل مَن اتبعني على اسمي. لكن أنا أطرح سؤالا فقط، أطرح احتمالا، اذهب أنت وناقشه، اذهب أنت وادرسه. لا تأخذه على اسمي، ولا تتركه من أجل اسمي؛ لأنك لا تهوى هذا الاسم. إياك أن تفعل هذا! هذا ممنوع في الدين. يُمكن في أي أيديولوجيا أن يحصل هذا، والعوام تفعل هذا، لكن هذا المُتدين الحق لا يفعله، مَن يخشى الله لا يُمكن أن يفعله. هذا الذي يخشى الله طبعا، المسألة ليست لعبا، ليست لعبا! امتحان وابتلاء.
علي كل حال إذن مثل ماذا؟ مثل مثلا نص مُعين، ظلت الأمة متوافقة متواطئة على أنه قطعي الدلالة في المعنى الفلاني، انتهى! أداني اجتهادي إلى أن هذه القطعية مشكوكة، مُشتبهة، ملبوس فيها، غير صحيح! اتضح أن النص ليس قطعي الدلالة، بل يطرقه الاحتمال. وما طرقه الاحتمال، بطل به الاستدلال. خرج عن حد القطعية! هناك أشياء كثيرة، لا أُريد أن أُمثل لها، هذا حصل عبر سنوات من عمري! كنت أفعل هذا، أقول هناك احتمال كذا، كذا، كذا، كذا. طبعا تقوم الدنيا ولا تقعد، وإلى الآن لا تقعد، عليك.
أفعل هذا؛ حتى لا أدخل في قوله – صلوات ربي وتسليماته عليه – مَن سُئل عن علم، فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار. القضية ليست لعبا! ليست مصلحتي وسُمعتي، لا يهمني! حياتي وموتي، لا يهمني! ينبغي ألا تهتم بهذا يا أخي، تهتم فقط بالله، والحديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه! مَن سُئل عن علم، فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار. شيء مُخيف!
يا جماعة الخير، يا أحبابي، يا إخواني/
العلماء عبر العصور كم؟ عشرت الألوف، إن لم يكونوا مئات الألوف! لكن كل الأمة المسلمة، بكل مذاهبها وأطيافها، تقريبا لا تُولي الاعتبار الأول إلا لعشرات بأعيانهم. أي كلهم على بعضهم هكذا لا يُعدون حتى خمسة عشر شخصا، إماما! هؤلاء في القمة.
من بين أئتمنا الذين نوليهم، أوليناهم ولا نزال نوليهم، الاعتبار، وهو ليس مشهورا عند العامة، كالمشاهير المذاييع – رضوان الله عليهم أجمعين -؛ الإمام ابن حزم. هذا أحد أئمة أهل السُنة والجماعة، له مذهب اسمه المذهب الظاهري. أي مُثقف عادي يسمع بابن حزم! أبو محمد علي بن حزم – رحمة الله عليه – صاحب المُحلى، ابن حزم! هذا الرجل حين تنظر إليه، ترى أنه كان مُفرط الذكاء، سيّال الذهن، حاضر الحُجة، قوي العارضة، سريع البديهة، شيء عجيب الرجل هذا! بحر علوم – رضوان الله عليه -.
حدثتكم مرة عنه، أن هذا الرجل ألف مُجلدا فقط في أحاديث الوضوء، التي يحفظها بأسانيدها، بأسانيدها! الشاطر فينا هنا، في هذا المسجد الآن ربما، الذي يعرف حديث حمران، مولى عثمان بن عفان، في الوضوء، وهو في الصحيح، والسلام عليكم، حديث واحد. وعلى فكرة يكفي، حتى الآية تكفي، آية الماء، إذا مع حديث حمران، السلام عليكم! ابن حزم حشر وحشد في هذا المُجلد ألف حديث بأسانيدها، بإسناده هو، في الوضوء، شيء مُرعب هذا الرجل – رحمة الله تعالى عليه -! وليس فقط في الفقه والحديث، والأدب والتحليل وعلم النفس، شيء لا يكاد يُصدق! إمام من أئمة الأزمان – رضوان الله تعالى عليه -.
لكن اذهب واختبر سر فتوح الله على هذا الإمام، ولِمَ صيره إماما؟ لِمَ صيره إماما؟ تر أشياء عجيبة في حياته! يُحدثك عن نفسه، كيف نشأ في قصر الملوك! أبوه كان أميرا كبيرا، وبين الجواري الحسان والغيد الخمصاوات، في الأندلس! والطرب والخمر والسُكر، ولكن الرجل يُشهد على نفسه الله تبارك وتعالى، يقول لم يُكشف ثوبي عما لا يحل لي. الله! تقوى. من صغره يُراقب الله حقا، لا يلعب بدينه هذا الرجل، لا يلعب.
أكثر من هذا؛ ما في رسائله، التي حققها العلامة الدكتور إحسان عباس – رحمة الله عليه -، الأديب الفلسطيني الكبير. في رسائل العلامة أبي محمد بن حزم، يذكر واقعة، يقول اختصمت في يوم من الأيام مع أحد أصحابنا في مسألة، فظهرت عليه لبكو في لسانه. بكؤ الرجل بَكاءة وبُكئا. ابن حزم قال بكوءا. يُمكن أن تكون هذه الكلمة موجودة، لكن لم أقع عليها في المُعجمات بتفتيش سريع، على كل حال أي قل كلامه خلقة. من ناحية ربانية هكذا ليس لديه استطراد في الحديث وقدرة على الكلام السريع، هذا هو البكو أو البكوء. لبكو في لسانه – قال – ظهرت عليه، خصمته. فلما عُدت إلى منزلي، خالجني فيها شك، فتصفحت الكُتب التي لدي – المُجلدات -، فوجدت أن الحق مع صاحبي. أنا غلطان! ابن حزم! مَن صاحبه؟ لا أحد يعرفه، واحد من تلاميذه هكذا ولا من معارفه، أي الذين يختلفون إلى مجلسه، العلامة ابن حزم! ليس مذكورا، حتى لم يذكر اسمه!
قال فقلت لأغدون عليه! لكن تأخر الليل. فقلت لمَن كان في حضرتي لأغدون عليه. من بكرة الصباح، من الصباح! لكي أخبره أن الحق معه. قال وتسمح نفسك بذلك؟ الذي معه، هذ (الغلبان)، الذي لم يصر إماما، ولا يحق له أن يُصبح إماما، ليس من الذين يرون أن الحق هو الله، لا إله إلا هو! الحق هو الله، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ *، ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ *. قال له وتسمح نفسك بذلك؟ قال نعم، والله لو استطعت أن أذهب إليه الآن، لفعلت. الآن، من غير تأخير. وأقول له أنت مُصيب، أنا مُخطئ. أنا الإمام ابن حزم، الذي عندي ألوف التلاميذ، مُخطئ، غلطت، الحق معك. الحق! ناس تبحث عن الحق.
العجيب هو الآتي! أنا إنما سُقت هذه الحكاية؛ لأثني وأعارضها بحكاية أعجب منها والله! هذه في العلماء الأتقياء، الذين يخشون الله، يقع منهم هذا كثيرا – بفضل الله تبارك وتعالى -، وهم كثر في هذه الأمة المرحومة، على الأقل فيما مضى أكثر منهم اليوم بكثير. اليوم قلة – موجودون، لكن قلة – مَن عندهم هذه الخشية وهذا التحقيق وهذا الصدق مع الله ومع العباد ومع النفس. اللهم كثرهم في أمتنا وباركهم يا رب وبارك عليهم وبارك بهم وفيهم ولهم.
لكن حكاية أُخرى أعجب من هذه، قرأتها حين كنت طالبا ربما في العشرين، نحو العشرين من عمري، والله! في الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، النُسخة أيضا التي حققها إحسان عباس؛ لأن هناك نُسخة حققها العلامة أحمد شاكر. أنا قرأت في النُسخة التي حققها أيضا إحسان عباس، جميلة وأُحبها إلى الآن. ذكر ابن حزم بإسناده عن أحد معارفه من العلماء، أنه وقع ذات مرة، أن شيخا إماما، كان يُعرف بمحمد بن يوسف بن مطروح الأعرج، وكان الإمام في جامع قرطبة – جامع كبير هذا ومعروف، إمام الجُمعة -، ولم يكن يُعرف بصلاح، للأسف الشديد! ليس من أهل الصلاح، ولا من أهل التُقى! قام خطب جُمعة من الجُمعات، فقرأ وهو على منبر الجامع في قرطبة قوله تبارك وتعالى لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ *، لكن قرأها ماذا؟ لحن فيها لحنا فاحشا جدا جدا، قال عننتم. زادها نونا! عننتم.
فلما فرغ، أتاه جماعة من طلاب العلم والعلماء، وكانوا يأخذون عنه مذهب مالك، يقول رأي مالك. قالوا له يا إمامنا، يا شيخنا، الآية ليست على الوجه الذي تلوت، ليست عننتم، عَنِتُّمْ *. التشديد في التاء، هو ظن أن التشديد في النون، وفكها، عننتم! الآن التاء أصبحت غير مُشددة. هو قال ماذا؟ عننتم. وهي عَنِتُّمْ *. قال لا، هي هكذا، وهكذا أقرأناها، هي هكذا! هي هكذا كيف؟ مُصحف هذا! الحمد لله على نعمة وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *، ولا أحد يقدر على تغييره، ولا أكبر صحابي، ولا أكبر إمام، انتهينا من هذا، الحمد لله.
قال هي هكذا، وهكذا أقرأناها. قالوا له لا، ليست هكذا. فلج، للأسف أخذ في اللجاجة، ركب رأسه! يا أخي كلام الله هذا، يا رجل، يا إمام، صاحب منبر! فدخل بيته – ويبدو أن بيته كان لصيقا بالمسجد -؛ لكي يُفتش المُصحف، وطبعا ما راعه، إلا وهي كما قالوا له؛ عَنِتُّمْ *. التاء مُشددة، والنون واحدة. فزادها ضرسا! أحضر القلم، ووضع نونا زائدة، فصارت عننتم، وخرج إليهم. قال ألم أقل لكم؟ انظروا. يقول مَن يروي القصة والله لقد رأينا النون ولم يجف مدادها الذي كُتبت به. كاتبه (عيني عينك)، للساعة!
هذا الفاجر المُجرم، لا أدري كيف يُحاسبه الله، هذا إلى الله، لا نحكم في الناس، لكن انظروا إلى إمام جُمعة، ليس ابن حزم! كيف لو كان عنده مثل شهرة وجلالة ابن حزم؟ طبعا كلما كبرت أكثر، كبرت عليك المسألة، أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ كلما كبرت أكثر! طبعا التواضع من صغير، نعم سهل، المفروض أن يكون سهلا. المفروض أن يكون سهلا، التواضع من صغير! لكن التواضع من عالم له نبالة وشهرة، أصعب قليلا. التواضع من علامة كبير، شهرته أعرض وأكبر وقدمه أرسخ، أصعب. التواضع من إمام متبوع، وله أتباع في القارات، أصعب وأصعب! لكن إذا حضر الله، كل شيء يسير، لا إمام ولا مأموم ولا نبي ولا رسول، كل يتواضع أمام جلال الربوبية، ويُقدَّم الحق، والحق وحده.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يُلزمنا جادة الحق، في الظاهر والباطن، وأن يجعلنا مِمَن يُراعي جنابه ويرجو له الوقار، لا إله إلا هو! وأن يمن علينا جميعا بذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الحمد لله، الحمد لله ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي سبحانك ولا يُقضى عليك. ربنا آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها.
نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمع، ومن عمل لا يُرفع. ونعوذ بك ربنا من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة. اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقرنا بالاستغناء عنك، يا رب العالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمَن سواك، وبك عن جميع خلقك، يا رحمن، يا رحيم، يا رحمن، يا رحيم، يا رحمن، يا رحيم، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، ارفع عن البشرية جميعا الحرب والوباء والغلاء والربا والفحشاء وسيء الأخلاق ومُنكراتها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أمنا وأمن الدنيا في هذه الأوقات العصيبة، يا رب العالمين. اللهم هيئ لهذه الدنيا مَن يقودها على النحو الذي يُرضيك، أمنا وسلاما ورخاء وازدهارا وتوفيقا، يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات مغفرة ورضوانا، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.
عباد الله/
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.
(18/3/2022)
أضف تعليق