(ملحوظة هامة) هذه الخُطبة للأسف بدايتها مقطوعة، والمُتاح هو الآتي:
وَصفوتهُ مِنْ خلقه وَأمينهُ على وحيه وَنجيبهُ مِنْ عبادهِ، الرحمة المُهداة، وَالنعمة المُسداة، وَالسراج المُنير، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وَعَلَى آله الطيبين الطاهرين وَصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وَأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وَعلينا والمُسلِمين والمُسلِمات وَعليكم معهم أجمعين.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة المُسلِمون:
كما استقبلنا هذا الشهر الكريم نُودِّعه في هذه الجُمعة التي نسأل الله – تبارك وتعالى – في هذا اليوم الكريم أن تكون جُمعة مُبارَكة، تُعتَق فيها رقابنا من نار جهنم، ويمنّ الله علينا فيها بالقبول.
أيها الإخوة:
ليس الشأن أن نكون قد صُمنا هذا الشهر، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون الله – سُبحانه وتعالى – قد قبلنا، اللهم فإنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا أن تكون قد قبلتنا في هذا الشهر الكريم، اللهم لا تحرمنا فيه من فضلك وخيرك، وعُد علينا فيه بخير عائدة، اللهم نق فيه قلوبنا من الشرك ومن الوزر ومن الإثم ومن الخطيئة والشهوة، اللهم تقبَّل فيه توبتنا، وأجِب دعوتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا يا رب العالمين، اللهم أدخِلنا الجنة فيه بغير حساب يا أكرم الأكرمين، والمُسلِمين أجمعين.
الشأن أن يكون الله – سُبحانه وتعالى – قد قبل عنا أحسن ما عملنا في هذا الشهر العظيم المُبارَك، الذي لا ندري هل يطلع هلاله في العام القابل علينا أو لا يطلع، فالدهر قلب، والغيب بيد الله – سُبحانه وتعالى -، ولا ندري، وقد اجتمعت في هذا الشهر الكريم أسباب ثلاثة لتكفير الذنوب وللعتق من نار جهنم: صيام رمضان، وقيام رمضان، وقيام ليلة القدر.
وقيام ليلة القدر بمُفرَده كافٍ في تكفير الذنوب، في تكفير الذنوب السالفة على أضعف الإيمان، وإلا فقد ورد – ونسأل الله أن يكون الأمر كذلك – أن قيام ليلة القدر يُكفِّر سالف الذنوب وما يأتي منها أيضاً، ما تقدَّم منها وما تأخَّر كما تعلمون، وأما التكفير بصيام الشهر وبقيامه فمُتوقِّف على تمام الشهر، مُتوقِّف على أن يكون المُسلِم قد وُفِّق إلى صيام الشهر كله، وأن يكون قد وُفِّق إلى قيام الشهر كله بعون الله وفضله وتيسيره، اللهم وفِّقنا لذلك، لا يقدر على ذلك إلا أنت، لا إله إلا أنت ولا رب سواك.
وقد ورد عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قوله في الحديث المشهور الذي أخرجه الإمام أحمد من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُعطيت أمتي في رمضان خمس خصال، لم تُعطها أمة غيرهم، وذكر خامستها – عليه الصلاة وأفضل السلام – ويُغفَر لهم في آخر ليلة منه، قيل له يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال لا، ولكن العامل إذا وفى عمله أخذ أجره أو أُعطي أجره أو كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهذا يدل على أن التكفير – إن شاء الله – والمغفرة مُتوقِّف على ماذا؟ على تمام الشهر، هذا التكفير مُتوقِّف على تمام الشهر.
أيها الإخوة:
تصرَّم رمضان إلا قليلاً، ما الذي بقيَ من رمضان؟ أربعة أيام نصومها – إن شاء الله – على الأكثر، وثلاث ليال نقومها – إن شاء الله – على الأكثر، وقد تكون ليلتين، وقد تكون الأيام ثلاثة أيام، لأن الشهر لا يكون أزيد من ثلاثين، فحتى لو كان ثلاثين هي أربعة أيام وثلاث ليال، علينا أن نجتهد فيها حسناً، علينا أن نغتنم هذه الأوقات الشريفة، لعل الله – سُبحانه وتعالى – يغفر لنا ويسمح لنا تقصيرنا وذنبنا وما أسأنا إلى أنفسنا فيما سلف ومضى من هذا الشهر الكريم الفضيل.
أيها الإخوة:
ثم بعد ذلك يأتي العيد، عيد المُوحِّدين، عيد المقبولين، العيد يا إخوانني ليس لأننا نُفطِر من رمضان، وقته حين نُفطِر من رمضان، لكن ليس العيد لأننا نُفطِر، العامة من الناس والأغمار يحسبون العيد عيداً لأنهم يُفطِرون، أي انتهت مُهِمة الصيام، انتهت هذه الوظيفة العبادية الراقية الشريفة، فهم طبعاً يُعيِّدون ويستشعرون بفرحة ومباهج ومسرات العيد لأنهم انتهوا من الصيام، وهذا جهل، بالعكس! المُسلِم يحزن، المُسلِم يكتئب، المُسلِم يضيق، تضيق به نفسه، لأنه فارق هذا الشهر الكريم، شهر عجيب وصلنا بالله، شهر – والله – نقانا من ذنوبنا، نقانا من أوساخنا، نقانا من قاذورات أنفسنا.
قرأت لأحد العلماء الصالحين خمس خصال ذكرها، هذه تحفظ القلب، تحفظ القلب وتُلحِق الإنسان بالأبرار المُقرَّبين الصالحين، وتُفيد يا إخواني في مُعالَجة قسوة القلب، فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۩، قسوة القلب مرض المُنافِقين ومرض الكفر – والعياذ بالله -، فنُعيذ أنفسنا وإخواننا المُسلِمين من قسوة القلب.
خمس خصال إذن، خمس خصال تُفيد في مُعالَجة قسوة القلب، يقول الشاعر:
دواء قلبك خمس عند قسوته فدم عليها تفز بالخير والظفر.
ما هي؟
خلاء بطن، وقرآن تدبَّره كذا تَضرُّع باك ساعة السحر.
كذا قيامك جنح الليل أوسطه وأن تجالس أهل الخير والخبر.
قال كذا قيامك جنح الليل، أي طائفة من الليل، أوسطه، وأن تجالس أهل الخير والخبر، والله لقد جمعها الله للمسعودين المُوفَّقين في شهر رمضان جميعاً، أولها خلاء بطن، أي الصيام، وقرآن تدبَّره، هل تقرأون القرآن ما تقرأونه في رمضان؟ كلا، خلاء بطن، وقرآن تدبَّره، أي تتدبَّره، وقرآن تدبَّره، كذا تَضرُّع باك ساعة السحر، هل تقومون في ساعات السَحر – أي وقت السُحور، قبل أن يدخل وقت صلاة الصُبح – ما تقومون في رمضان؟ هل تسعدون يا إخواني بمثل ما سعدتم بأوقات السَحر في رمضان؟ كلا، ثم بعد ذلك كذا قيامك جنح الليل أوسطه، أي صلاة التهجد، حتى صلاة القيام أو التراويح هل تقومون ما قُمتم في رمضان؟ كلا، وأن تجالس أهل الخير والخبر، هل يُتاح لكم على مدى العام أن تُجالِسوا هذه الوجوه الطيبة، الذين يطلبون رضوان الله، أهل الصلاة، أهل القيام، أهل صلاة التراويح، وأهل الخيرات والمبرات، ما فعلتم في رمضان؟ لقد التقينا – إن شاء الله – ونلتقي تمام الشهر، أي في ثلاثين ليلة، كل ليلة – بحمد الله تعالى – نلتقي في معية إخواننا المُبارَكين الطيبين، عباد الرحمن، العُبّاد! نسأل الله لنا ولهم الصدق والإخلاص، اللهم آمين، كلها اجتمعت في شهر رمضان، والشاعر لم يفطن لذلك، لم يفطن أن هذه الأشياء تجتمع لكل مُوفَّق مسعود – إن شاء الله – في شهر رمضان، فانظروا إلى بركة هذا الشهر الكريم.
يا إخواني علينا أن نستثمر أرباحنا التي منّ الله علينا وعاد علينا بها في شهر رمضان في غير رمضان أيضاً، قبيح يا إخواني بل قبيح جداً أن نترك القيام بعد رمضان، قبيح جداً أن نهجر القرآن العظيم بعد رمضان، قبيح جداً أن نترك مُجالَسة إخواننا من أهل الصلاح ومن أهل الرضوان بعد رمضان وأن نعود إلى أهل البطالة والفسالة والفسوق – والعياذ بالله -، لا! لتكن علائقنا دائماً بأهل الفضل، بأهل الصلاح، بأهل الخير، والذين يُذكِّرون بالله، وخير مكان نجتمع فيه بهؤلاء في بيوت الله، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ۩ رِجَالٌ ۩… نلتقي في معية الله – تبارك وتعالى -، بين يدي الله، في بيوت الله.
علينا أن نستثمر – أيها الإخوة الأفاضل – هذه الأرباح وهذه العوائد والثمرات في غير رمضان، نعم قد لا يُمكِننا أن نُداوِم عليها بنفس الكيفية التي تيسَّرت وتهيَّأت في رمضان، فلا أقل أن نُداوِم عليها من حيث المبدأ ولو بكيفية أقل، ولو بكيفية أقل قليلاً! نُداوِم على القيام وعلى القرآن وعلى الصدقات وعلى التهجد وعلى صلة الإخوان المُبارَكين وعلى الصيام أيضاً، ولو أن نصوم من كل شهر ثلاثة أيام، بعض الناس – ما شاء الله – مُنذ سنين يصومون كل اثنين وخميس، بارك الله فيهم، مُنذ سنين! لا يُفرِّطون في هذه السُنة، وهذا من أحسن الأشياء، وبعضهم يصوم أيام الليالي البيض، أي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري، تُسمى الأيام البيض، لأنها أيام الليالي البيض، حيث تبيض السماء بالبدر، حيث يكون في طريقه لأن يكتمل ويُصبِح بدراً كاملاً، هي أيام الليالي البيض، أي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، والحسنة بعشر أمثالها، إذن كأنه صام الشهر كله، أليس كذلك؟ الذي يصوم ثلاثة أيام من كل شهر كأنه صام الشهر كله، لأن الحسنة بعشر أمثالها.
وقد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه الإمام أحمد صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يُذهِبن وحر الصدر، هذا هو العلاج المُصطفوي، العلاج الإلهي! مَن كان يشكو وحراً في صدره – أي قذارةً – ومَن كان يشكو وسخاً في صدره وفي نفسه فعليه بالآتي، وكثيرون يشكون هذا الشيئ، بسبب شؤم المعاصي والبُعد عن الله، عليهم أن يصوموا مع شهر الصبر الذي هو رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، هذه وصية نبوية، علينا يا إخواني أن نعقد الأنامل وأن نجعل على ذُكر منا دائماً وأبداً أمثال هذه الوصايا، لأنها علاج لا نجده عند غير رسول الله – والله -، رسول الله هو أفضل وأحسن وأرفع وأرقى طبيب للقلوب والأرواح، هو الذي يعرف.
تأمَّلوا – مثلاً – في قوله الذي خرَّجه مُسلِم في صحيح ثلاثة لا يغل عليهن قلب مُسلِم: إخلاص العمل لله، أو قال الإخلاص لله، ومُناصَحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المُؤمِنين، فإن دعوتهم تُحيط من ورائهم، ما معنى هذا الحديث العجيب؟ ولقد نكون سمعناه غير مرة، ثلاثة لا يغل عليهن صدر مُؤمِن أو صدر المُؤمِن، ما معنى لا يغل؟ أي لا يحمل الغل معهم، إذا لزم هذه الخصال الثلاث وتخلَّق بها ينتفي الغل – إن شاء الله – من صدره وقلبه، اللهم أذهب سخائم صدورنا، سخائم الصدور – والعياذ بالله – في الداخل، كيف؟
الإخلاص لله، ينبغي أن نتعوَّد أن نُخلِص لله في القول، في العمل، وفي كل موقف نقفه، لابد أن نُخلِص لله – تبارك وتعالى -، إذا عوَّدنا أنفسنا على ذلك تحقَّقنا بالإخلاص، وهذا يأتي بالتعويد، المُؤمِن لا يُرزَق الإخلاص دُفعةً واحدةً، مُستحيل! هذا يأتي بالاكتساب، شيئاً فشيئاً فشيئاً، والله يتفضَّل ويُعطي، لا إله إلا هو!
الإخلاص لله – تبارك وتعالى -، مُناصَحة ولاة الأمر، دائماً ولي الأمر لا نكتفي فقط بالدعاء عليه، ننصح له، لا نُنافِقه، ولا نُجامِله، ولا نتزلَّف إليه بالباطل، كما يفعل علماء السُلطان مع الملوك والرؤوساء وولاة الأمر عموماً، لا! حتى ولي الأمر هنا كلمة كما تعلمون هي أوسع من ذلك، أوسع من هذا التحديد السياسي فقط أو السلطوي، لابد أن ننصح ولاة الأمور بإخلاص لله.
أخيراً لزوم جماعة المُؤمِنين، تلزم جماعة المُؤمِنين، فإن دعوتهم تُحيط من ورائهم، البركة مع الجماعة يا إخواني، أكبر بكثير منها مع الفرد، فانظروا إلى هذا الطب النبوي الراقي.
ثلاث خصال، مَن لزم انتفى الغل من صدره – إن شاء الله -، الله أكبر! كيف لنا أن نعرف مثل هذا الطب من غير رسول الله؟ لا يُمكِن، ولذا لابد أن نقرأ بتدقيق وبإمعان وأن نأخذ هذه الأدوية الشافية لأدواء أرواحنا وأدواء قلوبنا، نحن نحتاج أن نكون صحيحين، نحتاج إلى صحة الروح والنفس، صحة البدن لا تُغني كثيراً، البدن الصحيح والبدن السقيم، الكل يندثر ويموت، أليس كذلك؟ لكن الروح هي الخالدة، الروح هي التي أُعِدت لتعيش حياة الأبد، فلابد أن تكون صحيحة، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩، سليم من الشرك وما دون ذلك أيضاً، سليم من الضغناء، من الشحناء، من الغل، من الكذب، من النفاق، من الحسد، من الرياء، ومن كل هذه الصفات الرديئة التي تُهلِك صاحبها – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.
نعود إلى ما كنا فيه، وأيضاً مع هذه الأشياء التي ينبغي أن نستثمرها بعد رمضان الفضيل علينا ألا ننسى صيام ستة أيام من شوال، وأحسب أن أكثر المُسلِمين – بفضل الله تبارك وتعالى – يحرصون على ذلك، وهذا من الخير المُيسَّر لهم، ستة أيام فقط، مَن صامها إلى رمضان – أي بعد رمضان، بعد الفطر منه – كان كمَن صام الدهر، فلو عاش المُكلَّف عمر تكليفه يصوم في كل عام رمضان وهذه الستة الأيام من شوال يُبعَث يوم القيامة وقد صام الدهر كله، عمره كله صامه! لماذا؟
أولاً في فضلها قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه مُسلِم وأصحاب السُنن، عن أبي أيوب، قال قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن صام شهر رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر، أي كان له كصيام الدهر، لأن مَن صام العام كله أو مَن صام السنة كلها، وكل سنة صام كل السنة، إذن صام الدهر، أليس كذلك؟ صام العمر.
عند الإمام النسائي – رضيَ الله عنه تعالى – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الحسنة بعشر أمثالها، فصيام شهر بعشرة أشهر، قال صيام شهر بعشرة أشهر، رمضان شهر، والحسنة بعشرة أمثالها، إذن عشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فهذا تمام العام، ستة أيام تُضرَب في عشرة، هذا يُساوي ستين يوماً، أي شهرين، إذن هناك شهران، شهران زائد عشرة أشهر، إذن هذه هي السنة، فإذن مَن صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كمَن صام الدهر، نسأل الله أن يُيسِّر لنا ذلك.
وقد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه الإمام الطبراني في مُعجَمه الأوسط، قال مَن صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال كيوم ولدته أمه، هذا الثواب يا إخواني مُعلَّق على ماذا؟ على الحج، على الحج المبرور – مثلاً -، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وصيام الشهر مع ستة أيام أسهل وأيسر بكثير من أداء الحج المفروض، وهذا فرض وهذا فرض، ولكن الثواب نفسه، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
أيها الإخوة:
نعود إلى المعنى الذي بدأنا بتقريره، العيد ليس لأننا نُفطِر، كلا! هل تعلمون العيد لماذا؟ العيد لأننا نُعتَق من نار جهنم، العيد لأنه تُغفَر لنا ذنوبنا، هذا هو العيد، هذا هو عيد المُوحِّدين، هذا هو عيد الصائمين، لأنه قد تقدَّم وعد من رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – عن ربه – لا إله إلا هو -، أن الله يُعتِق المقبولين، مَن قبل منهم عبادتهم وصيامهم وقيامهم في رمضان يُعتِقهم من نار جهنم، اللهم اجعلنا منهم ولا تحرمنا يا رب، لا إله إلا أنت!
لأجل ذلك كان العيد، أما مَن لم يكن مقبولاً فهذا في حقه ليس بعيد، إنما هو يوم وعيد – والعياذ بالله -، ليس بعيد، إنما يوم وعيد، ويلٌ لمَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له، ويلٌ! إذن هو يوم وعيد، وليس يوم عيد، فليس العيد للجميع، العيد للمقبولين يا إخواني، اللهم اجعلنا منهم.
كان الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – يُنادي ليلة الفطر، أي ليلة العيد، يُنادي بأعلى الصوت، لكي يُفهِم الناس حقيقة هذه الشعيرة الإسلامية العالية، كان يقول ألا يا ليت شعري مَن المقبول فنُهنيه؟! ألا يا ليت شعري مَن المطرود فنُعزيه؟! يوم العيد يوم عزاء ويوم تهنئة، تهنئة للمقبولين، ولذا اصطلح المُسلِمون على أن يُهنئ بعضهم بعضاً: تقبَّل الله منا ومنكم، أحسن تهنئة، وأحسن دعاء، أن يقبل الله منا منكم، تقبَّل الله، قبل الله منا صالح العمل، أو أحسن ما عملنا، تقبَّل الله منا ومنكم، هذه هي التهنئة.
وانظروا أيضاً إيها الأخوة وناظروا، لماذا كان يوم النحر هو يوم العيد الأكبر؟! العاشر من ذي الحجة لماذا كان يوم العيد؟! لأنه مسبوق بماذا؟! بيوم عرفة، الذي لا يُرى في يوم من الدنيا أكثر عتقاً من النار منه طبعاً، الله لا يُعتِق في يوم من أيام الدنيا – أي في يوم من أيام السنة كلها – من المُوحِّدين المُسلِمين من نار جهنم كما يُعتِق يوم عرفة، عشية عرفة! ولا يُرى الشيطان أصغر ولا أحقر – والعياذ بالله – ولا أدحر منه في يوم عرفة، أصغر ما يكون إبليس وأحقر وأدحر – أي مطرود مُبعَد، والعياذ بالله – عشية عرفة، أكثر ما يكون كذلك على هذه الصفة عشية عرفة، لماذا؟ لأنه يرى تنزلات الرحمة الإلهية والمغفرة والعتق يعم الموقف، يعم الموسم، يعم الحجيج، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين وأعتقنا من نار جهنم.
إذن انظروا، العتق يوم عرفة والمغفرة، وبعد ذلك ماذا يأتي؟ العيد، العيد الأكبر! كذلكم آخر ليلة من رمضان، تُغفَر الذنوب وتُعتَق الرقاب من نار جهنم، فماذا يحسن بعد ذلك أن يأتي؟ العيد، هذا هو العيد إذن، ليس لأننا نأكل أو نشرب، ألا بئساً لهذه المطاعم والمشارب، فكم أبعدت أُناساً عن الله وعن صراط الله! لا، وإنما لأننا أُعتِقنا – إن شاء الله تعالى -، ولأن الله قد غفر لنا، ولأن الله قد عظَّم أجورنا وبيَّض صحائفنا وزكَّى أعمالنا وأصلح أحوالنا، انظروا يا إخواني، إذن هذا هو يوم العيد.
كان أبو بكر الشبلي – رحمة الله تعالى عليه – يُنشِد، يقول:
ليس عيد المُحِب قصد المُصلى وانتظار الأمير والسلطان.
إنما العيد أن تكون لدى الله كريماً مُقرَّباً في أمان.
هذا هو العيد، ليس عيد المُحِب، مُحِب ماذا؟ مُحِب الدنيا والأكل والشرب؟ لا، مُحِب الله – تبارك وتعالى -، الذي تعلَّق قلبه أبداً بالله، أبداً! في رمضان وفي غير رمضان، ليس عيد المُحِب قصد المُصلى، أن يأتي إلى المُصلى حيث يُصلي المُعيِّدون من المُسلِمين، وانتظار الأمير والسلطان، إنما العيد أن تكون لدى الله كريماً مُقرَّباً في أمان، هذا هو العيد، الذي يستحق صاحبه التهنئة حقاً.
كان أبو قلابة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – إذا أفطر من رمضان اشترى جارية حسناء ثمينة نفيسة جميلة، ثم زيَّنها، ثم أعتقها، رجاء أن يُعتِقه الله من نار جهنم، أي لا يكتفي فقط بالصدقات وبصدقة الفطر، لا! أيضاً يشتري جارية نفسية ثمينة جداً، ويُزيِّنها، ثم يُقدِّمها لله، أي يُعتِقه، رجاء أن يُعتِق الله رقبته من نار جهنم.
يا إخواني الصالحون من أسلافنا – وأكثرهم كانوا صالحين بحمد الله، ونحن أسلافنا الصالحون، أسلافنا هم الصالحون، أما مَن لم يكن صالحاً فليس من أسلافنا إن شاء الله – أو أسلافنا الصالحون كان يعظم خوفهم ويكثر قلقهم في يوم العيد، لماذا؟ يخشون أن يكونوا من المردودين، يخشون أن يكونوا من المطرودين، كانوا خائفين.
لعلك غضبان وقلبي غافل سلام على الدارين إن كنت راضياً.
قال لعلك غضبان وقلبي غافل، سلام على الدارين إن كنت راضياً، سلام على الدنيا وسلام على الآخرة، فقط أن يرضى المولى، لا إله إلا هو! اللهم ارض عنا وأرضنا يا رب العالمين، هذا هو.
تولى الشهر يا إخواني، قال:
ترحل الشهر والهفاه وانصرما واختص بالفوز في الجنات من خدما.
وأصبح الغافل المسكين مُنكسِرًا مثلي فيا ويحه يا عظم ما حُرِما.
هذا هو المحروم، هذا الذي ينبغي أن تطول حسراته، أما المقبول فتطول سعاداته – إن شاء الله تبارك وتعالى -.
نسأل الله – عز وجل – أن يتقبَّل عنا أحسن ما عملنا وأسلفناه في هذا الشهر الكريم الفضيل، وأن يُعيده علينا أزمنةً مديدةً وأعواماً عديدةً، بالخير والعفو والعافية يا رب العالمين، وأن يُحسِن ختامه لنا، اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة:
روى الإمام مُسلِم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي – صاحب رسول الله، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال كنا صدر النهار عند رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فجاء قوم من الأعراب عُراة، مُجتابي النمار، اجتاب الرجل الثوب إذا لبسه، والنمار جمع نمرة، شملة مُخطَّطة هي من أزياء الأعراب، مُجتابي النمار أي يلبسون هذه النمرات، عُراة أو شبه عُراة، ليس عليهم إلا هذه النمار، مُجتابي النمار، فتمعَّر وجه رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أي تغيَّر، تغيَّر لونه، وعُرِفت فيه الغضاضة، تمعَّر وجهه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لما رأى بهم من الفاقة، رآهم فقراء مُعدمين مُعوزين، يقول جرير – رضيَ الله عنه وأرضاه – فدخل رسول الله، ثم خرج، فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام الصلاة، فصلى بالناس، ثم قام فخطبهم، قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ۩، يقول جرير والآية التي في الحشر – هكذا قال – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۩، تصدَّق رجل من ديناره، تصدَّق رجل من درهمه، تصدَّق رجل من ثيابه، تصدَّق رجل من صاع بُره، تصدَّق رجل من صاع تمره، يقول جرير حتى قال ولو بشق تمرة، يحثهم على الصدقة، لكي يسد هذه الخلة، يسد حاجة هؤلاء المساكين، شبه العُراة، من الأعراب، كلهم من مُضر، يقول جرير كانوا من مُضر، أكثرهم من مُضر، بل كلهم من مُضر.
قال جرير فجاء رجل من الأنصار، هنا المُبادَرة، مَن الذي يُبادِر؟ وكيف يُبادِر؟ مَن الذي يسن السُنة الحسنة؟ فجاء رجل من الأنصار بصُرة، صُرة وضع فيها الأكل والطعام والشراب والثياب والمال و… (ملحوظة هامة) وُجِدَ قطع هنا للأسف الشديد، ثم عاد الأمر إلى ما كان عليه مع قول فضيلته: في بعض نُسخ الإمام مُسلِم وعند النسائي مُذهَبة، حتى كأنه مُذهَبة، وفي النُسخ الأُخرى مُدهنة – بضم الهاء -، والمُدهنة ما هي؟ المُدهنة هي النُقرة، تكون في الجبل، يُستنقَع فيها الماء، فيكون هذا الماء صافياً أبيض رائقاً كالفضة، وهكذا صفا وجه رسول الله وتهلَّل وتوضأ، توضأ بالأنوار – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكله نور، أو مُذهَبة، الشيئ المُذهَب هو المُموَّه بالذهب، أي يلمع، يلصف هكذا، يبرق! وجهه صار يبرق ويلمع – عليه الصلاة وأفضل السلام -، إما مُدهنة وإما مُذهَبة.
ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن سن سُنة حسنة – في بعض الروايات في الإسلام سُنة سيئة – كان له أجرها وأجر مَن عمل بها من بعده، لا ينقص من أجورهم شيئ، طبعاً نقص لازم ومُتعدٍ، وهنا جاء ماذا؟ لازم، أي الفعل هذا، لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ۩، هذا مُتعدٍ، لكن هنا لا ينقص من أجورهم شيئ، وهذا لازم، أي أجورهم لا تنقص، مثل ما هي، وهو أيضاً يُكتَب له مثل أجورهم، لماذا قال النبي هذه الجُملة؟ يُشير إلى هذا الأنصاري، لأنه هو الذي سن هذه السُنة، هو الذي جاء وشجَّع الناس على أن يتبرَّعوا ويتصدَّقوا، ثم تتابع الناس، كل إنسان له أجره، ولكن هذا يحتاز أجوراً مثل أجور الجميع، الله أكبر!
ومَن سُنة سيئة – أو قال في الإسلام سُنة سيئة – كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئ، أو كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
أيها الإخوة:
ذكرت هذا الحديث بين يدي تذكيري للمرة الثانية بالمشروع الذي تحدَّثنا عنه في الخُطبة السابقة، وألمعنا إليه في أول خُطبة جُمعية، وهو مشروع هذه الجماعة المُبارَكة، مشروع هؤلاء الذين يختلفون إلى هذا المسجد المُبارَك – إن شاء الله تبارك وتعالى -، مشروع الجمعية التي سميناها جمعية لقاء الحضارات، والتي نرجو من الله – تبارك وتعالى – أن يُعين كل مَن ساهم فيها وقام عليها بسداد بعض الثُغرات المفتوحة هنا، وعلى رأس هذه الثُغرات المدارس الإسلامية النمساوية، ينبغي أن نُهيء لأجيالنا، لأبنائنا، لأولادنا، مدارس تجمع بين حسنات المنهاج الغربي النمساوي، ويُعترَف بها هنا أيضاً في الدولة، ويُمكِن أن يُواصِل الفرد تعليمه بيُسر وسهولة، وبين حسنات ما لدينا، ففي نفس الوقت نصطفي ما يلزم معرفته من ديننا وتاريخنا ولُغاتنا، هذه المدرسة لابد أن تُقام، وهي فريضة على المُسلِمين يا إخواني، وبالطريقة الصحيحة، حتى نسد هذه الثُغرة، فهذا في النية، وهو على – إن شاء الله – رأس القائمة.
أيضاً تهيئة منبر إعلامي دعوي حقيقي، يصل العاملين المُخلِصين والصادقين وأهل العلم والصلاح – وهم كُثر إن شاء الله تعالى – في هذه البلاد بأهل البلاد الأصليين، فنحن – والله – مُقصِّرون كل تقصير في إيصال الدعوة إلى هؤلاء القوم، وأخشى أن نُسأل عنهم يوم القيامة، بل إننا سنُسأل لا ريب، نحن مُقصِّرون حقاً، واللقاءات اليسيرة التي تتم بين بعض الإخوة الطيبين المُبارَكين مع هؤلاء الناس تُؤكِّد أن هناك عائدة وفائدة كبيرة جداً جداً تترتَّب على أمثال هذه اللقاءات، فكيف لو تهيَّأ منبر إعلامي دعوي معروف تحت هذا العنوان؟! يؤمه كل مَن أراد أن يتعرَّف إلى الإسلام، كل مَن أراد أن يُناقِش أمراً من أمور هذا الدين، وكل مَن أراد أيضاً أن يخرج داعياً إلى الله – تبارك وتعالى – على هُدى وعلى بصيرة.
إذن منبر إعلامي دعوي، لابد منه أيضاً، إضافةً إلى تهيئة مُنتدى حيث يلتقي فيه أبناؤنا وبناتنا المُسلِمون، دون أن يأخذوا بالاختلاط والذوبان في هذا المُجتمَع، حيث يفقدون هويتهم وخصائصهم ومُشخِّصاتهم كما يُقال، طبعاً وأخيراً مع أنه من جهة الكرامة لابد أن يكون الأول يتبغي تهيئة مكان أوسع – إن شاء الله – وأرحب للصلاة، لكي يليق، يليق بعبادة الله – تبارك وتعالى -.
هذا هو القصد باختصار من وراء فكرة هذه الجمعية – إن شاء الله تبارك وتعالى -، وهي – كما قلت مشروع المُسلِمين جميعاً، نسأل الله أن يمنّ بالصدق والإخلاص على كل مَن يقوم عليها وعلى كل مَن يدفع لها ولو فلساً واحداً، ورحم الله مَن رفع للإسلام شعاراً ومَن بنى للدين منارةً، اللهم واجعلنا منهم يا رب العالمين.
وقد اتصلت – بحمد الله، هذا أقول للتبشير وللتحفيز أيضاً – ببعض الإخوة، الذين منّ الله عليهم بشيئ من مال، فوالله ما وجدت أحسن من مرجوعتهم – بارك الله فيهم -، حتى لقد قال لي أحدهم – والله – الآتي، وتأثَّرت واستصغرت نفسي إلى جانبه، قال لي أنا أُقسِم بالله لو كان لدي الآن سيولة لما شركت أحداً معي في هذا المشروع، بل لموَّلته جميعاً، من أوله إلى آخره، ولو بالملايين، قلت كثَّر الله من أمثالك، نعم المال الصالح للرجل الصالح، لأنه يُدرِك أهمية وخطورة وضرورة أمثال هذه المشاريع في أوروبا وفي أمريكا، أي في الغرب، في ديار الغُربة.
وآخر وإن كان أقل إلا أنه مِمَن تفضَّل الله عليه بشيئ – بحمد الله – من الغنى، قلت له أنت دفعت زكاة مالك، وقد دفع مبلغاً كبيراً – بارك الله فيه -، فأين ما تدفعه للجمعية؟ فقال أنا لا أقول، أنت الذي تقول، حدِّد المبلغ الذي تراه مُناسِباً، وأنا أدفعه مُباشَرةً من غير نقاش، فقلت بارك الله فيك، بارك الله، الحمد لله، كثَّر الله من هؤلاء.
وثالث أيضاً لم يكن أقل منهما، ولكن سأذكر منقبة للرجل الأول، وأحسبه أكثرهم تمولاً وغنىً، فلديه فعلاً أموال طائلة، هذا الرجل غريب، وأقول هذا للتذكير أيضاً، لأن النبي قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، مَن أعطاه الله مالاً أكثر كان الأقل – والعياذ بالله – حظاً وقسماً يوم القيامة، الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، النبي هكذا يقول، هل أعطاك الله مالاً؟ قل به هكذا في سبيل الله، هكذا وهكذا وهكذا، ولا يضيع، وسيُخلِف الله عليك في الدنيا قبل الآخرة، وقد أقسم النبي على ذلك، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
قال لي هذا الأخ المُبارَك، أي والله إنه لمُبارَك وميمون النقيبة، قال والله أنت لا تدري يا أخي كيف قضيت ليلتي أمس، لقد قضيتها – وهو الذي يمتلك الملايين – مُتفكِّراً فيما أنا فيه، كيف أسكن مثل هذا البيت الوسيع الذي أسكنه؟ وكيف أُنشّئ أبنائي وبناتي؟ ينشأون في مثل هذا الترف، في مثل هذا البذخ، فكيف يعرفون الزُهد بعد ذلك والإقبال على الله؟ قف شعر بدني، غني من الأغنياء يتكلَّم بمثل هذا المنطق؟! قال وقضيت الليلة وأنا عازم – إن شاء الله – على أن أبيع هذا البيت – فهو ملكه، بيت كبير، قصر – وأن أعيش بالأجرة، انظروا! لماذا؟ قال لأجعل فضول أموالي في سبيل الله، فقلت الله أكبر، في أمة محمد إلى اليوم أُناس يُفكِّرون بهذه الطريقة؟! صدق رسول الله حين قال أمتي كالمطر، لا يُدرى أوله خير أو آخره.
لو كثَّر الله في المُسلِمين من أمثال هؤلاء هل تحسبون أن ثُغرة تبقى مفتوحة في العمل الإسلامي؟ لا والله، أعداؤنا يا إخواني وبالذات اليهود الصهاينة لديهم الآلاف من أصحاب الملايير والملايين، لا يكعون ولا يجبنون ولا يكزون عن خدمة مشاريعهم وعن خدمة قضاياهم، ولذا هم لا يُكثِرون التحسر والنواح مثلنا، لأنهم يعلمون، أما نحن فنُحسِن أن نتكلَّم وأن ننوح، وأما أغنياؤنا الذين منّ الله عليهم بالملايير فعلاً فيقولون هكذا وهكذا وهكذا، ولكن في مرضاة الشيطان وفي شهوات النفس.
فنسأل الله أن يُكثِّر هؤلاء الخيّرين الصالحين، اللهم آمين، فعلاً نعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد قال المُصطفى الأبر الأطهر – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً، فهو يُنفِقه في سبيل الله، سلَّطه على هلكته في الحق، هذا – قال – ينبغي أن نحسده، كيف نحسده إذن؟ حسد الغبطة، أي نتمنى أن نكون مثله، نقول يا ليت لنا، يا ليت لنا مثل مال فلان فنعمل مثل عمله، النبي قال نعم، احسدوا حسد الغبطة هذا الرجل، ورجل آتاه الله ماذا؟ القرآن، فهو يقرأه ويقوم به، يقرأ ويقوم به! انظروا إلى القيام بالقرآن في الليل، منقبة عظيمة جداً جداً، إنسان أكرمه الله فوعى قلبه وصدره كتاب الله، فهو يقوم، يترنم، يُناجي ربه، يتملَّق إليه، ويتزلَّف، هو يتحبَّب إلى الله بقراءة القرآن في جوف الليل، في طائفة من الليل، هذا ينبغي أن نحسده وأن نتمنى أن نكون مثله، عدا هاتين الخصلتين لا ينبغي أن نحسد أحداً على ما آتاه الله، لأن الله يُعطي الدنيا مَن يُحِب ومَن لا يُحِب، ولا يُعطي الإيمان إلا مَن أحب.
فنسأل الله أن يُعطينا الإيمان والخير والسلامة والفوز والبر، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم اهدِنا واهدِ بنا، اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم يا ربنا يا ربنا يا ربنا اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى.
اللهم ارحمنا في هذا الشهر الكريم، واغفر لنا ذنوبنا جميعها، اللهم وأعتق فيه رقابنا من نار جهنم، ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وذُرياتنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين، بفضلك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر الإسلام والمُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر إخواننا، عبادك المُوحِّدين في فلسطين وفي الشيشان وفي كل أركان الله وبلاده، على أعدائهم، أعداء الدين.
اللهم انصرهم وأيِّدهم وأيِّد بهم يا رب العالمين، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم امكر لهم ولا تمكر عليهم، اللهم خذِّل عليهم ولا تخذلهم، اللهم كُن لهم ولا تكن عليهم يا رب العالمين، واهدِهم ويسِّر لهم الهُدى يا أكرم الأكرمين.
اللهم أمِدهم بملأ من جُندك، وأنزِل عليهم سكينتك ورَوْحك يا رب العالمين، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحِّد صفوفهم، اللهم واجمع كلمتهم على الهُدى والتُقى، اللهم وأحص أعداءهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، اللهم انتقم لهم من هؤلاء الأعداء المُجرِمين الضالين الكافرين يا رب العالمين، واشف صدور قوم مُؤمِنين، وأذهِب غيظ قلوبهم، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
(ملحوظة هامة) للأسف الشديد خاتمة الخُطبة مقطوعة.
أضف تعليق