إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ۩ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ۩وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ۩ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ۩ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۩ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ۩ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
قبل أيام تهيَّأ لي أن أُتابِع حلقتين من برنامجٍ ديني إسلامي وهو المُعجِزة الكُبرى مع المُهندِس الشامي عدنان الرفاعي حيث دارت الحلقتان كلتاهما عن موضوع خروج المُوحِّدين من النار، والرجل رجلٌ مُهذَّب ودمث الأخلاق فليس من الصحيح بتاً أن يُحسَب على قومٍ يبغون الإسلام الخبال ويتربَّصون به الدوائر لأن ليس هناك ما يدل على هذا البتة ولكن الرجل يقول بما انتهى إليه علمه وبما وفَّقه إليه اجتهاده، ونسأل الله له مزيد التوفيق.
انتهى هذا المُهندِس الفاضل إلى أن المُوحِّدين إذا دخلوا جهنم لا يخرجون منها ولذلك كل مَن توعَّده الله – تبارك وتعالى – على كبيرة من الكبائر وأوعد عليها بدخول النار لا أمل له البتة في أن يخرج من نار جهنم، فهل أصاب المُهندِس الفاضل في هذه المسألة أم أخطأ؟!
طبعاً ابتداءاً هذا الرجل ليس من المُتخصِّصين في علم الشريعة ولا في التفسير ولا حتى في اللغة العربية، وواضح ضعفه في هذه المسائل وفي مسائل كثيرة أُخرى عبر الحلقات المُختلِفة ولكن هذا ليس ما نُريد أن نخوض فيه، لكنني أُحِب ابتداءاً أن ألفت إلى أنني بعد أن استمعت إلى الحلقتين كلتيهما لم أجد أي شيئ جديد عن ما أدلى به من قرون وقرون الوعيدية، علماً بأن المُعتزِلة والخوارج والزيدية والإباضية يُسمَون بالوعيدية، فهؤلاء كانوا الطوائف التي رفعت العمل في الاعتبار إلى درجة الاعتقاد، فعندهم مَن ترك فريضة أو احتقب كبيرة ومات غير تائبٍ منها يُخلَّد في نار جهنم، واختلفوا بعد اتفاقهم على هذه المسألة في العنونة وفي التسمية، فأما الخوارج فدعوه كافراً كالكافر الأصلي وأما المُعتزِلة فقالوا “لسنا ندعوه مُؤمِناً ولسنا ندعوه كافراً، بل له اسمٌ يقعُ به في منزلةٍ بين المنزلتين”، وسموه الفاسق، فهذا هو الفاسق عندهم، وأما الإباضية قالوا “هو كافر نعمة”، ولكنهم جميعاً من عند آخرهم اتفقوا على أنه مُخلَّد في نار جهنم، فلسنا نعتقد أن الإسم ينفعه ومن هنا سموه فاسقاً أو سموه كافر نعمة أو كافراً كالكافر الأصلي هذا لا يه، فالمُهِم أن حكمه واحد عندهم، هؤلاء الوعيدية يقعون في أقصى طرفٍ ويُقابِلهم في الطرف الآخر القصي طائفة المُرجئة وهم على ألوان وصنوف، لكن جمهور المُرجئة قالوا “لإيمان مُجرَّد عقد القلب وقول اللسان”، أما العمل فأسقطوه من درجة الاعتبار، ومعنى أن المُرجئة أسقطوا العمل من درجة الاعتبار أنك إذا اعتقدت بالجنان عقد الإيمان الصحيح وعبَّرت عن هذا العقد باللسان – أي اعتقادٌ بالجنان وإقرارٌ باللسان – دون تصديق بالجارحة والأركان فأنت مُؤمِنٌ كامل وإيمانك هذا لا تضر معه معصية، وبديهٌ أن هذا القول مُتساخِف جداً ومُتهافِت فلابد أن يُسقَط عن أول درجةٍ من درجات النقاش العلمي، فمُستحيل أن يكون حظ المُؤمِن العامل التقي المُتورِّع كحظ المُؤمِن المُسرِف الذي أجرم وظلم نفسه وغيره، تلك أمانيهم وإنها لأمنية مخدوع وربي!
ومن المُرجئة والكرَّامية – أتباع محمد بن كرَّام السجستاني – مَن أوغلوا في التهافت والتساخف أكثر من جمهور المُرجئة فقالوا “بل الإيمان عبارة عن إقرار اللسان وعبارته حتى دون أن يُواطئه اعتقاد الجنان”، أي أن الإيمان عندهم يُساوي النفاق تماماً، لأن هذا هو النفاق الذي قال فيه الله يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ ۩، ولا أدري كيف تخوَّض هؤلاء وصاروا فرقاً تُحسَب على أمةِ محمد ولكن كتعليل سريع ومُوجَز نقول أن الذي أوجب هذا الاختلاف وهذا التهوّك أن المرء الناظر في كتاب الله – في نصوص كتاب الله – وفي تفاصيل سُنة المُصطفى المصدوق – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وصحبه وأتباعه – يجد أن في نصوص الوحيين أطرافاً، وقد مال إلى كل طرفٍ طرفٌ من الناس، فهناك أطراف في أقصى اليمين وهناك أطراف في أقصى اليسار، هناك آيات الوعد وهناك آيات الوعيد، فالمُرجئة والكرَّامية والجهمية بعامة مالوا وجنحوا إلى آيات الوعد وغضوا عن آيات الوعيد فعرفوا الله – تبارك وتعالى – بالرحمة والنعمة ولم يعرفوه بالبطش والنقمة، فهم ناقصو المعرفة بالله لا محالة، وأما الوعيدية من خوارج ومُعتزِلة وإباضية وزيدية فجنحوا إلى أقصى اليسار، وربما كان التصنيف الصحيح أن هؤلاء إلى أقصى اليمين والمُرجئة إلى أقصى اليسار ولكن لا بأس فهما طرفان مُتقابَلان يتحاميان الوسط وقد تركوا الوسط لأمة الوسط، فنسأل الله أن نكون من أمة الوسط لأن الرسول قال وَخَيْرُ الأُمُورً أَوْسَطًهَا ، وهؤلاء الوعيدية جنحوا إلى آيات الوعيد وغضوا عن آيات الوعد فكانوا بالضد من إخوانهم المُتطرِّفين الآخرين، فعرفوا الله بالبطش والنقمة ولم يكادوا يعرفونه بالرحمةِ والنعمة، إذن هؤلاء مُتطرِّون وهؤلاء مُتطرِّفون، وبقيَ الوسط لأمة الوسط أي لأهل السُنةِ والجماعة ومعهم في هذه المسألة بالخصوص الشيعة الإمامية الاثنا عشرية الذين ذهبوا إلى أن الإيمان اعتقادٌ بالجنان وعبارةٌ إقرارية، أي إقرارٌ باللسان وتصديقٌ بالأركان ، فهذه هى أجزاء الإيمان التي يتركَّب منها على أنها غير داخلةٍ في تركيبه بنسبةٍ واحدة أو بنسب مُتساوية، وهما أصلان وفرع، والأصل هو ما يثبت به الأصل، فهناك أصلٌ يدور على الأمر في الواقع ولا يعلمه إلا الله – تبارك وتعالى – وهو اعتقاد الجنان، وهذا هو الإيمان من حيث الأصل فهذا هو أصله أو الأصل ، وهناك أصلٌ بحسب الظاهر لأن لنا من الناس الظواهر والله – تبارك وتعالى – يتولّى منهم السرائر كما قال أبو عبد الله الشافعي قدَّس الله سره، وهذا أصلٌ ظاهر وهو عبارة اللسان، إذن بقيَ الفرع وهى الأعمال، وأُلخِّص لكم مذهب أهل الحق من أهل السُنةِ والجماعة فضلاً عن أنه – كما قلنا – وافقنا في هذه المسألة الشيعة الإمامية الاثنا عشرية حيث قالوا “أما هذا فهو فرعٌ، هذه فروع عملية سواءٌ أكانت هذه الأعمال من أعمال الجوارح أم من أعمال القلوب باستثناء الاعتقاد وعبارته باللسان”، فهذه أصول وليست فروع كما فرغنا للتو من إيضاحه وبيانه، ثم قالوا “وهذه الأعمال مُتفاوِتة المراتب جداً ، فالمُؤمِن التقي الزكي المُتورِّع الذي أخذ بالفرائض وبالنوافل والمحاب وترك المناكر والمناهي كبائرها وصغائرها في السر والعلن – أي في الظاهرِ والباطن – هو من السابقين المُقرَّبين، يدخل الجنة بفضل الله ورحمته بغير سابقة حساب ولا عذاب”، ونسأل الله أن نكون منهم ولكن هذا صعبٌ كما تعلمون، فلكي تكون من المُقرَّبين السابقين عليك أن تُتابِع الله في أمره ونهيه، دقه وجله، صغيره وكبيره في الأبواب المُختلِفة بقدر الوسع والطاقة الإنسانية فالله قال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ۩، “أما مَن قصَّر فترك بعض المحاب والنوافل مع توفيته الفرائض حقها وقصَّر فوقع في بعضِ المُشتبِهات والمكروهات مع تحاميه حمى المُحرَّمات والحدود الغليظات فهذا أيضاً تُكفَّر عنه هذه السيئات باجتنابه الكبيرات لأن الله قال إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ۩ وقال أيضاً الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ ۩ فضلاً عن أنه قال إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩“، وهذا هو مذهب أهل الحق في هذه المسائل وهو مُتنزِّل على آيات الكتاب جُملتها وتفاصيلها.
وبقيَ بعد ذلك المسلم المُوحِّد الذي قصَّر في بعض الفرائض أو في الكثير من الفرائض واحتقب واقترف المناكر من الكبائر والفواحش – والعياذ بالله تبارك وتعالى – فهذا واحدٌ من اثنين، إما أنه تاب من قريب، أي قبل أن يسير في السياقة وقبل أن يُحتضَر فهذا نقطع – بإذن الله تبارك وتعالى – مع أكثر علماء أهل السُنة – علماً بأنهم لم يتفقوا على هذا حتى نكون دقيقين وأمينين مع حكاية المذاهب والأقوال – مشايعين النصوص في ظواهرها وبادي دلالتها أن الله – تبارك وتعالى – يقبلُ توبته ويغفر له ويُدخِله الجنة – إن شاء الله تعالى – بغير أيضاً عذاب إن صدقت توبته لقول الحق جل مجده وهو واسع الرحمة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ۩،
ويجب أن نقف هنا مع حرف الاستعلاء عَلَى ۩ الذي استخدمه الله في قوله إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ۩ فهو حرف من حروف الاستعلاء الحقيقي إذا قلت – مثلاً – الكتاب على المكتب أو الإمام على المنبر فيُعتبَر استعلاءً حقيقياً، أما هنا في هذه الآية يستحيل يكون الاستعلاءُ حقيقياً، فالاستعلاء هنا مجازيٌ بمعنى التعهد بل بمعنى تحقق التعهد، كما يقول قائلنا لك علىّ كذا وكذا أو علىّ لك كذا وكذا بمعنى أتعهد لك، وكأن يقول أحدنا علىّ لك أن أنصرك بمعنى أتعهد لك بالنُصرة وهذا لتحقق التعهد، وفكأن الله يقول هنا “أُوجِب على نفسي وأُحِق على نفسي أن أقبل توبة من هذا شأنه”، فهذا هو القرآن وهذه هى رحمة الديّان – لا إله إلا هو – ومن ثم قال إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ۩، وليس معنى هذا أنهم يعملون السوء وهم يجهلون أنه سوء أو يُقارِفون المُحرَّم وهم جاهلون بأنه مُحرَّم، هذا غير صحيح حيث روى عبد الرزاق في مُصنَّفه عن قتادة أنه قال “أجمع أصحاب محمد فرأوا أن كل ما عُصيَ به الله فهو جهالة عمداً كان أو خطأً، عن علم أو عن جهل”، إذن الله لا يتحدَّث عن الجهل، وإنما يتحدَّث عن الجهالة التي هى ضد الحلم وليس عن الجهل الذي هو ضد العلم.
وهذه الخُطبة أعتقد – إن شاء الله – في وقتها القصير سيضح لكم من خلالها كم هو القرآنُ دقيق ودقيقٌ جداً، ومَن وفَّقه الله – تبارك وتعالى – نزَّل آياته في الجُملة والتفاصيل على مذهبٍ مرضيٍ يأخذ بأطراف الآيات ويأخذ بجُملها وآحادها وتفاصيلها فلا يضرب بعضها ببعض ولا يشغب ببعضها على بعض ولا يُبرِز بعضها ويغض عن بعض، ولسان حاله يقول كلٌ من عند ربنا، والله يقول وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، فحاشا كلام رب العالمين وخالق العقلاء والمُدبِّرين أن يتشاكس وأن يتناكد وأن يتناقض، حاشاه أن يكون هكذا ولكنه يتشاكس ويتناقض في العقول مُتناقِضة وفي العقول المُتطرِّفة التي تأخذ بجانب وتغض عن جانب، تُعلي من شأنِ جانبٍ وتترك جانباً آخر، علماً بأنني لا أُريد أن أُعبِّر بالعبارة التي لا تليق بآيات كتاب الله – تبارك وتعالى – فكله كلام في أعلى رُتبة من العلو والسماقة والشرف.
نعود إلى الآية الكريمة التي تقول إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ۩، وفُسِّرت هذه العبارة على أنحاء مُختلِفة، فمِن أهل الحق مَن قال أن آية يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ۩ تعني أي قبل أن يُحتضَّروا، ويُرشِّح هذا التفسير ويشهد له مُقابَلة قوله – تبارك وتعالى – في الآية التي عقَّبتها أي وليتها وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ۩، إذن احتضار الإنسان هو ما يُقابِل مِن قَرِيبٍ ۩ ، إذن مِن قَرِيبٍ ۩ تخص هذا الذي لم يُحتضَر وإنما تاب في حال الصحة والعافية وليس وهو يُحتضَر وليس وهو في سياقة الموت، إنما وهو في حال الصحة والعافية، وذلك حين وخزه ضميره وحز إثمه في قلبه – والإثم حزَّاز القلوب كما في حديث ابن مسعود موقوفاً ومرفوعاً – فعاد مِن قَرِيبٍ ۩.
وقيل أن مِن قَرِيبٍ ۩ معناها أي من زمنٍ قريبٍ من وقت مُقارَفة الذنب، أي ذلك كان فلا بأس، وهذه الآيات تُؤكِّد مذهب أهل الحق الذي يقول بأن الله يقبل توبة مَن ارتكب الكبائر ثم تاب مِن قَرِيبٍ ۩ – إن شاء الله تعالى – ومن ثم نحن نقطع بأنه يقبلها، ولكن من أين لنا بهذا القطع على غيب الله تبارك وتعالى؟!
قطعنا لمكان الاستعلاء المجازي في قوله إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ۩، أي حقٌ على الله وعهدٌ على الله أن يقبل التوبة، فالله يتعهَّد لنا أن يقبل توبتنا إن توبنا أياً كان شأن السيئات التي احتقبناها سواء أكانت كبائر أم صغائر ولكن هذا إن توبنا، ويشهد لهذا قوله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩، ولنا وقفة مع هذه الآية لأن هذه الآية يُمكِن أن تضع المقصل على المفصل كما يُقال، فهذه الآية ستقطع جهيزة قول كل خطيب وكل مُحاجِج ومُناضِل في هذه المعمعة، ولكن كيف؟!
الله – تبارك وتعالى – يقول إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩، وهذه الآية فيها مقامات للكلام، المقام الأول يتعلَّق بتأويل الرجل الصالح والعلَّامة الكبير القاضي عبد الجبَّار الهمداني – رحمة الله تعالى عليه – الذي هو أكبر رأس من أئمة الاعتزال في عصره وكان مُعاصِراً للباقلاني الذي هو أكبر رأس من أئمة الأشعرية وأهل السُنة والجماعة، علماً بأن الإمام عبد الجبَّار عُرِفَ بالصلاح والورع وطول البال في العلم والرسوخ، وناهيكم به أنه هو واضع موسوعة أو مُؤلِّف موسوعة المُغني في أبواب العدل والتوحيد في عشرين مُجلَّداً ليدفع بها ويُنافِح عن قواعد الاعتزال، ومن قواعد الاعتزال أن مَن دخل النار لا يخرج منها مسلماً أو كافراً، ولكن القاضي ذهب يتأوَّل هذه الآية فعكَّس الفهم فيها وأتى بفهمٍ معكوس حيث قال عبد الجبَّار – رحمة الله تعالى عليه – على جلالته”نعم هذه الآية لا ينبغي أن تُؤخَذ على عمومها، فلا تُؤخَذ على ظاهرها لأن الله لم يُبيِّن لنا مَن هم الذين يغفر لهم، فلا ندري هل يغفر لأصحاب الصغائر أم يغفر لأصحاب الكبائر لأنه لم يُبيِّن لنا، وفي آيات أُخرى كثيرة بيَّن أن من الكبائر ما لا يغفره الله – تبارك وتعالى – إلا بالتوبة الصادقة، أما أن تلقى الله وأنت مُصِّر على هذه الكبيرة ففي جهنم كما قال – تبارك وتعالى – في آيات الفرقان وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ ۩، إذن مَن لم يتب سيُخلَّد في عذاب جهنم – والعياذ بالله – ويُضاعَف له العذاب، فضلاً أيضاً عن آية القتل العمد وهى الآية الثالثة والتسعون من النساء حيث قال الله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا۩“، وأي وعيد بعد هذا الوعيد؟!
وأي تخويف أكبر من هذا التخويف الراهب الراعب؟!
ونحن نُعلِّق على عبارة الإمام عبد الجبَّار – رحمة الله تعالى عليه – بأنها تعكيسٌ للفهم، وعلينا أن ننتبه لهذا لأن القرآن دقيق، فالقرآن فوق المقالات وفوق الطوائف والأحزاب وفوق كل قائل حتى لو كان القائل صحابياً إلا أن يكون القائل هو رسول رب العالمين، فابن عباس أخطأ في هذه الآية والآن سوف أصير إلى قوله بسرعة حتى أُثبِت لكم أن القرآن فوق كل قائل لكن قبل ذلك علينا أن ننتبه إلى أن مُشكِلة الناس عموماً – ليست مُشكِلة المسلمين فقط وإنما مُشكِلة الناس بعامة – أنهم لا يتعاطون مع حقائق الأشياء وإنما يتعاطون مع عناوين وشخوص، فمثلاً في مسائل علمية كهذة يصير الكلام في العلماء ويُقال عن هذا ضعيف وعن هذا أنه غير مُتخصِّص وتبدأ التساؤلات المُتعلِّقة بشخصية مَن قائل وبشخصية مَن رد، وهذا غير صحيح فنحن لا يعنينا أبداً مَن الذي قال مهما كان جليلاً أو صغيراً مُتواضِعاً وإنما يعنينا ماذا قال، فينبغي أن نهتم بالعلم لا بالعلماء، ولكن هذا ما يحدث في السياسة أيضاً حيث أن مُشكِلة الناس في السياسة أنهم لا يهتمون بالسياسة ولا يعرفون السياسة وإنما يهتمون بالساسة، فيُصبِح كل الكلام في السياسة هو كلام في الساسة وأفعالهم مثل بوش Bush وكلينتون Clinton وكيري Kerry وفلان وعلان، وهذا طبعاً استغفال للشعوب ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا حيث تُستغفَل الشعوب في العلم كما في السياسة كما في الفكر كما في كل شيئ، وبالتالي ينبغي أن تهتم بالحقائق لا بالعناوين ولا بالشخوص!
فهذا الإمام جليل – كما قلت لكم – ووضع عشرين مُجلَّداً في العقائد الاعتزالية ولكنه أخطأ هنا خطأً فادحاً جداً، ولا نقول كذب على الله فحاشاه أن يفعل هذا وهو علَّامة كبير ورجل صالح – رحمة الله عليه – من أئمة الاعتزال، ولكن نقول أخطأ حين غلبت عليه العصبية لمذهبه ولم يلتفت إلى أن رب العالمين – تبارك وتعالى – في آية إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩ عمَّم وأطلق في الذنبِ وعلَّق وقيَّد في المُذنِب وهذا عكس ما قال عبد الجبَّار، لأن ولو كان ما قاله عبد الجبَّار صحيحاً لقال الله – تبارك وتعالى – لنا “ن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما يشاءُ مما دون ذلك”، لكن الله لم يقل هذا ومع ذلك عبد الجبَّار فهم أن الآية تقول هذاولذلك ذهب يتساءل: نحن لا ندري الله يغفر لأصحاب الصغائر أم اصحاب الكبائر؟!
إذن كلامه هذا تعكيسٌ للفهم لأن الله قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩، أي أن الله عمَّم وأطلق دون قيد التوبة، فلم يقل أبداً “ويغفر ما دون ذلك لمَن تاب” وإنما قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩، فعمَّ الصغائر والكبائر معاً، ولكنه حين ذهب – تبارك وتعالى – يتحدَّث عن المُذنِب قيَّد وعلَّق بالمشيئة فقال لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩، إذن هذا ليس حقاً على الله وليس واجباً لأن الله لم يُحِق على نفسه ولم يُوجِب على ذاته العلية – لا إله إلا هو – أن يغفر الكبائر لكل أحد من عباد الله – تبارك وتعالى – ما داموا مُوحِّدين غير مُشرِكين، الله لم يقل هذا وإنما قال لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩ إذن الحديث هنا عنا المُوحِّد الذي احتقب الكبائر، ولا نتكلَّم عن الصغائر لأن المُوحِّد إذا اجتنب الكبائر تُكفَّر الصغائر تلقائياً بنص أيضاً آية النساء التي تقول إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ۩ فضلاً عن أن الله يقول في موضع آخر الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ ۩ إذن الله قال أنه يغفرها، وقال أيضاً أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ – أي الصغائر – فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ۩، علماً بأن الآيات كثيرةٌ جداً في هذا المعنى، إذن يبقى المُوحِّد الذي مات مُرتكِباً للكبائر ولم يتب منها في خطر المشيئة، ومن هنا علينا أن ننتبه إلى هذا جيداً فلا يظنن أحدٌ من هؤلاء أن الله يغفر له حتماً أو أن الله تعهَّد بالمغفرة لقوله إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩ فهذا غير صحيح وهو كذب على الله لأن الله لم يقل هذا، الله عمَّم في الذنبِ وعلَّق في المُذنِب فقال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ – صغائر وكبائر – لِمَن يَشَاءُ ۚ ۩ أي أنه علَّق في المُذنِب، فقد يُوجَد مِن هؤلاء مَن لا يشاء الله أن يغفر له، إذن الموضوع خطير وخطير جداً، وليس مُخاطِراً بدينه كآمن.
وهذا كان الأمر الأول، أما الأمر الثاني فيتعلَّق بأن عبد الجبَّار أوَّل الآية بقيد التوبة وذلك بعد أن أشكل بالإشكال الذي وصفناه بأنه تعكيسٌ للفهم حيث قال لابد إذن من تأويلها لأنه لا يصح أن تُؤخَذ على عمومها وظاهرها، ومن هنا أوَّلها بقيد التوبة وهذا فهمٌ لا نصيب له من الصحة، لأن لو كانت مغفرة الله – تبارك وتعالى – لمَن يشاء من كل الذنوب مُقيَّدة بالتوبة لما كان للتفصيل في الآية معنى، إذن أين موقع التفصيل في قوله إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ۩؟!
فإذا كان الأمر مُقيَّد بالتوبة إذن هو يغفر حتى لمَن أشرك به طبعاً، فكل الصحابة الذين كانوا مُشرِكين وتابوا أصبحوا طبعاً صحابة عظماء ورضيَ الله عنهم، ومن هنا قال تبارك وتعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ۩، فطبعاً المُشرِك الذي يُريد أن يُصبِح مسلماً لا نقول له لا ولا مُشكِلة في هذا، وعلى هذا يُحمَل قوله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ ۩ حيث أنه لم يستثن الشرك، لأن هذه الآية قولاً واحداً مُقيَّدة بالتوبة، يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ ۩ أي في حق مَن تاب منها حتى ولو كانت الشرك، فطبعاً يا أخي إذا أراد مُلحِد كافر أو مُشرِك أن يتوب وأن يُوحِّد الله لا يُمكِن أن نقول له ممنوع، هذا مُستحيل أن يحدث فضلاً عن أن هذه من أحسن التوبة وهى تجب ما قبلها، فالحديث يقول (الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها) فضلاً عن أن في الحديث الصحيح يقول الرسول “أسلمتَ على ما أسلفتَ لكَ من الخير”، وفي رواية “أسلمت على ما أسلفت من خير”، إذن قوله إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩ يعني مَن مات مُشرِكاً من غير توبة، فالآية تتحدَّث عن ذنوب لم يُتَب منها، ثم قال الله في الآية نفسها وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ۩ أي من الصغائر والكبائر لمَن شاء من أصحابها الذين لقوا الله دون أن يتوبوا، إذن الآية لا يُمكِن تقدير قيد التوبة فيها فهذا غير صحيح لكن هذا هو مذهب عبد الجبَّار، وطبعاً بهذه الآية وحدها يسقط مذهب الاعتزال بالكامل والخوارج والزيدية والإباضيةإن أحسنا فهمها طبعاً، ولذلك هو قرمط الكلام فيها في شرح الأصول الخمسة وهو كتاب عظيم في ثلاثة أو أربعة أسطر على الرغم من أن الآية تحتاج إلى وقفات في عشرات الصفحات لأنها آية محورية.
والآن كما وعدتكم سنأتي إلى مذهب ابن عباس في ذلك، حيث أن توبة القاتل العمد – أي توبة القاتل العامد – للمُؤمِن لا تُقبَل عنده، فالمُؤمِن إن قتل أخاه المُؤمِن عمداً لا تُقبَل توبته عند ابن عباس، ونحن نُريد أن نُجيب على هذا المذهب بسرعة لأنهم يعتصمون بهذا المذهب أيضاً ويقولون أن القاتل العمد لا تُقبَل توبته ومن ثم هو مُخلَّد في نار جهنم، فحتى التوبة غير مقبولة هنا وهذا شيئ عجيب، علماً بأن هذا المذهب يُروى عن الحبر وهو ثابت عنه إلا أنه لا يصح، لا يصح من حيث الدليل وإن صح من حيث الرواية لأنه صحَ وثبت عنه لكن أدلة ابن عباس وهو البحر الحبر من المُمكِن أن نُناقِشه فيها كما ناقشه فيها أئمتنا وعلماؤنا، فابن عباس قال أن هذه الآية من سورة النساء وهى مُتأخِّرة عن آية الفرقان المُتقدِّمة والتي أفسحت للقاتل عمداً باب الأمل وفتحت أمامه باب التوبة، فكأنه قال أن آية النساء تحكم على آية الفرقان وليس العكس، لكن الله قال في الفرقان وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۩ وهو يُريد القتل العمد، فهذا السياق لا يتناول القتل الخطأ وإنما العمد كأن تقتل نفساً بغير حق عمداً، ومن هنا قال الله أيضاً
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ ۩، أي أن الله فتح له باب الأمل لكن ابن عباس سدَّه وقال “هذه الآية مُتقدِّمة، وآية النساء حاكمة”، وهذا مسلكٌ خاطيء، وسنُوضِّح هذا وسنُناقِش فيه كما ناقش الأئمة، فأولاً هذا المسلك خاطيء لأن آية الفرقان أخص من آية النساء، فآية النساء عامة وآية الفرقان خاصة وذُكِر فيها التوبة والإيمان والعمل الصالح، والخاصُ هو الذي يحكم في العام وليس العكس طبعاً، ولهذا نظائر كثيرة في كتاب الله، وسنضرب مثالاً له علاقة بسورة النساء مرة أخرى، ففي سورة النساء ذكر الله المُحرَّمات من النساء وقال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ۩ وإلى آخر هذه الآية والآية التي عقَّبتها أيضاً، أي أن الله ذكر أنواع المُحرَّمات من النساء بسبب القرابة والمُصاهَرة وغير ذلك من الأسباب المذكورة في الآيتيتن الكريمتين تفصيلاً وهذا شيئ جميل، ثم بعد ذلك نزل في سورة المائدة آية عامة، علماً بأن المائدة مُتأخِّرة عن النساء لأن المائدة من آخر القرآن نزولاً كما في حديث عائشة أم المُؤمِنين – رضوان الله تعالى عليها – ولذلك لم يُنسَخ منها شيئ على مذهب القائلين بالنسخ وهذا أيضاً جميل جداً، وهذه الآية العامة في سورة المائدة هى قوله الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ۩، فأي مُؤمِنة عفيفة غير زانية مُسافِحة على طريقة ابن عباس هى حل لكم حتى لو كانت زوجة أبي وحتى لو كانت أختها تحتي وحتى لو كانت مُزوَّجة وإلى آخر المُحرَّمات المذكورة في سورة النساء، وهذا غير صحيح لكننا لو اتبعنا طريقة ابن عباس هنا سنقول أننا سنحكم في المسألة بآية المائدة لأنها مُتأخِّرة وهذا غير صحيح، ومن ثم هذا المذهب خاطيء في الفهم سواءٌ قال به ابن عباس أو غير ابن عباس، والمذهب الصحيح هو أن الخاص يحكم في العام لكن العام لا يحكم في الخاص، وآية المائدة عامة وآية النساء وإن تقدَّمتها وسبقتها خاصة لأنها ذكرت المُحرَّمات بالوصف وعدَّدتها ومن ثم هى آية خاصة، فلا تقل لي أن آية المائدة مُتأخِّرة ومن ثم أنك ستحكِّم هذه في هذه، علماً بأن نظائر هذه الآية كثيرةٌ جداً والبحث مُستقصاً في أصول الفقه كما تعلمون وتعلمن ولذلك القول الصحيح أننا نأخذ بآية الفرقان وإن تقدَّمت النساء لأنها أخص وآية النساء عامة.
ثانياً علينا أن ننتبه إلى دقيقة من دقائق كتاب الله – جلَّ من هذا كلامه وسبحان من هذا بيانه ونظامه – تتعلَّق بأن الله – تبارك وتعالى – فرَّق في كتابه العزيز بين سعة رحمته وبين كتابة رحمته، ومن هنا قال في سورة الأعراف وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۩ وقال حاكياً قول الملائكة – عليهم السلام – في غافر – أي في سورة المُؤمِن – رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩ فسعة رحمته لكل شيئ كسعة علمه لكل شيئ ومن ثم قال أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ۩، فهو لا يعزب عن علمه شيئٌ كما تعلمون لأن علمه يسع كل شيئ وكذلك سعة الرحمة هى لكل شيئ، لكن الكتابة – أي كتابة الرحمة – خصَّها بالمُؤمِنين فقال فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۩، ولذلك وجدنا الله – تبارك وتعالى – إذا أفرد المُؤمِنين بالخطاب ذكر كتابة الرحمة، وإذا أفرد الكافرين بالخطاب ذكر سعة الرحمة وهذا شيئ عجيب، فلا يُمكِن أن يكون هذا من لدُن بشر، فوالله الذي لا إله إلا هو لا يُبين هذا البيان ولا يُراعي هذه الدقائق إلا رب الناس ورب المُبينين – لا إله إلا هو – ومن هنا قال وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ ۩، فهى مكتوبة للمُؤمِنين لأن الله تعهَّد بها للمُؤمِنين ولا نقاش في هذا فالمُؤمِن الرحمة حقٌ له – بإذن الله تعالى – وعهدٌ من الله له لذا قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ ۩، أما إذا أفرد الكفّار بالذكر – أي تكلَّم عن الكفَّار وحدهم – لا يذكر كتابة الرحمة لأن هذا سيحملهم على اليأس والانقطاع وقد يقول أحدهم ” الله يُخاطِبنا ويقول كتبت الرحمة للمُؤمِنين ولكن نحن كفّار فليس لنا أمل إذن فسنبقى في الكفر”، وهذا لم يحدث لأن الله إذا خاطب الكفّار مُفرَدين ذكَّرهم بسعة الرحمة لا بكتابتها – لا إله إلا الله – ومن هنا قال فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ۩، أنظرتم كيف يلتئم كتاب الله ويتصادق؟!
علماً بأن هذا جوابٌ جُملي فنحن إلى الآن لم ندخل حتى في الموضوع بشكل مُعمَّق لأن الموضوع طويل جداً، ولذلك أنا كنت أود من أخينا المُهندِس عدنان الرفاعي وأمثاله مِمَن يتكلَّمون في هذه المسائل أن يتأنوا، فهى مضائق لحجة جداً ولم يأتوا بجديد فيها لأن كل ما أتوا به هو بعضُ ما كتبه عبد الجبَّار والإباضية والزيدية، علماً بأن من آخر ما كُتِب في هذا هو كتاب العلَّامة مُفتي سلطة عُمان – وهو بحق علَّامة كبير لا يُشَق له غُبار ولكنه إباضي فالرجل ينزع منزع أهل مذهبه – الحق الدامغ الذي قرأته قبل سنوات طويلة والذي أداره على مسائل ثلاث وافق فيها الزيدية والمُعتزِلة لأن هذا هو مذهبهم، وهذه المسائل هى مسألة رؤية الله في الآخرة وأنكرها ومسألة خلق القرآن وجعله مخلوقاً كالمُعتزِلة ومسألة حكم ومصير مُرتكِبي الكبيرة من المُوحِّدين وقضى أنه في جهنم خالداً فيها أبداً إن مات غير تائب منها فلا أمل له في الخروج منها، فهذا هو ما قاله العلَّامة أحمد الخليلي الذي لا يزال حياً – أمتع الله به ونفع به – ولكنه خطأ.
إذن ما قاله الأستاذ المُهندِس عدنان الرفاعي هو بعض ما قاله هؤلاء اللوذعيون والعلماء الكبار فضلاً عن أنه لم يقله على وجهه، كنت أود أن يُحقِّق وأن يُدقِّق وإذا أراد أن يُضيف أن يبدأ من حيث انتهى غيره فالناس كتبوا مئات الصفحات في هذه المسائل، ولهم كلام دقيق وعجيب جداً جداً جداً لابد أن يُستوفى فهمه في البداية ثم بعد ذلك لك أن تتقدَّم، أما أن تأتي هكذا تتقدَّم دون أن تُحكِم هذه المسائل ثم تُجازِف برد عشرات الأحاديث الصحيحة الثابتة في صحاح المسلمين دون حتى أن تنظر فيها وتقول “تُخالِف القرآن وتُخالِف نظريتي، ولأنها تُخالِف نحن نردها ولا نعبأ بها” فهذا لا يجوز يا أخي، ولا يُمكِن ولا يسوغ للمسلم أن يرتكب هذا التعجل في القول الذي قد يكون فيه مهلكة حقيقية، والله – تبارك وتعالى – لم يُقنِّط المُؤمِنين من رحمته لكنه – كما قلت لكم – أفهمنا أنه تعهَّد لهم بالرحمة وكتبها على نفسه وذلك حين قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ ۩، ثم أين هم من قوله – تبارك وتعالى – فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ۩؟!
وربما أختم بهذه الحُجة والحُجج بالعشرات ولكن ألا ترون مبدئياً أنه قبيحٌ جداً في حكم العقل وفي قضاء العدل أن يُقال إن مُوحِّداً أو مُوحِّدة سلخ حياته كلها – سلخ مثلاً ستين أو سبعين سنة – في عمل القُربات وبذل أو تقريب الصالحات ثم ارتكب كبيرةً هويتها نفسه وشُغِف بها في آخر حياته ومات منها على غير توبة فيكون حكمه كحكم الكافر؟!
قد يرتكب المسلم كبيرة من الكبائر كشرب الخمر مثلما فعل الصحابي الجليل المسكين الذي كان مُدمِناً على شرب الخمر وكان يُؤتى به ويُضرَب دائماً لأن الرسول يأمر بضربه وبتبكيته بالنعال أو بالجريد حتى استُفِز بعض الصحابة يوماً فلعنه قائلاً “لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به إلى رسول الله”، فغضب النبي وقال “لا تلعنه فإنه يُحِب الله ورسوله”، وفي رواية “فوالله إنه ليُحِب الله ورسوله”، لأن ظُلمة الهوى لا تُطفيء نور الهُدى، ظُلمة الهوى لا تُطفيء زُبالة الهُدى، أي ما بقيَ من نور الهُدى.
إذن بالحكم العقلي الماتع الراجح يُميِّز العقل بين معصية المُوحِّد ومعصية الكافر، فهذا – مثلاً – يزني ولكنه مُوحِّداً وهذا يزني ولكنه كافراً، فهناك فرقٌ بينهما!
المُؤمِن المُوحِّد الذي يُوحِّد الله ويعرف الله ويُؤمِن باليوم الآخر قد يسرق أو يشرب الخمر أو يزني أو يقتل – والعياذ بالله – ولكنه يفعل هذا وهو وجل وخائف من الله، فلا يزال ضميره يحز فيه هذا الذنب ويُؤنِّبه ويُؤرِّقه ويقض مضجعه بلا شك، أما الكافر فهو يفعل هذا استجهالاً واستكباراً وعناداً، وحالهما في المثل كحال مريضين وصف الطبيب لهما دواءً، فأما أحدهما فغلبه هواه فلم يُطبِّق وصفة الطبيب ثم اعتذر بغلبة الهوى وبضعف الهم والعزيمة، وأما الآخر فأعرب للطبيب عن أنه لم يقنع أصلاً بهذه الوصفة السخيفة واستحقرها واستجهل كاتبها، أفترون في حكم العقل وفي قضاء العدل أن الطبيب يُحاكِمهما كليهما بنفس الطريقة؟!
يستحيل، ومن ثم حاشا لله أن يفعل هذا وهو القائل وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن معصية المُؤمِن غير معصية الكافر.
فهل من العدل – بالله عليكم وعليكم – أن يُخلَّد في نار جهنم مَن سلخ حياته – كما قلنا – في عمل الصالحات والقُربات ثم مات على معصية كبيرة واحدة دون أن يتوب -على قول الوعيدية من المُعتزِلة والخوارج والإباضية والشيعة الزيدية – ومن ثم يكون حاله تماماً كحال مَن سلخ ستين سنة في حرب الله ورسوله والإسلام وفعل الكبائر والمُوبِقات؟!
هذا ما يقوله الوعيدية، ولكن بحمد الله برأ الله أهل السُنة والجماعة والشيعة الاثنا عشرية أيضاً من القول بهذا، هو برأهم ولم يقولوا بهذا بل قالوا “حاشا لله أن يكون الأمر هكذا، فهذا له حكمٌ وهذا له حكمٌ”.
ثم ألا ترون أن الله – جل مجده وتبارك في عليائه – قد فرَّق في كتابه الأعز والأجل بين الجاحد والعاصي إسماً وحُكماً، فجعل لهذا إسماً ورتَّب لأفعاله حُكماً وجعل لهذا إسماً ورتَّب على أفعاله حُكماً؟!
قال الله – تبارك وتعالى – في اللذين يأتيان الفاحشة – وقد تكون الزنا كما قال الجماهير وقد تكون اللواطة أي السادومية كما أفهم أنا – أنهما مُؤمِنان رغم أنهما يرتكبان الفاحشة فلم يُخرِجهما مِن جُملة المُؤمِنين وذلك حين قال وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ ۩، أي أن الله أعطاهما إسم الإيمان والإسلام، كما قال سبحانه وتعالى وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَاۚ ۩، فلم يسلب عنهم إسم الإيمان مع كونهم يقتتلون، ثم عاد فأكَّد ثبات الإسم الشريف بقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ ۩، ثم أن الله في القتل العمد – هم يتمسَّكون بآية القتل العمد وبالآية الثالثة والتسعين من سورة النساء – قال الله – تبارك وتعالى – في سورة البقرة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ۩، ثم قال فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۩، إذن جعل الله ولي الدم أخاً للقاتل عمداً حين قال له أن هذا أخوك بل حفزه ونشَّط همته وبعثه على أن يغفر له وأن يعفو وأن يستبقي مُهجته فقال له هذا أخوك كالذي مات تماماً إن كان أخاً لك او أباً أو غير ذلك، فهو في نهاية المطاف أخوك أيضاً فاعف عن أخيك وتجاوز ليعفو الله عنك، وهذا الشيئ العجيب يبرز في قول الله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ۩.
ولذلك أختم بقول الله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۩، أي أن الله يقول لو أنك عملت حسنة واحدة ستُثاب عليها، فالله يقول هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ۩ ويقول أيضاً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ ۩، فأي حسنة أحسن من حسنة التوحيد – أي أحسن من لا إله إلا الله التي عليها نحيا وعليها نموت – وأثقل منها وقد صحَّ عن المعصوم أنها أثقل حسنة ولا يثقل بها شيئٌ إن شاء الله تعالى؟!
إذن الله يقول أن مَن يعمل مثقال ذرة سيُجازى عليها وسيُثاب بها خيراً، ولكن السؤال الآن: متى سيُثاب؟!
إن قلتم إنه يُثاب عليها أولاً ثم يُعاقَب ثانياً وقعتم في التناقض فهذا لم يقل به أحد لأنه لا يُثاب عليها إلا بإدخاله الجنة، فإن دخل الجنة خُلِّدَ فيها ولم يخرج منها، إذن إن ثيبَ عليها قبل أن يُعذَّب على السيئة فلن يُعذَّب على السيئة، فلم يبق إلا أن تقولوا أنه في الأول سيُعاقَب على السيئة في النار لتبقى فرصة ونُدحة أن يُثاب على الحسنة في الجنة، إذن فالمُوحِّد قد يدخل النار ويُخرَج منها كما أخبر الشفيع المُشفَّع صاحب المقام المحمود ليصير – إن شاء الله – إلى الجنة لكي يُثاب على ذرات حسناته، لأن الله قال فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۩، وهذا هو الذي يُعطيه التمعن في كتاب الله، فنسأل الله بإسمائه وصفاته العُلا أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يدلّنا عليه دلالة العارفين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
فيينا (26/11/2010)
الله يبارك ليك شيخنا استفدت كثيرا جدا