إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم الذكر الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۩ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ۩ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
لا نقول لعله بل نقطع بها قطعاً، لا يُوجَد دين أو شرع إلهي حض على إعمال العقل وتنمية ملكات التفكير ومواهب المُحاكَمة والمُقارَنة والمُحاسَبات العقلية كهذا الإسلام الحنيف، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ ۩، قال وَيَتَفَكَّرُونَ ۩، ولم يقل يفتكرون، والأصل فيها من غير مُبالَغة أن يقول يفتكرون، لكنه لم يكتف ولم يجتزئ بهذه الصيغة، وإنما عدل عنها إلى صيغة المُبالَغة الدالة على الإكثار وعلى التعمق، وَيَتَفَكَّرُونَ ۩، إنها صيغة مُبالَغة.
وفي المأثور النبوي الشريف أن فكر ساعة أو تفكر ساعة خيرٌ من عبادة سنة، وفي بعض الآثار وإن كانت ضعيفة خيرٌ من عبادة ستين سنة، وقد يرى بعضهم مُبالَغة في أمثال هذه المأثورات، ولن نخوض في مسألة الأسانيد، لكن المعنى صحيح البتة، صحيح تماماً!
لا نقول لا خير ولا جدوى في دين لا يقوم على فكر وعلى افتكار أو تفكر وعلى تعقل – في آيات البقرة لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩، هنا لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ ۩ الذين يتفكَّرون – بل نقول لا خير في امرئٍ ولا خير في إنسان لم يُنم في نفسه وفي شخصيته هذه الملكات والمواهب، هذا بالكاد يكون إنساناً، إنه أشبه بتلك الكائنات التي تخضع لغرائزها، لأن العقل منقوص الحظ عنده، إنه أشبه أحياناً بأن يكون حين يكون ذا ردود مشروطية ألية، أشبه أن يكون بآلة أيضاً.
ولذلك حين فكَّرت في هذا الموضوع أردت أن أعنونه فضيلة التفكر ثم عدلت من فوري عن هذا العنوان، فضيلة ماذا؟ إن الأمر أخطر وأكبر من أن يكون مُجرَّد فضيلة تُقابِلها رذيلة، هل هو ضرورة؟ حتى الضرورة لا، هو أكبر من أن يكون ضرورة، إنه ما تستكمل به إنسانيتك، إنه ما يجعلك إنساناً على السواء وعلى التمام، بغير ملكة ومواهب التفكر والإدراك والمُحاكَمة والتعمق والسبر والمُقارَنة يبقى الإنسان غير مُكتمِل، يبقى الإنسان غير إنسان، إنه كسر إنسان، عُشر أو واحد على مائة أحياناً وأحياناً واحد على الألف من الإنسان.
بعض الناس سيبدهني بقوله – ربما مُناجياً نفسه – هذا الموضوع لا يعنيني ابتداءً، لست مُهتَماً أن أصير من أصحاب الفكر اللامعين أو الطافئين، بعض الناس قد يقول هذا! القضية يا أحبابي ليست أن تكون مُفكِّراً لامعاً أو مُفكِّراً غير لامع، إنها مسألة مُتكامِلة، مسألة إطارية، مَن لم يُنم في نفسه وفي شخصيته هذه الملكات على وجه من الوجوه سيُمنى بالفشل الذريع حتى في أبسط وأخطر ميادين حياته، الميدان العلائقي! سيفشل أن يكون زوجاً ناجحاً، ستفشل أن تكون زوجةً ناجحةً، سيفشل أن يكون أباً ناجحاً مُوفَّقاً، سيفشل أن يكون صديقاً مُوفَّقاً محبوباً أثيراً، سيفشل! سيفشل في كل هذه الأشياء، لأنه لا يتعاطى مع الأمور بتفكير مدروس صائب وعميق، إنه لا يتعمَّق، إنه – كما قلنا – كسر إنسان، إنه ضحل، ليس له أعماق.
هذه الأعماق لا نُولَد بها، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ۩، من هنا قيل في الأُمي إنه أُمي، لأنه يبقى على الحالة التي خرج عليها من رحم أمه، هذا معنى أُمي، كهذا الطفل! لا يعلم شيئاً، ومن هنا كانت الأُمية، ليست أُمية الخط والحرف فقط وهذه أبشع، وإنما أُمية الثقافة والفكر، أُمية الفهم، كانت أكثر من مقبحة، وأكثر من قصور، وأكبر من جمود، إنها شيئ ينتقص إنسانية الإنسان كما كرَّرنا ذلك غير مرة.
في الحقيقة الذي أوحى إلىّ بهذا الموضوع والذي سنتجاذب شيئاً من أطرافه وهي كثيرة جداً – عصية على الحصر، ليس في هذا المقام، بل في مقامات كثيرة جداً – أنني كففت مُنذ مُدة عن مُتابَعة البرامج التلفازية فيما عدا الوثائقيات وقليل جداً من الأخبار البائسة القابضة المُقبِضة، لكن بالأمس – وأول أمس أيضاً، وهكذا بطريق الاتفاق – وأنا أُقلِّب تابعت أكثر أجزاء حلقة إسلامية يقوم بها دكتور مُسلِم – بارك الله فيه – عن التربية، اتفاقاً في الليل! ولكن ما صدمني أنه لم يكن هناك إطار للتفكير ضمن الحلقة كلها، لا من مُدير الحلقة ولا من المدعوين وبعضهم دكاترة في علم النفس والتربية، ليس هناك إطار للتفكير، لذلك الأسئلة والجوابات والنقاشات تائهة ومُتناقِضة، يقول شيئاً ثم بعد قليل ينقضه مُباشَرةً، مع أنه لا يشعر بأنه يتناقض مع نفسه، هو لا يشعر بأن الإطار غير موجود، أنت لا تستطيع أن تُحاكِم شيئاً إلا ضمن إطار، ضمن أُنموذج، الإطار غير موجود، ولذلك هو لا يشعر بتناقضه، أنا أشعر به تماماً مُجسَّماً وقبيحاً، هو لا يشعر، مُدير الحلقة لا يشعر، والجمهور الذي يُصفِّق على الحامي وعلى البرد كما يُقال لا يشعر، مسكين! شيئ مُحيِّر.
ثم إن هذا الرجل الفاضل – بارك الله فيه وجزاه الله على نيته وعلى جُهده أيضاً خير الجزاء وإن خالفناه في قليل أو كثير – أدار الحلقة كلها بطريق السؤال الحدي، هل هكذا أو هكذا؟ لمَن القرار: للآباء أو للأبناء؟ باستمرار! وحين أراد بعض المُتداخِلين بذكاء – ربما على خلفية علمية وتربية – أن يُفهِمهوه غير هذا – لأنهم فاهمون أن المسألة ليست حدية على هذا النحو – كان يقفهم دائماً ويقول النقاش في آخر الحلقة، طبعاً أنا كنت مُتأكِّداً ليس هناك ثمة نقاش، وفعلاً لم يكن هناك ثمة نقاش، هو عنده دوجماوات Dogmas، عنده دوجما Dogma أو عقيدة غير مُبرِّرة، يُريد أن يُفضي بها وينتهي كل شيئ، ها كل ما لديه، لا تستطيع أن تُقوِّمه في حلقة وهو لا يُريد، عصي على التقويم!
يقول القرار لمَن: للأبناء أو للآباء؟ كإطار هل يُمكِن التعاطي مع الحياة الإنسانية في أبسط مُستوياتها خاصة العلائقية ضمن هذه الحديات؟ هل يُوافِقنا عالم نفس أو تربوي أو عالم الاجتماع في هذا العالم الحر وفي عالم الناس الداركين والفاهمين والدارسين والذين يتميَّزون حقيقة بمصداقية أوسع منا بكثير حين يتكلَّمون فيما يعرفون وحين يسكتون عما لا يدرون بل هل يُوافِقنا أحد على أن الحياة يُتعاطى معها على هذا النحو الحدي الهندسي الرياضي؟ مُستحيل، الحياة الإنسانية عالم من المُتصِلات، ولذلك – مثلاً – لو طَرَحَ هذا الرجل أو طُرِحَ عليه سؤال من مثل هل توفّر المال عامل مُنتِج ومُفرِز للسعادة أو مُفرِز للشقاء؟ سيكون الجواب مهما كان بنعم أو بلا – بهذه أو بهذه – خطأً، قطعاً هو خطأ! لماذا؟ لأننا نرى بعض الفقراء سعداء، ونرى كثيراً جداً جداً جداً من الأغنياء أشقياء، إذن ما الحل؟ الحل ليس في جواب حدي عن سؤال حدي، المال سبب إذا توفَّر في السعادة وهو أيضاً سبب في الشقاء إذا فُقِد، ليس الأمر هكذا! الأمر أو السؤال لابد أن يُطرَح ضمن فلسفة خاصة، ضمن أي فلسفة للحياة تتحدَّث أنت وتسأل؟ هناك فلسفة، القضية مُعقَّدة، قضية السعادة والشقاء مُعقَّدة جداً، ليست هي بهذه البساطة!
حقاً في أغلب الحالات إذا فُقِد المال يتسبَّب فقده في الشقاء، أي في شقاء هؤلاء المعوزين، في أكثر الحالات! هذا صحيح قطعاً، لكن ليس إذا وُجِد المال وفي كل الحالات أيضاً أو في أغلب الحالات يُفرِز أو يُنتِج السعادة، هذا غير صحيح! إذن ما القضية؟ القضية هي الإطار، فلسفة الحياة! لذلك يُمكِن أن تكون مُتموِّلاً سعيداً ويُمكِن أن تكون مُتموِّلاً شقياً، كما يُمكِن أن يكون الأبعد فقيراً سعيداً أو فقيراً شقياً، المسألة ليست حدية، لأنها مسألة تتعلَّق بالإنسان، بنا! بعالم الحريات، بعالم المرونة، وبعالم الخيارات!
المُهِم الذي صدمني أكثر أن في آخر الحلقة جاء الرجل ليُحوصِل ويُلخِّص ما انتهى إليه فإذا به يُقرِّر ما حفظه، قرأ هذا هو واستظهره حفظاً، لكن هذا المحفوظ لم يُلق ولا بشيئ من ظلال على الحلقة – لا على جسم الحلقة ولا على أنحائها – مُطلَقاً، قط! قال لنعلم ويجب أن نفهم أن التربية ليست مسألة قرارات، وليست مسألة سُلطة، وليست مسألة هذا أو هذا، وكل الحلقة كانت هكذا! فالرجل المسكين يحفظ ويقول، ولذلك هو يتناقض ولا يشعر، ويظن أنه أوفى على الغاية في تحصيل الحكمة حين يُقرِّرها محفوظةً، هذه مُشكِلة تربوية وتعليمية!
خطر لي على البال تواً المُصطلَح الفصيح العامي الجاري استخدامه في كل الدول العربية، يقولون الحفظ الصم، يحفظها صماً، يا لروعة هذا التعبير! أحسن تعبير يُمكِن أن يُلخِّص بشاعة نظامنا التعليمي القائم على الصم، الصم مأخوذ من الصمم، لا يسمع! وهذا المُصطلَح يُفضي إلينا برسالة، ليس ثمة حوار أو ليس من حوار بين المُستظهِر وبين المُستظهَر، إذا كان النص بوسعه أن يكون شيئاً فلست مُستعِداً أن أستمع، ولذلك – انتبهوا – نحن لا نستفيد في أكثر الأحوال مما نسمع، لا في الجُمعة هنا ولا في المدارس ولا من الآباء والأمهات، لا نستفيد! لماذا؟ لأن القضية مبنية على الصم، على الصمم! وسوف نرى بعد قليل كيف يتولَّد البكم من هذا الصمم، البكم النقدي، مفقود! البكم التفكري التعقلي، سبر الأشياء غير موجود إطلاقاً.
هل إضنا أو هل أصبحنا أمة من الصم البكم؟ بعد ذلك حتى لو كنا مُبصِرين لن نستفيد مما نُبصِر أبداً، لن نستطيع أن نتواصل لأننا صم بكم، إذن بالتالي ينبغي أن نكون عُمياً، هل نحن هكذا؟ هذه كارثة، أكبر من كارثة! النص إذا كان لديه ما يقول فلست مُستعِداً أن أستمع، كل ما يُلخِّص العلاقة بيني وبينه هو الاستظهار، الصم! أن أحفظه بطريقة الصم، وإذا كان لدي ما أقول – أعني جُهداً تأويلياً أو مسعىً نقدياً – بإزاء هذا النص – طبعاً النص ليس بذاته النص الذي يتحرَّك على رجلين، وإنما أرباب النص الذين وضعوه ومنهجوه وقرَّروه ويُدرِّسونه، أي درَّسوه، كل هؤلاء نُلخِّصهم بكلمة النص – فهذا النص ليس مُستعِداً أن يستمع إلىّ أيضاً، ليس هناك أدنى إمكانية أن يتزحزح هذا النص عن موقعه وعن رسالته المفروضة قيد أنملة أبداً، إذن هذه علاقة الصمم، هو لا يسمعني وأنا بالتالي لا أسمعه، فقط أنا أستظهره، عبَّرت عنها مرة بالاستجواف، أبتلعه ثم أقيئه، استجواف! ثم أقيئه بعد ذلك، لا أكثر ولا أقل.
ومن هنا هذه الأُمية الثقافية الحقيقية، وتُلاحِظونها عند المُثقَّفين، أحياناً حين تُتابِعون البرامج الحوارية – برامج الديوك هذه – تستغربون من تواتر سرعة الكلمات، كالمدفع الرشّاش! الكلام سريع جداً جداً، هذا يُعطي انطباعاً أن وراء هذه السرعة ضحالة، يستحيل على إنسان يُدمِن التفكير ويُدمِن التعمق أن ينبعق في الكلام بمثل هذه السرعة خاصة في برنامج حواري، قطعاً تُطرَح عليه إشكالات وتُورَد عليك إيرادات وتُسأل في سؤالات لم تكم مُتحسِّباً لها، من أين لك هذه السرعة في توريد الجواب وإبدائه وقوله؟ لأنك لست جاداً في أن تسمع السؤال، ولست جاداً في أن تقول جواباً حقيقياً يُقنِعك قبل أن يُقنِع الآخرين، أنت جاد فقط في أن تتكلَّم، مُشكِلة كبيرة هذه!
أول أمس – وهذا الذي فعلاً اضطرني أن أتكلَّم في هذا الموضوع العجيب – شيخ مظهره طيب حقيقةً – تعلوه سيماء التقوى كما يُرى، وهو دكتور في الشريعة – يتكلَّم عن المحبة، وبأسلوب هادئ ولطيف، لكن يفتقر إلى الانسجام المنطقي، تماماً كطريقة العوام، يتكلَّم عن المحبة ويقول وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ۩ – يقتبس القرآن، يستشهد بهذه الآية -، إذن – يقول إذن، إذن هو يُرتِّب ما شاء الله استخلاصات واستنتاجات من الآية – هذه المحبة لابد لها من عمل، ولابد لها من جُهد، ولابد لها من سعي، هذا الكلام صحيح كلاماً وخاطئ استخلاصاً، المحبة في الأغلب تحتاج إلى عمل، لو أنه احتج بحديث أبي هُريرة في البخاري وعند أحمد ولا يزال عبدي يتقرَّب إلىّ بالنوافل حتى أُحِبه لفهمنا أن الاستخلاص صحيح، لكن أنت تستشهد بآية هي عكس ما قصدت إليه تماماً من استخلاص، الله يقول في حق موسى الرضيع الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً – قطعة لحم – وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ۩، أي عمل قام به هذا الرضيع؟ أي جُهد وأي جهاد للنفس قام به هذا الرضيع المسكين؟ بالعكس! هذه مسألة هبة إلهية لما علمه الله الذي قال وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ۩، مسألة اصطناع، مسألة اصطفاء واصطناع! كيف جاز على هذا الدكتور أن يستخلص هذه النتيجة الصحيحة قولاً والخاطئة استخلاصاً من هذه الآية؟ لا أدري، طبعاً والجلوس والمُستمِعون أنا مُتأكِّد إلا قليلاً مبسوطون ومسرورون بهذا الاستخلاص، يظنون أنه تفكير سليم، لكنه ليس سليماً بالمرة، إذن لسنا جاديين، هكذا اعتدنا ربما، هكذا اعتدنا!
هل نخاف من التفكير؟ هل نخاف من تفعيل ملكات العقل؟ هل نخاف من السؤال وطرح السؤال بشكل مُستمِر؟ هل نخاف من الحوار؟ لقد قلت مرة عبارة جسورة جداً جداً، لست أندم عليها بل أُكرِّرها اليوم، الله لا يخاف من النقاش، طبعاً نعلم هذا لأنه ناقش إبليس وناقش الملائكة، الله لا يخاف من النقاش، لماذا نُصوِّره على أنه يخاف من النقاش؟ نزعم في دفاعنا عن القرآن وعن الدين وعن العقيدة وبطريقة تعسفية لا ينقصها الكثير جداً من العصبية والنرفزة والتكفير والتشديد والتعنيت والإعنات أن الله يخاف من النقاش، بالعكس! حسب تجربتي المُتواضِعة فعلاً الله لا يخاف من النقاش.
أنا حاولت أن أقرأ في مسيرتي لأعتى العقول المُلحِدة في التاريخ الإنساني، وصدقاً كان بيني وبين نفسي عهد ضمني أنني كل ما أقتنع به فسوف أصدر أنه حتى لو كان الإلحاد طبعاً، لأن الله – هكذا أفهم أنا، ما دمت مُؤمِناً فأنا في إطار إيماني أفهم هذا – سُبحانه وتعالى يوم القيامة لن يُحاسِبني، لن يُجازيني، ولن يُسائلني على ما فهمه غيري، على ما قرَّره غيري، وعلى ما خبره غيري، قطعاً مُستحيل! كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، وإن كانت أفكار الانحطاط وأفكار الطُغيان الفكري والسياسي والاجتماعي تُفهِمنا العكس تماماً، أن عليك أن تُقلِّد الخبيرين والحكيمين والدارسين والواصلين لكي تنجو، عليك أن تكون إمعة، عليك أن تكون امتثالياً، وعليك ألا تُنمي أي شيئ، لو كان الله يُريد الأمر على هذا النحو هل يُعجِزه أن يخلقنا بكيفية تُحقِّق هذه الغاية؟ بمعنى أن يخلقنا بحيث ينوب كل واحد عن مائة مليون، أي مائة مليون بلا عقل وواحد بعقل يقودهم! يستطيع الله تبارك وتعالى، يستطيع أن يخلق هذا في الحياة، وهذا بعقله يُدبِّر لهؤلاء المائة المليون كل شؤون حياتهم، أي عقل كوني كبير، مُمكِن! لكن في هذه الحالة لن يكونوا بشراً، سيكون هو البشري الوحيد – هذا صاحب العقل – أما هم فآلات أو أشباه آلات يُديرها هذا المُبرمِج، الله لا يُريد هذا، حين وضع لكل واحد منا في جُمجمته أو في تجويف جُمجمته دماغاً أراد أن يكون له ليس مُجرَّد دماغ بل عقل، أن يكون له عقل.
الله سيُحاسِبني على ما انتهى إليه عقلي أنا، ليس على ما انتهى إليه عقل ابن تيمية أو الفخر الرازي أو الشافعي أو أبو حنيفة أو سُفيان أو زيد أو عمرو من الناس قطعاً، حتى إن أخطأت، أنا بيني وبين نفسي أعتقد أو على الأقل يغلب على ظني أنني حتى لو لقيت الله وعندي بعض الشك – لكن هذا الشك ليس لإرادة أن أشك، وإنما جاء واعترضني في مسيرتي – هذا الشك سيشفع لي إن شاء الله، لن يُوبِقني! لأن الله كان يعلم صدق نيتي في معرفة الحقيقة، إلى هنا وصلت، لم يُمهِلني العمر، عندي مُتسَع كبير في رحمة الله، لكن ما تُعلِّمنا إياه الأفكار التقليدية أن عمر بن الخطاب قال اللهم إيماناً كإيمان العجائز، بئس الكذب على عمر! والله بئس الكذب! عمر بالذات – رضوان الله تعالى عليه – لم يكن كذلك، لو سألنا العوام للأسف طبعاً لن يعرفوا هذا، لو سألنا أي عامي ليس له علاقة ولا يعرف تفاصيل العقلية الاجتهادية لعمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليه – ما انطباعك عن عمر؟ هل هو حروفي نصوصي جامد ظاهري أم أنه من أصحاب الآراء والاجتهاد؟ سيقول لا، طبعاً عمر حروفي نصوصي، عمر هذا! لماذا؟ لأنه قر في أخلادنا وقر في وجداننا أو وجداناتنا أن التقوى تقريباً تتنافى مع العقل، إذا أردت أن تكون تقياً وعبداً صالحاً عليك أن تُسلِّم بكل شيئ من غير طلب تبرير، من غير مُحاكَمات، ومن غير طرح أسئلة، سلِّم يا أخي، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ۩، هذا الذي فهموه من كل كتاب الله، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ۩، إذن عطّل ملكة العقل، وعمر كان تقياً بلا شك، هذا معروف ضرورةً، إذن عمر كان مُعطِّلاً للعقل، عمر كان حروفياً نصوصياً! لكن عمر أبعد ما يكون عن هذا التوصيف، عمر كان صاحب عقل كبير جداً وجسور، عمر له اجتهادات لو اجتهدها مُجتهِد الآن مُسلِم في القرن الحادي والعشرين لكُفِّر، مُباشَرةً سيُكفَّر! لعمر اجتهادات خطيرة في معرض نصوص واضحة، له اجتهادات! كان شخصية مقاصدية، كان يدور مع جوهر الدين، لا مع حروفه ونصوصه، كان وفياً للمقصد، وليس للنص الذي قد يكون أحياناً مُراعياً لمظروفيات كثيرة، عمر كان يفهم هذا، وكان جريئاً، وأنا مُتأكِّد كان يتعبَّد الله بهذا الاجتهاد الجسور، رضوان الله تعالى عليه.
لكن الآن صرنا إلى دورة تاريخية للأسف انحطاطية، نرى أن التقوى والعقل أو التقوى والاجتهاد يتناقضان، يتعاندان، ولا يتآزران، فالأفضل إذا أردنا أن يسلم ديننا أن نُسلِّم وألا نسأل، بعد ذلك لو اعترضنا سؤال على الرُغم منا بأخرة أو في آخر حياتنا وزلزل إيماننا وزلزل عقائدنا ماذا نفعل؟
قبل يومين أيضاً كنت أجلس ألهو بلعبة تعتمد على الذكاء والخُطة – خُطة مُسبَقة – مع أهلي، مع زوجتي! وابن الصغير يلهو إلى جانبنا غير عابئ وغير فاهم، لأنه دون السنتين، ليس لديه أدنى دراية بخُطتي في هذه اللعبة لكي أكسبها ولا بخُطة أمه طبعاً، بداهةً لا يُمكِن! هو يرى أحجار حمراء وخضراء تنزل، لا يعرف ما القصة، لعبة هكذا! فقلت لها سأقول لكِ شيئاً، وهذا الشيئ سيُشكِّل مفتاحاً لحل مُشكِلة من أكبر المشاكل الفلسفية التي تُؤرِّق الذهن الديني اللاهوتي والفلسفي إلى اليوم في الإسلام والمسيحية واليهودية والفلاسفة أيضاً العقلانيين وغير العقلانيين، قالت كيف؟ قلت لها هل إبراهيم هذا وهو دون السنتين في ظنك وفي تقديرك عنده أي دراية بخُطتي لكسب المعركة هذه، أي معركة اللعبة؟ قالت مُستحيل، بخُطتك أنت – قالت – مُستحيل بداهة، قلت لكن انتظري، أخته وهي في السادسة من عمرها تلعب هذه اللعبة وأحياناً تكسبها، تغلبني وتغلبكِ، قالت صحيح! قلت ما يعني أنه في ظرف أربع سنوات ستُجسَّر هذه الفجوة وستُردَم بين إبراهيم هذا الصغير وبيننا، إذا تعلَّق الأمر بالذكاء وبمعرفة الخُطة سيتم الردم والتجسير في أربع سنوات فقط، قالت ماذا يعني هذا؟ غير مفهوم! قلت لها يعني أن نطرح سؤالاً، الفرق إذا تعلَّق بفهم الخُطة الكذائية – الخُطة المعنية هنا في اللعبة – سيُردَم في أربع سنوات، لذا طرحنا سؤالاً، والفرق إذا تعلَّق بفهم الخُطة الإلهية في الوجود في كم سنة سيُردَم؟ في وجود الشر، في وجود العذابات، المُعاناة، الحروب، الفقر، الأمراض، الكوارث الطبيعية، وبشكل عام في وجود الشر الأنطولوجي الذي يُقال الله مسؤول عنه طبعاً وفي وجود الشر الأخلاقي، البشر مخلوقون عنه، الحروب شر، لكن هذا الشر ليس وجودياً، هذا شر، تسعون في المائة طبعاً شر أخلاقي، عنده جانب وجودي معروف يتعلَّق بالغرائز، لكن بنسبة تسعين في المائة هو شر أخلاقي، حتى الفقر شر أخلاقي، حتى جُزء كبير من الأمراض شر أخلاقي، وبعضها جُزء منه شر وجودي، ما يتعلَّق بالأصل والمنشأ وجودي، ما يتعلَّق بالعلاج والعلاجات وتجارة العلاج شر أخلاقي، وهكذا لدينا الشر الوجودي، الله مسؤول عنه كما يُقال، لدينا الشر الأخلاقي، نحن مسؤولون عنه، ولدينا ما هو مزيج، أي خلطة من الشر الوجودي والأخلاقي، ونحن مسؤولون بقدر والله – أستغفر الله العظيم، اللهم غفراً – مسؤول كما يقولون – طبعاً لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ۩ – بقدر، هكذا يزعمون! قلت لها في كم سنة سيُردَم هذا؟ قالت مُستحيل، قلت صحيح! لو عشنا بلايين السنين لن نردم هذا الفرق ولن نُجسِّر هذه الهُوة بحيث نغدو قادرين على التعاطي الدقيق وعلى فهم معالم وتفاصيل الخُطة الإلهية في الخلق، انتبهوا! لكن هذا نصف المُصيبة أو نصف الجواب وهو مُصيبة بحد ذاته.
بمعنى أن بعضهم قد يقول هل الأمر عويص إلى هذه الدرجة؟ أعوص مما تتصوَّرون، أنا قرأت كتاباً كاملاً لفيلسوف إيراني أجله وأحترمه – رحمة الله عليه، ذهب شهيداً – عن هذه المسألة، مسألة العدالة، العدل الإلهي! وأتى بجوابات يظنها مرضية ويظنها مُقنِعة، لماذا ينبغي أن يكون هناك الامتحان والابتلاء والشر والمرض والعذابات؟ جواب من الجوابات التي أوردها وهو صادق عليها طبعاً مع أنها صحيحة نسبياً وليست بإطلاقه لأن هذا ضروري لإنضاج الإنسان، لكي يكتمل الإنسان وينضج لابد له من أن يمر بهذه الأشياء، لكن مثل هذا الجوب المرضي نسبياً يتغافل عن حقيقة صادمة، ما هي؟ وهل هذا العذاب وهل هذه المرائر والمصائب والآلام المُبرِّحة ضرورية لإنضاج شخصية طفل مات في الرابعة من عمره؟ هو دون سن التكليف، وُلِد مُشوَّهاً وعانى عذابات أليمة جداً جداً في المشافي والعيادات ثم مات في الرابعة من عمره، أين الإنضاج هنا؟ غير موجود، لن تفهم هذا! هل هذا ضروري لإنضاج شخصيات الحيوانات التي أباح الله لنا ذبحها وأكلها؟ مقتول ومأكول! هل عندها رسالة كونية الحيوانات أيضاً ولابد أن تنضج شخصياتها أم أن هذا مسلك أنسني للحيوانات؟ إذن عذابات الحيوانات وعذابات الأطفال.
الجواب هنا قاصر، حتماً هو قاصر، لأن هناك سيبقى دائماً ما لا يُفهَم وما لا يُدرَك على الأقل في جُزئيته، لن تستطيع أن تفهمه، لن تستطيع! ستقول لي هذا ضروري لفهم التكامل في الوجود عبر ضديد الأشياء أو أضداد الأشياء، وسيأتي السؤال ولِمَ أنا بالذات؟ لِمَ أنا كبش الفداء؟ حتى تفهم أنت أنا أُعاني ستين سنة، لِمَ؟ هل ستفهم؟ هل عندك جواب؟ هل تستطيع أن تضع يدي على الحكمة في حالتي أنا الراهنة؟ يستحيل! ومأساة الإنسان – مأساة الإنسان في نهاية المطاف – أنه حين يتألَّم يتألَم وحده، لا يتألَّم أحد معه أبداً، مُستحيل! قد يُسليه الناس، لكنهم لا يتألَّمون، لا يشعرون بألمه، مُستحيل!
ولذلك لابد أن نُفضي أو يُفضي بنا المقام إلى النصف الآخر من الجواب وهو خطير جداً، بعض الناس اتخذ هذا الجواب ذاته تكئة للإلحاد، قال إذا كان لهذا الرب عذر فهو أنه غير موجود، أما إن كان موجوداً فالقضية غير مفهومة، ولذلك هو غير موجود، كيف؟ قالوا لو كان موجوداً إما أن يُقدَّر قادراً حكيماً وإما أن يُقدَّر عاجزاً مُعتسِفاً، إله عاجز مُعتسِف ليس بإله وانتهى كل شيئ، لكن إن كان قادراً حكيماً لِمَ – وهذا في قدرته، في طوق قدرته – اقتضى بحكمته خلق هذه العذابات والمرائر؟ لِمَ لَمْ يجعل الناس جميعاً في حال من الهناء والمُعافاة مع ما يُحقِّق في نفس الوقت الحكمة التي أراداه بخلق الشرور والعذابات وهو قادر على هذا لكنه لم يفعل؟ هل هو رب شرير؟ يتساءلون! إذا كان شريراً فليس بنا حاجة إليه، لا نُريده رباً، ألحدوا! أستغفر الله العظيم، اللهم غفراً، أشياء مُحيِّرة تماماً، لكن طريقتنا ابتداءً صحيحة، هذا إذا جاز أن تُجسَّر الهُوة بيننا كبشر في بضع سنوات، وأحياناً لا تُجسَّر لافتراق الملكات بشكل غير عادي، أحياناً بعض الناس لو عاش مليون سنة لن يصل إلى درجة يفهم بها فهماً حقيقياً ما فهمه ألبرت أينشتاين Albert Einstein، لن يستطيع، سيُردِّد لكن لن يفهم، وهذا بين بشريين، بين آدميين! فكيف بين آدمي وربه لا إله إلا هو؟ كيف بين التراب ورب الأرباب؟ مُستحيل أن تُجسَّر هذه الهُوة، لكن الخطير الآن – وهو أخطر – هل يعني هذا التفكير الوصول بنا إلى عدمية وإلى إلغاء العقل إذن؟ إذن لابد أن نُؤمِن بأن العقل غير موجود ولا يفعل، وباسم التسليم الإيماني نُسلِّم بالله موجوداً حكيماً قادراً عنده خُطة لا نفهمها، إذن تعطَّل العقل، وهذا كان في خطاب بندكت السادس عشر Benedict XVI، هذا ما أخذه على الإسلام، قال العقل في الإسلام مُعطَّل، غير مسموح له أن يعمل، وحين أراد ابن رشد أن يُشغِّله اتُهِم بالزندقة وحُرِقت كُتبه وكان مصيره ما تعرفون، فالعقل في الإسلام غير عامل وإن زُعِم أنه دين العقل ودين الفكر، مُعطَّل! عند هذه الحدود يُزندَق العقل ويُكفَّر، ممنوع أن يسأله، وهناك نصوص عن هذا، فأمسكوا! تُمسِك وينتهي الأمر، أحسن لك أن تُمسِك، لكن أنا عندي جواب عن هذه المُعضِلة، وهي مُعضِلة كبيرة كما يبدو، ما هو؟ سنقول ما وصلنا إليه لا يعني عدمية ولا يعني استقالة أو رسالة للعقل بأن يستقيل – يُسر على التقاعد – أبداً، كيف؟
لو نظرنا في هذا الوجود القائم الآن – بما فيه كوكبنا وبما فيه مسيرتنا الإنسانية – سنسأل هل هذا الوجود عابث مُشاكِس أم وجود عاقل وهادف؟ واسألوا العلوم والرياضيات والفلك، واسألوا أنفسكم واسألوا عيونكم وأسماعكم، هناك خُطة! بالعكس هو وجود هادف وعاقل ودقيق ومُحكَم، هناك دقة، وهناك إحكام في الوجود، لا يُمكِن أن يُخطئها نظر أي إنسان موضوعي مُحايد، موجود! لو كان هناك يومياً اصطدامات للأرض بنيازك وشُهب وكواكب أُخرى وموت للملايين، لو يومياً كانت هناك طوفانات وزلازل وأشياء غير محسوبة، ولو لم يكن هناك إمكانية – عُدِمت الإمكانية – لقيام العلم، ولذا لم نفهم ولم تكن عندنا قدرة حتى تنبؤية أن نفهم أي شيئ، لقلنا هذا الوجود ليس مربوباً، هذا الوجود يسير من تلقائه وهو عابث مجنون ومُنفلِت، لكنه لما كان مُحكَماً ودقيقاً وسمح بنشأة العلوم وسمح بأن يُتنبأ به وأن يُدستَر وأن يُقنَّن قلنا إذن هو وجود حكيم وهادف، إذن قطعاً هناك خُطة، لكن ضمن تفاصيل هذه الخُطة ما لا يُفهَم، لا بأس! لأن هناك هُوة إذن بيننا وبين المُخطِّط – لا إله إلا هو – لا تُردَم، أنا أُسلِّم بهذا! ثم يقولون الرب الشرير، هكذا العقل! هذا العقل نفسه، العقل هنا طرح والعقل هنا أجاب.
حكيت مرة لإخواني أكبر شُبهة إلحادية قرأتها في حياتي وهي لأكبر مُلحِد تقريباً، إذا لم يكن في كل العصور فهي في هذا العصر، شُبهة لبرتراند راسل Bertrand Russell، أكبر وأعتى مُلحِد بلا شك عاش في القرن العشرين إطلاقاً! وهو عقل جبّار بلا شك، عقل لا يُستهان به بأي معنى من المعاني، هو رياضياتي – Mathematiker – من درجة أولى، عالم في الرياضيات! وهو دارس لعلوم أُخرى كثيرة جداً، وهو فيلسوف ذائع الصيت على مُستوى العالم! هذا الرجل قال – يُريد أن ينقض ما أوردته قُبيل قليل، هذا ليس لي، هذا يتصادق عليه كل اللاهوتيين في كل الأديان السماوية – هذه الخُطة قوية جداً جداً في الدفاع عن العقائد الدينية، ولكن أنا سأنقضها وسأرد عليها، كيف يا برتراند راسل Bertrand Russell؟ قال يتحدَّثون عن الحكمة وأن الكون محكوم بخُطة حكيمة وهناك قصدية وهناك هدفية وهناك انتظام وهناك اتساق في هذا الوجود، قال أقول كل هذا هُراء، كيف هو هُراء؟ قال نحن نُسمي ما وجدناه حكمة، لأننا وجدنا الكون هكذا، ليس عندنا خيار Choice، ليس لدينا خيار آخر! يقول برتراند راسل Bertrand Russell – وهو إلى الآن مُحِق – لو خُلِق الكون هذا بطريقة أُخرى مُختلِفة تماماً فسنقول ما أحكمه! كون حكيم دقيق ومُنظَّم، لأننا هكذا وجدناه، إذن يُريد أن يقول ليس هناك مصداق حقيقي لمُصطلَح أو مفهوم حكمة وحكيم وهادف وقصدي، هذا كلام اعتباطي، نقول له لماذا؟ توصيفاً لواقع ليس لنا الخيار في تبديله، هذا الكلام حين تقرأه لأول مرة يُزلزِلك، لكنه في مُنتهى الغباء! ما رأيك؟ أكبر حُجة لأكبر مُلحِد هي في مُنتهى الغباء؟ هل تعرف كيف؟ لأن – هكذا ببساطة – كلامه هذا يعني بالضرورة إلغاء نظام العقل نفسه، أنه لا عقل! مع أنه يُؤمِن بنظام العقل وألَّف ودرس وحاج – أي حاجج – وناقش وساجل ضمن ماذا؟ ضمن مُقرَّرات على الأقل عنده يتصادق عليها الآخرون أيضاً، أي مُقرَّرات عقلية، مُقرَّرات ومبادئ عقلية!
نظام الوجود إذا أيقنا أنه لا حكمة فيها قطعاً يلتغي أو يفسد نظام العقل نفسه، لماذا؟ لأن الوجود لم يقل لنا يوماً أنا حكيم وأنا دقيق، العقل هو الذي لحظ فيه هذا الشيئ ونعته بهذا النعت، العقل! لماذا؟ لأن من نظام العقل الإيمان بالسببية، كل ظاهرة لها سبب، وهذا ما تُعطيه كل ظواهر الكون، هناك سببية وعلية واضحة، من قوانين العقل الانسجام والالتئام والترابط والتراسل، والكون يقول هذا، أليس كذلك؟ في كل ظواهره! حتى لا أُطوِّل – هذه مسألة فلسفية عويصة – أقول إن نظام الكون يُؤكِّد نظام العقل، ونظام العقل يكتشف نظام الكون، إلغاء النظم والقصدية في الكون يعني مُباشَرةً وبخُطوة واحدة – لا بخُطوتين – إلغاء نظام العقل، فالرجل أراد أن يكون عاقلاً مجنوناً في مُحاجَجته لكنه خرج مجنوناً، بقينا نحن العقلاء، مسكين! ليس الأمر بهذه السهولة، قضية الإيمان أقوى مما نتخيَّل.
ولذلك أعود، هذا أتيت به كمثال فقط على أن الله لا يخشى النقاش، نحن كمُؤمِنين وكمِليين لا نخشى النقاش، بالعكس! نحن نُقدِّس الله ونتعبَّد الله وندين الله – تبارك وتعالى – بأن نُفكِّر وبأن نتعمَّق مع حُسن النية والقصد، وصلنا إلى أين وصلنا وهذا كافٍ إن شاء الله تعالى، لكن على ألا نألوا جُهداً – كما قال مُعاذ ولا آلو جُهداً – مع حُسن القصد!
هناك قصة الشك الذي يُلمِّح إليه القرآن على أنه اعترى بعض الأنبياء، فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ۩، قصة إبراهيم! وللعلماء فيها تأويلات مُختلِفة، لكن لِمَ؟ أليس النبي في نهاية المطاف إنساناً؟ وأليس إنساناً عاقلاً في أرفع رُتب العقل؟ أليس من حقه – هذا حق إنساني – أن يُحاكِم وبالتالي أن يرتاب ولو لفترة أو لحين من الزمان؟ من حقه، هذا انتقاص لإنسانية النبي! من حقه أن يرتاب لحين، لكن هذه الريبة بالذات يكمن في بطنها اليقين كما قال ابن الهيثم – رحمة الله عليه – في الشكوك على بطليموس، قال في بطن هذا الشك أو في بطن هذه الريبة يكمن اليقين، اليقين الحقيقي واليقين المُبرهَن هنا يكمن، وليس اليقين الذي يُردَّد، يا لتعاسة الثقافة العامة! ثقافة اللهم إيماناً كإيمان العجائز، لم أُحِب يوماً إيماناً كإيمان العجائز، لم أُحِبه يوماً في حياتي ولن أُحِبه، لأنني أعلم أن هذا الإيمان وإن كان واثقاً – إيمان العجائز واثق جداً، إيمان جدتك وجدتي واثق جداً جداً، هي تُؤمِن بالله أكثر مما تُؤمِن بنفسها – لكنه ضحل جداً جداً جداً، كم هو ضحل! لكن كم هو وثيق! قوي جداً، لكنه ضحل، لا! نحن نُريد إيماناً كإيمان العارفين، عميق جداً جداً ووثيق جداً جداً إن شاء الله تعالى، وهذا لا يكون إلا بالفكر.
بعضكم قد يقول ولكن هذا أيضاً مروي وبأسانيد عن أبي المعالي الجويني وعن الفخر الرازي، هناك شيئ من هذا القبيل، هؤلاء من جلة علماء العقيدة، أي فلاسفة العقيدة، هؤلاء! تمنوا حين كانوا على فراش الموت إيماناً كإيمان عجائز نيسابور، هذا كلام فارغ! من ناحية إسنادية هذا كذب على أبي المعالي، لقد تتبعنا هذا إسنادياً، كذب! لم يثبت هذا عن الجويني – أنه تمنى هذا الشيئ – وحاشا لله، حاشا لله أن يكون الجويني وهو شيخ حُجة الإسلام الغزّالي عبر عُمره المُبارَك كله كان مغروراً ومخدوعاً ثم انكشف عنه الغطاء لحظة موته، أي فقط أصبح عاقلاً وذكياً لحظة موته، لحظة واحدة! أما طيلة حياته كان أشبه بالغبي، حاشا لله، حاشا لله! لم يكن هذا شأن شيخ الإسلام، إمام الحرمين، وحُجة هذا الدين، مُستحيل! يقولون الفخر الرازي حدث معه نفس الشيئ، وهناك القصة اللطيفة والتي تُورِدها كُتب العقائد، وكم هي سخيفة! تُظَن لطيفة وهي في مُنتهى السُخف، الفخر الرازي يمشي محمولاً على الأكف والرقاب، والناس مُحتفون به أيما احتفاء، إذ أطلت عجوز، فقالت مَن هذا المحمول والمُحتفى به؟ قالوا هذا شيخ الإسلام، الإمام فخر الدين الرازي، قالت لماذا تحتفون به كل هذا الاحتفاء؟ عجوز لا تعرف عنه شيئاً! قالوا لأن هذا الرجل وضع كتاباً فيه ألف دليل على وجود الله، قالت حسنٌ، لو علمتم حقيقته لرجمتموه بالحجارة! قالوا لماذا أيتها العجوز؟ قالت لأنه لو لم يكن عنده ألف شك لما احتاج إلى ألف، نصرخ قائلين الله،حمقى! لماذا نصرخ قائلين الله؟ هذه حماقة، هذا الكلام في مُنتهى الحمق، لا يُمكِن أن يسوغ على أحد، أنا مُوقِن ومُؤمِن أن الفخر الرازي لو سمع هذه الحماقة لربما دبَّج ألف دليل في نقدها على التو، رحمة الله عليه، ومَن يعرف الرازي يعرف أنه قادر على هذا، هذا الفخر الرازي! لكن أنا سأُدافِع عنه بعد مئات السنين من ورائه، رحمة الله عليه.
أولاً هل يعني ألف شك أنها ألف شك وقعت لي شخصياً وزلزلتني؟ لا، مُمكِن أن تكون ألف شك منقولة ومُحاكاة، شكوك وردت على الشاكين والمُشكِّكين، أنا أذكرها كمُصنِّف في العقائد وأُجيب عنها، هذه واحدة، هذا أول جواب، ليس شرطاً أن الفخر الرازي زُلزِل بألف شك، من أين هذا الكذب عليه؟
ثانياً القرآن الكريم ألا يُورِد شُبهات الملاحدة والكفّار والمُشكِّكين ثم يُجيب عنها؟ هل الله نفسه شاك؟ أستغفر الله العظيم، هل محمد الذي نُزِّل القرآن على قلبه شاك أيضاً إذ يُقرِّر هذه الشكوك؟ هل كان عند محمد من الشكوك والشُبه بمقدار ما أورد الله في القرآن الكريم؟ غير صحيح، غير صحيح إطلاقاً!
هذا أبسط الجوابات عن هذه المسألة، وهناك جوابات أُخرى كثيرة ذكرناها في درس وفي معرض نقاش عرضي، لكن لِمَ هذه القصص؟ ولِمَ تُوضَع في الكُتب؟ لكي تزيد من رذيلة تعطيل العقل المُسلِم، تعطيل عقل المُسلِم والمُسلِمة، لكي لا نُفكِّر، الأفضل ألا تُفكِّروا، الأفضل أن تُسلِّموا، أطفئوا مصباح عقولكم إذن، أطفئوا مصابيحكم، هذا هو للأسف الشديد!
الآن بدأنا نفهم كيف يُمكِن لهذه الأمة أن تعيش مئات السنين – هي في الحقيقة مُنذ أكثر من ألف سنة وهي تعيش في هذا – في الطُغيان والحرمان والهُضمان والذِلة والخنوع، الشعوب الأوروبية أيضاً فيها مثل هذا والآن بدأنا نفهم لماذا، كيف يُمكِن لشخصية مهووسة مثل بينيتو موسوليني Benito Mussolini – مثلاً – أو هتلر Hitler أن يقود ملايين الجماهير المُتحضِّرة كما يُقال؟ إنها مُتحضِّرة بلا شك، عندها تكنولوجيا وعلم وفلسفات! مارتن هايدجر Martin Heidegger نفسه كان – ما شاء الله – نازياً بمعنى أو بآخر للأسف الشديد، وهذه أكبر مقابح هذا الرجل، الفيلسوف اللا عقلاني النيتشوي – نسبةً إلى نيتشه Nietzsche – والشوبنهاوري – نسبة إلى شوبنهاور Schopenhauer -، كيف يُمكِن؟ هل تعرفون كيف؟ حين يغيب التفكير، إذن حين تغيب الشخصية الإنسانية، حين نُصبِح آلات تتحرَّك ضمن تفكير اشتراطي، هذا المسلك السلوكي البسيط جداً والآلي للأسف الشديد!
للأسف في أمة تغيب فيها ضوابط المنطق وضوابط العقل المنهجية وفي أمة لا تُدمِن التفكير والتعمق تُصبِح مصادر القوة وسُلطة القول محكياً كان أو مكتوباً كالتالي:
أولاً الموقع، كل مَن تكلَّم مِن موقع رفيع – أعني أرفع من موقعي – فهو صادق، هو حذام هذا الموقع، إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِقُوهَا، هو حذام هذا الموقع، هو صادق وصائب، ولذلك بعضكم يظن أن كلامي كله صائب لمُجرَّد أنني أتكلَّم من منبر، غير صحيح! مُمكِن أكثر كلامي خاطئ، هذا طبيعي وبدهي، وأنا أول الناس استعداداً أن أرجع عنه، مُمكِن تماماً! لكن لأنه يتكلَّم في خمسمائة أو ستمائة إذن لابد أن يكون صادقاً، غير صحيح! في أسفل السلم الاجتماعي يُوجَد العوام البُسطاء والممحوون، يظنون أن مَن تكلَّم في تلفاز أو في راديو Radio أو على منبر أو في صحيفة أو ألَّف كتاباً لابد أن يكون صادقاً على نحو ما، غير صحيح! قد يكون أكبر دجّال، انتبهوا! فالموقع له دور، سُلطة المُوقع! لغياب ضوابط العقل، ضوابط المنهج، وضوابط الإدمان، أي إدمان التفكير والتقويم، هذا أولاً.
ثانياً الشُهرة، وطبعاً هنا قبل أن أسرد هذه الأشياء هكذا على العفو – انتبهوا – سأُوضِّح أنني أتكلَّم فقط عن المُهتَمين، كل مَن ليس مُهتَماً غير داخل في هذا السجال الطويل طبعاً، مثلاً هناك قضية يتناقش فيها أطباء، أنا غير مُهتَم – مثلاً – أو أنت غير مُهتَم، إذن لا قيمة لرأيك، أصلاً لا داعٍ لرأيك، انتهى، اخرج منها، والمُختَص في شيئ عامي في غيره، إذن أول شيئ الموقع، ثاني شيئ الشُهرة، فمَن كان ذا لقب كبير -الأستاذ الدكتور، البروفيسور Professor، عضو مجمع كذا، عضو نقابة كذا، عضو جمعية كذا، عضو في كذا – وهو مُختَص في حقله لابد أن يكون كلامه في الأغلب صحيحاً وصائباً، هذا يقوله مَن؟ يقوله ربما مُختَص مثله أقل منه بحُكم الموقع مرة أُخرى أو يقوله عامي لا علاقة له بالموضوع، أما مَن كان استثنائياً وفاقهاً لا يُمكِن أن يقع في هذا الفخ مُطلَقاً، كم وكم من هؤلاء لا يقولون الصواب ولا يقولون الحقيقة وإن عرفوها أحياناً!
الشيئ الثالث أو العنصر الثالث العصبية، الذي عبَّر عنه ذاك الرباعي المُتعصِّب بقوله كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر، كل مَن كان منا وعلى شاكلتنا – بلوننا، بلساننا، من أبناء جلدتنا، من أبناء مِلتنا، من أبناء مذهبنا، من أبناء حزبتنا، من أبناء طريقتنا – هو صائب وصحيح وسنُصادِق على كل ما يقول، قاتل الله العصبية، إنها مُطفئة سُرج العقول الكُبر، هذه العصبية، انتبهوا!
أيضاً هناك السائد، هؤلاء العوام وأشباههم من الدهماء يقولون هل يُعقَل أن كل هؤلاء الناس في حقولهم المُختلِفة يُصادِقون على هذه الواقعة أو هذه الحقيقة أو هذه الدعوى وتكون خاطئة؟ مُستحيل! هل كل هؤلاء مُخطئون وأنت على صواب؟ لكن ينسى هؤلاء – أصحاب عقلية السائد والشائع – أن ما هو سائد اليوم ربما قبل مائة سنة فقط كان يُعتبَر خُرافةً وأُسطورةً وتجديفاً وزندقةً ومحض هُراء علمي – إذا تعلَّق الأمر بالعلوم -، أما اليوم فهو السائد، ما رأيكم؟ صحيح! كيف تم التغيير؟ ليس بإرادة الدهماء، ليس لأن الناس أرادوا أن يُغيِّروا، ليس لأن الناس اكتشفوا الحقيقة، غير صحيح! تم التغيير على يد الاستثنائيين، عُتقاء أسر كل هذه الحواجب، السائد والشائع والموكب والشُهرة واللقب! كل هذه حواجب، تحجب الإنسان عن معرفة الحقائق، هناك أُناس استثنائيون، هم عُتقاء ومُتحرِّرون من كل إسار ومن كل أسر لهذه الحواجب، ولذلك هؤلاء هم أصحاب الجسارة والجراءة على أن يسألوا السؤال الذي لم يُسأل بعد، لماذا كان كذا وكذا؟ لماذا لا يكون الأمر على النحو الفلاني مثلاً؟ يسألون! مع أنهم سيُتهَمون بالغباء، سيُجفون، وسيعزلهم المُجتمَع العلمي أو حتى المُجتمَع العام، لكن في النهاية بعضهم يُثبِت أنه على حق، لقد فعلها كوبرنيكوس Copernicus – مثلاً – وأثبت أنه على حق، مثلاً فعلها ألبرت أينشتاين Albert Einstein وأثبت أنه على حق، مع أن البشرية لآلاف السنين كانت تُصادِق على عكس ما قال تماماً، لكن هذا الاستثنائي فعلها، وهذا الاستثنائي هو الذي خلق السائد، سائدك أنت! كُن استثنائياً لتخلق سائدك.
أحد الفلاسفة الكبار كان يقول اخدموا غرابتكم، كلمة عظيمة جداً! اخدموا غرابتكم، اشتغلوا على غرابتكم، إذا رآكم الناس غُرباء – تأتون بأفكار بشعة وأفكار غير مقبولة تُناقِض السائد، أنتم غريبون، غير عاديين – فهذا مُمتاز، اعملوا على هذا، لأنكم في النهاية ستخلقون سائد الآخرين ولو بعد مائة سنة، فاخدموا غرابتكم، اشتغلوا عليها! قال عمر بن الخطاب لكن بأسلوب عربي فصيح، قال لم يترك الحق لعمر صديقاً، طبعاً عاش غريباً، الصوفيون عندهم ما يزعمون أنه حديث نبوي، ليس حديثاً هو، هو كلمة صوفية لكنها صحيحة بالمرة، ماذا يقولون؟ يقولون طلب الحق غُربة، أحد كبار هؤلاء العارفين ماذا؟ قال:
لما لزمت البحث والتحقيقَ لم يتركَ لي في الوجود صديقَ.
أي أصبحت غريباً، اخدموا غرابتكم، لا بأس! وهذا الكلام للاستثنائيين أيضاً أو لمَن يُريد أن يكون إنساناً، وفي الحقيقة ضمن السائمة الاجتماعية مَن أحب أن يكون إنساناً فهو استثنائي، استثنائي أن تُحِب أن تكون إنساناً، صدِّقني! أن تُحِب أن تكون إنساناً على الحقيقة فأنت استثنائي، لماذا؟ لأن الآخرين للأسف مُجرَّد سائمة، سائمة أمكن لأمثال موسوليني Mussolini وفرانكو Franco وسالازار Salazar وهتلر Hitler أن يحشروهم وأن يقودوهم، هذا يُذكِّرني بما أُحِب أن أتساءل بصدده لآخر مرة في هذا المقام، نتحدَّث كثيراً عن حقوق الإنسان، حقه في كذا وكذا وكذا، لكن هل تحدَّثنا عن حقه في معرفة الحقيقة؟ هل تحدَّثنا عن حقه في الحق؟ لماذا؟ لماذا هذا السؤال؟ طبعاً هذا السؤال أنا مُتأكِّد أكثر سؤال يُؤرِّق هؤلاء الكبار الذين يُبرمِجوننا، يُبرمِجون الشعوب والأُمم، يُبرمِجون العقول والأقلام والأوراق، لا يُحِبون مثل هذا الطرح بالذات، هذا يغيظهم! من حقنا هذا، كيف؟
إلى وقت قريب جداً كانت تُنفَق أموال هائلة طائلة وتُبذَل جهود جبّارة في حشد وحشر الناس إلى محابس كما أُسميها، محابس عامة! أمثال السجون، كسجون الرأي، وهي مُنتديات طبعاً وساحات عامة، لماذا؟ كانوا يُحشَدون بمئات الآلاف وأحياناً يصلون إلى مليون أو أكثر ربما، لكي يسمعوا خطاب الزعيم، خطاب القائد! هذا الزعيم يُريد لا أقول أن يُضلِّلهم ولكن يُريد أن يُفضي إليهم بشيئ، في أكثر الأحيان هو تضليل، ثم جاء المذياع بعد ذلك الذي ترافق إلى حين مع هذه الظاهرة وبسطها ومدها، حتى بلغت عشرات الملايين، ثم بعد ذلك في عصر التواصل العظيم بفضل تكنولوجيا الاتصال والمعلومات اختفت هذه الظاهرة، هل ترون الآن ملايين أو مئات الألوف يُحشَرون إلى ساحات عامة ليُلقي الزعيم فيهم خطاباً؟ لا، هذا اختفى، لماذا؟ لأن هناك آليات مُعيَّنة كفيلة أن تُوصِل صوته إلى ملايير وليس إلى ملايين، هذا مُدهِش وهو مُنجَز، بلا شك إنجاز كبير! لكنه خطير جداً، لقد أكسبهم قدرة غير مسبوقة في التاريخ على التضليل وعلى الاستنزاف وعلى تزييف وعي الجماهير.
لقد رأينا قبل سنين مليارات – قريبة من ثلاثة مليارات – تابعوا جنازة على التلفزيون Television في الوقت عينه، جنازة ديانا Diana! تابعها كل هؤلاء في الوقت عينه، والآن مُمكِن لملايير أيضاً – اثنان مليار أو مليار ونصف – أن يُتابِعوا خُطبة لزعيم مُعيَّن، تُوجَد قدرة على التضليل! هل كُتِب علينا أن نعيش ضمن هذه الجلبة الكونية تائهين حيارى؟ هل فقدنا القدرة على أن نُفكِّك هذا النسيج المنسوج بإحكام وبدقة وبإتقان حتى نفهم الخلفيات وحتى نفهم ما يُحيط بنا وما يغلي تحتنا وما يُراد له أن يتساقط على رؤوسنا؟ هذا أمل بعيد جداً جداً جداً ما دُمنا مُعطِّلين لملكات التفكير في أبسط الشؤون التي تعتور حياتنا اليومية.
أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يفتح علىّ وعليكم وعلى المُسلِمين أجمعين بملكة الحرية، أن يُحرِّر أفكارنا وضمائرنا وألسنتنا، وأن يجعلنا نفهم ما لا يُفهَم ونُدرِك ما لا يُدرَك ونُبصِر ما لا يُبصَر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفُضليات:
قد أطلت عليكم لكن بودي قبل أن أُغادِر هذا المقام الكريم أن أُنبِّه إلى أمر أُثير في الأيام الأخيرة، وأعتقد أخلاقياً أن من واجبي الذي علىّ أن أضطلع به أن أُوضِّح موقفي والموقف برُمته، كُتِب في مجلة – لا أعرف هل هي مجلة شهرية أم ماذا – اسمها المُغترِبون على لساني أنه فيما بلغ الكاتب أنني علَّقت على موقف لرئيس الهيئة الإسلامية بأنه هُراء، يتعلَّق بصلاة الجُمعة وأن المُسلِم إذا كان مُضطَراً يُمكِن أن يُصلي كل ثلاث جُمع جُمعة واحدة وهذا يجوز، وأنا قلت هذا هُراء، للحق – وتعلمون صراحتي وأعلمها – هذا الموضوع لم أسمع به إلا أمس حين سُئلت بصدده، قلت عجيب! أنا لم أسمع بقضية الجُمع هذه ولا بتفتوى ولا بموقف الهيئة الإسلامية، وليس عندي أثارة من علم بهذا الصدد للأسف الشديد، فلِمَ هذه الجراءة أن اُقوَّل ما لم أقل؟ لو قلت هذا سأعترف به وسأُحاجِج عنه، لكن هذا لم يحصل قط بحمد الله تبارك وتعالى.
وفي مُكالَمة هاتفية بيني وبين رئيس الهيئة الإسلامية – أنا أفتعلتها، أحببت أن أفهم الموضوع – أفهمني الرجل – بارك الله فيه – الخلفية الحقيقية، وهي خلفية مُشرِّفة وسليمة تماماً، تختلف عن كل ما كُتِب، مكتب العمل أرسل إليه كرئيس هيئة يطلب منه جلية الموقف الفقهي في قضية صلاة الجُمعة، لأن كثيراً من المُنتظِمين في دورات تدريبية وتأهيلية وإعادة تأهيل أيضاً للعمل من المُسلِمين للأسف يتغيَّبون بحُجة صلاة الجُمعة، بعضهم يُصلي وبعضهم طبعاً لا يُصلي حتى الجُمعة، لا تُوجَد مُشكِلة! فالرجل قال نعم، صلاة الجُمعة واجبة، قال لي الجوابات محفوظة، ويُمكِن لأي أن يطلع عليها، موجودة كلها بفضل الله، قال صلاة الجُمعة واجبة، وهي أمر ضروري، ولا يسع المُسلِم أن يُصليها فرداً، لابد أن تُصلي في جماعة، أي في المساجد، وهذا ما عندنا، والسلام، رسالة مُمتازة وصحيحة! فبعثوا إليه بعد ذلك يسألون لكن ما القول إذا كان المُسلِم مُضطَراً؟ لو عنده امتحان أو عنده التزام – مثلاً – في العمل أو في هذا المكتب ماذا يفعل؟ مُضطَر هو بطريقة أو بأُخرى، أليس هناك حل مُعيَّن؟ قال وكنت على علم أو ذُكر بأن مكتب العمل يُريد أن يرفع الــ Vermittlung عن المُسلِمين لكثرة مُشاغَباتهم وعدم انتظامهم، فلم أُحِب أن أُعطيهم ذريعة بالجمود على الموقف الأول دونما أدنى إضافة، فقلت لهم ما ذكرته في الرسالة الأولى هو صحيح، ولكن حال اضطر المُسلِم – قال حال اضطر المُسلِم – فيجوز له أن يُصلي الظهر بعد ذلك، لكن صلاة الجُمعة لا تُقضى، حال الضرورة، قلت له هذا الكلام عين الصواب، وإلى الآن أنت في الصحيح، ليس هناك ما يُعلَّق عليه.
أنا لم أُسأل عن هذا الموضوع، ولم يُؤخَذ رأيي في، فضلاً عن أن يكون لي تعليق بانه هُراء، وهذا ليس – إن شاء الله – من طريقتي، فهذه جلية الموقف كله، أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا مُتحوِّطين مُحاذِرين فيما نقول وفيما نزعم بصدد أنفسنا أو بصدد الآخرين.
اللهم إنا نسالك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا، اللهم ارحمنا واعف عنا وعافنا، اللهم إنا نسألك أن تُحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأن تُجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما
أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩، اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا بائساً ولا يائساً ولا محروماً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكرو الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
02/08/2007
أضف تعليق