بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
إخوتي وأخواتي/
في حلقة اليوم، التي أرجو أن تفي بما تبقى من كلام عن نموذج الانفصال أو الاستقلال أو التوازي، أُريد أن أصل الحديث أيضا بما انتهى إليه حديثي في الحلقة الأخيرة، والذي دار حول أن الصورة الجديدة للعالم، والناهضة على العلم ومُعطيات العلم وكشوف العلم، المفروض أنها لم تبرز على هذا النحو، لكنها برزت!
يُقدم لنا الفيلسوف الإنجليزي الكبير والتر ستيس Walter Stace في كتابه الدين والعقل الحديث تفسيرا، يبدو أنه تفسير ناجح ومقبول ومنطقي، يقول لأن العقل البشري لا يشتغل منطقيا. التنقلات التي يقوم بها العقل البشري ليست بالضرورة تنقلات منطقية. بالعكس، في مُعظم الأحوال هي تنقلات سيكولوجية!
هناك فكرة، تحدثت عنها قبل سنوات، وسميتها انتقام الأفكار، وقد يكون غيري تحدث أيضا بهذا المعنى:
مثلما ينتقم الأشخاص، الأفكار تنتقم أيضا. هيا، مارس قمعا لفكرة مُعينة، فضلا عن أن تُمارس قمعا لمنهج، كالمنهج العلمي، بطريقة أو بأُخرى، فإنه سيظل يتربص، إلى أن تسنح له الفُرصة. فإذا سنحت وواتته الفُرصة، انتقم! كيف يكون الانتقام؟ بالذهاب إلى آخر الطرف.
ولذلك يا إخواني العلم مارس انتقامه! سأضرب لكم بعض الأمثلة:
توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley في القرن التاسع عشر، الكلب الحارس لداروين Darwin، حسبه ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould على نموذج الانفصال!
أنا أشك في هذا. طبعا هو أتى ببعض الأدلة، جميل، جميل! يُسعدنا هذا، لكن موقف توماس هكسلي Thomas Huxley عموما من الدين، وإن كنا أكثر دقة من رجال الدين، موقف لا يتسم بالتساهل، ولا بالتسامح، ولا حتى بالاحترام! إذن تُوجد مرارة، يبدو أن هناك ردة فعل، يبدو أن هناك خلفية نفسية في الموضوع! ذات جذور تاريخية طبعا.
لذلك أنا قرأت لبعض المؤرخين المُعاصرين للعلم وتاريخ العلم، أنهم حين تكلموا عن الصراع، الذي علت أسطورته في القرن التاسع عشر – ونحن أرخنا لها، وقلنا كيف تمت هذه! وتم خلق أساطير مثل كولومبوس Columbus في سلامنكا وما إلى ذلك -، كان توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley من المُتصدرين، أيقونة للصراع! لماذا؟ لماذا؟
قال لك لاعتبارات مهنية. الرجل كان واعيا بطبيعة عمله الذي اختاره لنفسه، وهو عمل علمي، عمل علمي حقيقي! في جُزء منه عمل تجريبي. صحيح! هو أراد لهذه المهنة الجديدة، التي ستُسمى بعد قليل بالعلم، ولمَن يُمارسها بالعالم Scientist، في آخر القرن التاسع عشر، أراد لها أن يكون لها اعتبارها الحقيقي في وجه الدين. نوع من الانتقام! كلامهم يقول نوع من الانتقام الذي حصل.
تُوجد هنا مأثورة، تؤثر عنه، لطيفة! تعرفون أنتم الصمّام المشهور جدا، ال Mitral valve هذا – العرب يُسمونه الصمّام الميترالي، ال Mitral valve هذا -، هو منسوب إلى ماذا؟ لماذا سموه ال Mitral؟
ال Mitre ما هي؟ قُبعة ال Bishop، ال Bishop’s mitre. القُبعة التي يرتديها الأُسقف يُسمونها ال Mitre، فنُسب إليه الصمّام! فسموه ال Mitral valve؛ الصمّام الميترالي. جميل!
توماس هكسلي Thomas Huxley، وكان عالما في علم الأشكال، يقول كنت أُعاني لفترة طويلة من الاحتفاظ بمكان ال Mitral valve! أين هو؟ هل هو بين الأُذين الأيسر والبُطين الأيسر، أم بين الأُذين الأيمن والبُطين الأيسر؟ أين يصل؟
لا أعرف – قال -، أُخربط! حتى اهتديت إلى الجواب، الذي جعلني لا أنسى هذا إلى آخر حياتي! قال عرفت! وأنتم الآن لن تنسوه طيلة حياتكم على فكرة، طريقة لطيفة، وفيها نوع من الظرف!
قال الصمّام الميترالي هذا – ال Mitral valve هذا – في الشمال، انتبهوا، ولا يُمكن أن يكون في اليمين، لا يُمكن! وفعلا هو في الشمال. هو الصمّام الذي بين الأُذين الأيسر والبُطين الأيسر، وليس الأيمن.
لماذا؟ قال لأن ال Bishop لا يُمكن أن يكون على حق. تلاعب هنا بماذا هو؟ بكلمة Right. Right معناها حق، ومعناها يمين. You are right. يقول لك! أنت مُحق. You are right. Might is right؛ القوة هي الحق. فقال ال Bishop لا يُمكن أن يكون على حق.
يُوجد موقف هنا، تحس أن هذه سُخرية مُرة، أليس كذلك؟ هذه سُخرية مُرة جدا جدا! أي إلى هذه الدرجة أنت هكذا؟ هو هكذا! مع أنه جمعته علاقة برجل دين كبير، وهو أديب، وقصّاص، ولاهوتي مُحترم؛ كينجسلي Kingsley! اسمه كينجسلي Kingsley.
هذا صاحب رواية هيباتيا Hypatia، مرة تحدثت عنها، وتحدثت عن كينجسلي Kingsley، وروايته موجودة أيضا، مجانية؛ لأن حقوقها انتهت. وكان رجل دين، ومن المؤيدين لتشارلز داروين Charles Darwin وللتطور، من أول يوم! قال لهم نعم، عادي جدا، هذه طريقة جميلة جدا للخلق! أحلى بكثير من حكاية كن فيكون هذه كما نفهمها نحن – يقول – المسيحيون، أي في لحظة!
لأن حتى في القرآن كُنْ فَيَكُونُ * ليس معناها في لحظة على فكرة! أبدا، أبدا! كُنْ فَيَكُونُ * يُمكن أن تأخذ مليار سنة، مليون سنة، حسب ما الله يُريد. الله خلق عيسى بـ كُنْ فَيَكُونُ *، وعيسى مكث تسعة أشهر في رحم أمه، أليس كذلك؟ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ *…وقلنا مئة مرة والله لم يقل مرة فكان! كُنْ فَيَكُونُ *. القرآن دقيق وعجيب! لا إله إلا الله!
هذا أمر بعملية Process مُمتدة، تجري! تسعة أشهر، تسع سنوات، تسعة ملايين، تسعة ملايير! الله حر. هو هذا! المُراد ليس الآنية، أبدا! المُراد فورية الاستجابة. لما يصدر الأمر من الله، حتما تبدأ العملية مُباشرة. كم تأخذ؟ هذا موضوع ثان طبعا.
شبهتها أنا قديما بواحد يعمل مشروعا علميا مُعينا، يكتب كتابا من خمسمائة صفحة، يظل يكتب فيه سبعة أشهر، بعدما يُنهيه ويُنقحه ويكون كله شيء قد خضع للـ Revision – أي مُراجع، وكل شيء مُنته -، يقول نُريد أن نطبعه، ونُجلده بعد ذلك.
يُعطي ال Printer – أي ال Drucker بالألماني – أمر اطبع. تبدأ الطباعة! هل تنتهي في لحظة هي؟ تبدأ مُباشرة، وتمكث مثلا نصف ساعة، أربعين دقيقة، وهي تطبع! سبعمائة صفحة هذه! هو هذا، نفس الشيء!
فالمُهم، فمات ابنه. أعتقد ألف وثمانمائة وإحدى وخمسين – على ما أذكر، حين عملنا حلقات داروين Darwin – ماتت آني Anne بنت داروين Darwin، في التاسعة من عُمرها أو العاشرة، المسكينة! رحمها الله. ألف وثمانمائة وستين مات ابنه. ابن مَن؟ توماس هكسلي Thomas Huxley. وابنه البكر!
داروين Darwin ابنته كان عُمرها تسع سنوات أو عشر سنوات. حطمه! حطمه موتها! حطمه المسكين! كان يُحبها كثيرا، وكانت هي بنتا فعلا طيبة، ولذيذة هكذا. تقرأ عنها، تجد أنه شيء مُبك! رحم الله روحها.
توماس هكسلي Thomas Huxley ألف وثمانمائة وستين مات ابنه، ثلاث سنوات! وكان طفلا في مُنتهى الذكاء والعرام! أي عارم النشاط، عارم النشاط وذكي وجميل! المُشكلة – قال – يوم الخميس، في الليل، كان يُلاعبني، كان يُلاعبني ويمزح معي!
لا نقول مرض وحمى وكذا، وتمادى به مرضه، أو تبيغ به مرضه، أبدا، أبدا! لا يُوجد، يوم وليلة! قال كأنما حُقن الصبي بسُم قاتل. كأن واحدا أعطاه حُقنة سُم، مات. فانصدم صدمة كبيرة!
مما أحسن فيه عالم الدين والأديب كينجسلي Kingsley، أنه بعث له رسالة جميلة! آية من آيات الله! لأنه أديب، في التعزية. عزاه، وواساه، وكذا. فرد عليه. ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould أخذ من هذا الرد أن توماس هكسلي Thomas Huxley كان يقول بالانفصال بين الدين والعلم. لماذا؟
قال له أنا كان يُسعدني هذا، وأنا – انظر – في قمة الشعور بال Grief الآن! أي بالثُكل والفقد، قمة شعوري بهذا الثُكل! أكثر ما يُسعدني أنني أتقبل كلامك هذا، وأشعر أن ابني ذهب إلى مكان ما ينتظرني، وأنني سألتقي به في يوم من الأيام.
على فكرة، هذا – كيف أقول لك هذا؟ – مطلب بشري عميق فينا. أذكر قبل فترة أنني أيضا كنت أقرأ في كتاب أجنبي، يتحدث فيه الكاتب ويقول قام فيلسوف مُلحد، وجعل يتكلم عن فناء النفس، وأن بمُجرد أن تموت، ينتهي كل شيء! يفنى البدن، ويفنى معه كل شيء، بما فيها ما يُسمى بالنفس، وكذا!
فقام له شاب بعد ذلك، وكان مألوما جدا، قال له يا سيدي، أرجوك، أرجوك لا بُد أن تُلاحظ هذا. أُلاحظ ماذا يا ابني؟ قال له أخي مات قبل شهرين. قال له نعم. قال له أمي، هذا يُحطمها.
قال له هذا الحديث يُحطم أمي. أي الذي جعل أمي تتماسك إلى الآن اعتقادها أنها سترد على ابنها في يوم من الأيام قريب – إن شاء الله -. تموت، وترى ابنها. فقال له مثل هذا الكلام يُحطمنا. فصُعق الفيلسوف، مسكين! حس أنه يُوجد شيء لا إنساني هنا، في مثل هذه الأفكار. طبعا! هكذا تُحطم الناس.
لكن هكسلي Huxley عالم كبير، وعقل ذكي جدا! قال له أنا كنت أود هذا، وأنا أحوج ما أكون إليه! لكنني رجل علم. انظر، نزيه! العلماء والملاحدة يعتزون كثيرا بتوماس هكسلي Thomas Huxley!
قال لك الرجل هذا كان عنده نزاهة حقيقية. هو ليس إنسانا مُعاندا ولا مُكابرا، لكنه كان صادقا مع نفسه. قال لك أنا كنت أتمنى! أتمنى! وطبعا لو تقرأ كيف عبّر عن ألمه، تجد شيئا لا يُصدق! أنت تبكي، وأنت تقرأ له! كيف كان يتألم؟ شيء لا يُصدق!
المُهم، ومع ذلك قال له أنا لا أستطيع أن أُكيّف الحقائق، التي يدين بها عقلي، مع الآمال التي تتطلع إليها نفسي! بل يجب علي كعالم ومُفكر أن أفعل العكس دائما! مهما كان هذا العكس أو الضد مُكلفا ومؤلما ومُحبطا، على أنني أشكر لك من أعماق قلبي هذه التعزية الصادقة، وأمه تشكر لك. وكذا، كذا!
ثم قال وأما قضية الخلود، فاسمح لي يا سيدي أن أقول لك ليس لدي، ليس لدي من الحقائق والبيانات، ما يجعلني أقطع بأن النفس غير خالدة، لكن في الطرف الآخر ليس لدي ما يجعلني أقطع أنها خالدة! ولذلك هو على فكرة أول مَن صك مُصطلح Agnostic!
Gnostic؛ غنوصي، أي يعرف. Agnostic؛ هذه A للنفي Negation. توماس هكسلي Thomas Huxley هو أول مَن وضع هذا المُصطلح؛ Agnostic، ووصف به نفسه! قال لك أنا في الحقيقة، في الأخير، أنا إنسان لاأدري، لا أعرف! هل يُوجد خلود للنفس، أو لا يُوجد خلود؟ لا أعرف.
المُشكلة أن كانط Kant قبله أكد أن هذه واحدة من المسائل الثلاثة التي لا يُمكن للعقل البشري أن يقطع فيها، هو غير مؤهل! حتى لا أنسى؛ على فكرة كانط Kant صرح بأن مشروعه، همه في شُغله على مشروعه، كان ماذا؟ إنقاذ الدين. إنقاذ الدين! إذن كيف أنقذه؟
هو قال لك أنا أرى، حسب فلسفتي النقدية، التي اشتغلت عليها طيلة عُمري، وأكتبها وأنا في الستين – تقريبا -، في العقد السادس من عُمري، أن العقل غير مؤهل، غير مبني، غير مُبرمج، للتعامل، إلا مع الأشياء كما تبدو لنا، ضمن قوالب. هو سماها Kategorien! أي هذه هي المقولات، الفئات! ضمن قوالب؛ اثني عشر قالبا، مع قيد الزمان والمكان.
قصة! فلسفته مُعقدة وكبيرة ورهيبة، وأثرت تأثيرا هائلا! إلى اليوم التأثيرات الكانطية بصراحة! في المثالية الألمانية أثرت، ثم في المثالية المُطلقة الإنجليزية، عند برادلي Bradley، وعند بوزانكيت Bosanquet، وحتى في أمريكا وصلت إلى بعض المُفكرين!
أى يُوجد طبعا الفيلسوف جوزيه رويس Josiah Royce، لكن هناك مُفكرون ليسوا فلاسفة، مثل رالف والدو إمرسون Ralph Waldo Emerson، أثرت فيه كثيرا! أثرت في توماس كارليل Thomas Carlyle في إنجلترا. الكانطية رهيبة! وإلى اليوم الكانطية موجودة ومنها فروع كثيرة!
فكانط Kant قال لك العقل، بتركيبه، ببنيته، بلياقاته، لا يستطيع إلا أن يتعامل مع ال Phenomena! التي هي الأشياء في ظاهرها! Phenomena؛ جمع هذه. Phenomenon؛ المُفرد. جمعها؛ Phenomena. الأشياء في ظاهرها! كما تبدو لنا. أما الأشياء في ذاتها، فتختلف.
على فكرة، هل يكون كانط Kant هنا تأثر بجورج بيركلي George Berkeley؟ لا أستذكر أنني قرأت مَن اقترح هذا، لكن يا أخي واضح! جورج بيركلي George Berkeley خُلاصة فلسفته، الآن أستذكرها، أنه يقول لك كل ما نناله، من موجودات العالم، كيفيات حسية.
اللون كيفية حسية! الحجم حتى عنده، والوزن، والملمس، والرائحة، والطعم، وكله شيء كيفيات، هي كلها كيفيات حسية. ولذلك لا يُوجد في العالم حقيقة إلا هذه الكيفيات، ولكن هذه الكيفيات لا معنى لها أو غير موجودة إلا في عقل الذي يُدركها.
لذلك لخّص فلسفته أو تُلخّص بقول ماذا؟ أن يُوجد، أن يُدرك. معناها إذا لم يُدرك، فهو غير موجود. أي كأنه يقول لك العالم كله فكرة، الوجود كله فكرة. لا إله إلا الله! في ذهن مُفتكر، في ذهن واع. طبعا يحتج بعض مَن لم يفهم الفلسفة، ويتعجل في نقدها! وهم يظنون أنها سهلة على فكرة! وهو كتب مُجلدات في تبريرها، وفلسفة عظيمة! وطبعا هو كان رجل دين. ورد على مَن هو؟ رد على توماس هوبز Thomas Hobbes.
توماس هوبز Thomas Hobbes ادّعى أنه مؤمن، وطبعا شكك حتى بيركلي Berkeley في إيمانه. قال لك أنا مؤمن، لكن فيلسوف آلي. قال لك الحياة آلية، الجسم البشري يُفسر آليا، المُخ آلة، العضلات آلة، القلب هذا عضلة آلية. كله آلات، آلات، آلات! كان آليا بشكل غير طبيعي!
وعلى فكرة توماس هوبز Thomas Hobbes ليس فيلسوفا كبيرا، لا! هو فيلسوف سياسي، لكنه ليس فيلسوفا ميتافيزيقيا ذا وزن بالمرة عند الفلاسفة، بخلاف بيركلي Berkeley.
بيركلي Berkeley مُذهل على فكرة! لكن أيضا أثره قليل جدا؛ لأنه كان فيلسوفا واحدا، لم يكن له مدرسة، لم يكن له تلاميذ، مثل الكانطية، أو حتى مثل هيجل Hegel، وحده! عاش وحده، ومات وحده، وانتهى كل شيء! وفلسفته مُغرقة في المثالية.
المثالية ليس معناها الخيالية، لكي نفهم! المثالية معناها أن حقيقة العالم، حتى العالم الطبيعي، عقل أكثر منه مادة. هذه المثالية! فقط. أرأيت؟ فعلى كل حال، نرجع:
فقال لك أن يُوجد معناه أن يُدرك. سوف تقول لي إذن انتهى، هذه معناها، فماذا إذا أدرت ظهري أنا للقمر مثلا، أو أشحت بوجهي عن القمر – أنا الآن أراه، أُدركه، فهو موجود -؟ سوف يقول لك هناك مليارات غيرك يُدركونه! ماذا لو لم يُوجد ينظر إليه أحد؟
دع القمر يا سيدي. القلم الذي تركته على مكتبي، ومفتاح مكتبي في جيبي، بل كل ما في مكتبي من أقلام وأوراق وكُتب ومكاتب، وكله، كله، كله! كل ما فيه من موجودات، هذه موجودة طالما أنا أُدركها، إذن حين أخرج، وأُغلق كل شيء، ولا يُوجد عين تتبصبص عليها، ولا عين كاميرا Camera، هلا تعود موجودة؟ قال لك بلى. لماذا؟ قال لك في عقل الله. هو هذا! فلسفة رهيبة وجميلة! وعلى فكرة ليس من السهل نقضه، حين تتعمق فيها، Oh!
لماذا لا يكون – اقتراح لا بُد أن يشتغل عليه أحد – جورج بيركلي George Berkeley أحد الروافد التي أثرت في كانط Kant؟ لأن ما المُشترك بينهما؟ جورج بيركلي George Berkeley قال لك كل ما تُدركه كيفيات. والكيفيات كلها تتعلق بالجانب المحسوس، أليس كذلك؟ بالجانب ال Apparent؛ الظاهر. كانط Kant قال بهذا، لكن ليس فقط الظواهر، لا! الظواهر ضمن المقولات العقلية، في إطار الزمان والمكان.
أما الشيء في ذاته، فيختلف. ليس ال Phenomena، لا! ال Noumena الآن، الشيء في ذاته، هو في ذاته، من وراء كل هذه الأشياء التي تُنال بالحس وبمقولات العقل! ما هو؟ قال لك لا يُمكن أن نصل إليه، وليس لنا طريقة لإصابته. ولا يُمكن – قال -، لا يُوجد عندنا هذا.
لكن انتبه، لم تنته قصة كانط Kant هنا، استمر طبعا! قال لك الأشياء في ذاتها، يبدو أن حدوسنا – ال Intuitions -؛ حدوسنا الدينية، هي المؤهلة أن تتعاطى معها. لذلك كانط Kant مؤمن بالله، لم يُلحد، هو مؤمن بالله. عجيب! ويعتبر أنه قدم خدمة للدين، تعرفون لماذا؟
أنا قلت لكم، ولم أُكمل، هذا الرجل أعمق مَن أدرك النزاع في أبعد أغواره بين العلم والدين. عرف أن النزاع ليس بين نظرية ومقولة لاهوتية، لا! ليس تأويل نص لكي يتوافق أو يصطرع مع ظاهرة فلكية أو حسابية أو بيولوجية، أبدا!
في ماذا إذن؟ في الموقف من العالم كله. أي قضية الإبستمولوجيا والأنطولوجيا طبعا. منهج التفكير، ثم بعد ذلك تأتي ماذا؟ الأفكار الميتافيزيقية والأنطولوجية. قال لك صار هناك نوع من الانفصال، بين هذه الصورة وبين هذه الصورة! ماذا سوف نعمل؟
لذلك اشتغل شُغلا جبارا، أي كانط Kant، Oh! عقله جبار، وشُغله جبار! وعلى فكرة هو عنده مساع علمية، عنده إسهامات في الجيولوجيا، وإسهامات في الفلك، والنظرية السديمية، وكذا! وشُغل كثير! قبل المرحلة النقدية على فكرة، يُسمونها PräKritischen Periode بالألماني.
قبل ال Periode هذه كان عنده شُغل علمي مُذهل! كانط Kant! طيلة حياته! وبعض نظرياته ظلت صحيحة إلى حد ما، تخيل! بعد ذلك توفر بالكامل على العمل النقدي هذا، الذي أعطاه حُشاشة حياته وذوب فؤاده.
فالرجل كان نيوتنيا، يؤمن بالفيزياء النيوتنية، ويرى أن نيوتن Newton من أعظم العقول البشرية على الإطلاق، ويرى أن فيزياءه كاملة. مثلما المنطق الأرسطي هكذا هو كامل، الفيزياء النيوتنية كاملة. يقول لك! إذن وماذا بعد؟ قال لك أنا الآن عندي حل، العلم يكون به صحيحا مئة في المئة، والدين يكون صحيحا مئة في المئة.
سوف تقول لي معناها لا بُد من احتساب كانط Kant على نموذج الانفصال. بالضبط! كانط Kant من الانفصاليين. الدين صحيح، لكن في مجاله، وخطير مجاله! هو المجال الذي وصفه فريمان دايسون Freeman Dyson بأنه الغامض، الشيء الغامض في الوجود، الذي العلم ليس له علاقة به!
الغامض يتعاطى مع ماذا؟ الدين. أي الشيء العميق، الذي تحت، في الأعماق. ونحن نُريد الأعماق، بصراحة! لأن هذه هي جوهرنا وحقيقتنا وآمالنا وأخلاقنا وقيمنا، في الأعماق، ليس في السطح، ليس في الجلد هذا!
قال لك الحدوس الدينية هي الصالحة أن تتعامل مع الأشياء في ذاتها. لكن حدوس طبعا، لا تقل لي عندي بُرهان عقلي على كذا. قال لك لا تقل هذا، لا يُوجد. Oh! خطير! لا تقل لي بُرهان عقلي على وجود الله، بُرهان عقلي على النبوة، على الملائكة. لا يُوجد، لا يُوجد! قال لك لا، لا يُوجد! هي حدوس.
وواضح أن الكانطية ألقت بظلالها على اللاهوت البروتستانتي الليبرالي؛ ال Liberal Protestant theology، طبعا! لماذا؟ لأن اللاهوت البروتستانتي الليبرالي، بل حتى بصراحة الأرثوذكسية الجديدة البروتستانتية، فيها هذا، كارل بارث Karl Barth!
الذي درس اللاهوت الغربي، يعرف مَن كارل بارث Karl Barth. كارل بارث Karl Barth يُقال إنه أعظم شخصية لاهوتية بعد توما الأكويني Thomas Aquinas. كارل بارث Karl Barth!
كارل بارث Karl Barth هو العميد الكبير ل Protestant Neo-orthodoxy؛ الأرثوذكسية الجديدة البروتستانتية. كل هؤلاء مع اللاهوت الليبرالي عموما بمدارسه المُختلفة، في آخر القرن التاسع عشر، كلهم أنا أعتقد أيضا استبطنوا كانط Kant، أو جُزءا من كانط Kant.
هكذا الفكر يشتغل! لماذا؟ لأن هؤلاء آمنوا بأن الإيمان لا يعتمد على أي نوع من منهجية علمية، أو حتى منهجية منطقية. السُلطة العلمية تكمن في شيئين على فكرة، هكذا تبدأ الأمور تتوضح!
السُلطة العلمية، أي سُلطة العلم، من أين يُبرر وبماذا يُبرر العلم سُلطته وسُلطانه؟ السُلطة العلمية تُبرر بأمرين: التماسك Coherence، ال Logical coherence؛ يُسمونه التماسك المنطقي، Logical coherence! والمسألة الثانية؟ الكفاية الاختبارية Experimental adequacy. يقول لك adequate – inadequate؛ كاف – غير كاف. Adequacy الكفاية. الكفاية الاختبارية!
هذا العلم! ليس له علاقة بالدين، بالمرة! هذا في رأي مَن؟ في رأي الأرثوذكسية الجديدة البروتستانتية. كارل بارث Karl Barth! قال لك بالنسبة للدين سُلطته النص المُوحى من عند الله. أي ال Revealed هذا، الحقيقة الموحاة. نعم، وماذا بعد؟ ومعياره ومنهجه واختباريته، كيف تتم؟ تتم بشيء سماه هو ال Divine initiative؛ المُبادرة الإلهية.
بمعنى – سُبحان الله! هذا القرآن حتى فيه جذور لهذه النظرية – أنك تُريد أن تهتدي؟ تُحب أن تهتدي؟ الله يجذبك إليه، يأتي بك. لا إله إلا الله! يأتي بك. ذاك الثاني لا يُريد أن يهتدي، ولو كان أكبر فيلسوف، أكبر منطيق، أكبر عالم في الدنيا، ولن يهتدي! لأن القضية الدينية ليست منطقا وليست علما، لا! مُبادرة إلهية، إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ *…حَتَّى يُغَيِّرُواْ *…
سوف تقول لي عجيب! وهذه ال Initiative، هذه المُبارة الإلهية – ها أنت تقول لي مُبادرة إلهية – اعتسافية – أي Arbitrary هكذا – وضربة عمياء؟ لا. أبدا. قال لك! وسُبحان الله! هنا كارل بارث Karl Barth يتفق مع القرآن. قال لك بحسب قصدك أنت! أنت عندك رغبة؟ أي تُمارس أو يُمارس القلق دوره عليك، والحيرة تطحنك، ولا تعرف أين الطريق، وتُحب أن تعرف؟ صف النية، صف النية! استحضر هذا العزم الحقيقي، تأت المُبادرة الإلهية.
أصبح هناك فعلا نوع من حيزين مُتمايزين؛ حيز علمي، وحيز ديني. الكانطية حاضرة هنا على فكرة! لم أجد مَن سبقني إلى مُلاحظة هذا الشيء، لكن الآن أنا لاحظته وأنا أتكلم، الكانطية حاضرة بقوة، لا إله إلا الله! حاضرة بقوة. مثلما حضرت الرومانسية! وهذه ليست فكرتي الآن، هذه فكرة ستيس Stace.
ستيس Stace الوحيد تقريبا أو أول مَن اقترح أن مؤسس الرومانسية هو إيمانويل كانط Immanuel Kant! ماذا؟ وطبعا الناس تقول لك مؤسس الرومانسية الشاعر الإنجليزي العظيم ويليام ووردزوورث William Wordsworth. ووردزوورث Wordsworth هو مؤسس الرومانسية! مع كولريدج Coleridge، صاحبه. هما أول مَن دشناها!
طبعا ما الرومانسية في الأخير؟ الرومانسية كما عرفها أيضا ستيس Stace: قال عندها تعريفات كثيرة، ومن المُصطلحات الغامضة جدا جدا جدا! قال في فهمي أنا الرومانسية أُلخصها بجُملة واحدة؛ هي رؤية العُمق والباطن دائما، تحت وخلف كل ظاهر.
كانط Kant معناها! صح! ال Noumenon وال Phenomenon، مضبوط! صح! فقال لك أنا هكذا – هذا ستيس Stace – فهمت أن المؤسس الحقيقي للرومانسية كانط Kant. وفعلا أتى بأمثله في كتابه هذا، وموجود الكتاب حتى على النت Net مجانا، يُمكن أن تقرأوه وتتمتعوا به، سوف تستفيدون منه كثيرا! وجميل! يُمكن أن تنتهوا منه في جلسة واحدة؛ لأنه سهل، سلس!
أتى بمقاطع من ووردزوورث Wordsworth، ومن بيرسي شيلى Percy Shelley، وربما من تنيسون Tennyson، من الثلاثة هؤلاء، وكلها تدور على نفس الشيء! فعلا الشعر الرومانسي دائما يؤشر إلى الما وراء، والما تحت الأعماق، الأشياء في ذاتها. فالروح الكانطية أيضا حاضرة! فقال لك هذا تأثير كانط Kant.
أُريد الآن فيما تبقى من وقت المُحاضرة أن أسأل سؤالين. طبعا للأسف قبل أيضا أن أسأل السؤال، لا بُد أن أذكر لكم أن الانفصال أخذ وجهات مُختلفة! تبريره وتسويغه أخذ وجهات مُختلفة!
منهم – الآن شرحت هذا، لن أعود له، لكن هذا مُختزل كثيرا، يُمكن أن تتوسعوا فيه، في الدراسات المُخصصة له – أن الأرثوذكسية الجديدة البروتستانتية وكارل بارث Karl Barth رأوا أن المسعى العلمي غير المسعى الديني، تماما!
إذن ما موقع النص المُقدس؟ هنا الجراءة! كارل بارث Karl Barth قال النص المُقدس من جهة تفسيراته لا ينبغي أن تُعد معصومة. لا يُوجد تفسير معصوم. سوف تقول لي هذا طبيعي!
لا، غير طبيعي؛ لأن بيوس التاسع Pius IX، ربما ألف وثمانمائة وتسع وستين – على ما أذكر -، جمّع الكرادلة الذين عنده في الفاتيكان، وأخذ منهم بالأغلبية إقرارا بشيء يُسمونه العصمة الباباوية؛ ال Papal infallibility! أن البابا لا يُخطئ، البابا إذا فسر تفسيرا، فهو معصوم، إذا اجتهد اجتهادا، فهو معصوم. ولأول مرة، وكانت كارثة! لكن الحمد لله، مَن تلاه بعد ذلك، وخاصة في القرن العشرين، نقضوا هذا المبدأ بالكامل، واعتبروه أشبه حتى بالهرطقة، أي كلام فارغ! عصمة باباوية؟ لا يُوجد الكلام هذا.
فبالنسبة لكارل بارث Karl Barth ومدرسته، قال لك لا تُوجد عصمة. كأنهم يُشيرون إلى ماذا؟ إلى العصمة الباباوية. لا تُوجد عصمة! حتى البابا يبقى بشرا، يجتهد ويقول. رجعنا إلى مبدأ غاليليو Galileo في التواضع التأويلي.
فهذا مُهم جدا على فكرة! أن في الأخير كل قول لك إلى جانب النص، هو هامش على النص. أليس كذلك؟ تهميش، شرح، تفسير، تأويل، غير معصوم! مهما كان يبدو لك دقيقا ومُحكما وما إلى ذلك، يبقى مُحتملا للخطأ، أليس كذلك؟
سوف تقول لي هذا مبدأ إسلامي، معمول به عندنا من قديم. صحيح، الحمد لله، عندهم لا، أي لم يكن هكذا دائما الوضع. فقال هذا مُهم. الأهم منه والأكثر جراءة؛ إذن الكتاب المُقدس بما هو، يُمكن أن يحتوي على أخطاء؟ قال لك يُمكن. جراءة رهيبة! كيف؟ دخلنا في ال Blasphemy! تجديف هنا عنده!
قال لك يا سيدي دعونا نكون واضحين مع أنفسنا وصادقين! الكتاب – وعلى فكرة أنا ذكرت هذا في مُحاضرة سابقة – أو مفهوم الوحي؛ ال Revelation، عند النصارى أو المسيحيين، ليس مثل مفهوم الوحي عند المسلمين، على الأقل الفرق الأساسي واضح!
الذي يُحب أن يقع على دراسة مُتكاملة عن الفروقات بين الوحي الإسلامي والوحي المسيحي، فليعد إلى كتاب – تقريبا مُعظم الكتاب عن هذا – الإسلام والمسيحية في العالم المُعاصر، مونتغمري واط Montgomery Watt! والحمد لله تُرجم هذا الكتاب، موجود بالإنجليزية وتُرجم.
تسعون في المئة من هذا الكتاب عن مفهوم الوحي في المسيحية والإسلام وتأثيراته في التاريخ وما إلى ذلك، شيء رهيب! دراسة مُتكاملة، جميل! مونتغمري واط Montgomery Watt.
لا علينا، ففي الحيز الإسلامي، في الفضاء الإسلامي، الوحي لفظا ومعنى، أليس كذلك؟ طبعا! الوحي الإلهي طبعا لفظا ومعنى، عندهم لا! المعنى والمعنى الأساسي الجوهري المُراد للخلاص وكذا، هو هذا! المعاني الهامشية والجانبية والاستشهادية والمُساعدة عادية، هذه أي كلام، يُتساهل فيها، والوحي الإلهي نفسه أصلا يُمكن ألا يعصم الكتبة هؤلاء، والحواريين وغيرهم، لا يعصمهم، ويغلطون.
قال في نهاية المطاف لأن هؤلاء الذين كتبوا هذا الوحي الإلهي هم أبناء عصرهم وبيئتهم وثقافاتهم، وكانوا يصدرون عنها، يُفرغون عنها! فلا شك سيُوجد في بعض الكتاب المُقدس أخطاء! تاريخية، جغرافية، فلكية، حسابية، طبعا!
أي بالله عليك الآن في الكتاب المُقدس حبة الخردل، يقول لك أصغر حبة! لا يُوجد ما هو أصغر منها! القرآن الحمد لله لم يقع في الخطأ هذا، قال لك وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ *. لا! أليس كذلك؟ يُوجد، يُوجد أشياء أصغر. وأين هي؟ الله أعلم طبعا. أين الأصغر؟ امش مع الأصغر، إلى ما لا يعلمه إلا الله.
في الكتاب المُقدس أصغر الحبوب الخردل. كلام فارغ، هيا، ها هو علم النبات أبطل لنا هذا. في الكتاب المُقدس أن مثلا الأرنب حيوان مُجتر. لا، اتضح أنه ليس مُجترا! كانوا يظنون أنه مُجتر، لكن هو ليس مُجترا، ليس حيوانا مُجترا. خطأ!
قال أخطاء مثل هذه تقع. قال ليس عندنا مُشكلة، وليس على الوحي الإلهي معرة منها. هذه أخطاء الكتّاب نفسهم، لما كتبوا، هذه ثقافتهم. ففتح الباب هذا كارل بارث Karl Barth! مع أنها أرثوذكسية! أرثوذكسية جديدة بروتستانتية! قال لك ومع ذلك هذا يحصل. عادي! لا بُد أن نكون مُتواضعين.
لذلك هؤلاء سيُعطون مجالا أكبر للعلم في هذه النواحي، أن يقول كلمته. العلم، ليس الكتاب المُقدس! الكتاب المُقدس ليس معهم، وهو قال لك الكتاب المُقدس غير مُنشغل أصلا بالعالم وبالطبيعة. ليس هذا اشتغاله! اشتغاله بأشخاص وبشعوب. ببني إسرائيل مثلا. تخيل! بموسى، بعيسى. أي يشتغل على أُناس، لا يشتغل على الطبيعة، الطبيعة ليست هي شُغله.
هذه كلها بعض مبادئ الأرثوذكسية الجديدة البروتستانتية، وهذه مُقاربة! يُوجد عندنا مُقاربة ثانية. طبعا هذا الكلام كله سيصير مُختزلا، ومؤلف فيه دراسات وكتب! نظرية يُسمونها ماذا؟ نظرية اللُغتين. مُقاربة لُغوية، لينجوستية، أي لينجوستكية! كيف؟ انتبه!
يُوجد عندك الوضعية المنطقية. الوضعيون المناطقة طبعا أكثر واحد فيهم كان له وهج وإشعاع، وكان ذكيا وكسب الأنصار لها؛ ألفريد إير Alfred Ayer. اسمه ألفريد إير Alfred Ayer، هكذا يُلفظ: إير، وليس آير! ألفريد إير Alfred Ayer. ألفريد إير Alfred Ayer صاحب كتاب اللُغة والحقيقة والمنطق، مشهور جدا جدا جدا جدا!
الوضعية المنطقية باختصار – وأكيد عندكم إلمام بها، بشكل عام – تقول كل ما لا يُمكن التحقق منه ماديا طبيعيا، فهو كلام لا معنى له. يُسمونه فارغا! لا هو صحيح، ولا هو غلط. لا هو صدق، ولا هو كذب. (كلام فارغ يا زول) قولة الإخوة السودانيين! يقول لك كلام ساكت! (دغري). كيف هو كلام ساكت؟ نحن نقول كلام فارغ! أي نفس الشيء! لما تقول كلام فارغ! كيف هو كلام فارغ؟ نعم، كلام في الآخر ليس له مُحصل.
الوضعيون المناطقة قالوا لك مثل هذا! هذا يُسمونه مبدأ ماذا؟ ال Verification. تعرفون، هذا ال Verification الخاص بالوضعيين المناطقة، هو الذي بعث كارل بوبر Karl Popper البريطاني النمساوي على أن يعمل فلسفته كلها في موضوع القابلية للتزييف أو التكذيب! Falsifiability philosophy! لماذا؟
قال أنا الذي يشغلني عكس ما هم يعتقدون – أي الوضعيون المناطقة -. أنا لم يُشغلني أن موضوعا مُعينا يكون صحيحا أو غالطا، ليس هذا الذي يهمني. لماذا إذن؟ قال لأن كما يعلم الكل – اليوم ذكرت لكم هذا الشيء – قد تكون النتيجة صحيحة، والنظرية التي أوحت بها خاطئة. والنتيجة صحيحة! والتفسير صحيح! والفرضية خاطئة! والنظرية خاطئة! قال هذا يحصل، يحصل دائما. وصح! وسوف نأتي بأمثلة بعد قليل.
قال لذلك أنا صار همي في جهة ثانية. ما هو؟ أن أعرف الفرضية التي أمامي، أو النظرية التي أمامي، هل هي علمية بطبيعتها، أو غير علمية؟ ليس أنها صحيحة أو غالطة، لا يهمني هذا، ليس هذا هو الآن.
فعنده شُغل غير شُغل المنطقيين الوضعيين بالكامل! وهنا – سُبحان الله – ابتكر هو المبدأ التالي، أو بالأحرى هو لم يبتكره – قلت هذا في درس سابق، ونحن نُحب دائما أن ننصف الأشياء -، وإنما ابتكره كلود برنارد Claude Bernard.
كلود برنارد Claude Bernard، صاحب مُحاضرات في الطب التجريبي، هو أول مَن تكلم عن مبدأ القابلية للتزييف! Falsifiability! كلود برنارد Claude Bernard! لكن الذي بعج هذا وجعله عملا علميا وأخذ عليه الدكتوراة في حوالي سبعمائة صفحة كارل بوبر Karl Popper، شُغل! شُغل! منطق البحث العلمي، سماه منطق البحث العلمي! وصار تقريبا أشهر فيلسوف علم في القرن العشرين! صاحب مبدأ التكذيب، مبدأ التكذيب! الكل يتكلم عنه!
هناك أُناس حتى لا يفهمونه، هناك أُناس يظنون أن النظرية لا تكون نظرية علمية حتى تُختبر وكذا، لا! ليس هذا هو، لا! لأن يُمكن أن تُختبر ودائما تبقى عُرضة في يوم من الأيام لأن تُصبح باطلة أيضا! يجب أن تكون قابلة للاختبار أصلا!
فتُختبر، ويتضح أنها صحيحة: نظرية علمية. إذن تُختبر، ويتضح أنها باطلة: نظرية علمية باطلة. لأنها نظرية علمية! الذي جعلها علمية، وأعطاها طابع العلمية، ليس أنها صحيحة، أنها قابلة أن تُختبر. هل فهمت كيف؟
وضربت لكم أنا مثلا مرة، مثلا! يُوجد عالم باكستاني – للأسف الشديد! هذا كان المسؤول عن المشروع الذري لوكالة الطاقة الذرية الباكستانية، درويش! عالم فيزيائي كبير، لكن درويش – قال لك أنا عندي نظرية، وحسبتها وبالرياضيات! أقدر على أن أعرف – بعون الله تبارك وتعالى – الصلاة في الصف الأول كم يحضرها من الملائكة!
لا، Bye bye، لن أسمعك، وأنت رجل أهبل. لماذا؟ غير قابل هذا للتزييف، كيف سوف أعرف؟ سوف تأتي لي بمُعادلات مُعقدة وتكامليات وتفاضليات و…و…و…كيف فيما بعد؟ كيف؟ أي هيا، أرني الملائكة، هيا، كي نعدهم! أنت أهبل؟ هذه ليست نظرية، هذه بطبيعتها ليست كذلك. هنا شُغل كارل بوبر Karl Popper، فهمتم ما قصدت؟ هنا شُغل كارل بوبر Karl Popper. لا أقدر على أن أعرف.
لذلك كارل بوبر Karl Popper أخطأ في البداية، واعتبر نظرية التطور لتشارلز داروين Charles Darwin، إلى جانب التحليل النفسي، اعتبر أن هذه النظريات غير علمية. هذه أي شيء آخر! لكن ليس علما هذا، ليس علما.
كلامه إلى حد تقدر على أن تقول تام حتى صحيح، مع التحليل النفسي، صح! وليس صحيحا مع التطور، لذلك اعتذر عنه، بعد حوالي أربعين سنة، قال لا، كنت غلطان، التطور نظرية علمية. صحيحة أو غير صحيحة، لكن نظرية علمية، وقابلة للتكذيب.
كيف لا تكون قابلة للتكذيب يا حبيبي؟ قابليتها للتكذيب في عشرات الأشياء تبرز، أليس كذلك؟ في عشرات الأشياء، كما قلنا حفرية أرنب قبل الكامبري، هيا، تفضل! ائت لي في طبقة، Strata واحدة، طبقة أنزل – ليس بالانقلاب الجيولوجي، لم يصر انقلاب! هذا للذي يدرس علم الطبقات، هذا من غير انقلاب، في طبقة أنزل -، ائت لي بحياة أكثر تعقيدا، وفي الطبقة الأعلى حياة أكثر بساطة، خطيا. مُستحيل!
قابلة للتكذيب، كيف غير قابلة؟ أي قابلة حقيقة. وأشياء كثيرة جدا جدا! فاعتذر هو، وقال لا، غير صحيح، أنا أخطأت في حق نظرية التطور، وهي نظرية علمية. وهذا صحيح، لكي لا نظل نُدندن في القضية هذه.
فلا تقل لي أُريد أن أُثبت لك أن الصلاة في الصف الأول يحضرها عدد من الملائكة أكثر وكذا، كذا، كذا! قل لي النبي قال هذا، وسوف أقول لك على عيني ورأسي، آمنا، سمعنا وأطعنا، لكن لا تقل لي سأُثبت لك إياها بمُعادلة رياضية.
كلام فارغ هذا، هذا اسمه كذب، هذا علم اسمه علم مريض، علم عليل، علم زائف؛ Pseudo، أي شيء! خُرافة! لأنه غير قابل للتكذيب. كيف سوف أعرف؟ كيف سوف أختبر أنا؟
الآن أشرح لكم كيف هم الذين ألهموا كارل بوبر Karl Popper موضوع مبدأ التكذيب، القابلية للتكذيب! الآن تماما كارل بوبر Karl Popper يقف ضد المنطقيين الوضعيين، المناطقة الوضعيين! هم عندهم ال Verification، هو عنده التكذيب، ليس التحقيق! قال لك المعيار ليس التحقيق، لا! التكذيب، القابلية للتكذيب!
لأن في الأخير على فكرة معيار التحقيق، أول ما طرحه الوضعيون المناطقة – وحتى إير Ayer في كتابه الذي ذكرته -، كان سخيفا، ومن السهل نقضه، من السهل نقضه! فذهب وطوره إير Ayer في الطبعات اللاحقة، قال ليس لازما أن يكون تحقيقا مقدورا عليه في اللحظة والآن! من حيث المبدأ أن يكون تحقيقا مُمكنا! أي Possible. هل فهمت ما قصدت؟
بمعنى الآن هناك الوجه الآخر للقمر، الآن أنت يُمكن أن تدّعي أن على الوجه الآخر كذا وكذا وكذا! هذا غير قابل للتحقيق. نعم، غير قابل للتحقيق، بوسائلنا الحالية وظروفنا، لكن من حيث هو قابل أو غير قابل؟ قال لك قابل.
فزاد في مبدئه ألفريد إير Alfred Ayer، وقال لك نعم، قابلية تحقيق، ولو في لحظة ما. ليس شرطا اليوم! لكن من حيث هو قابل. جاء كارل بوبر Karl Popper، وقال لا، أنا لا يهمني التحقيق كله، أنا أُريد التزييف، عكس التحقيق.
أرأيت؟ لماذا أنا أحكي الكلام هذا؟ لكي أقول لكم إن الوضعية المنطقية للأسف الشديد هي بنت شرعية لديفيد هيوم David Hume. بصراحة ديفيد هيوم David Hume هو الأب الشرعي لكل الوضعيين. أليس عندك أوغست كونت Auguste Comte؟ أبوه الشرعي أيضا هيوم Hume.
الوضعيون المناطقة لا يُحبون أن ينتسبوا إلى أوغست كونت Auguste Comte، ويقولون لك لا، عيب، نحن شيء ثان، نحن مُختلفون عن كونت Comte وأعمق وكذا، وعندنا رياضيات وعندنا منطق وعندنا تحليل. حلو، حلو، حلو! لكن أنتم وضعيون! هؤلاء أيضا أبناء شرعيون لديفيد هيوم David Hume. كيف؟ قصة كبيرة! لكي تعرف أيضا التأثيرات.
ديفيد هيوم David Hume مَن الذي رد عليه؟ ابنه الروحي كانط Kant. لكن لم يكن وفيا له! قال لك هو أيقظني من سُباتي الدوجماطيقي. نعم، عقلية نقدية جبارة! لكن ديفيد هيوم David Hume يوصلك إلى اللاأدرية على الأقل، أو إلى الإلحاد. هو لم يعترف بأنه مُلحد، قال لك أنا شكوكي، عندي شكوكي! وخاصة في محاوراته الشهيرة جدا؛ محاورات في الدين الطبيعي، لمَن قرأه!
جاء كانط Kant، قال لا، أنا سأعمل ضد النموذج الهيومي، سأُثبت أن الدين عنده موضع في حياتنا. وعمل قصته هذه كلها! مثلما جورج بيركلي George Berkeley رد على مَن؟ رد على توماس هوبز Thomas Hobbes. وبالضبط! هكذا هو تاريخ الفكر دائما، سُبحان الله! موجات وكذا، وصراعات وأشياء، شيء جميل!
فنرجع الآن، فالوضعيون المناطقة قالوا لك أي عبارة – أي Statment، أي بيان كما يُسمونه، أو دعوى، أو كلام -، أي عبارة تقولها، إذا كان لا يُمكن التحقق منها ماديا، بحيث يكون التحقق هذا مُمكنا على الأقل من حيث المبدأ، فستكون عبارة فارغة، لا معنى لها.
أي سنقول لهم الله موجود. وسيقولون لنا عبارة فارغة، لا صحيحة ولا غالطة، لا معنى لها؛ لأن لا يُمكن التحقق منها! كيف؟ سوف نراه؟ سوف نسمعه؟ سوف نُسلم عليه؟ لا يُوجد. إذن انتهى، انس. الجن موجودون؛ عبارة فارغة. الملائكة موجودون؛ عبارة فارغة. الجنة والنار، الآخرة! شطبوا على الدين كله!
لماذا أنا قلت لكم هم الأبناء الشرعيون لديفيد هيوم David Hume؟ ديفيد هيوم David Hume كان يقول انظر، أي عبارة غير مُهمة، إذا لم تكن قابلة لأن تتحول إلى عمل تجريبي – Empirical، تراها، بالتجربة -، وليست تحصيلية – أي Tautology، مثل الرياضيات، اثنان زائد اثنين يُساوي أربعة، اثنان ضرب اثنين يُساوي أربعة، هذا تحصيل، لم نأت بشيء جديد، لا بُد وأن يكون صحيحا، هو هكذا -.
قال عندك العبارات التحصيلية، والقضايا التجريبية، صحيحة. وماذا بعد يا ديفيد هيوم David Hume؟ قال ما عدا ذلك أطعمه النار. عندي دين، عندي شعر، عندي كذا! خُذه وضعه في النار، كله! كله كلام فارغ هذا، سوف يخربط مُخك، وسوف يجعلك لا تفهم شيئا!
أعوذ بالله، مادي رهيب، شرس، وسخيف. الأمور أعمق من هذا بكثير يا سيد هيوم Hume، بكثير، بكثير! أرسطو Aristotle كان أذكى منك مليون مرة، والآن يُرد له الاعتبار – بفضل الله -.
المُهم، فالوضعيون المناطقة نفس الشيء! قال لك أي عبارة لا تكون كذلك فارغة. وماذا عن الأخلاقيات؟ تخيلوا أن كلمة القتل حرام عندهم فارغة! يقول لك هذه عبارة فارغة. ماذا؟ قال لك هذا هو! القتل مثلا بشع، القتل جريمة. يقول لك عبارات فارغة كلها هذه. ماذا؟ قال لك نحن لن نقول لكم اتركوا الأخلاق والقانون وكذا؛ لأن المُجتمع سوف يضيع، لكن هذه كلها عبارات غير منطقية.
إذن ما هي؟ قال لك هذه تُعبر عن حالة تفضيلية، حالة مشاعرية، بطبيعتها ليست عبارات وضعية علمية أصلا! لكن هيا، خذوها، العبوا بها، افرحوا بها، هكذا! لكن نحن لا نعتني بها، نعتبرها سخافات. خطيرون جدا!
للأسف حمل رايتهم طيلة حياته – ولا أعرف كيف ظل طيلة حياته هكذا! مع أنه ظهر عوار الوضعية المنطقية، وبسهولة يُمكن تفنيدها وكذا، وتخلى عنها كثير أو بعض أعلامها – للأسف زكي نجيب محمود – رحمة الله عليه -.
عاش ومات وهو يقول وضعية منطقية، وضعية منطقية، وضعية منطقية! وألف مُجلدين، وهو شاب: المنطق الوضعي، وظل إلى أن مات مع الوضعية المنطقية، وكان يرى أنها طوق النجاة للعالم العربي والإسلامي كما قال. لا، هذا كلام فارغ، (هجص) هذا! صار الآن علميا وفلسفيا كلاما فارغا أصلا.
الآن مَن الذين تصدوا للوضعية المنطقية في باب الدين وعلاقة الدين والعلم؟ التحليليون اللُغويون. اللاحقون للوضعيين المناطقة. قالوا لهم لا، اربعوا على أظلاعكم، خففوا من غلوائكم قليلا. دعوا هذه الغطرسة – قالوا لهم -، ما الكلام هذا؟ نحن نؤمن بما آل إليه تفكير العظيم لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein. صاحب رسالة منطقية!
فيتغنشتاين Wittgenstein في البداية كان مثلكم، وقريبا منكم – قريبا جدا من الوضعيين المناطقة -، لكنه في آخر حياته كان أكثر واقعية، وآمن بما سماه الألعاب اللُغوية. Language game؛ لُعبة لُغوية. قال نحن يُوجد عندنا عدة لُغات، انتبه! اللُغة العلمية شيء، واللُغة الدينية شيء تماما مُختلف! واللُغة العلمية لا يُمكن أن تسد مسد اللُغة الدينية، ولا بُد من اللُغة الدينية، ونحن مُضطرون إليها، واللُغة الفنية مطلوبة أيضا، واللُغة كذا. لُغات. قال! ألعاب لُغوية.
هذه نظرية مَن؟ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein! النمساوي العظيم، الذي قال عنه برتراند راسل Bertrand Russell مع عقله الضخم وغروره، قال لك هذا من أذكى مَن رأيت في حياتي! مع الفارق السني الذي بينهما! كان أصغر منه كثيرا فيتغنشتاين Wittgenstein، وفيتغنشتاين Wittgenstein طبعا نمساوي، وكان مُهندسا، لكنه عقل جبار بلا شك!
قال هذا من أذكى العقول التي صادفتها في حياتي! قال مُذهل! فيتغنشتاين Wittgenstein ليس سهلا بالمرة! في الأخير – سُبحان الله – انعطف انعطافة جاءت لصالح الطرح الديني، من هذه الزاوية طبعا، وهو ليس له علاقة بالدين. قال لك لا، تُوجد ألعاب لُغوية.
لئلا أُطوّل عليكم، وتُوجد دراسات كثيرة، أرجع إلى مُحاكمة أركنسو، التي كان شاهدا فيها لجهة الثيولوجيا والفكر الفلسفي ورسالة العلم مُفكر أمريكي بارز كبير، اسمه لانغدون غيلكي Langdon Gilkey.
غيلكي Gilkey قدم مُساهمة في شهادته – ال Testimony الخاصة به – من أجمل ما يكون! وثقها في كتبه. أنا قرأتها في كتبه في الحقيقة، ليس في محاضر المحكمة، في كتبه، ومطبوعة بالإنجليزية.
ماذا قال؟ أولا اللُغة العلمية تقوم بتوصيف العالم الطبيعي الظاهري الخارجي! الذي من المفروض أن يكون Objective، أي موضوعي، وحده! دعني من المثالية، ودعني من بيركلي Berkeley وكذا، العالم موجود، موجود! هناك عالم، انتهينا.
العلم يتعاطى مع هذا العالم الخارجي الموجود، سواء ذهبت إليه أو لم تذهب إليه. اللُغة الدينية تتعاطى مع الباطن، والجواني. بطبيعتها هي هكذا! الخبرة الخاصة بك الدينية، الشخصية! هذا أولا.
ثانيا – ذكرت أنا هذا قُبيل قليل، هذا تعبير غيلكي Gilkey، قال هذا – أساس السُلطة العلمية، ما هو؟ الاتساق المنطقي، والكفاية – ال Adequacy؛ الكفاية – الاختبارية أو التجريبية – Experimental adequacy -. أساس السُلطة الدينية الله والوحي.
واختبار الأولى يتم بمعايير علمية! من ضمنها معيار التحقق، معيار التزييف لبوبر Popper، ومعايير أُخرى كثيرة على فكرة في العلم. وأما اختبار الديني، كيف يتم؟ عبر التجربة الشخصية. تجربتك الشخصية! لا تقدر على أن تُلزم بها غيرك، ولا يقدر غيرك على أن يُقنعك بأن هذا الكلام غير صحيح. كيف غير صحيح؟ أنا عشت هذه التجربة! فكيف لما تكون تجربة روحية حقيقية، عشتها وعايشتها واختبرتها؟
وهكذا بدأ يُعدد! تخيل! هذا العلم، هذا الدين. هذا العلم، هذا الدين. قال وكان ذلك تكتيكا ناجحا جدا! لأنني لم أشأ لا أن أُهاجم الدين في نطق مُحددة، ولا أن أنصر في نطق مُحددة. أردت فقط أن أُثبت للقاضي أن الخطاب الديني بطبيعته مُتميز تماما ومُنفصل عن الخطاب العلمي.
واقتنع القاضي في أركنسو، وألغوا القانون؛ ال Equal time law. قال لك لا يُوجد وقت مُتساو، ما عُدنا نُدرس علم الخلقوية – Science of creation هذا -، بنفس عدد الساعات التي تُعطى للتطور، لن نُعطيهم ولا ساعة! فقط التطور نعم، علم الخلق لا. فاز غيلكي Gilkey! لأنه استخدم موضوع اللُغتين؛ عندك اللُغة الدينية، وعندك اللُغة العلمية. وكل لُغة تشتغل في مكانها.
هنا يُوجد عندنا شيء وحيد مُزعج قليلا! أن في بعض المرات يكون النص الديني واضحا، بصدد ماذا؟ بصدد قضايا طبيعية! العالم المحسوس. الدين يقول كذا، كذا. هنا طبعا الليبراليون البروتستانت، الكاثوليك في مُعظمهم على الإطلاق، قالوا لك لا بأس، علينا أن ننحو منحى التفسير الرمزي!
نقول هذه رموز، الرب لم يشأ أن تؤخذ بظواهرها وكما هي، هذه مُجرد رموز، وتقريبات، لا أكثر ولا وأقل! وهكذا نعمل ماذا؟ نعمل نوعا من المواءمة الحديثة. غاليليو Galileo تحدث عن ماذا؟ عن مواءمة الوحي نفسه، الرب – عز وجل – رعاها واصطنعها في عصر النزول، أليس كذلك؟
فعندنا مُقاربة اللُغتين. هذا اختزال، أي مُشوه حتى لهما، لكن هذا؛ لأن هناك أُناسا قدّموا حتى أيضا مُصطلحات أُخرى. أي أحدهم قدّم مُصطلح وجهة النظر – أنا سميتها من عندي هكذا – القضوية. هناك أُناس قالوا لك الافتراضية. لا يا أخي، القضوية. Propositional view!
وجهة النظر القضوية في موضوع التحليل اللُغوي للخطاب الديني في السياق اللاهوتي الغربي ما معناها؟ هذه عكس وجهة النظر التعبيرية Expressive view، عكسها تماما! نحن مُنحازون طبعا للتعبيرية، ضد القضوية.
القضوية من قضية، Proposition معناها قضية في المنطق، Proposition! قال لك إن الخطاب الديني، النص الإلهي، لما يقول في أي شيء ويتكلم، يتكلم عن حقائق، وحقائق كما هي، وليس مجازات، وليس تشبيهات، وليس تقريبات، حقائق! هو هكذا! هذه وجهة مُتزمتة، وهذه لا توافق ملف الفصل، ولا ملف حتى التوفيق بين الدين والعلم، مُشكلة كبيرة!
في مُقابلها تقف وجهة النظر التعبيرية؛ ال Expressive view، تقول لك لا، الخطاب الإلهي لما يتكلم، يتكلم بلُغة تقريبية، ولُغة مجازية، ولُغة تشبيهية. أنت خُذ الجوهر والخُلاصة، ولا تقف مع الحروف.
لذلك – سُبحان الله العظيم – إين بربر Ian Barbour في أول كتابه عن الدين في عصر علمي، لاحظ أن المُشكلة تأتي من الطرفين؛ من طرف الطبيعانية العلمية – هو سماها Scientific materialism، الطبيعانية أو المادية، المذهب المادي العلمي، هكذا سماها -، ومن الحرفية الكتابية! ال Biblical literalism! حرفية! خُذ الشيء بحرفه، هو هكذا، لا يُوجد مجاز!
قال كلا الطرفين يفشلان في رؤية الحدود. أين حدودك؟ ماش، قاطع، على الثاني هو! لأن الكتابي حرفي، يأخذ النص حرفيا! إذا أخذته حرفيا، فسوف تجد نفسك مُنخرطا – أي Involved؛ مُتورطا – في إطلاق دعاوى ذات طبيعة علمية! استنادا على ماذا؟ على نص كتابي ديني. أليس كذلك؟ مَن سوف يتصدى لك؟ العلم والعلماء! سوف يقولون لك هذا الكلام ليس صحيحا.
مثل ماذا؟ تقول لي هكذا بحسب النص، أو فهم النص، الأرض مخلوقة أربعة آلاف وأربع قبل الميلاد، فالآن عُمرها تقريبا ستة آلاف سنة، السلام عليكم. العلم يقول لك كلام فارغ، كلام فارغ! إذا كلامك هذا صحيح، فكل الفيزياء الإشعاعية والذرية غلط، ولا قنبلة ذرية ولا إشعاع ولا الساعة الذرية ولا كربون ١٤ وكربون كذا، كله سيتضح أنه غلط! وهذا ليس غلطا، هذا صحيح مئة في المئة، وبأدق مما تظن!
قال له ما الكلام الفارغ هذا الخاص بك؟ ما الذي ورطه؛ الكتابي؟ الحرفية! أخذ بالحرف. مثلا! أليس كذلك؟ مُشكلة! حتى في موضوع ال Seed هذه، وحبة الخردل، أنها أصغر الحبات، هو سوف يأتي لك بألف نوع من الحبوب أصغر منها بكثير، وتراها بعينك أنت! فانتهى، قل مثلما قال كارل بارث Karl Barth، أي هذا بحسب الثقافة الخاصة بهم، وهذه كانت أصغر حبة عندهم، في ذلك الوقت.
على فكرة القرآن يستخدم لفظة العالمين، أليس كذلك؟ في موارد مُعينة، يُريد بها كل ما عدا الله بشكل واضح. لذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *؛ رب السماوات، والأرض، والجن، والملائكة، وكله، كله، كله! والجنة، والنار، وكله! صح! قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ *، هذا تفسيرها! العالمون هي هذه.
وفي بعض المرات يستخدمها ليُعبّر بها عن ماذا؟ عن القبائل المُحيطة بنطاق مُعين! أي بنو إسرائيل يعيشون في فلسطين القديمة، القبائل التي حولهم، الله سماهم ماذا؟ العالمين. يُوجد هنا شيء غير طبيعي! ولذلك قوم لوط ماذا قالوا له؟ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ *.
ولا يُوجد أحد، إلا مهبولا، كان يظن أن قوم لوط كانوا يغتصبون الرجال من العالم كله، أو حتى من العوالم، أي من الشمس والقمر، من العالمين، لا! انس، انس! المقصود بـ الْعَالَمِينَ * هنا ماذا؟ القرى المُجاورة لسدوم وعمورة، فقط! ولم يكن يُوجد أيامها اكتشاف عالم جديد، ولا تُوجد علاقة بالصين، ولا علاقة كل هذا، انس، انس! لم يكن هناك تواصل أصلا! فهذا المقصود بـ الْعَالَمِينَ *.
لماذا القرآن يفعل هذا؟ يُريد أن يعكس لك – سُبحان الله – الفكرة التي مرة عبّر عنها هنري برجسون Henri Bergson! قال لك بإن الإنسان في المُجتمعات البسيطة المُغلقة، غير المُنفتحة، حدود الكون عنده دائما ضيقة. حدود الثقافة والمُجتمع ضيقة! كله ضيق، كل شيء ضيق عنده، أليس كذلك؟
لذلك أنا يلذ لي كثيرا أن أرى استهجان بعض الناس لأشياء هي في ذاتها ليست هُجنة، وليست عيبا، وليست معرة، فقط لأنها غير معروفة في تقليدهم أو في عاداتهم! فيضحكون هكذا ضحكة فيها نوع من السُخرية والعُنجهية! أي كيف يلبس هذا؟ ما هذا؟ هذا اللباس! أي ما المُشكلة؟
فإدراك النسبية مُهم. انظر، من أعظم ثمرات الثقافة، من أعظم ما يُفتّق العقل البشري، الاطلاع على ماذا؟ على مناظير ومذاهب وعقائد وآراء مُختلفة! يفتح مُخك! أحسن مليون مرة من إرادة أن تفتح مُخك معياريا بماذا؟ بدافع الإنصاف والعدل وفي كل شيء وفاء وتطفيف. اذهب، العب يا حبيبي، كلام فارغ كله هذا، كلام إنشاء. هذا أفضل من الإنشاء! هل فهمت ما قصدت؟ أفضل من هذه الإنشاء مليون مرة أن تفعلها، لا أن تُعلنها.
واذهب، اقرأ، وتعلم، وانظر كيف تقول الناس وتحكي وتُفسر وكذا، ومُخك سوف يبدأ يتشكل تشكلا جديدا، هل فهمت ما قصدت؟ لا والله، لا يقوم مقام هذا ألف موعظة، عن وجوب المرونة والتفكير النقدي وتجرأوا أن تستخدموا عقولكم، كله كلام إنشاء، هل فهمت ما قصدت؟
يُوجد عندنا الآن – أخيرا أختم، لكي نأتي إلى سؤالنا، ونختم به طبعا، هذا السؤال لم يأت إلى الآن! – ماذا؟ الوجودية الدينية. ذكرت أنا اسمها، أليس كذلك؟ الوجودية الدينية! لن نشرح الوجودية، الخاصة بكيركغور Kierkegaard ومارسيل Marcel وأونامونو Unamuno وسارتر Sartre وهايدغر Heidegger، القصة الكبيرة هذه! لا، معروفة الوجودية.
وباختصار، بكلمة واحدة؛ الفلسفة الوجودية ضدا وعكسا على الفلسفات الميتافيزيقية والعقلانية، لا تهتم بكل هذه الميتافيزيقا، تهتم بالإنسان نفسه، بأوضاعه، بحالاته الجوانية، تخيل! وترى أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، تابولا راسا Tabula rasa باللاتيني، صفحة بيضاء! ولذلك اسمها الوجودية، يُوجد! أما ماهيته، فتختلف! وبالمعنى طبعا الوجودي للماهية، ليس بالمعنى الأرسطي القديم الدقيق، لا!
أما ماهيته، ماذا يكون هو؟ ماذا يصير؟ رهن بماذا؟ به! كيف تصنع نفسك أنت؟ لذلك هي فلسفة تحد على فكرة، وربما أكثر مَن عبّر عنها بقوة وبعُنف جان بول سارتر Jean-Paul Sartre. سارت! الفرنسيون يُسمونه سارت! سارتر Sartre هذا قال لو أن أشل – شخصا مشلولا – في كُرسي مُدولب، سابق عدائين كبار، ولم يفز، فهو الملوم. قسوة! أليس كذلك؟ قسوة رهيبة هنا! الدين ليس عنده هذه القسوة. قال لك أنت الملوم.
وفعلا وجدنا أُناسا مشلولين عبروا المانش، أليس كذلك؟ وهناك مَن عبر مرة المُحيط، شيء لا يكاد يُصدق! أنت تستطيع أن تصنع من نفسك هذا. فهذه هي الوجودية! على كل حال، الآن المُقاربة الوجودية لملف العلم والدين. أيضا عندهم مُقاربة، ولها نوعا ما ذوقها الوجودي، ال Existential!
هو ماذا يقول؟ يقول التجربة الدينية عكس منطق التجربة العلمية. التجربة العلمية: أنت وهو، أنت وهو! أنت وذلك الشيء، ذلك الشيء! ال Objective كما قلنا، الموضوعي، سواء ذهبت إليه أو لم تذهب إليه، هو موجود، ينتظرك! أو لا ينتظرك، هو غير عابئ بك بصراحة. التجربة الدينية عكسها تماما: أنا وأنت. ليس أنا وهو، ولا أنت وهو، أنا وأنت، Thou!
I-Thou relation. ما ال Thou؟ You. الكلمة الإنجليزية القديمة التقليدية لكلمة You: Thou، كانوا يقولون عنها ال Thou. I-Thou relation! هكذا يُسمونها هم، يُحبون هكذا أن يتحذلقوا، بدل أن يقول لك I-You relation، قال لك لا، I-Thou relation. أي التي هي كلمة You بالقديم، لهجة قديمة إنجليزية.
I-Thou relation! علاقة أنا وأنت. مَن الأنت هذا؟ رب العالمين. التجربة الدينية: علاقة أنا وأنت. ليس أنا وهو. سوف تقول لي نعم. لم نُكمل العالمين، أي لم نُكملها جيدا، لكن أعتقد أنكم أخذتم الفكرة!
الفكرة أن القرآن يُريد أن يُعطيك انطباعا، أن المُجتمعات البسيطة والمُجتمعات القديمة، حدود تصورها للعوالم واختزالها لها، كانت حدودا ضيقة كثيرا، أليس كذلك؟ ومُتشددة، وضئيلة! فالقرآن لما عبّر لك، قال لك هم يُعبّرون عن كل القرى المُجاورة بأنها العالمون، أي هذه الأكوان كلها! أكوان ماذا يا حبيبي؟ هذه قبائل بسيطة في فلسطين، وفلسطين لا تزال نُقطة في الأرض، انس. لكن هو يراها العالمين!
هنا نفس الشيء الآن، هنا في المُقاربة الوجودية، التجربة الدينية: أنا وأنت. ما معنى أنا وأنت؟ الله لا يُتحدث عنه، وكما قلت أنا مرة، ولخصتها بعبارة جميلة جدا جدا! الفيلسوف العادي يتحدث عن الله. صح! فيلسوف الدين يتحدث لك عن الله وكذا، كذا. العارف بالله يتحدث مع الله. فقط، هذه هي! هل فهمتم؟ هذه هي! طبعا! أنا وأنت.
رحم الله توفيق الحكيم، مرة عمل رسالة إلى الله أو حديث مع الله، فعارضه الشعراوي وغيره، يا أخي لماذا؟ يا جماعة ما لكم؟ ليس عندنا هذا! أي نحن ضيقون يا رجل! بالله عليكم، إذا لم تُعطونا فُرصة، ولم تكن هناك إمكانية فعلا لأن نتحدث مع الله، فكيف سنؤمن به – لا إله إلا هو -؟ بالله عليكم! يا رجل الدين تواصل، الدين خبرة! الدين بلا هذا التواصل وهذه الخبرة وهذا التعاطي المُباشر مع الله، سيصير بلا قيمة يا جماعة الخير، ما لكم؟
لكن ليس عندنا هذا! ضيقون جدا، نحن ضيقون! عندنا التزمت، تزمت رهيب! لذلك قلت لك ضروري أن تقرأ اللاهوت العالمي، خاصة اللاهوت المسيحي هذا بالذات وكذا، سوف تتعلم أشياء مُعينة، أي مُخك سوف يبدأ يتفتق قليلا. هناك أشياء سوف ترفضها، أكيد! وهناك أشياء سوف تبدأ تقبلها. هناك أشياء سوف تُصدم فيها، وبعد ذلك، بعد فترة سوف تتقبلها.
مثلما قال ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead، قال كل فكرة عبقرية، وكل فكرة عملاقة، في مُعظم الحالات تبدأ في البداية كفكرة حمقاء. ترى أنها حمقاء، وتقول ما الهبل هذا؟ أنت تراها هكذا؛ لأنها فقط مُغايرة، أليس كذلك؟ وجديدة. إذا حمقاء، فنعمة ونعمتان، لا! تكون ملعونة أيضا! يرون أنها فكرة ملعونة، ويُلعن صاحبها. وبعد فترة، تصير ماذا؟ هي النموذج! أليس كذلك؟ تصير هي النموذج!
إذن المُقاربة الوجودية فرّقت بين الموقف العلمي والموقف الديني. الموقف العلمي Objective؛ موضوعي، بارد، منطقي! كما قال مَن؟ غيلكي Gilkey. الموقف الديني نابض، حي، نام، أليس كذلك؟ حي! لا إله إلا الله! وشخصي Subjective، بيني وبين الله، أنا وهو. لا أتحدث عنه كموضوع يُدرس، لا! علاقة شخصية. ففرق! وهذا كله يخدم ماذا؟ يخدم نموذج الفصل. ويُرينا تمثلات وتظاهرات الفصل، وآلياته أيضا.
أختم مُحاضرة اليوم – وسوف تكون مُدة المُحاضرة أزيد قليلا – بسؤال:
لماذا لا يتواضع بعض رجال الدين، ولماذا لا يتواضع في المُقابل بعض رجال العلم؟ بعض رجال الدين لا يتواضعون، وبعض رجال العلم، لماذا؟ يُمكن أن نتكلم عنها في مُحاضرة طويلة! لكن أنا أُريد أن آتي بنقاط سريعة في خمس أو ست دقائق – إن شاء الله -، وأختم:
بالنسبة لرجال الدين، لا يتواضعون، لوقوعهم تحت سطوة وهم امتلاك الحقيقة المُطلقة. هذه القفزة التي سماها ستيس Stace سيكولوجية! قفزات سيكولوجية، غير منطقية. هذه قفزة سيكولوجية! كيف تمتلك الحقيقة المُطلقة؟ من أين لك هذا؟ مُخك يقدر على الحقيقة المُطلقة؟ نعم، ألا أتكلم باسم النص؟ أليس النص من عند الله؟ نعم طبعا من عند الله. انتهى! والله هو المُطلق، وهذا نصه المُطلق!
يا حبيبي، ليس معنى أن النص من عند الله، وحتى لو سلّمنا بإطلاقية النص، أنك تستطيع استنفاذ النص، استيعاب النص، أليس كذلك؟ تمثل النص كله! لا تستطيع، أنت تأخذ منه بقدر ما تسمح به سعادة قدرك. ربما تأخذ منه بمقدار نُقطة من مُحيط، أو – إذا كنت كبيرا وما إلى ذلك – فنجان من مُحيط، أو جردل يا سيدي، Eimer بالألماني، Eimer من مُحيط، ليس أكثر من هذا، بالله عليك تواضع.
على فكرة، إن لم تأخذ بهذا، فسوف يُوجد هنا شيء له علاقة بموضوع ال Propositional view، المنطق أو المنظر أو وجهة النظر القضوية هذه، خطيرة! تُدمر حالها على فكرها، وتُشكل خطرا على الدين، مثل هذا! كيف إذن؟ لأنك إذا كنت ترى أن الخطاب الديني بما هو يُعبّر عن قضايا صُلبة كاملة تامة، كما هي، فسوف تقع في مُشكلة مع التأويلات المُختلفة.
تُوجد عدة تأويلات، وستُضطر، رُغما عنك، لكي تبقى قضويا، تُفرغ عن المنطق القضوي، أن تنحاز إلى تفسيرك، دونا عن سائر التفسيرات! وهنا دخلنا في صراع ماذا؟ صراع التفسيرات، صراع التأويلات! الذي قد يودي بنا إلى التكفير، وإلى ذبح بعضنا بعضا، كما حدث في أوروبا، ويحدث الآن في العالم الإسلامي. هل فهمت ما قصدت؟ فاللُغة القضوية هذه ووجهة النظر القضوية خطيرة جدا جدا! أفضل منها وجهة النظر التعبيرية.
هنا الآن نفس الشيء؛ إذا ظننت أنك احتزت الحقيقة من جميع جوانبها، واستنفذتها، واستوعبتها، وانتهى الأمر، فهل تعرف ما معنى هذا؟ أنها لن تكون، ولم تكن للحظة، حقيقة مُطلقة. بل حقيقة مؤلفة، ومكذوبة!
لأنك في النهاية نسبي، ومُتطور، وأنت اليوم أصغر منك غدا، وأنت اليوم أكبر منك بالأمس، فكيف تم وساغ وجاز أن تعتقد أنك استنفذت الحقيقة واستوعبتها، وهي حقيقة مُطلقة إلهية؟ مُستحيل! إذن هذه حقيقة مكذوبة، أليس كذلك؟ هذا مسلك إلحادي، في جوهره مسلك إلحادي. لذلك على رجال الدين أن يفهموا هذه النُقطة. إن فهموها، تواضعوا.
رجال العلم، لماذا لا يتواضعون؟ لأسباب كثيرة! لأنهم خلطوا، خلطوا بين المعايير الإبستمية، التي يُمكن أن تقبل الاختزال في حدود عملهم، وبين المعايير الأنطولوجية الميتافيزيقية. وشرحت لكم المُصطلحين! أليس كذلك؟ وشرحت لكم الفرق بينهما.
لو أنهم التزموا بالمعايير الإبستمية في حدود العمل العلمي المحض، ما حدث هذا. أي لو صاحب الخُرافة هذا، لو أنه قال العلم هو الطريق الوحيدة في المعرفة الطبيعية، لكنا سنقبل منها. وهو قال ماذا؟ ال Knowing؛ المعرفة! هنا دخل في العلموية، وخلط بين موقف ميتافيزيقي وموقف إبستمي، أليس كذلك؟ خطأ فادح رهيب!
العلماء فقط ينبغي أن نلفتهم، هؤلاء العلمويون لا بُد أن نلفتهم، إلى أن النظريات العلمية المُتشاكسة والمُتخالفة والمُتعارضة بقدر أو بآخر، تنجح، في بعض المرات بقدر مُتساو، في تفسير الظاهرات نفسها!
كيف بالله عليكم نظريات مُتخالفة تنجح في تفسير الظاهرة نفسها؟ النظرية البطلمية، والنظرية الكوبرنيكية، والنظرية التايكو براهية، ثلاثتها نجحت في تفسير مُعظم الظواهر الفلكية! ما رأيكم؟ مع أنها نماذج مُتخالفة! ما معنى هذا؟
نظرية ال Phlogiston، أو اللاهوب، في القرن الثامن عشر، نجحت في تفسير الاحتراق، والآن عندنا نظرية مُختلفة تماما، لن نشرح لكم الفرق بينهما، لكن في اللاهوب شيء يخرج، في النظرية الحالية شيء يدخل؛ الأكسجين! لذلك كيف نُطفئ النار؟ ممنوع أن نُدخل الأكسجين. نموذج مُختلف تماما! هذا نجح يُفسر، وهذا نجح يُفسر!
نظرية ال Ether، العرب يُسمونها الأثير، في القرن التاسع عشر، نجحت في تفسير كيفية انتقال الضوء، في غير وسط مادي عادي، ثم ثبت بُطلانها تماما، تجربة ميكلسون Michelson ومورلي Morley كما تعلمون، أليس كذلك؟
إذن هذا الذي أوحى إلى بيير دوهيم Pierre Duhem أو دويم، الفيلسوف واللاهوتي والفيزيائي الفرنسي – الذي يعرفه يعلم أنه فيلسوف كبير! بيير دوهيم Pierre Duhem -، والذي أوحى إلى كواين Quine، المنطقي العظيم المُلحد، والذي أوحى إلى شرودنغر Schrödinger، وغيرهم، وغيرهم، وغيرهم! أن العلم ليس أدوات مُطلقة، ولا يعكس حقائق مُطلقة، بل العلم لا يعكس الواقع كما هو، أبدا! يعكس الواقع في حدود استجابة الواقع لما يُطرح عليه من أسئلة، ولما يُتقصى به الواقع من أدوات، فقط!
ولذلك العلم لا يتمتع عند هؤلاء الثلاثة بصفة الإطلاقية، ومن عجب أن إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger، صاحب فيزياء الكم، قال لك أنا مُنحاز لإعطاء الدين سُلطة مُطلقة على العلم! إذا تعارض العلم مع الدين، فالقول قول الدين! لماذا يا شرودنغر Schrödinger؟ هذا الآن يذهب إلى في الطرف الآخر، لم يصر حتى من نموذج الفصل! وأنا ضده طبعا في هذا الشيء. قال لك لأن النص الديني مُطلق، ويُطابق الواقع. كلام غير صحيح أو غير دقيق.
على كل حال، أدركنا الوقت كثيرا، أكتفي بهذا القدر، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أضف تعليق