بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
إخوتي وأخواتي/
اليوم – بإذن الله وعونه – سنشرع في الكلام عن النموذج الأخير، وطبعا بقيَ نماذج أُخرى كما قلت لكم، هناك مَن طرح ثمانية نماذج، إيان بربور Ian Barbour طرح أربعة نماذج!
وكان بودي أن أتكلم عن النموذج الرابع؛ الحوار، لكن أُريد أن أختصر؛ لأن لا يُمكن – نحن في سلسلة – أن نقول حتى مُعظم أو نصف ما يُمكن أن يُقال. فأحسن أن يُترك الباقي لعمل علمي بحياله! لكتاب، لدراسة كبيرة! لكن نحن نُريد فقط أن نُؤنسكم، بأن نضعكم في المشهد، ولن نستوفي طبعا أشياء كثيرة!
اليوم بالذات سأتكلم عن نموذج التكامل، أو الاندماج كما يفسره بعض العرب! كلمة اندماج ليست دقيقة على فكرة، ليست ترجمة دقيقة، ترجمة فيها بعض التحيف لمُصطلح Integration، لا! التكامل لا يزال أفضل من كلمة اندماج!
نموذج ال Integration هذا يُمكن أن تُسميه نموذج التواصل والتراسل، أي هذا أيضا بدل كلمة تكامل، تواصل وتراسل! يُمكن أن نُسميه نموذج الاعتماد المُتبادل، لكن هذا طبعا يجرح الكبرياء العلمية، ويجرح الكبرياء اللاهوتية، لا يرضون! تخيل! طبعا! إنه اعتماد مُتبادل. خله Integration كما هو؛ لأن هذا مُصطلح، مُصطلح الآن في المُجتمعات الأكاديمية يُستخدم.
هو النموذج الثالث والأخير، الذي سنُنهي به مُحاضراتنا عن علاقة العلم بالدين، بعد أن فرغنا من نموذج الصراع، ثم نموذج الانفصال، والآن نموذج التكامل – إن شاء الله تعالى -، نموذج التكامل! والذي طبعا من اسمه يوحي بأنه أشبه بحل وسط، بين الانفصال والمُجافاة التامة هذه، وبين الصراع والاشتباك والصدام، هذا كأنه جاء حلا وسطا! إلى حد ما هذا الكلام صحيح، وإن لم يكن دقيقا تماما، إلى حد ما فيه بعض الصحة، لا يخلو من الصحة!
حتى لا أُطوّل بمُقدمات، أنا سأستعين بالنماذج، أو ما سماه هو بالإصدارات، الثلاثة، التي حددها إيان بربور Ian Barbour، العلم الأكبر طبعا في هذا الباب! من أواسط العقد السابع، في القرن العشرين! وهو الذي شق بأعماله الأولى كما قلت لكم أكثر من مرة هذا ال Field أو هذا المجال الجديد البحثي الأكاديمي؛ مجال العلم والدين، هذا صار مجالا بحياله، ليس مُجرد مُحاضرة أو بحث أو كذا، أبدا! مجال علمي، له كراسي وكتب ومؤتمرات ودراسات وجوائز، شيء عجيب! ومجلات ودوريات.
فثلاثة إصدارات:
الإصدار الأول: اللاهوت الطبيعي Natural theology. الإصدار الثانية، النُسخة الثانية، من نموذج التكامل: لاهوت الطبيعة Theology of nature. وسوف نرى ما الفرق! انتبه! انظر، تخيل؛ هذا شيء وهذا شيء! اللاهوت الطبيعي Natural theology، لاهوت الطبيعة Theology of nature. والإصدار، أو النُسخة، الثالثة والأخيرة: التوليف أو التركيب أو التركيبية النظامية أو المنهجية Systematic synthesis، التركيبية النظامية!
ثلاثة! سأتكلم عن كل واحدة، وهكذا أكون تقريبا – إن شاء الله -، مع التعقيبات التي ستأتي طبعا في وقتها، أنهيت الكلام عن نموذج التكامل.
أبدأ بالإصدار الأول، وهو اللاهوت الطبيعي Natural theology. طبعا اللاهوت ما هو؟ إذا قلنا لاهوت، يُقصد به اللاهوت النظامي، وهو اللاهوت الديني، في نُسخته الدينية (التي يُمكن أن يُقال) البحت، أو ال Mere، أي الخالصة. هذا اسمه لاهوت نظامي، لاهوت كتابي نظامي.
طبعا أحدهم قد يقول لي ما اللاهوت؟ ما معنى Theology؟ انظر، باختصار كلمة Theology عندهم تُساوي عندنا علم الكلام، علم الكلام! لن أقول لك علم العقيدة. لماذا إذن؟ لأن يوجد عندنا نُسخة من علم العقيدة أثرية، لم تسمح ولم تتعاطف مع استخدام القواعد المنطقية، وبعض المبادئ الفلسفية، لدعم القضايا الاعتقادية. مَن الذي فعل؟ أو ما الذي فعل؟ علم الكلام! علم الكلام الأشعري والماتريدي والإمامي!
هذا علم كلام، استخدم مبادئ المنطق وبعض المبادئ العقلية والفلسفية، في دعم القضايا العقدية التوحيدية الدينية. يُسمونه علم الكلام! في السياق الغربي يُسمونه Theology، هذا هو ال Theology! تمام؟ لماذا؟ لأن ال Theology على الأقل الوسيط، وفي الحقيقة قبل الوسيط، القديم، مُختلف!
فسانت أوغسطين Saint Augustine أحد كبار الآباء! القديس/ سانت أوغسطين Saint Augustine، من هيبو Hippo، معروف مَن هو! صاحب الاعترافات ومدينة الله! هذا استدمج ووظف الأفلاطونية في النظام اللاهوتي، بالكامل! معناها Theology هذا، علم كلام هذا، ليس عقيدة بحتة، ليس عقيدة كتابية بحتة، واضح؟
وظل الأمر على ذلك إلى مطلع القرن الثاني عشر، حيث تم استيراد أرسطو Aristotle، في أواخر الحادي عشر، والثاني عشر، تم استيراد أرسطو Aristotle، عبر الرشدية اللاتينية، ابن رشد! حين تُرجمت أعماله إلى اللاتينية، أعماله مُعظمها شروح على مَن؟ على أرسطو Aristotle. هو شارح عظيم جدا، الشارح الأكبر لأرسطو Aristotle! فيما سُميَ الرشدية اللاتينية؛ لأنها تُرجمت إلى اللُغة اللاتينية، وبدأ استدماجه في النظام اللاهوتي! بدل مَن؟ أفلاطون Plato. واضح؟ صار هناك افتراق!
حدثتكم في الحلقة السابقة عن توماس أكويناس أو توما الأكويني Thomas Aquinas، تلميذ ألبيرتوس ماغنوس Albertus Magnus أو ألبرت الكبير! ألبرت الكبير درس أعمال ابن رشد وابن سينا! واستوعبها، وتبناها، وصدر عنها. وتأثر به أكبر عالم سكولائي؛ مدرسي – أي سكولاستيك Scholastic -، في تلك الحقبة، وربما إلى اليوم؛ توما الأكويني Thomas Aquinas!
من أيام الأكويني Aquinas إلى اليوم لم يأت واحد في حجم توما الأكويني Thomas Aquinas عندهم! يُشبّه به، ولا يُشبّه هو بأحد! هو مات ألف ومئتين وأربعة وسبعين – على ما أذكر -، لكن كان مُعاصرا كما ذكرت في حلقة سابقة، كان مُعاصرا لآخرين، لا زالوا على الطريقة الأفلاطونية، وليس الطريقة الأرسطية، التي يرونها وثنية ومادية، ليست روحية تأملية مثالية!
بونافنتورا Bonaventura مثلا! بونافنتورا Bonaventura كان مُعاصرا للأكويني Aquinas، ومات في نفس السنة، وهو Theolog كبير جدا، ومُذهل! لكنه كان أفلاطونيا، ولم يكن أرسطيا. بعد ذلك رجحت كفة أرسطو Aristotle! صارت كل الفلسفة المدرسية فلسفة أرسطية، كل المدرسيين العظام، وأعظمهم توما الأكويني Thomas Aquinas طبعا، كانوا أرسطيين، واضح يا إخواني؟
جميل! الآن ما علاقة الموضوع هذا بقضية اللاهوت الطبيعي؟ ما هو اللاهوت الطبيعي؟ وما هي نُقطة الانطلاق في اللاهوت الطبيعي؟ ال Start point يقولون، نُقطة الانطلاق، من أين؟ على عكس ما تتصور نُقطة الانطلاق في اللاهوت الطبيعي العلم، وليس الكتاب، ليس ال Bible، العلم! الفلسفة الطبيعية قديما، واليوم ال Science؛ Wissenschaft، ليس الكتاب المُقدس! هذا هو اللاهوت الطبيعي.
ستقول لي معناها مجال اشتغال اللاهوت الطبيعي أكيد أكثر ضيقا من اللاهوت النظامي؟ طبعا! اللاهوت النظامي يبحث في كل ما بحث فيه اللاهوتيون عبر العصور من قضايا الدين وغيبياته، اللاهوت الطبيعي يبحث بشكل أساسي فيما يتعلق بوجود الله، لا إله إلا هو! موجود أم غير موجود؟ ما الأدلة على وجوده؟ ما البراهين على وجوده؟ هذا هو لُب اللاهوت الطبيعي، واضح؟
ستقول لي معناها اللاهوت الطبيعي يقترب أو على الأقل هناك علاقة عموم وخصوص وجهي بينه وبين الربوبية؛ ال Deism؟ أكيد طبعا، طبعا! بينه وبين ال Deism؛ الربوبية! ما الربوبية؟ الإيمان بأن هناك ربا خلق وسوى ودبر ورزق وكذا، صح! إلى الآن! لكن هذا الرب لا يعتني بنا على نحو ما تذكر الأديان التوحيدية، أو النُسخ التوحيدية الثلاثة من الدين التوحيدي: اليهودية والمسيحية والإسلام! أنه يبعث له أنبياء، ويُرسل لنا رسلا، ويأمرنا، وينهانا، ويُبشر، ويُنذر، وجنة، ونار!
قال لك هذا كله غير صحيح، عندها تفسيرات أُخرى هذه، لا نؤمن به! Oh! الله! أي يؤمنون – بالمُصطلحات الإسلامية – بالله ربا، خلق وسوى ويُحيي ويُميت، إلى آخره! لكن لا يؤمنون به إلها، يستحق ماذا؟ يستحق أن يُشرع وأن يُطاع وأن يُعبد. قال لك لا، هذا كله شُغل أديان، ليس لنا علاقة بها. Oh!
ستقول لي هذا اللاهوت الطبيعي؟ هذا اللاهوت الطبيعي! إذن هذا مُهم للدين؟ مُهم، في حدوده الضيقة. أليس كذلك؟ معناها هنا يقدر اللاهوت الطبيعي على أن يخدم، بأن يأتي بأدلة جديدة! إذا لم يكن دليلا من حيث الجوهر المنطقي له والاستدلالي، من حيث المادة، من حيث المُقدمات، أي ال Premises، مُقدمات الأدلة! المواد التي يشتغل عليها الدليل القياسي! العلم يفعل هذا، العلم يفعل هذا! اللاهوت الطبيعي قال لك هذه شُغلتي.
ستقول لي معناها اللاهوت الطبيعي من حيث الأصالة والجدة ليس مئة في المئة كذلك؟ صح، طبعا ليس مئة في المئة، أبدا! هو بطريقة أو بأُخرى امتداد للاهوت النظامي في بابه الذي اختاره، امتداد! لكنه امتداد أصبح أكثر عُمقا وأكثر تفريعا وأكثر تفصيلا، ولا يُستغنى عنه.
ستقول لي من هنا فائدته للدين؟ من هنا فائدته للدين، جيد! وهذا فعلا يخدم نموذج التكامل، نموذج التكامل والتخادم! أي هذا اللاهوت، الذي نُقطة انطلاقه العلم الطبيعي، يخدم الدين، على الأقل في قضية وجود الله، إثبات وجود الله، لا إله إلا هو! عدم استغناء الكون عنه. فقط! هذا ال Natural theology، Natural theology!
جميل! لا أُريد الآن طبعا أن أُطيل! هكذا يكفي أن تفهموا الكلام هذا! الآن يُمكن، إذا كنت تُريد، أن تقرأ كتابا أو كتبا في الموضوع، وهي كتب كثيرة جدا! في اللاهوت الطبيعي! وعلى ذكر داروين Darwin – دائما ما نحكي عن داروين Darwin وكذا، واللحظة الداروينية -، داروين Darwin لما كان مؤمنا تماما بالله، ومُسلّما بأدلة وجود الله تبارك وتعالى، كان مُتأثرا أكثر شيء بكتاب اللاهوت الطبيعي لويليام بيلي William Paley! رجل الدين الإنجليزي! والذي نشره أو أصدره سنة ألف وثمانمائة وثنتين.
سنة ألف وثمانمائة وثنتين أصدر كتابه اللاهوت الطبيعي، اسمه هكذا! اسمه Natural theology، ويليام بيلي William Paley! الذي يذكر فيه أمثولة الساعة، التي تقول أنت تمشي في أرض بور، وصخور كلها، مُسننة ومُدببة وملساء وكذا، صخور! لا يُوجد شيء يلفت نظرك!
إلى أن تقع عينك أو تعثر رجلك بشيء، فتلتقطه – لأول مرة أنت ترى الساعة، هو يفترض، لأول مرة -، فإذا بشيء هكذا فيه ما يُسمى الآن بعقارب الساعة الثلاثة هذه، وفيه تدريجات، سواء مُرقمة أو غير مُرقمة، لكن على مسافات مُتساوية، وهذه العقارب تلف، تدور! بعضها أسرع من بعض، وبعضها أبطأ!
فتحتها من الخلف، وإذا فيها تروس ومُسننات، وأيضا تدور! مُباشرة – يقول ويليام بيلي William Paley – أنت ستخلص إلى أن هذا الشيء Designed؛ مُصمم! في حين أنك لا يخطر على بالك أن هذه الصخور الكذا كذا شيء مُصمم، موجودة! موجودات طبيعية عادية في العالم، لكن هذا الشيء يتميز بشيء يجعله فريدا من بينها! لافتا! لا يُمكن أن يكون أتى وحده.
هذا قبل حتى أن تقف على ال Purpose أو الغاية أو الهدف من هذا الشيء، وأن هذا لتعيين الوقت بدقة تتطابق مع الحقيقة! مع ذلك تفهم هذا. هذا كتاب اللاهوت الطبيعي، الخاص ببيلي Paley!
طبعا هذا الكلام وبُرهان الساعة أو نموذج الساعة هو تنويع على بُرهان التصميم، الذي هو تنويع على بُرهان العلة الغائية، أو بُرهان النظم، أو بُرهان النظام! احفظوا هذه الأشياء؛ بُرهان النظم، بُرهان النظام، بُرهان العلة الغائية، بُرهان التصميم! وبعد ذلك Fine-tuning؛ التوليف الدقيق، Anthropic principle! كلها من نفس الساحة، كلها، كلها! هذا بُرهان العلة الغائية! بُرهان العلة الهدفية، الغرضية، الغائية!
جميل! فاللاهوت الطبيعي إذن يتناول البراهين العقلية، والعلمية، على وجود الله. هذا اللاهوت الطبيعي! إذن لكي نرى نحن خُلاصات هذه الكتب كلها، القديمة والحديثة، نقول هي ستدور على البراهين العقلية الشهيرة الأربعة على وجود الله، وخاصة الثلاثة الأولى منها!
أول شيء بُرهان العلة الغائية. الآن فرغنا منه، أليس كذلك؟ طبعا! ستشرحه هكذا وينتهي الأمر؟ لا طبعا! هناك لاهوت وعلم وعنده كراسي وعنده علماء ونقاشات ومُناظرات! انس! بُرهان التصميم شيء لا يفرغ الكلام فيه! الآن ألوف الصفحات، بل عشرات ألوف الصفحات، كُتبت حول المبدأ الأنثروبي!
ماذا يعني الأنثروبي؟ الإنساني. Anthropos معناها إنسان! المبدأ الإنساني، الذي شرحناه في خُطب قبل أشهر أيضا ومُحاضرات وكذا. آلاف، عشرات آلاف، الصُحف كتبها فلاسفة وعلماء ولاهوتيون عن المبدأ الإنساني! وكله داخل ماذا؟ الكلام عن البُرهان الغائي، بُرهان النظم، بُرهان النظام!
وطبعا هل سلّم الجميع بالمبدأ الإنساني؟ لا طبعا، لم يُسلّموا! والمبدأ الإنساني له صيغ كثيرة، كثيرة! مشهور أنها أربع، والأكثر شُهرة ثنتان: المبدأ الإنساني القوي، والمبدأ الإنساني الضعيف، ال Strong وال Weak! Anthropic principle، في الاثنين! وقصة ومُجلدات وألوف الصفحات بين الفلاسفة والعلماء واللاهوتيون. كله هذا داخل في اللاهوت الطبيعي، وفي بُرهان التصميم، بُرهان العلة الغائية!
هذا الشُغل، هذا الشُغل العلمي والأكاديمي، هو هكذا! المسألة ليست سهلة، أننا نعمل مُحاضرة وانتهى الأمر؛ هذا بُرهان التصميم، وهو دليل مُطلق ساحق ماحق على كذا! هذا كلام منابر وكلام وعاظ، ليس كلام أكاديميين ولا فلاسفة ولا مُفكرين، ولا كلام ناس مُتواضعين مع الحقيقة ومع قرائح العقول! عقول ضخمة! بعضهم يحملون نوبل Noble! هناك مُعارضة، وهناك تأييد، وهناك كذا، شيء رهيب! لا بُد أن يُقرأ كل هذا! وتقرأ جذوره التاريخية!
أي قبل تشارلز داروين Charles Darwin مَن أول واحد حاول أن يُسدد ضربات لبُرهان التصميم؟ وللأسف أقنعت الكثيرين من رجال الفكر، وهزت إيمان بعض رجال اللاهوت أيضا! هو ديفيد هيوم David Hume!
ديفيد هيوم David Hume أول مَن تعرض لبُرهان التصميم، وتعرض له بشُبهات فلسفية (لا يُستهان بها، ليست أي كلام! لا يُستهان بها، ولا بُد من تناولها بمُنتهى الصرامة والجدية الفلسفية، هي ليست سهلة بالمرة).
وبلا شك هذه الشُبهات أو الاعتراضات لا تزال سارية مُمتدة في شُبهات المُعاصرين، إلى اليوم! لذلك ديفيد هيوم David Hume أبو كل الوضعيين، ما رأيك؟ وأبو الملاحدة أيضا، وأبو الشكوكيين! وهو شيخ الشكاك!
فمن تلك الحقبة كان لا بُد من تناول هذا الموضوع! طبعا فعل ذلك أكثر من رجل من رجال اللاهوت أيضا، وفعل ذلك فلاسفة، وردوا على ديفيد هيوم David Hume، وإلى اليوم تتوالى عليه الردود! وكذلك هذه النُسخة القديمة من الشُبهات على بُرهان التصميم!
لن أُعطيكم بعض الأمثلة؛ لأن كلامنا سيصير عن بُرهان التصميم! لا نُريد الآن! لكن أنا أُعطيكم التصور؛ أين الأمور جارية؟ ما الذي يحصل؟ ما هو ال Natural theology هذا؟ يبحث في ماذا؟ يتكلم في ماذا؟ يتكلم هكذا في أشياء مثل هذه!
ستقول لي هذه مسألة كبيرة! كبيرة! مسألة كبيرة، مئات المجلدات معناها! عالم وحده هذا، أي ليس أي كلام، منهج هكذا وانتهينا! عالم لا ينتهي، والكل يُدلي بدلوه! فلاسفة، علماء، رجال دين! كله يتكلم في هذا الباب، وكل واحد يُدلي بدلوه! شيء مُرهق، ومُتعب جدا!
أي قبل فترة كنت أقرأ لفيزيائي أمريكي مُلحد؛ روبرت بارك Robert Park، يسخر من بُرهان التصميم، ومن بُرهان المبدأ الإنساني هذا! واعتمد حُجة مرتين في كتابه! عوّل عليها، تخيل! واضح أنه عالم – عالم كبير وفيزيائي كبير -، ولكن فيلسوف ضعيف، كما أقول دائما، للأسف! لو درس الفلسفة حقا، لما تورط في هذه الورطة! أُعطيكم فقط مثالا بسيطا على ما يحدث مع العلماء!
فتجده عالما مُحترما، وحاصل على جوائز، وعنده كشوف، سواء في الفيزياء أو في غيرها، ومع ذلك يتورط وينتهي إلى الإلحاد؛ لأنه ليس مُدربا فلسفيا، ليس مُدربا فلسفيا! ليس مصقولا فلسفيا!
قال لك نحن ندحض بُرهان النظم هذا، والمبدأ الإنساني هذا! لم يُسمه سخيفا، لكن هو تكلم عنه باستخفاف! أن هذا الشيء سخيف، أي هذا يؤمن به الناس البُسطاء السُذج! يا رجل هناك ناس من كبار العلماء آمنوا به، المُعاصرين! الفيزيائيين العظام! ودافعوا عنه! لماذا؟ هذا الفيزيائي الأمريكي عموما أنا لم يُعجبني، فيه هذه النبرة المُستعلية! كان عنده استعلاء! عبر كتابه كله عنده استعلاء، واستخفاف!
قال لك نحن ندحض هذا البُرهان باعتماد المُغالطة الشهيرة؛ مُغالطة قناص تكساس Texas sharpshooter fallacy! يا سلام! ما هذه؟Texas sharpshooter ، أي ال Sniper هذا، Sharpshooter fallacy! مُغالطة قناص تكساس! ما هي؟
قال لك هذه عن رجل وهو في حظيرته – عنده حظيرة أبقار وأغنام وكذا وخنازير، أكرمكم الله – ادّعى أنه قناص مُتقن! وما شاء الله! أي لم يحصل مثله! فذهب وأطلق رصاصات، في حائط خشبي، في حظيرته، ثم ذهب إليها، حيث أطلقها، ووضع دائرة حولها، وقال لك أرأيت؟ الخمس رصاصات في قلب الدائرة!
ستقول لي ما معنى هذا؟ هذا الفيزيائي الأمريكي المُلحد قال لك هذا الذي يحصل مع المؤمنين! طبعا قريب من هذا برتراند راسل Bertrand Russell! برتراند راسل Bertrand Russell كلما تكلم في كل كتبه – وأنا أستغرب! – عن بُرهان التصميم، بُرهان النظم، تكلم بهذا المنطق نفسه، وكان ينتحر عقليا! برتراند راسل Bertrand Russell كان ينتحر عقليا!
لذلك أنا أطلقت هذه العبارة من عشر سنين أو أكثر؛ لا يُمكن أن تُلحد، إلا بعد أن تنتحر عقليا. وعندي بُرهاني الفلسفي عليها على فكرة، بُرهان فلسفي! برتراند راسل Bertrand Russell كان يفعل هذا! وانظر؛ Mathematiker كبير هذا، ليس أي كلام! كان ذكيا جدا، وفيلسوفا خطيرا!
هو كان يُدرك أنه لكي يُلحد، لا بُد أن يُنكر معقولية قوانين الوجود، ومعقولية كل ما يُظن أنه معقول. وهذا بالضبط هو معنى الانتحار العقلي، انس! لأنك يا راسل Russell، لا أنت ولا أنا ولا أي واحد على البسيطة، يمتلك عقلين! يمتلك عقلين: عقل يتعقل به الكون، وعقل يتعالى عليه! غير صحيح! يوجد عقل واحد، هو الذي يعقل ذاته، ويعقل الكون.
فإذا رأيت أنه لا يوجد أي استناد للمعقولية في الخارج، في الخارج، في القوانين، في كل شيء، فبالتالي لا معنى للمعقولية من حيث هي، بالتالي يستوي كل شيء، وكل شيء! الشيء ونقيضه، الشيء وضده، الشيء ونفيه! دخلنا في جنون! كان يفعل هذا دائما! تخيل!
وعلى فكرة أول المُتضررين من هذا العلم نفسه، العلم! مع أن بتقص بسيط جدا جدا جدا يكفي هذا! طبعا موضوع المعقولية موضوع مُعقد جدا، أنا أعرف هذا، وأنا واع بهذا تماما! موضوع المعقولية وما هي المعقولية وما هو المعيار الحقيقي للمعقولية الذي يُمكن أن نتوافق عليه موضوع أصعب مما نتخيل! وصحيح! أعرف هذا! لكن هناك حد على الأقل ينبغي أن يحصل عليه التوافق.
انظر؛ المعقولية يُمكن أن تُفهم على أنها الضرورة. هناك ضرورة، هناك معقولية! صح، هذا مُستوى من مُستويات فهم المعقولية. أنا يُعجبني القواميس الأجنبية، خاصة ويبستر Webster هذا وكذا، وأكسفورد Oxford بالذات، شيء جميل جدا جدا! يأتي لك بالمُصطلحات وبتاريخها!
والذي كان أحسن من ذلك في زمنه لالاند Lalande؛ أندريه لالاند André Lalande، في قاموسه الفلسفي! يأتي لك بأي مُصطلح، ويأتي لك بالكيفية التي تم بها اعتوار هذا المُصطلح عبر التاريخ، تاريخ المُصطلح! والاستخدامات المُتاحة أيضا، مع اختلافاتها وفروقاتها! هذا عمل مُهم جدا جدا على فكرة في العلم، هو هكذا! هو هكذا العلم، هكذا الفكر!
فالمعقولية يُمكن في طبقة مُعينة أن تُفهم على أنها ما يُساوق الضرورة، صح! إذا انتفت الضرورة، فلا معقولية. أُسلّم بهذا، مُمكن! لكن ليست هذه كلها المعقولية، انتبه! ليست هذه كل المعقولية! لو هذه هي المعقولية فقط، فمعناها كل حياتنا الاجتماعية تصير غير معقولة! أليس كذلك؟
كل النُظم القانونية والدينية تصير غير معقولة! ما رأيك؟ العلم كله، من ألفه إلى يائه، يصير ماذا؟ مسعى غير معقول! ولا يوجد عالم يقبل هذا! يقول لك لا، كيف؟ العلم عنده درجة مُعجبة مُذهلة من المعقولية!
لكن انتبه، ليست المعقولية بمعنى الضرورة، مُساوقة الضرورة! ماذا لو أخذنا المعقولية بمعنى – أنا أعرف أن هذا الطرح فلسفي قليلا، غامض وما إلى ذلك، لكن على الأقل هناك الذي يُريد أن يتوسع فيه؛ لكي يفهم إلى أين أنا ذاهب – الانتظامية الاطرادية التجريبية؟ وهي التي يؤمن بها العلم، وهي مُبرر استمرار الطموح والشغف والمسعى العلمي!
بغير هذه الانتظامية لا يُمكن أن يقوم العلم أصلا! فهمت؟ والعلم بهذا الاعتبار مسعى معقول، والطبيعة من الجهة الأُخرى ماذا؟ معقولة إذن! أليس كذلك؟ وفعلا هي كذلك.
لذلك ألمحت أنا في حلقات سابقة إلى أن الآتي مما وُجه من نقد لمعيار القابلية للتكذيب – Falsifiability principle، الخاص بكارل بوبر Karl Popper -: يا سيدي آمنا، آمنا أنه يُمكن أن نقع على بجعة واحدة سوداء! البجع دائما – ال Swans هذا – أبيض! نعم، يُمكن، وتكون بنفسجية أيضا، وصفراء! لكن هل بجعة واحدة، أو حتى عشر بجعات، إزاء ملايين أو مئات ملايين البجع الأبيض، قادرة أو تسوى أو تستأهل أن أُشكك في سعيي الاستقرائي؟ وهذا كلام قوي على فكرة، طبعا كلام قوي، وضد بوبر Popper!
لذلك على فكرة هنا حتى الموضوع الذي يُسمونه ال Demarcation، أي ترسيم الحدود، ترسيم الحدود بين الميتافيزيقا والعلم، وحتى طبعا بين العلم والدين – إذا أردت – أيضا؛ لأن الدين عنده جانبه الميتافيزيقي، لا بُد أن يستند على معايير علمية، معايير لعلمية النظرية، من ضمنها معيار القابلية للتكذيب. هذا الموضوع الآن على فكرة تراجعت الثقة فيه أكثر بكثير من ذي قبل، ما رأيكم؟
أي قبل أربعين سنة كان هناك نوع من الراحة، أن من أقوى المعايير على الإطلاق القابلية للتكذيب! وهناك ناس أتوا بمعايير ثانية. الآن، في اللحظة هذه التي فيها نحن، في آخر عشر سنين، للأسف لا تكاد تجد فيلسوف علم في العالم الغربي مُرتاحا وواثقا من أي معيار لترسيم الحدود! ما رأيك؟
من أكبر المُعضلات الآن التي شوشت العقل الفلسفي العلمي في الغرب، وفي العالم طبعا بالتبع – لأن مَن الذين يُنتجون المعرفة والعلم؟ هم -، أنه لا يوجد عندنا استيثاق أو شيء قريب حتى من الطمأنينة لأي Criteria، أو معيار واحد!
فنرجع، نرجع ونقول – اللهم صل على سيدنا محمد – نعم، إن بُرهان التصميم الكثير من النقود عليه، آخرها: قال لك مُغالطة قناص تكساس. جميل جدا! لو المسألة هكذا يا سيد بارك Park، تُحل بالبسيطة هذه، لما سلّم عالم مُحترم، أو فيلسوف عميق، أو لاهوتي مُحترم أصلا، لما سلّم ببُرهان المبدأ الإنساني هذا، ولقالوا كلهم إن هذا كلام فارغ!
إذن لماذا سلّموا به؟ ولماذا هذه المُغالطة الخاصة بك لا تنطبق؟ أنا أقول لك اعمل تنويعا، اعمل تنويعا! الذي حصل ليس على نحو ما ذكرت، بصراحة الذي حصل شيء مُختلف تماما! كان هناك نوع من الكلام والتساؤل؛ لأن هذه الحظيرة فيها ذُبابة تطير، ومُزعجة! رب الحظيرة له شهر يُحاول أن يقنصها، ولم يقدر! عجيب! لم يقدر!
جاء ال Sharpshooter هذا، وقال له أنا، أنا قناص شاطر، وعلى بُعد خمسة عشر مترا أصيد لك هذه الذُبابة! في حديقة مساحتها مثلا نفترض ثلاثة آلاف متر مُربع! تخيل! وفيها مئتا رأس من الأفراس، وفيها خمسون بقرة، وثلاثون حمارا – أكرمكم الله -، وسبعون خنزيرا! وثلاثة آلاف متر مُربع! وجاء فعلا مُباشرة وأخرج مُسدسه؛ اضرب، اضرب، اضرب! وانتهى الأمر.
ذهبنا، وجدنا بالضبط خلف الثقوب الخاصة بالرصاص – حيث ينزل الرصاص هذا، نفترض مثلا – الذُبابة! هناك الذُبابة، هي بالضبط، هي! هذا الموضوع ليس Sharpshooter fallacy يا حبيبي، هنا سيُقال يوجد شيء غير مفهوم!
هناك توجد قصدية، يوجد تآمر! التي سماها فريد هويل Fred Hoyle قردنة! قال الرب قردن الفيزياء والكيمياء والأحياء! Monkeyed with – قال – كذا، كذا كذا! يوجد شيء غير مفهوم!
ولذلك الفيلسوف جون ويزلي John Wesley أراد أن يُجيب عن المُغالطة الخاصة بتكساس هذه، ولم يذكرها بالاسم، لكنها معروفة، هي هكذا! جميل! لأنك لخصت كل اعتراضاتهم بموضوع مُغالطة قناص تكساس! هذه اعتراضاتهم!
أُريد منكم أن تفهموا في العُمق ما الذي أحكيه، أي في العُمق يا إخواني هؤلاء الناس – وقلت لكم منهم راسل Russell – ماذا يقولون؟ يقولون أصلا أنت جئت إلى الكون، وجدت الموضوع كله على هذا النحو! أنه هذه الشمس، وهذا القمر، وهذا أنا، وإنسان عاقل، وأمشي، وما إلى ذلك! فقلت يا ربي! إعجاز رهيب! ولا يُوجد إعجاز، ولا يُوجد رهبة، ولا يُوجد أي شيء! وكل ما حصل هو هذا، هذا الموجود أصلا!
فأنت ليس عندك حتى إمكانية للقياس بشيء آخر، فأنت تقول أف! هذا الذي حصل شيء فظيع ورهيب! لا تراها على هذا النحو، هذا الذي حصل عن طريق المُصادفات، سمها سعيدة، أو غير سعيدة! هذا الذي حصل! مثل موضوع تكساس! فأنت الآن تأتي بطريقة خلفية ورجعية، وتقول يا ربي! هذا الذي حصل رهيب! هذا عجيب!
راسل Russell يقول لك لو حصل عكسه تماما، فسوف تقول رهيب! فظيع! قال لك لا رهيب ولا شيء، وهذا الذي حصل، وانتهى الأمر! فلا تأت وتعمل لي دائرة، وتقول لي أف! قناص كبير! أنتم تعملون دائرة!
لا! جون ويزلي John Wesley قال له غير صحيح. أعتقد ويزلي Wesley طبعا هذا أحد الذين فازوا بجائزة تمبلتون Templeton أيضا! أخذها الفيلسوف هذا! عظيم! عقل كبير! قال له لا، الذي حصل ليس على هذا النحو، الذي حصل بالضبط أن هذا الكون مضيافا! يستضيفنا!
وعلى فكرة مثلما قال فريمان دايسون Freeman Dyson، قال مضياف بطريقة…ماذا قال هو؟ بالغة التحيير! أي تُحيرنا! غير طبيعي! الأشياء ليست جائية هكذا!
وقال بعد ذلك فريمان دايسون Freeman Dyson – هذا من كبار علماء فيزياء القرن العشرين على الإطلاق طبعا، مات سنة عشرين، عن قريب من مئة سنة -، قال أنا لست رجلا من القرن الثامن عشر، أنا لست كذلك! أنا رجل من القرن العشرين والحادي والعشرين، دُربت تدريبا رياضيا وفيزيائيا عاليا جدا!
لست من القرن الثامن عشر؛ لكي أقول هذا البُرهان؛ المبدأ الإنساني، أو ال Fine-tuning، بُرهان قاطع على وجود الله! لا، أنا – قال – لا أقول هكذا! أنا فاهم – قال -، فاهم المطبات، وفاهم المُحاظرات العلمية والفلسفية! ولكن أقول – أنا نفسي! فريمان دايسون Freeman Dyson قال ولكن أقول – المبدأ الإنساني والتوليف الدقيق كاف جدا لكي يدل على دور وعمل العقل في الوجود.
انظر، هؤلاء عندهم عبارات دقيقة، ليسوا سهلين هم! قال لك أنت يُمكن أن تُناقنشني، أنا لا أُناقش في مُصطلحات وأسماء! لا تُريد أن تعترف بوجود الله، مُشكلتك! لكنك لا تقدر على أن تُناقشني – قال كدايسون Dyson أنا، ورياضياتي كبير، وفيزيائي خطير -، وتقول لي إن هذا العالم لا تُوجد فيه معقولية!
كأنه يتكلم عن راسل Russell وأمثاله! انتبه! وعن الذين تكلموا عن مُغالطة قناص تكساس! وكأنك تقول لي إن الوجود نفسه خال من العقل، خال من الوعي، وبالتالي طبعا لا غرض! على فكرة وبالتالي؛ وجود بلا عقل، وجود بلا وعي، هو وجود بلا هدف، Without purpose، لا يوجد Purpose، لا يوجد غرض! وجود بعقل، رُغما عنك، رياضيا، وجود بهدف.
ستقول لي وهذا الذي نحن لا نُريده – العلماء الملاحدة -! هذا الذي أزعجنا نحن، ولا نُريد أن نرجع إلى المُربع الأول والعصور الوسطى والله والدين والأهدف! رُغما عنك، الكون يقول هذا، أي ماذا نعمل لك؟ دعك من الدين، دعك من الأكويني Aquinas، الكون يقول هذا!
جون ويزلي John Wesley أثبتها بطريقة أُخرى! قال لك الذي حصل ليس على هذا النحو، الذي حصل بمثابة ذُبابة بعيدة عنا تقريبا أربعة عشر مليار سنة ضوئية – ذُبابة! ليس نجما ولا أرضا ولا كوكبا، ذُبابة! Fly! على بُعد أربعة عشر مليارا -، أطلق قناص رصاصة عليها، وأصابها! أصاب الذُبابة!
على فكرة هذا ليس كلاما يقوله وكأنه يُمرن خياله، هذا حصيلة مُعادلات رياضية، بالرياضيات! لكي توجد الحياة، وينتج الإنسان العاقل بوعيه هذا، في هذه الظروف، كانت الأمور محسوبة ومُدققة، أي Fine-tuned، بطريقة تُشبه في إعجازيتها ولا احتماليتها احتمالية أن يُطلق قناص رصاصة من الأرض الآن – من هنا، من فيينا -، على ذُبابة، تبتعد عنه أربعة عشر مليار سنة ضوئية، ويُصيبها! ما الاحتمال هذا؟ ستقول لي هذا Zero! احتمال صفر هذا! هو هذا! أين هذه الحسابات الدقيقة؟
لذلك على فكرة، مَن أحب أن يقرأ، فمن أعمق وأفضل الدراسات عن المبدأ الإنساني والتوليف الدقيق كتاب جون بارو John Barrow وفرانك تيبلر Frank Tipler. كتباه ووضعاه بالإنجليزي للأسف، لم يُترجم، لكن شيء عميق جدا! وكلاهما رياضيان وعلماء فيزياء، الاثنان!
جون بارو John Barrow وفرانك تيبلر Frank Tipler تكلما في مئات الصفحات في كتابهم، كتاب ضخم! مُذهل! حسابات كلها، حسابات، رياضيات! ليس أي كلام! وتقول لي دائرة وتكساس وما تكساس! الكلام الفارغ هذا! هذا كله كلام فارغ، هذا ليس كلاما مُحترما.
على كل حال، كما قلنا هذا ليس موضوعنا، لكن أنا أعطيتكم مثالا فقط على كيف تتم النقاشات، وكيف أن الأمور ليست مُسلّمة! على فكرة، لم يرفع طرف من الطرفين الراية البيضاء: استسلمنا، انتهى كل شيء! لا، الجدالات مُتواصلة.
نرجع، فاللاهوت الطبيعي يبحث إذن في البراهين التقليدية؛ لأنه لم يأت ببُرهان من عنده على فكرة، لا يُوجد أي بُرهان قدر العقل العلمي، مهما كان عملاقا وعظيما، أن يفتجره، يبتكره! كلها مُقدمات ومواد لبراهين قديمة.
هذا اسمه بُرهان العلة الغائية، البُرهان الغائي، بُرهان النظم، بُرهان النظام! كل كلامهم في التصميم وفي المبدأ الإنساني والتوليف الدقيق، كله داخل في بُرهان العلة الغائية، واضح؟ هذا شُغل ال Natural theology! واضح يا إخواني؟
ستقولون لي والبُرهان الثاني؟ يُوجد البُرهان الثاني، يُسمونه البُرهان الأنطولوجي. هذا العلم ليس له علاقة به، هذا ليس له علاقة به! هذا بُرهان فلسفي محض! الخاص بأنسلم من كانتربري Anselm of Canterbury. القديس أنسلم من كانتربري Anselm of Canterbury هو الذي عمل البُرهان الأنطولوجي.
لن نشرحه، يُوجد فيلسوف ألماني مُعاصر كتب عنه سبعمائة صفحة، واعتبره من أقوى البراهين، لكن الناس لا يعقلون! مع أن نقده كانط Kant، ونقده هيوم Hume، وديكارت Descartes له موقفان منه، وكذا! هذا قال لا، أعمق مما تتخيلون! ونقده رجل دين مُعاصر لأنسلم Anselm.
هذا الرجل ماذا يقول لك؟ باختصار البُرهان الأنطولوجي يقول لك أنت لما تفكر في مفهوم الكبير؛ مسألة كبيرة، شيء كبير، كيان كبير، أيا كان هذا الكبير! مُخك دائما يفترض أكبر منه. هذا الأكبر الذي لا يوجد أكبر منه هو الله. فقط! مثل هذا! الفيلسوف الألماني كتب سبعمائة صفحة، يُشيّد فيها أركان هذا البُرهان الصعب.
هو ليس سهلا على فكرة كما تتخيل، وليس سهلا نقده! كانط Kant للأسف أخذه من زاوية هكذا، أي لا أعرف! استتفهه! أن هذا بُرهان سهل نقده! وهو ليس سهلا بالمرة!
ماذا قال لك؟ قال لك هذا البُرهان يقوم على فكرة أن ما في العقل ما في الوجود. وهذا يُكذبه أنك يُمكن أن تفترض أشياء كثيرة وتتخيلها، وليس لها وجود! تتخيل كائنا بسبعة تريليونات رأس، وفقط عنده عين واحدة في الرأس رقم أربعة تريليونات وخمسمائة مثلا مليار و…و…و…تخيل! هبّل بما تُريد! وهذا ليس معناه أنه موجود.
تتخيل كما فلاسفة العرب كانوا يقولون، تتخيل بُحيرة أو بحرا، بحرا من زئبق! لا يُوجد طبعا! لكنه غير موجود، بحر من زئبق بارد! غير موجود. فهنا كانط Kant قال وجه نقدا! لا، هذا نقد على فكرة بسيط جدا وساذج، البُرهان أعمق من هذا بكثير، لا أُريد أن نتكلم عنه، موضوع ثان هذا!
هذا ليس له علاقة، المفروض أن ال Natural theology لا يشتغل عليه! لماذا إذن؟ لأنه بُرهان فلسفي محض. إذا تكلم فيه باحث في ال Natural theology، كان هذا نوعا فقط من التأنس هكذا، ورغبة في أن يُوسّع بحثه ويُوسّع مداركه! لكن هو ليس له علاقة، كما قلنا اللاهوت الطبيعي نُقطة بدايته ماذا؟ العلم. يبدأ من العلم!
لذلك أكثر ما يتمثل شُغل اللاهوت الطبيعي، في أي بُرهان؟ بُرهان العلة الغائية. أليس كذلك؟ أنت الآن أخذت فكرة عنه جيدة، وأخذت فكرة عن البُرهان الأنطولوجي، وبقيَ هناك برهانان!
البُرهان الثالث يُسمونه البُرهان الكوني؛ ال Cosmological argument، البُرهان الكوني! ما البُرهان الكوني؟ بعض الفلاسفة، مثل بدوي، يقترح أن يُسمى البراهين الكونية، وأنا معه! هو ليس واحدا بصراحة، هي براهين كونية!
أولا: بُرهان السببية، أو العلة والمعلول، هذا بُرهان كوني! ثانيا: المُحرِّك الذي لا يتحرك، أي ال Unmoved mover! هذا بُرهان لأرسطو Aristotle، بُرهان كوني! ثالثا: بُرهان الواجب والمُمكن، عند ابن سينا وعند الفارابي وعند فلان وعلان، هذا أيضا بُرهان كوني! فهمت ما قصدت؟ ويوجد طبعا تنويعات أُخرى على البُرهان الأخير هذا، لا نُريد أن نذكرها، تحدثت عنها في خُطب قبل سنة.
هذه البراهين كلها تُسمى ماذا؟ البُرهان الكوني! في الحقيقة البراهين الكونية؛ لأن بُرهان الإمكان والوجوب غير بُرهان العلة والمعلول غير بُرهان المُحرِّك الذي لا يتحرك الخاص بأرسطو Aristotle، هذا غير هذا غير هذا غير هذا، تُوجد مُشتركات بسيطة بينها! وسنضطر أن نأتي ببُرهان التسلسل، إبطال التسلسل، داخل فيها! طبعا ضمن بُرهان الإمكان، إلى آخره! فهذه براهين كونية.
نعم، هذه البراهين الكونية يُوجد اشتغال عليها، في اللاهوت الطبيعي يوجد اشتغال عليها، غير موضوع البُرهان الأنطولوجي! لماذا؟ لأن عندها جنبة تتعلق بعالم الطبيعة، خاصة بُرهان السببية!
العلم كله روحه السببية، فما دمت بحثت السببية والعلية، فلا بُد وأن تتكلم عنه. فاللاهوت الطبيعي بعد البُرهان الغائي يتكلم في البُرهان الكوني، أو البراهين الكونية! لماذا؟ من جهة السببية، وما يتعلق بالسببية، ومن جهة ال Contingency! بمعنى ماذا؟ العرضية أو الإمكان.
المفروض بحسب البراهين الكونية أن موجودات العالم، كل ما عدا الله تبارك وتعالى، كلها Contingent beings، كلها Contingent! ما Contingent؟ عرضية. أي هذا تفسير هكذا لُغوي، لكن التفسير الكلامي اللاهوتي مُمكنة، ليست ضرورية، بل مُمكنة! Contingent! واضح؟ لذلك اللاهوت الطبيعي يتكلم في البراهين الكونية.
آخر بُرهان لا يتكلم فيه اللاهوت الطبيعي، إلا على سبيل أيضا كما قلت لك الاستئناس، لكن لا علاقة به؛ البُرهان الأخلاقي. ستقول لي هكذا هو! أنا لخصت لكم هنا أهم البراهين على وجود الله! البُرهان الغائي، البراهين الكونية، البُرهان الأنطولوجي، أخيرا البُرهان الأخلاقي!
البُرهان الأخلاقي أحسن مَن شيّده وتكلم فيه إيمانويل كانط Immanuel Kant! إيمانويل كانط Immanuel Kant صاحب الفلسفة النقدية المعروفة! وباختصار هذا – أي بطريقة يُمكن أن يفهمها أي واحد – كالآتي!
وطبعا هو عنده كتاب كامل عنه، فقط! لكن اختصاره كله بجُملة واحدة: أن – سُبحان الله! – كل إنسان في أعمق أعماق تعقله وإدراكه يُسلّم بأن الخير لا بُد أن يُكافأ، وبأن الشر لا بُد أن يُعاقب. حتى الطفل الصغير!
والآن هذا علماء النفس يُسمونه ماذا؟ يُسمونه الحس الأخلاقي المزروع، ال Embedded! Embedded moral sense! حس أخلاقي Embedded! ما معنى Embedded؟ مزروع! أي الطفل يُولد به! الطفل ابن بضعة أشهر – قال لك – لو رأى اثنين من الأطفال الصغار، ورآهم لفترة مُناسبة، أي ليوم، يومين، أو ساعة، ساعتين! وعرف أن هذه اللُعبة لفلان، لهذا: ل A، ورأى بعد ذلك B أخذ اللُعبة، مُباشرة يُعطي Response، يُعطي Reaction امتعاض، ولا يُعجبه! ضد الظلم! أن لا، هذه ليست لك! والطفل عُمره أربعة أشهر، خمسة أشهر! شي ء غريب! كيف؟
قال لك هذا Embedded. علم النفس هنا يتكلم في المسألة هذه، حلو! فكانط Kant كان يفهم المسألة هذه، قال لك يوجد! عندنا حس مزروع. وهذا الحس المزروع مُستحيل أن يكون جاء من العدم، ومُستحيل أن يكون باطل الأباطيل. مثله – إذا أردنا أن نُشبهه بشيء حسي – مثل الطفل الذي تلده أمه، يخرج من الرحم، يبكي! مُجرد أن تُعطيه الثدي، يلتقمه، ويبدأ يمتص اللبن. بكاؤه إشارة على أن هناك شيئا لا بُد أن يوقف هذا البكاء! كيف؟ هل تعلم؟ هو لم يتعلم ولم يعرف.
يقول لك غريزة! كأننا فهمنا! أي حين قلنا غريزة، نحن فهمنا! هذه الغريزة مُلصق هكذا، هذه تفسيرات إلصاقية! ضع غريزة، وكأنك فهمت! فلا تظن أنك فهمت؛ لأنها غريزة! ما معنى غريزة؟ أنت فهمت أنها غريزة، وانتهى الأمر، فسرت؟ لم تُفسر شيئا، لم تُفسر!
فكانط Kant قال لك تماما كما أن العطش – عطش ابن ساعة، ابن دقيقة، يخرج من رحم أمه عطشان، يُريد اللبن – يدل على وجود اللبن أو الماء، كذلك التشوف والتعطش الإنساني للعدالة، أن يُكافأ الخير، وأن يُعاقب الشر، دليل على وجود فضاء، ساحة، مكان ما، حيز ما، يتم فيه مُعاقبة الشر، ومُكافأة الخير. قال للأسف هذا ليس الدنيا! الدنيا ليست كذلك!
وفعلا تاريخها يقول كم من ظلمة عاشوا وماتوا مُعززين مُكرمين! ستالين Stalin إلى اليوم مُعزز مُكرم! أليس كذلك؟ تسبب في قتل خمسة وعشرين مليون بشر، عنده في جورجيا صنم كبير، ويعتبرونه – ما شاء الله – أباهم المُعظم المُقدس!
لينين Lenin – بالروسي اسمه لينيين Ленин، نحن نقول لينين Lenin – نفس الشيء! ارتكب جرائم وأشياء وكذا، مُعزز مُكرم، وإلى اليوم مُحنط مُخه، ويرون أن هذا ما شاء الله!
جزار ليبيا وأثيوبيا وصربيا غراتسياني Graziani، على قبره المُبجل المُعظم، هكذا مكتوب عنده! المُبجل المُعظم وما إلى ذلك، إلى اليوم! أحرق الناس أحياء هذا، في ليبيا وأثيوبيا وصربيا!
(أمثالهم مثايل)، لا يعلمهم إلا الله! عاش ومات وهو مُجرم، فرعون، قاتل، شرس! وعاش ومات مُعززا مُكرما! يعب من المجد والشهوات، كل ما يُريد! يُوجد شيء هنا ناقص، أليس كذلك؟ قصة غير مُكتملة! يُوجد شيء في قعر النفس يرفض هذا، يأباه، لا يُسلّم له، ولا يُسلّم به.
كانط Kant قال لك هذا هو دليلي أنا الأقوى على وجود الله – لا إله إلا هو -؛ البُرهان الأخلاقي! ليس العقل، والإمكان والواجب! قال أنا عندي موقف ثان مُختلف في الأشياء هذه كلها! وبُرهان التصميم! قال أنا عندي نقودي على الأشياء هذه. فلسفته هذه شيء ثان! قال لكن عندي بُرهاني الأخلاقي على وجود الله، هو هذا البُرهان.
وبُرهان جميل! لكن هذا لا يشتغل في ال Natural theology، ليس له علاقة به! لأنه بُرهان ليس من طبيعة علمية! وليس له جنبة علمية! إلا الآن، انظر، كما قلنا إذا بدأ علم النفس التجريبي يُثبت لنا، وبدأ يتكلم، يُمكن أن نُدخل العلم قليلا قليلا، يُمكن! كل شيء يتغير على فكرة، جميل! لا تُوجد مُشكلة! لا يُوجد شيء ثابت إلى ما لا نهاية وثابت للأبد.
أعتقد أننا نكتفي الآن بهذه الحلقة، على أن نُكمل – إن شاء الله – في الحلقة المُقبلة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أضف تعليق