بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
أُكمل، إخوتي وأخواتي، في هذه المُحاضرة، ما انقطع من حبل الحديث، عن النموذج الثاني لعلاقة العلم بالدين، وهو نموذج الانفصال أو الاستقلال أو التوازي.
ووقفت ربما في آخر المُحاضرة السابقة عند نُقطة أن من العلماء الذين أو الدارسين الذين يبحثون في هذا الملف الشائك، مَن يصدرون عن مواقف معيارية، أو تحدوهم وتبعثهم روح معيارية، ليست روحا علمية وضعية.
وحذرت من هذا! وتكلمت عن بعض تواليه، عن بعض تواليه وكيف يُمكن أن يغرق العالم أو يتورط في إطلاق دعاوى ليست من طبيعة علمية، من خلال موقعه العلمي، الذي أكسبه إياه العلم! مع أن هذا الموقع العلمي لا يسمح له البتة بإطلاق دعاوى مثلا ميتافيزيقية، ممنوع! يكون دخل في حقل ليس حقلا له.
نعود إذن إلى تعريف نموذج الانفصال. ما معنى نموذج الانفصال؟ نموذج الانفصال يقول الحياة أكثر تركبا، أكثر تعقدا، من أن تُقارب بالعلم مثلا وحده، أو حتى بالدين وحده، أو حتى بالفن وحده، أو بالعمارة وحدها، أو بالأدب وحده.
لا! الحياة مُعقدة وغنية ومُتنوعة بشكل خصيب، إذا أردنا أن نُقاربها، فلا بُد أن نُقاربها بكل ما يفي بماذا؟ بحقيقة تركبها وتعقدها.
فالعلم هنا يشتغل في نطاق مُحدد، المفروض أنه لا يتجاوزه إلى غيره. هذا سيكون موضوع المُحاضرة اليوم، وربما المُحاضرة التي تتلوها أيضا. الدين أيضا ينبغي أن يشتغل في نطاق مُحدد، ولا يتغول على سائر النُطق.
طبعا هذا الكلام الآن قد يقشعر منه بدن بعض المُتدينين، من ذوي النزعة الإمبريالية! أي للأسف بعض المُتدينين عندهم نزعة شمولية، بل بعضهم يُبشر بها ويفرح بها! أن الدين لم يترك شيئا إلا تكلم فيه. وهذا الكلام غير صحيح، ولا يخدم الدين. هذا يضر بالدين أكثر مما يخدمه!
في الحقيقة أن الدين بلا شك له فضاء ونطاق مُحدد يُمكن أن يشتغل فيه ويعمل فيه، ولا ينبغي عليه أن يتغول على صلاحيات النُطق الأُخرى. أي لا يُمكن، ولا يجوز مبدئيا – ليس لا يُمكن؛ لأن في الحقيقة هذا يحصل، ويحصل بالطريقة الخاطئة الغالطة -، لا ينبغي ولا يسوغ أن يُطلق المُتكلمون باسم الدين مثلا دعاوى علمية.
ما علاقتكم؟ هذه قضايا علمية، هذه يتكلم فيها الفيزيائي، الكيميائي، الرياضياتي، عالم الفلك، عالم الأحياء، لست أنت كعالم دين، ممنوع أن تتكلم وتُطلق دعاوى علمية، ذات طبيعة علمية!
ستقول لي ولكن في كتابي المُقدس هناك ما يدل! كل هذا سنُناقشه اليوم، انتبه! لكن هذه الدعوى بطبيعتها ذات طبيعة علمية. هنا يكون الدين قد جار وتجاوز حدوده، جار على حدود صاحبه، وهو العلم مثلا، وهذا خطأ.
كذلك العلم يفعل! خاصة عند أصحاب النزعة كما قلت الإمبريالية العلمية، أو الشمولية العلمية، أو أصحاب النزعة العلموية، الذين يرون أن العلم، والعلم وحده، هو القادر على أن يُمدنا بأي معرفة موثوقة! كل ما سواه لا ثقة به! بعضهم يقول خُرافة. بعضهم يقول خدعا. أي إنها خدع.
بعضهم يقول إنها أكاذيب، إنها أوهام، إنها التباسات. حتى بعضهم يصفها بالأمراض العقلية والنفسية! الطروحات الدينية والروحية! شيء غريب! كل هذا لا يلتئم ولا يتوافق مع نموذج الانفصال والاستقلال والتوازي.
الآن هذا النموذج كما أشرت في الحلقة السابقة يحظى بدعم الكثيرين، الأغلبية! عبر العصور. كيف يُمكن أن نُبرهن على هذا؟ وهل فعلا هذا هو الذي حصل، وهذا هو الحاصل؟ نعم. هذا النموذج فعلا بالدراسة كذلك. إذا قمنا بدراسة للنماذج المُختلفة، ثم أحصينا مدى ما سعدت به من مُساندة ودعم وتأييد، فسنجد أن نموذج الانفصال حقيقة ربما يكون أسعدها!
هو مُريح، مبدئيا هو نموذج مُريح؛ لأنه فك ارتباط. انتهى! أنت اعمل في حقلك، أنا أعمل في حقلي، انتهى كل شيء! لكن هل عمليا وواقعيا يُمكن أن يشتغل بهذه السلاسة؟
ألا يُمكن لرجال الدين أن يتورطوا في إطلاق دعاوى كما قلت من طبيعة علمية؟ هم يفعلون هذا طوال الوقت! هم فعلوا ولا زالوا يفعلون هذا طوال الوقت للأسف الشديد! سيان الإسلام، اليهودية، المسيحية!
هل يُمكن أيضا ألا يتورط رجال العلم في إطلاق دعاوى من طبيعة ميتافيزيقية أو دينية؟ بعضهم – لا أُريد أن أقول الكثير منهم، لكن بعضهم – فعلوا هذا ويفعلونه وبعناد وإصرار، وبعناد وإصرار! مُتجاوزين هذا النموذج. أي هذا يعني بكل بساطة أنهم غير مُقتنعين بهذا النموذج، فقط هذه هي القصة!
لذلك هذا النموذج لا يُمثل حلا دبلوماسيا لائقا، على منطق الصوابية السياسية، لا! هذا النموذج إذا فهمته حقا، له تكاليفه، وله استحقاقاته! إنه يوزع المهام، يوزع المهام ويُحدد الصلاحيات، وفي نفس الوقت يُوجب الاحترام المُتبادل، ويُلزم برعاية ماذا؟ التخصص والحدود.
مُتعب! أي هو ليس نموذجا سهلا على فكرة. إذن هو ليس تكتيكا. وليس حلا دبلوماسيا، عند مَن يؤيده ويدعمه. هم يرونه كحل حقيقي، وقادر على أن يفك الاشتباك في هذا الباب. هم يرونه كذلك!
لكن قبل أن أُكمل، خطر على بالي الآن: تكلمت عن اليهودية، المسيحية، الإسلام! ما بال البوذية، وهي ديانة عالمية، مُنتشرة كثيرا؟ ما بال الهندوسية، وهي ديانة واسعة الانتشار، في بلادها، في قارتها؟
هذا الموضوع ربما نعود إليه حين نتكلم – في مُقدمة الكلام – عن موقف الإسلام والفكر الإسلامي في قضية العلم والدين. من حُسن الحظ أن بعض المؤسسات البحثية حول العالم عُنيت بهذا الملف. هناك دراسات لا تزال بسيطة، حتى حجم العينات، أي التي يتم استشارتها، قليل نسبيا! أي عشرات الناس، ليس مئات، فضلا عن ألوف الناس! لكن الأمر إلى حد ما سهل، لماذا؟
الهندوسية مثلا مبدئيا لا ترى أن لديها مُشكلة مع العلم، بطبيعتها! هذا ما سنُوضحه كما قلت عند الحديث عن الإسلام والعلم، لا ترى! لا تُوجد إشكالات. على فكرة هناك بعض الديانات، أو كثير من الديانات، ليس لديها قصة خلق مثلا، انتهى!
إذن هذه ليس لها عندها أي مُشكلة! مع داروين Darwin أو غير داروين Darwin! لا داروين Darwin ولا لامارك Lamarck ولا غيرهما، ليس عندها أي مُشكلة. ثبت هذا علميا، مرحبا به. لم يثبت علميا، أيضا في أمان الله! لأن ليس عندها قصة خلق.
في حين أن المسيحية واليهودية والإسلام، الثلاثة لديها قصة الخلق، تقريبا نفسها! آدم وحواء والطين والماء وكذا! قصة خلق! فحين يأتي العلم التطوري ضدا على هذه القصة، هنا تنشأ نقاط التوتر، تنشأ ما يُمكن أن يُعد حتى أزمة، وإن كانت قابلة للحل، حتى وفق نموذج الانفصال! لكن بعض القصص تختلف.
البوذية مثلا ليس عندها أي مُشكلة مع العلم، إطلاقا! أكثر موقف مُتساهل مع العلم البوذية، تخيل! سوف نرى لماذا! لكن في نهاية المطاف البوذي، كالهندوسي، كالمسلم، واليهودي، والمسيحي، بعض هؤلاء لديهم تحسسات، ولديهم تخوفات، من بعض التطبيقات العلمية، وأحيانا من بعض المساعي العلمية الكشفية!
يعتبرونها انتهاكا لكرامة الإنسان، انتهاكا لقدسية الحياة، أو تهديدا لبعض المبادئ العقدية – أي ال Doctrines -، التي لا تزال مُتبناة لديهم، ولو من طرف خفي. مثل ماذا مثلا؟ نعم، مثل الاستسنساخ.
الاستنساخ؛ ال Cloning مثلا، هذا يُهدد، خاصة الاستنساخ البشري، يُهدد كل الهنود، الذين يعتقدون بقضية الكارما Karma، وقضية التناسخ؛ ال Reincarnation، طبعا! أنت بالطريقة هذه هددت هذا المبدأ، قد تقتله أيضا! تخيل! فلذلك يُعربون عن تخوفاتهم.
قدر أكبر من هذه التخوفات طبعا عند مَن؟ عند الأديان التوحيدية. هذا كله سنعود إليه – إن شاء الله – في كلامنا عن الإسلام والعلم، أو الفكر الإسلامي والعلم، فيما نستقبل من حلقات.
ونعود إلى ما كنا فيه؛ تبدأ القضية يا إخواني مع ال Metaphor أو المجاز أو الاستعارة التي تكلمت عنها تقريبا في كل الحلقات السابقة؛ مجاز أو استعارة الكتابين.
طبعا لن تعدم مَن يقول لك بثلاثة كتب! في السياق الإسلامي، وحتى في السياق المسيحي. فهناك بونافنتورا Bonaventura؛ الراهب، والذي طوب بعد ذلك، تقريبا بعد مئتي سنة؛ لأنه تُوفي – على ما أذكر – ألف ومئتين وأربع وسبعين.
هو مُعاصر لتوما الأكويني Thomas Aquinas، والأكويني Aquinas مات ألف ومئتين وأربع وسبعين! وحصل كلاهما على درجة الأستاذية بالتشارك! لكن بونافنتورا Bonaventura كان أفلاطونيا، أوغسطينيا، ولم يكن أرسطيا. توما الأكويني Thomas Aquinas كان أرسطيا، ولم يكن أفلاطونيا. هذا هو الفرق بينهما!
لذلك لاهوت الأكويني مُتزمت، صلب، مثل اللاهوت الإسلامي هكذا واليهودي، لاهوت بونافنتورا Bonaventura لاهوت تصوفي؛ ميستكري! تصوفي، فيه نوع من الانفتاح، وهو لاهوت مُعجب! أي الذين درسوه وقرأوا الأعمال الكثيرة لهذا الرجل، وجدوا أن الرجل كان شخصية روحية فذة! لأنه راهب كاثوليكي فرنسيسكاني.
هو من الرهبنة الفرنسيسكانية! هؤلاء يعتنون كثيرا بتربية النفس، وبالروحانية العالية، وبالعلاقة الخاصة مع الله تبارك وتعالى. فالرجل كان شخصية مُعجبة، وعنده لاهوت قوي! تحدث عن ثلاثة كتب!
تحدث عن ثلاثة كتب: كتاب مكتوب من الأمام والخلف، وكتاب مكتوب من الداخل فقط، وكتاب مكتوب من الظاهر والباطن. والثلاثة الكتب تدل على الله. لعلي أعود إلى هذا أيضا المجاز، وأشرحه بتوسع أكثر.
في السياق الإسلامي لدينا مَن تحدث عن الكتاب المنشور؛ الكون، العالم، الطبيعة! والكتاب المسطور؛ القرآن! والكتاب المستور. والكتاب المستور هو الطبيعة، أو العقل! أو ما سماه رينيه ديكارت René Descartes ومَن تلاه بالنور الطبيعي، النور الإلهي! هذا لاهوت داخلي عندك، آخر أيضا! هذا دليل آخر.
فثلاثة كتب! لكن مجاز ال Two books أو الكتابين مجاز مشهور جدا! وقد رأينا كيف استعان به غاليليو غاليلي Galileo Galilei؛ في رسالته طبعا إلى الدوقة العُظمى كريستينا Christina.
هو استعان بمجاز الكتابين! لكي أيضا يُعالج ملف الدين والعلم. أنا رأيت أنها مُعالجة فعلا إلى حد بعيد مُحكمة، مُتوازنة، وإن لم تكن طبعا مقبولة من الكنيسة.
الكنيسة حين تقرأ تاريخها لها وعليها، للأسف الشديد التاريخ يُعلمنا هذا. وهذه طبائع الأشياء! علينا ألا نكون فقط معنيين بإصدار أحكام قيمة؛ أنهم كذا ونحن كذا. هم كذا ونحن كذا أيضا، انس! هذه طبائع البشر، طبائع المُجتمعات، طبائع المؤسسات، طبائع الأديان، الأشخاص! تقريبا مُتشابهة في العالم!
أي يُمكن أن نأخذ تساؤلا واحدا: هل يُمكن لأحد أن يتخلى عن سُلطانه وسُلطاته وأملاكه طواعية؟ لا طبعا، لا أحد – لا دولة، لا مؤسسة، لا دين، لا جماعة، لا مجموعة، لا تنظيم، لا تشكيل، لا شخص – يتخلى عن سُلطانه وسُلطاته وأملاكه وفضاءاته طواعية هكذا، من ناحية أخلاقية، لا أحد يعملها! ولذلك الكنيسة طالما لم تكن مُضطرة ملزوزة أن تتخلى، لم تتخل. قالت لك لا أتخلى.
في هذا الظرف أيضا من…ماذا نقول إذن؟ من البغي السُلطوي، صدر ما يُعرف بال Index. حدثتكم عنه قبل أكثر من خمس عشرة سنة! ال Index!
Index Librorum Prohibitorum، أي List أو Index الكُتب المُحرمة باللاتينية، أي Prohibitus books! هذا ال Index وصمة عار في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية! صدرت أول نُسخة منه ألف وتسعمائة وتسع وخمسين – على ما أذكر -. البابا أو ال Pope بول الرابع Paul IV أصدره ألف وتسعمائة وتسع وخمسين.
آخر نُسخة صدرت منه، وهي النُسخة العشرون، متى؟ ألف وتسعمائة وثماني وأربعين. شيء لا يُصدق! بعد الحرب العالمية! الثانية! هناك Index مُحرم للكتب؟ نعم. يمنع ويؤثّم ويُجرّم مَن يتعاطى هذه الكتب أو يقرأها أو يطبعها أو ينشرها أو يتعاطف معها أو كذا أو كذا! كم إذن؟
عشرة، عشرون، ثلاثون كتابا؟ انظر؛ النُسخة العشرون، ألف وتسعمائة وثماني وأربعين، أربعة آلاف كتاب فيها! مُحرمة! أربعة آلاف كتاب خطيئة وإثم أن تتعاطى مع إي منها!
عجيب! على أي أساس؟ ما الذي سوغ به هذا التأثيم والتجريم والتحريم؟ أُسس مُختلفة، في رأسها اللاهوت العقدي الديني، ثم الأخلاقي، ثم السياسي! وأُسس أُخرى أيضا! حتى السياسة أدخلوها، لاعتبارات سياسية أيضا!
العجيب أن النُسخة الأولى، والتي تُعرف بنُسخة بول Paul؛ لأن بول الرابع Paul IV هو الذي أصدرها – اسمها Pauline index؛ الفهرست البولوي، Pauline index! هذه النُسخة! فضلا عن الأعمال الفردية؛ كتاب كذا مُحرم، كتاب كذا مُحرم، كتاب كذا مُحرم – اشتملت على تحريم الأعمال الكاملة – ال Gesammelte werke كما يُسمونها بالألمانية، الأعمال الكاملة – لخمسمائة وخمسين مُصنفا! كل ما كتبوه ممنوع أن تتعاطى معه!
كل؟ إذن يا أخي هل كل ما كتب في السياسة؟ لا. هل كل ما كتب في الدين؟ لا. لا! كثير مما كتب هؤلاء الخمسمائة وخمسون في الجغرافيا، في علم النبات، في التاريخ، في طبقات الأرضية – كانت بدائية، معلومات بدائية، بسيطة جدا جدا -، في أشياء كثيرة، في الطب، في الصيدلة! مُحرم، ممنوع أن تتعاطى معه! لماذا؟ انظر إلى المبدأ التسويغي، انظر كيف يكون التغول، لما سُلطة مُعينة تتغول! هذا التغول، سُبحان الله! هذه طبيعة البشر!
قال لك لأن الشخص الذي تسربت عقيدة، أي عقيدة، خاطئة أو هرطوقية أو تجديفية، إلى فضاء نفسه أو قلبه، كفيلة أن تُلوث – تعمل تلويثا، مثل التلويث بالجراثيم وكذا، وبالغاز وبالشعاع – كل ما يصدر عنه!
حتى لو كتب في أمر لا علاقة له بالدين! كتب في علم النبات! مُلوث! قال لماذا؟ لأن الكاتب نفسه عنده عقيدة خاطئة في اللاهوت! فكتاباته في النبات مُلوثة! تغول عجيب! لذلك خمسمائة وخمسون عالما ومُصنفا حُرّمت أعمالهم الكاملة!
العجيب؛ في رأس الكتب المُحرمة الكتاب المُقدس! ماذا؟ نعم، مُحرّم ال Bible! كيف؟ ليس الكتاب المُقدس الخاص بهم باللاتيني، الذي تُرجم إلى اللُغات القومية. كتاب مُقدس بالألمانية مُحرم، ممنوع أن تقرأه، ممنوع أن تضع يدك عليه، ممنوع أن تتعاطاه.
الكتاب المُقدس ينبغي أن يبقى باللاتينية فقط، التي لا يُحسنها إلا الرُهبان والقُسس والباباوات، أي ورجال الدين، وقلة من المُثقفين، العلمانيين كما يُسمونهم – هم الذين ليسوا من رجال الدين -، قلة! لكن مُعظم الناس لا تُحسن اللُغة اللاتينية هذه الصعبة، اللُغة الأثرية القديمة! قال لك هذا فقط يبقى باللاتينية.
لماذا؟ لأنه ضدا على مبدأ البروتستانت؛ المُعترضين، أنه يُحق لكل أحد أن يقرأ الكتاب، وأن يقرأه بفهمه وروحه، لا! لا يحق لك أن تقرأه، بل يقرأه لك الراعي، رجل الدين الكاثوليكي، وهو المُخول وحده أن يُفسره، ليس أي واحد! وهو أيضا يخضع – أيضا تفسيراته -، إذا خرج فيها عن الصراط المُستقيم، نفس الشيء! طبعا لا بُد أن يؤثّم وأن يُعاقب، وربما يُلقى عليه الحِرم! يُسمونه الحِرم! يُصبح محروما من دخول الملكوت! شيء عجيب!
فالكتاب المُقدس في قائمة الكتب المُحرمة، وهو الكتاب باللُغات القومية! بالألمانية، بالإنجليزية، بالإيطالية! ممنوع، ممنوع، كله مُحرم، مُحرم! ولذلك تيندال Tyndale المسكين – أعتقد هذا ألف وخمسمائة وست وثلاثين، في عصر الإصلاح – تم إعدامه حرقا بالنار، على جريمة أنه ترجم ال Bible إلى الإنجليزية! أُحرق! أحرقوه! جريمة عُظمى!
طبعا ستقول لي أكيد حُرمت طبعا أعمال مارتن لوثر Martin Luther؟ كل أعمال مارتن لوثر Martin Luther! جون كالفن John Calvin، ملانكتون Melanchthon، نحن نُسميه ملانختون بالنمساوية! فيليب ملانكتون Philipp Melanchthon، هذا الشخصية الثالثة في الإصلاح! أعمال هؤلاء، رواد الإصلاح الكبار الثلاثة، كلها مُحرمة، محظورة، بلا شك! طبعا أعمال غاليليو Galileo مُحرمة، يوهانس كيبلر Johannes Kepler أعماله مُحرمة، تخيل! أعمال كثيرة علمية بحتة!
ستقول لي كيف كان الوضع في العصر الحديث، في القرن العشرين؟ ما الذي حصل مع سارتر Sartre وفرويد Freud؟ طبعا كل هذا مُحرم، كله، كله! فضلا عن الروائيين الذين لم يلتزموا حدود الأدب والأخلاق! كل أعمالهم مُحرمة! إلى آخره!
فهذا التغول الديني، أو ليس تغولا دينيا حتى، هو تغول السُلطة! مَن يمتلك السُلطة، يتغول، بمقدار ما تسمح به الظروف. متى أُلغيَ سيء السُمعة هذا – هذا ال Infamous index -؟ هذا أُلغيَ يا إخواني في الستينيات، من القرن العشرين. ألغاه أيضا بول Paul؛ بولس السادس Paul VI! بولس السادس Paul VI في مطلع ستينياته، أي في مطلع السبعينيات، في السادس والستين!
بولس السادس Paul VI هو الذي ألغاه. بول الرابع Paul IV هو الذي سنه، بولس السادس Paul VI – انظر بعد كم مئة سنة؟ – هو الذي ألغاه. فهذا كان يحصل للأسف الشديد!
نعود إلى مجاز الكتابين؛ مجاز الكتابين اعتمد عليه غاليليو Galileo ليُعالج هذا الملف الشائك كما قلنا، وعالجه بتوازن كبير، إلا أنه لم يكن مقبولا من الكنيسة، ورفضته! لأنه ليس مثل غاليليو Galileo، وهو الفيلسوف الطبيعي، أي العالم الطبيعي، مَن يتكلم باسم الدين، أو في شأن ديني، أو في شأن يدخل فيه الدين.
نعم، لكن هذا الشأن صار فيه تداخل ونزاع، مع الشأن العلمي، والرجل في نهاية المطاف مسيحي، وربما يرى نفسه تقيا، أي بطريقة أو بأُخرى، ويهمه الدين، كما يهمه العلم، يُريد أن يتكلم! قال لك لا، لست أنت مَن يتكلم، ولا ينبغي أن يُسمع إليك! لكن التاريخ استمع إليه، المسار كله في الأخير استمع إليه!
مُقاربته عرضتها لكم عبر النماذج الأربعة، مُقاربة مُتزنة وذكية ومُركبة، ومُركبة! بدأ بالمبدأ الطبيعي، أنا سميته مبدأ التعليق، تلاه مُباشرة مبدأ المُلاءمة أو التكييف أو الموافقة أو التوفيق؛ Accommodation principle، عبر هذين المبدأين يُمكن لنا أن نعتد وأن نحتسب غاليليو Galileo على مُعسكر القائلين بالانفصال.
لماذا أنا أحكي الكلام هذا؟ غاليليو Galileo في رأس القائلين بنموذج الانفصال! الدين يشتغل في حقله، العلم يشتغل في حقله. لا ينبغي أن يتغول أحدهما على الآخر. لماذا؟ قال لك المبدأ الأول؛ المبدأ الطبيعي، أنا سميته مبدأ التعليق.
إذا ذهبت تدرس أي ظاهرة طبيعية، فعليك أن تضع كتابك المُقدس – أي Sacrepture -، نصك المُقدس، بين قوسين! هو لا يأمرك أن تتخلى عنه، ولا أن تكفر به، ولا أن تُكذّبه، لكن يقول لك ليس النص المُقدس هو الوسيلة والمنهجية المُلاءمة لدراسة عالم الطبيعة، لا! ليس النص المُقدس. اتركه هذا على جنب! سوف نرى فيما بعد ما الذي يحصل وما النتيجة التي معنا!
فهنا برزت مُشكلة، هو افترضها طبعا، وأجاب عنها! قال إذن ذهبت أدرس الطبيعة بوسائل طبيعية، خرجت أو خلصت إلى نتائج في ظاهرها تتعارض مع ظاهر النص المُقدس! ماذا أفعل؟ قال لك تلجأ إلى مبدأ المُلاءمة؛ Accommodation principle.
مبدأ المُلاءمة أو التوفيق ينص على ماذا؟ ينص على أن الله تبارك وتعالى حين أوحى بهذه النصوص المُقدسة، التي أودعت في الكتب المُقدسة، إنما لاءم الحقائق المُتعلقة بعالم الكون والطبيعة، لاءمها بمُستوى الناس المعرفي في حقبة النزول والوحي. لازم – قال لك -! لأن هذا بالعقل. وتجد أن كلامه معقولا إلى حد بعيد جدا جدا.
معقول أن الله قبل ثلاثة آلاف سنة وألفي سنة وألف وخمسمائة سنة، ينزل كلاما يتحدث عن عالم الطبيعة، يُقرر فيه حقائق عالم الطبيعة بطريقة تُخالف مُستوى الناس في التعاطي وفهم هذه الظواهر؟ مُستحيل.
أي ماذا لو كان فعلا، في واقع الأمر، كما هو مُرجح طبعا، أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليس العكس، وأنزل الله في العهد القديم أو الجديد أو القرآن، أن الأرض هي التي تدور، وأن الشمس ثابتة، والأرض تدور حولها؟
لكان في ذلك أكبر مدعاة لمَن أُوحيَ إليهم هذا الكلام وخوطبوا به أن يكفروا بالدين! يقول لك هذا كلام فارغ، خُرافات! يقول لنا إن الأرض تدور! والأرض لا تدور، الأرض ثابتة. الفلك كله هو الذي يدور، السماء تدور حولنا! أليس كذلك؟ ها هي، نراها بالعين!
فكان غير مقبول! هذا معنى مبدأ المُلاءمة! إذا تحدث الله في قضايا طبيعية – يقول غاليليو Galileo -، فيتحدث بمُستوى يقبله أهل عصر النزول. هو أراد ذلك! سؤالي الآن – أنا طرحته في الحلقة السابقة – هل كذب الله عليهم بهذا الشأن – أستغفر الله العظيم -؟ أبدا، أبدا، أبدا، أبدا، أبدا، أبدا!
هنا تأتي مُقاربتي، التي هي ماذا؟ موضوع أن الكتب المُقدسة، من حيث الأصل، من حيث المبدأ، تصدر عن وتُفرغ عن الموقف الطبيعي، موقف البداهة، موقف الحس المُشترك. وهذا المعقول جدا جدا! أي لا بُد أن يُخاطبك الوحي الإلهي بما تراه وتلمسه وتحسه، ولا ترى نفسك مدعوا بالمرة للشك فيه. لماذا؟ لكي يخلص من خلال هذا، إلى إيصال الحقائق الروحية السماوية إليك! لأن في نهاية المطاف الدين ليس علما، الدين ليس هدفه أن يُعطيك تفسيرات علمية للكون، أبدا! العلماء فعلوا هذا.
وعلى فكرة، يُوجد عندي مبدأ في فهم الدين، مُهم جدا جدا! وأرجو أن هذا يُشتغل عليه، أي أنا أُغري إخوتي الباحثين والذين يُحبون أن يشتغلوا شُغلا جيدا، على مُستوى ماجستير ودكتوراة، أن يشتغلوا على هذا المبدأ. يُمكن أن تعمل عليه رسالة كبيرة، وسيكون هناك اختراق كبير عندنا!
ما هو المبدأ هذا؟ ماذا يقول هذا؟ علينا أن نُحدد بدقة ما المُتوقع من الدين؟ وما الذي يأتي عرضا، وربما لا يأتي، وإن لم يأت، فلا بأس؛ لأنه أصلا غير مُتوقع، من الدين؟
كل شيء يُمكن أن يُنجزه البشر، وبطريقة جيدة ومقبولة وتقبل المُراكمة وتكون طريقة تقدمية – أي Progressive! تتقدم -، يستحيل أن يكون الدين أتى من أجله، أليس كذلك؟ واضح! بالبداهة!
أي مُستحيل أن الدين جاء لكي يُعطيك حقائق علمية طبيعية. ولذلك هو لم يفعل، البشر فعلوا! نحن نعيش الآن في عصر العلم، نعيش في فتوحات العلم، التي هي أغرب من الخيال! أغرب من السحر! أليس كذلك؟ العلم! البشر فعلوا هذا، وبعضهم ملاحدة، لا يؤمنون حتى لا بآلهة ولا بأديان، وفعلوا هذا! أليس كذلك؟
ثانيا؛ هل الدين جاء لكي يُعطيك نظرية في السياسة وبناء الدول وإدارة الدول؟ مُستحيل. الدين لم يفعل، والبشر فعلوا من قبل ومن بعد، ودائما يُطورون من تجاربهم، ينجحون ويُخفقون بطريقة نسبية!
لذلك تجد القرآن الكريم مثلا يخلو من هذا، على الإطلاق! وهذا الذي سبب أزمة للصحابة، عشية وفاة الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، مَن الذي يكون خليفة بعده؟ وكيف تكون الخلافة؟ وكيف القصة؟ لأن ليس عندهم، ليس عندهم أي وصية، ولا أي نص، ولا أي شيء، يسترشدون به! أليس كذلك؟ طبعا!
بعد ذلك سيتم تأليف بعض النصوص، وتُنسب إلى النبي، وواضح أن هذه مسكوكة، في دار سك الأحاديث، وليس سك العملات! بدليل أن أحدا من أصحاب السقيفة لم يستشهد بها. ما شاء الله!
أنتم علمتموها بعد ثلاثمائة سنة – هذه النصوص -، ولم يستشهد بها أبو عُبيدة، ولا عُمر، ولا سعد بن مُعاذ، ولا سعد بن عُبادة، ولا أبو بكر الصديق، ولا أبو عُبيدة الجراح؟ وأنتم عرفتموها بعد مئتي وثلاثمائة سنة؟ واضح أنها علامة الكذب هذه، أليس كذلك؟
الدين ليس من شأنه أن يُعلمك كيف تبني دولة وكيف تُديرها. البشر فعلوا هذا من قبل، أليس كذلك؟ والدولة الرومانية كانت دولة وثنية، وفعلت هذا باقتدار مُعجب جدا! أليس كذلك؟ مُعجب! أي ليس أي كلام. إمبراطورية هذه، عاشت لأكثر من ألف سنة! ليس أي كلام. فمُستحيل أن تتوقع من الدين هذا.
هل تتوقع من الدين أن يُعطيك مثلا مساقا دراسيا علميا في علم البستنة؟ كيف تُعالج البساتين وال Gardens وما إلى ذلك؟ مُستحيل! أو في علم المُواصلات، أو تنظيم الضرائب؟
يا رجل، عليك أن تكون دقيقا، ولا تتغول، ابحث بالضبط؛ حتى تصل إلى جوهر الدين، جوهر رسالة الدين! الدين – أنا أقول لك بكلمة واحدة – يُعطيك ما يعجز، وما ليس له أصلا صلاحية أن يُعطيك إياه غيره. هناك أشياء الدين سيُعطيك إياها، غيره لا يُمكن أن يحل مكانه، ولا يصلح أن يكون مكانه، هنا يكون الدين! ابحث عن الدين هنا، على فكرة!
لكن هذه الطريقة الإمبريالية فاشلة! ونُريد أن يصير الدين سياسة ودولة وعسكرة واقتصادا وعلما، وأسلمة العلوم وما إلى ذلك! هذه طريقة فاشلة، تورطنا في أشياء أكبر مما نظن! سنتعرض لها عند حديثي عن الموقف الإسلامي من العلوم وقضية العلم. وتورطنا فيها فعلا! والإعجاز العلمي، وأسلمة المعرفة، وأسلمة العلوم، والعلم المُقدس! قصة كبيرة! واضح؟
فنعود إلى ما كنا فيه، فإذن مبدأ غاليليو Galileo، من حيث الأصل، مبدأ سليم. أنا دعمته بمُقاربتي، وتلتقي معه تماما، لكن مُقاربتي من طابع فلسفي. هو قال مبدأ المُلاءمة وكذا كذا! أنا قلت هذه المُلاءمة ليست ضحكا على الذقون! أليس كذلك؟ ليست تمشية للأمر! بالعكس، تنطلق من موقف فلسفي – هي موقف فلسفي -، إلى اليوم لا يزال سليما، ما رأيك؟ والله العظيم!
اذهب وخُذ أي كتاب في الفلك، أي كتاب في الفيزياء، كلها تُعبّر عن شروق الشمس وغروب الشمس، أليس كذلك؟ على الأقل من ناحية اقتصادية – اقتصادية لُغوية – كلمة شروق الشمس وغروب الشمس، أجدى علينا كثيرا من موضوع حركة الأرض حول محورها وكذا كذا في عمل كذا كذا، قصة كبيرة! هل سأقول لك كل هذا؛ لكي أُعبّر عن شروق الشمس؟ قل شروق الشمس، أشرقت الشمس!
تعال، اسأل المؤلف، الفيزيائي، أو الفلكي، وسوف يقول لك لا، في الحقيقة، هي ليست كما تظن، هذا فقط تعبير اقتصادي. الذي يحصل هو كذا وكذا. واضح؟ لكن هذا الموقف إلى اليوم مُنسجم مع حس البداهة عند البشر. البشر ليس عندهم أي مُشكلة مع هذا الموقف.
هذا الموقف خاطئ؟ ليس خاطئا! كيف يكون خاطئا؟ وهو صحيح حسيا! أي الذي أراه بعيني هو هذا، هذا الذي أراه! إذن هو عند هذا المُستوى صحيح. الآن هل الذي تراه بعينك، وهو صحيح، هل هو صحيح بالمُطلق؟ لا، ليس صحيحا في المُطلق، أبدا! صحيح ضمن تركيبتك أنت، هكذا! الفسيولوجية، والعقلية! أنك ترى فعلا الأرض ثابتة، والكون يدور حولها.
هذا صحيح! العلم كما قلنا يتخطى البداهة، ويذهب إلى الأمام، ويقول لك لا، الذي يحصل في واقع الأمر ليس مثل هذا! لكن انتبه، العلم لا ينجح في كل القضايا، في مُقاربتها بمثل هذه البرودة والموضوعية. كما تظنون أنتم! مَن أنتم إذن؟ البشر.
البشر يظنون هذا، خاصة الذين يُحبون العلم. لا! سأُحدثكم عن هذا؛ لأنني بعد قليل أُريد أن أسأل سؤالا: لماذا لا يتسم كل العلماء بالتواضع؟ ولماذا لا يتسم كل رجال الدين بالتواضع؟ لماذا تُوجد غطرسة عند الاثنين، ويُوجد تغول؟
هذا السؤال من عندي، وأُريد أن أُجيب عنه بطريقتي الخاصة، وسوف نرى كيف! سوف نستفيد أشياء كثيرة في فلسفة العلم، من خلال جوابي عن هذا السؤال. سوف نرى كيف! لأن العلم لا يشتغل دائما بمثل هذه الطريقة.
أي هناك أُسطورة حول العلم على فكرة؛ أن العلم موضوعي Objective. يقول لك موضوعي! إلى أي درجة موضوعي؟ انتبه! لا، هذه لا يُسلمها بعض العلماء، الذين عندهم خلفية فلسفية بسيطة، وأكثر فلاسفة العلم لا يُسلّمونها لك، ويقولون لك هذا ليس صحيحا، وهم هذا! أسطورة أن العلم موضوعي! انس.
العلم Objective، العلم مُنفتح ومرن؛ Open-minded. مُنفتح! في المُقابل طبعا الدين Subjective؛ ذاتي! والدين مُغلق جامد، Close-minded. أساطير كلها! تخيل! العلم Cumulative؛ تراكمي. ستقول لي أين التراكمية؟ حسب توماس كون Thomas Kuhn، الذي لخصت لنا نظريته، ليس تراكميا، بالعكس! في بعض المرات يكون تناسخيا.
العلم تناسخي، يأتي ببارادايم Paradigm، يُدمر أو يُزحزح بارادايم Paradigm آخر، ويقول لك انتهى، انتهى وحللت مكانك. يبدأ الشغل ببارادايم Paradigm جديد تماما. أين تراكمي؟ كلام! كلام يقوله بعض المفتونين بوثنية العلم! يُحولون العلم إلى وثن! وعلى فكرة، هذا التعبير أنا قرأته لعلماء، ليس لفلاسفة، علماء! قالوا بهذه الطريقة العلم أصبح وثنا. العلم لا ينبغي أن يتحول إلى وثن يُعبد! العلم ليس وثنا! مُقاربات.
فيقول لك ماذا؟ Cumulative! أي تراكمي. الدين ليس كذلك، تهديمي، ليس تراكميا. بعد ذلك العلم تقدمي؛ Progressive. الدين دائما مُتأخر ورجعي! أساطير! الموضوع أعقد من هذا بكثير، وسوف نرى اليوم بعض النماذج، وهذا كله على فكرة مُهم. انظر؛ من خلال هذه الحلقات عن العلم والدين أيضا – الحمد لله – نضع أصابعنا أيضا مرة ومرة، على ماذا؟ على بعض موضوعات فلسفة العلم.
فمجاز الكتابين كما قلت مجاز جيد، بلا شك! يشتغل. أنا تساءلت في الحلقة السابقة عن هذا! فرانسيس بيكون Francis Bacon مُعاصر لغاليليو Galileo، وسابق عليه قليلا، نشر الآتي سنة ألف وتسعمائة وخمس!
أي سابق كثيرا على رسالة غاليليو Galileo للدوقة العُظمى كريستينا Christina، وسابق على كتاب غاليليو Galileo، ألف وستمائة وثنتين وثلاثين؛ حوار بين النظامين الرئيسين للكون أو للعالم! الذي هو كتاب ماذا؟ التقدم في التعلم، أي في ال Learning!
ألف وستمائة وخمس، فرانسيس بيكون Francis Bacon! اقتبست منه قبل أشهر، واقتبست منه أيضا قبل أسابيع، هذا الكتاب! منشور بالإنجليزية. ألفه بالإنجليزية، وليس باللاتينية، وطُبع! حتى طبعته الأولى تراها بالإنجليزية، ليس باللاتينية.
فتكلم فيه عن مجاز الكتابين، وقال كلاما جميلا، يُفهم منه مبدئيا أنه مع نموذج الفصل، لكن مُتعاطف إلى درجة ما مع التكامل، بيكون Bacon! أن هناك أيضا تكاملا. صحيح أن كل واحد منهما يتشغل في مجاله، لكن يُمكن أيضا أن يتعاونا ويتكاملا، أحيانا!
غاليليو Galileo أوضح! هل غاليليو Galileo إذن سطا على عمل بيكون Bacon؟ لا. لماذا إذن؟ لأن هذا المجاز قديم. أي هذا المجاز ليس فرانسيس بيكون Francis Bacon أول مَن أتى به.
قديم! من أيام ترتليان Tertullian، ومن أيام سانت أوغسطين Saint Augustine. وحتى قبل سانت أوغسطين Saint Augustine بحوالي خمس عشرة سنة، هناك يوحنا ذهبي الفم John Chrysostom! يوحنا ذهبي الفم John Chrysostom في عظاته لأهل أنطاكية تحدث عن استعارة الكتابين. شيء جميل! قديم هذا! تخيل! كان في القرن الرابع!
بعد ذلك في العصور الوسطى، وجدنا مثلا توما الأكويني Thomas Aquinas، يتحدث عنه، وبنوع من الإسهاب أيضا. مُعاصره؛ مُعاصره بونافنتورا Bonaventura – ذكرته قبل قليل، الفرنسيسكاني، القديس الكبير هذا – تكلم عن مجاز الثلاثة الكتب، ليس كتابين أيضا، ثلاثة كتب! وكل كتاب عنده نطاقه، ويشتغل في نطاقه، وكله عنده قدرة هدائية إلى الله تبارك وتعالى، تخيل!
دانتي أليغييري Dante Alighieri، صاحب الكوميديا الإلهية، تحدث حديثا جميلا! قال كل ما في الوجود صفحات منثورة لا بُد أن تعود وتُضفر في كتاب الألوهة أو الألوهية.
كلها. قال! ليس فقط النص المُقدس – Sacrepture -، كل شيء في الوجود! عالم النبات، الحيوان، عالم السماء، عالم الأرض، عالم كذا! كل ما في الوجود – قال – صفحات منثورة! طبعا كلها تدل على مجد الله، وعظمة الله، وتشي بحكمة الله، إلى آخره! قال هذه لا بُد من عودتها وضفرها في كتاب واحد. هكذا تحدث! ألا وهو كتاب ماذا؟ الألوهة أو الألوهية. ال Divine book هذا، الكتاب الإلهي. شيء جميل!
ثم وجدنا طبعا فرانسيس بيكون Francis Bacon، تحدث! ثم غاليليو Galileo، ثم بعد ذلك غيرهم! طبعا حتى رينيه ديكارت René Descartes تحدث، نفس الشيء! بحديث قريب من هؤلاء.
رينيه ديكارت René Descartes يُعتبر من آباء الفلسفة الحديثة، وإلى حد ما من آباء العلم أيضا الحديث؛ لأنه كان عالما ومُهندسا أيضا ورياضيا. وبعد ذلك تكلم روبرت بويل Robert Boyle، من مؤسسي الجمعية الملكية؛ ال Royal Society، روبرت بويل Robert Boyle!
نيوتن Newton تحدث، لكن نيوتن Newton خلط، أي الانفصال بالتكامل أيضا، كان أقرب! وحدثتكم في درس مضى عن النزال والجدال الذي وقع بين إسحاق نيوتن Isaac Newton وبين مُعاصره، وهو رجل دين، وعالم هاو!
نيوتن Newton بصراحة توصيفه الحقيقي عالم، وأيضا رجل دين، تقدر على أن تقول هاو! عنده هواية هكذا، لكن أعطى الدين أكثر مما أعطى العلم على فكرة من وقته، ذكرنا هذا!
الرجل الثاني اسمه ماذا؟ اسمه بيرنت Burnet؛ توماس بيرنت Thomas Burnet. صاحب كتاب النظرية المُقدسة عن الأرض! ال Sacred Theory هذه، النظرية المُقدسة عن ال Earth أو الأرض.
رأينا كيف أن بيرنت Burnet كان أكثر انحيازا للمنهجية العلمية، وللفصل بين المجالين، من إسحاق نيوتن Isaac Newton، عجيب! أي نيوتن Newton عنده دفق ديني، عنده تحيز ديني، أكثر من رجل دين! وقال لك النموذج الصراع! صراع ماذا يا أخي؟ بالعكس! العلم والدين كان يُوجد بينهما تراسل أكثر مما يتخيل هؤلاء الصراعيون على فكرة!
أي في أسوأ الحالات كان هناك انفصال! لكن في حالات كثيرة هناك تراسل، وهناك اعتماد مُتبادل؛ خُذ وأعط! خدمات مُتبادلة بين الاثنين. هذه سوف نتكلم عنها طبعا بتفصيل – إن شاء الله -، لما نتكلم عن النموذج الثالث؛ نموذج التكامل وال Integration والتعاون – بإذن الله تبارك وتعالى -.
فكما قلنا روبرت بويل Robert Boyle، ونيوتن Newton! إلى أن نأتي إلى زمن طبعا ويليام بيلي William Paley، صاحب اللاهوت الطبيعي، الذي نشره – على ما أظن – ألف وثمانمائة وثنتين، اللاهوت الطبيعي! والذي يُقال إن كان تشارلز داروين Charles Darwin يحفظه على ظهر القلب! كان مُعجبا جدا جدا به! وهو الذي، للأسف بعد ذلك، سدد ضربة رهيبة له، عبر نظريته في الانتخاب الطبيعي؛ التطور بالانتخاب الطبيعي. سدد ضربة لقضية التصميم، قضية التصميم! على الأقل في بعض قسماتها، وليس لها كمبدأ، كما اعترف هو أيضا، موضوع ثان!
إذن قضية مجاز الكتابين، تقدر على أن تقول هي الأساس الفكري، أو الفلسفي – إن شئت -، الذي تأسس عليه بُرهان، أو نموذج – لأنه ليس بُرهانا – الفصل. واضح؟ انتبه!
أي واحد يُريد أن يتخذ أي موقف، سواء موقف الصراع، أو موقف الانفصال، أو موقف التكامل، لا يُمكن أن يتخذه إلا مُنطلقا من ماذا؟ من خلفية فلسفية، من موقف فلسفي، من فرضية فلسفية. لازم! مُستحيل، لا أحد، لا أحد يقول إنه هكذا! أنا لست كذلك، أنا فقط أرصد. لا، تُوجد عندك خلفية. تخيل! طبعا.
فالذين شايعوا نموذج الفصل، من المؤكد أن في خلفياتهم أشياء، من ضمنها ماذا – كما ذكرت الآن، قبل قليل -؟ تركب الحياة، وتعقد الحياة! من ضمنها مجاز الكتابين.
أي حتى من ناحية دينية، رجال الدين من القديم، من القرون الأولى – من القرن الثالث، تخيل! في بداية الثالث ترتليان Tertullian! الثالث الميلادي -، كانوا يفهمون أن هناك نطاقا خاصا للكتاب السماوي، النص المُقدس، يشتغل فيه! وأن هناك نطاقا آخر، لن نقول أعم أو أوسع، لكتاب الوجود، أليس كذلك؟ لكتاب الوجود!
العجيب طبعا أن الكاثوليكية تبنت هذا الموقف! وهذا شيء جميل! وسايرتها البروتستانتية. أي مارتن لوثر Martin Luther سايرهم، قال لك صحيح، عندنا كتابان، وهذا العلم وهذا الدين، ويا أهلا وسهلا.
جميل! لكن للأسف بعد قليل حصل نوع من الارتداد، أو ال Regression، أو النكوص! عند بعض اللوثريين، وفي اللاهوت الكالفني، الذي يُنسب إلى جون كالفن John Calvin، في سويسرا، جنيف.
للأسف خاصة كالفن Calvin هذا مُتزمت، هذا الرجل كان مُخيفا، وفعلا هو مُخيف! عمل مدينة ملعونة! أنا أسميها ديستوبيا Dystopia. وطبعا ليس مُصطلحي، لكن أنا أصفها بأنها ديستوبيا Dystopia. هناك يوتوبيا Utopia، وهناك الديستوبيا Dystopia.
اليوتوبيا Utopia؛ المدينة الفاضلة، أليس كذلك؟ الديستوبيا Dystopia؛ المدينة اللافاضلة، المدينة الملعونة! التي يُريد أن يُعلمك فيها كيف تتنفس، وكيف تقرأ، وكيف تشرب، وكيف تنام، وكيف تمشي، وماذا تلبس، وماذا عن أزيائك وألوان أزيائك، وكيف تأتي زوجتك، ما شاء الله!
في اللاهوت الكالفني للأسف الشديد نعم صار هناك نكوص وردة عن هذه المُقاربة الانفصالية. ستقول لي ما الذي حصل؟ رجع إلى الصراع؟ يا ليت! شيء أسوأ من الصراع! شيء من التسلط المُطلق! الدين له موقف الأولوية المُطلقة، والتسلط التام الكامل، على العلم، وغير العلم. على العلم، والفلسفة، وما شئت، ما تُريده! أي شيء! في تلك الأيام لم تكن هناك كلمة علم أصلا، فلسفة طبيعية.
وقال لك جون كالفن John Calvin لأن هناك النص المُقدس المعصوم المُوحى به. Revealed. يقول لك! من Revelation! Revealed truth؛ الحقيقة الموحاة، أنا أُترجمها الحقيقة الوحيانية! Revealed truth.
يقول لك الحقيقة الوحيانية هذه لها سمة التصحيح الضروري؛ Necessary correction. التصحيح الضروري، لماذا؟ لكل نقائص الطبيعة. قال لك حتى الطبيعة فيها نقائص. فإذا ذهبت تفهم الحقيقة من خلال الطبيعة، فسيكون فهمك منقوصا. فالكتاب المُقدس أصلا عنده صلاحية لتصحيح نقائص الطبيعة، وبالتالي نقائص الفكر، المُلتزم بالمشهد الطبيعي. فلسفة فارغة!
فالرجل هذا أصبح رجلا استئصاليا! ولذلك كما قلت لكم مرة للأسف الشديد استدعى صاحبه اللاهوتي، المُتدين، الصالح، وعالم التشريح، والطبيب، والباحث الكبير، ميخائيل سيرفيتوس Michael Servetus، من إسبانيا، قال له مرحبا بك، تعال عندي في دولتي، في جنيف! أنا عملت دولة دينية هنا! المشروع الديني! تعال عندي، ومرحبا بك.
وكان المسكين هذا؛ سيرفيتوس Servetus، كان موحدا Unitarian، كان يقول لا إله إلا الله. معناها عيسى عبد الله، لا ابن الله ولا الله ولا أقنوم ولا الكلام هذا. قال له تعال عندي. أول ما جاءه، قال لهم هذا الزنديق حاسبوه! حاسبوا الزنديق هذا. أحرقوه! المُجرم!
هذا جون كالفن John Calvin! أي ليس عنده وفاء حتى للصداقة والعشرة والماضي، مُجرم! أغراه واستزله، المسكين! وقاله له تعال. استدرجه! تعال عندي، وأنت في حمايتي. أول ما جاء، وهو صاحبه، طالب بمُحاكمته، وأُعدم حرقا! الشهيد هذا، سيرفيتوس Servetus؛ ميخائيل سيرفيتوس Michael Servetus. هذه اللعنة!
المُهم، لكن فيما عدا ذلك كما قلت لكم التيار الكاثوليكي بشكل عام، والإصلاحية هذه الاعتراضية، تُوافق على مجاز الكتابين. من حيث المبدأ العلم له ما يشتغل فيه! مَن الذي رد على جون كالفن John Calvin؟ باراسيلسوس Paracelsus.
باراسيلسوس Paracelsus السويسري هذا! هذا أُسطورة طبعا! هذا كيميائي شهير جدا! وطبيب كبير، وتشريحي خطير، ومُنجم، وساحر! أنا لما قرأت قبل ربما ثلاثين سنة كتاب The Occult لكولن ويلسون Colin Wilson، وجدت أنه تحدث كثيرا عن باراسيلسوس Paracelsus، وكان مُعجبا به!
ساحر! كان ساحرا أيضا، ومُنجما، وعالما بالأرقام! شيء خطير الرجل هذا، موسوعة! هذا ليس اسمه أصلا، هو اسمه فيليبوس Philippus! ولماذا سمى نفسه باراسيلسوس Paracelsus؟
لأن هناك كورنيليوس سيلسوس Cornelius Celsus. هذا رجل إنسيكلوبيديا روماني في القرن الأول، كان موسوعة! في علم النبات، والحيوان، والجغرافيا، واللاهوت، والتاريخ، والأدب، والفن! شيء رهيب، كان موسوعة مُتحركة!
فجاء باراسيلسوس Paracelsus، قال لهم أنا لست سيلسوس Celsus، أنا باراسيلسوس Paracelsus. أي مَن يتفوق على سيلسوس Celsus. أي مَن تجاوز سيلسوس Celsus. هذا هو، هذا معناها! شخصية خطيرة على كل حال!
جاء، ناقض وناكد مَن؟ جون كالفن John Calvin. قال له كلامك غير صحيح، كلامك عن ال Necessary correction هذا والكلام الفارغ هذا غير صحيح. أنا الذي أراه – قال له – أن الكتاب المُقدس يُطلب ويُفهم ضمن رسائله. عنده رسائل وأشياء! كأنه يقول الكتاب المُقدس عنده وظيفة إرشادية. بدأنا نلمس على فكرة ملامح المُقاربات الجديدة!
كأنه يقول النص المُقدس عنده وظيفة إرشادية، أي Guidance. فسوف تجد فيه مجموعة Guides؛ أوامر إرشادية. وظيفته هي الإرشاد؛ Guidance. وسوف تجد فيه إرشادات؛ Guides. Religious Guides كثيرة؛ كذا، وكذا! اعمل كذا، ولا تعمل كذا، اعمل كذا، ولا تعمل كذا. قال هذا! وهذا الصحيح فعلا، هذه المُقاربة صحيحة. الكتاب المُقدس يُراد للإرشاد؛ إرشاد الروح.
ذكرت لكم في حلقة سابقة كلمة جميلة! اقتبسها غاليليو Galileo، وبعض الناس ينسبها إليه! فبالأمس كنت أقرأ في كتاب إنجليزي أيضا، لعالم مُحترم، هو ظن أن هذا من كلام غاليليو Galileo! ليس كلامه، لا. هو؛ غاليليو Galileo، قال لك هذه أنا أخذتها من بارونيوس Baronius.
رجل، رجل دين، اسمه بارونيوس Baronius، قال وظيفة الكتاب المُقدس أن يأخذنا إلى السماء، وليس أن يُعلمنا كيف تدور السماء. جميل! مجاز حلو! أخذه غاليليو Galileo، وقال أنا أوافق على الكلام هذا، وهذا صحيح. وظيفته الأصلية إرشادية.
سوف ترى كيف اكتملت في القرن العشرين هذه المُقاربة، مع الأرثوذوكسية الجديدة البروتستانتية، ومع الوجودية الدينية، ومع أصحاب المُقاربات اللُغوية للمسألة، كلها اكتملت عندهم هذه المُقاربة كما رأيت، سُبحان الله! مُقاربة مُهمة! وبسيطة ومفهومة، لكن هي مُهمة جدا جدا، وتشتغل! يبدو أنها تشتغل جيدا!
فباراسيلسوس Paracelsus قال لا، قال أنا أختلف مع جون كالفن John Calvin، وأقول الكتاب المُقدس يُفهم ويُدرس في رسائله، وضمن ومن خلال رسائله، أما الطبيعة، فلا تُفهم إلا بالتنقل فيها. وقال بالضبط عبارة ماذا؟ بلدا بلدا! أي Land by land. وهو لا يقصد الطبيعة الجغرافية، يقصد الطبيعة، الطبيعة! أي العالم، وهذا مجاز أيضا.
سُبحان الله! القرآن قال هذا. أنا – بفضل الله – من الأشياء التي ذكرتها أيضا قبل سنوات طويلة، إشارات في بعض الخُطب لموقف القرآن من العلم ودراسة العالم. قلت عجيب القرآن! القرآن يقول لك إذا أردت أن تدرس الطبيعة، فاذهب إليها.
والقرآن يحثك على فكرة، يحثك أو يستحثك، ويحفزك ويشجعك، على دراسة الطبيعة. بأي منهج؟ يقول لك هيا، اخرج، هناك؛ There! اذهب إليها. سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ *. ليس الخلق الذي بدأ، أي كيف بدأ الله الخلق، ولذلك هذه مفعول به. سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ *. عجيب! هذا القرآن الكريم! فالقرآن عجيب!
ولذلك سُئل رينيه ديكارت René Descartes، أبو الفلسفة الحديثة، وأيضا من آباء العلم الحديثين كما قلت، سُئل مرة، وكان يعلم التشريح! عنده علم في التشريح أيضا! كثيرا ما كانت تُوجد هذه النزعة الموسوعية عند هؤلاء! فسألوه من أين لك هذا العلم كله؟ أي علم رهيب عندك! وفي الهندسة، في الرياضيات، في الجغرافيا، في الفلك، أيضا وفي الطب والتشريح!
فأخذ السائل، أدخله إلى غُرفة، وقال له لكن اسكت، بهدوء. طبعا ديكارت Descartes كان إنسانا هادئا، ويُحب الهدوء، المسكين! وأطلق عبارة عاش مَن بقيَ في الظل. رأى أن الناس تُحرق على الخوازيق، تُشلح، تُخلع بالمخالع، في محاكم التفتيش! تُسجن، تدخل في الإقامة الجبرية. قال لك ما هذا؟ ابق ساكتا يا ولد. أنا مؤمن – قال لهم -، وأُقدس الكتاب المُقدس، وكل شيء! لكن سأبقى ساكتا، ولن أُصرح بكل مسألة أفهمها. للأسف! ومات وهو صغير، أي في العقد السادس من عُمره، لم يُكمله طبعا.
فالمُهم، فأخذ بيده، وقال له بهدوء، هل ترى؟ Corpse، أي Leiche؛ جُثة. وهذا انصدم! ما هذا؟ خرب الله بيتك! قال له هذا هو! أنا درست التشريح من هنا. وهذا الصحيح، هذا المنهج التجريبي. تُريد أن تفهم الطبيعة؟ اذهب إلى الطبيعة. القرآن قال هذا، القرآن قال هذا! تخيل!
ولذلك عنده عبارة ثانية جميلة جدا! ماذا يقول؟ حجر في مكانه – أي حجر تُريده! حجر في مكانه -، إذا أراد أن يتحدث عن نفسه، كان أفضل من ألف كتاب. اذهب له. قال له! طبعا هذا قديما، هذه العبارة صحيحة في عهد ديكارت Descartes، اليوم ليست صحيحة! تعرف لماذا؟ لأنه لا يُوجد حجر في مكانه. حجر في مكانه بالنسبة إليك، لكن يُوجد قبلك ألف أو عشرة آلاف عالم قلبوه من جميع جوانبه، وكتبوا عنه مئات الصفحات.
اذهب، لا تخترع العجلة، ابدأ من حيث انتهوا. لكن هو كان لا يزال في البداية، انظر! ديكارت Descartes! في البداية، ليس في عصر العلم، هو في القرن السادس عشر. القرن السابع عشر سيكون مولد العلم الحديث! لكن كان هذه إرهاصات كلها! كلها إرهاصات العلم الحديث! فكلامه صحيح. حجر في مكانه أفضل من ألف كتاب ليتحدث عن نفسه.
هذه الطريقة مضمونة قرآنيا! القرآن فيه مئات الآيات، كلها تُحيل إلى ماذا؟ إلى الخارج. يقول لك اذهب وانظر. إذن ماذا سأرى؟ قال لك أنت حر طبعا! ما تراه، اذهب وسجله فيما بعد. نعم، أرأيت؟ لم يُعطك استخلاصات جاهزة، على البارد! اذهب، أنت! انظر. فالموقف القرآني مفتوح – بفضل الله تبارك وتعالى -، وهذا شيء مُريح جدا جدا لنا.
فما أُريد أن أقوله ما هو؟ إن الخط الكاثوليكي العام، الخط البروتستانتي العام، الحمد لله تعاطف مع هذه المُقاربة، لم يكن ضدها، وهذا شيء جيد! أرجع؛ لأنني أُريد أن أُعمق النظرة، وأقول من بعض الأُسس الفلسفية التي بُرر وسوغ بها نموذج الانفصال، غير مجاز الكتابين، ما بدأت به، وهو ماذا؟ أن الحياة مُركبة، العالم مُركب، العالم مُعقد! ولا ينبغي أن يُفهم من زاوية واحدة، ولا تؤخذ له لقطة! أي لقطة تؤخذ للعالم مُفردة، ستُصبح لقطة ماذا؟ ساكنة. Static! ولن تُعطيك نبض الحياة، ولا نبض الحقيقة. سيضيع منك نبض الحقيقة؛ لأنك أخذت لقطة.
فريمان دايسون Freeman Dyson، الذي ذكرته اليوم، قال أنا أُفضل استخدام مجاز ال Two windows؛ النافذتين. قال العلم نافذة، نُطل من خلالها على العالم. والدين نافذة، نُطل من خلاله على العالم. وكل منهما يُتيح لنا Aview مُختلفا! أي مشهدا مُختلفا! هذا ال Aview غير هذا ال Aview! غير! يختلف! هذا مشهد، وهذا مشهد. كلام جميل! قال أنا أُحب هذا. دايسون Dyson قال أُحب هذا.
سُئل طبعا، قيل له إذن يا بروفيسور دايسون Professor Dyson أيهما أعمق في إدراك حقيقة العالم والوجود؛ الدين، أم العلم؟ قال بلا تردد الدين. انس. قال! علم؟ علم ماذا؟ قال! الدين. عجيب! قال لهم هذا، وهو عالم طبعا، فيزيائي كبير، وخطير جدا هو! قال لهم لا.
قال لهم العلم فقط مجموعة أدوات. أدوات! أشبه بهذا! أي المنهج يكون أدواتيا! وهو قادر فقط على أن يصل إلى نُتفة صغيرة من الحقيقة. نُتفة! نُتفة. قال! أي لا تظنوا أنه مسألة كبيرة.
على فكرة، هذا المنظور يتشاركه مع دايسون Dyson جماعة من كبار العلماء، بما فيهم أينشتاين Einstein، وبما فيهم إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger.
شرودنغر Schrödinger، اطلعت له قبل أشهر على كتاب، أنزلته – بفضل الله – من الشبكة بالإنجليزية، كتاب أقل من مئتي صفحة، اسمه – أعتقد – الطبيعة والإغريق؛ Nature And The Greeks، هكذا سماه! بعد ذلك And Science And Humanism. هكذا: And – And – And! كتاب في حوالي مئتي صفحة، لإرفين شرودنغر Erwin Schrödinger النمساوي.
تقريبا في فقرة ماذا يقول؟ يقول كلما نظرت إلى الصورة التي يُعطيها أو يبنيها العلم لنا للعالم، أجدها صورة فقيرة جدا. فقيرة. قال! ليست غنية، ليست مُركبة، بسيطة وضحلة. قال العلم يُمكن أن يُحدثك عن أشياء تُكمم. أيا كان التكميم! صحيح، العلم تكميمي! حتى بعضهم قال كل ما لا يُقاس ولا يُكمم، فليس بعلم. اللورد كلفن Lord Kelvin!
اللورد كلفن Lord Kelvin قال هذه! عبارته هذه على فكرة! وعبارة خطيرة، وتضرب أيضا – أي هذه كلمة نحن نقولها – في جذر العلموية من جهة ثانية، أيضا! على كل حال، وقال لك هذا هو. إذن وتُخرج أشياء كثيرة من العلم. يصير من الصعب أن تقول لي علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الأنثروبولوجيا! هذه تصير كلها ليست علوما، تصير دائرة العلم ضيقة جدا جدا جدا!
فالمُهم، فقال ولكن العلم لا يُحدثني – لا أجده يُحدثني بالمرة. قال! – عن ماذا؟ عن الألم، عن اللذة، عن الأمل. وبمعنى: عن الإحباط واليأس، عن القلق! لا يُحدث. قال! ولا عن الأحمر والأخضر والأزرق. تكلم عن هذا، وهذا ذكاء جميل من شرودنغر Schrödinger! عجيب!
قال لك العلم لا يقدر على أن يُحدثني – معناها الآن، أي بلُغتنا الآن – عن خبرة الألوان. طبعا! العلم لا يُحدثك! كل حديث العلم عن الألوان وأنها مُجرد ترددات موجية وهي ضمن كذا وكذا، هذا كل لا علاقة له بالخبرة.
أنا أُريد من العلم أن ينفذ إلى جوهر خبرتي الواعية بالألوان! بالألم؛ ال Pain، باللذة، بالأمل، بالطموح، بالإحباط، بالانسحاق. قال هنا أجده صامتا – هكذا قال – صمتا مُريعا! ساكت! ما هذا؟
ولذلك حتى نيتشه Nietzsche؛ فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche – الفيلسوف هذا، المشهور المجنون، الذي جُن في الأخير -، نيتشه Nietzsche قال العلم الحديث سلب من الإنسان كرامته. وهذا صحيح أيضا! هو أفهمك أنك مادة، وحيوان مُتطور، وفقط، وانتهى الأمر! ما هذا؟ أي لم يبق لك شيء!
برتراند راسل Bertrand Russell، إلى حد ما هو عالم، رياضياتي، وفيلسوف، اعترف! على فكرة أي واحد مُلحد، وأي واحد عنده نزعة تعظيمية للعلم، وكان مُتناسقا مع نفسه، لا بُد أن يُقر بأن العلم لا يعترف بالمعنى.
العلم لا يُضفي على الوجود أي معنى! لا على الوجود كله، ولا على وجودك أنت كإنسان، لا يُوجد معنى! بل يجعلك تسخر من سؤال المعنى! ما رأيك؟ وسأشرح هذا بتفصيل في الحلقة ربما المُقبلة! لأنه سؤال ماذا؛ سؤال الغرض؛ ال Purpose.
الصورة المُعتقدية، الرؤية الكونية – أي ال Weltanschauung، ال Worldview كما يُسمونها، ال Big picture، كل هذا -، المؤسسة على روح العلم الحديث، تؤمن بلا غرضية العالم! العالم ليس عنده غرض، ليس عنده هدف.
سوف تقول لي إذا أنكر العلم غرضية العالم – واشرح لنا ما الموضوع هذا، وكيف يُنكر وكذا، في الحلقة القدمة إن شاء الله -، فحتما لا بُد أن ينزلق. لا، حتما طبعا، وقد انزلق وفعلها، وانتهى كل شيء! إلى ماذا؟ إلى إنكار أخلاقية العالم! أن العالم نظام أخلاقي!
العلم يقول لك هذا كلام فارغ، ما نظام أخلاقي؟ العالم ليس نظاما، لا أخلاقيا، ولا نظاما لاأخلاقيا. إذن ماذا؟ هو مُحايد أخلاقيا؛ Immoral. Im! Immoral system؛ نظام مُحايد أخلاقيا! لا هو أخلاقي، ولا لاأخلاقي.
ستقول لي هل العالم يعبأ بي؟ سيقول لك هذا سؤال عبيط. سيقول لك العالم والطبيعة لا تعبأ بك، ولا تهتم بك، ولا تتجاهلك. هي غير دارية بك أصلا، الطبيعة غير دارية بك أصلا، إطلاقا! ليس عندها هذه الروح.
أشياء خطيرة هذه، سوف أُفصل فيها – إن شاء الله -، في مطلع الحلقة المُقبلة، حين نتحدث عن الزحزحة التي طالت الرؤية الكونية، وصورة العالم، في العصر الحديث، بتأثير من العلم الحديث.
سوف تقول لي وما الصورة التي كانت قبلها؟ لا، كانت هناك صورة أُخرى للعالم، مؤسسة على الدين، على الرؤية الدينية. وصار فعلا هناك قطع كبير جدا! وهنا أخطر فصل على فكرة من فصول علاقة العلم بالدين! ليس مبدأ التطور، ومبدأ الكوبرنيكية، لا، ليس هذا، ليس هذا!
هذا سأُفصل فيه – إن شاء الله – في مطلع الحلقة المُقبلة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق