نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة الثامنة والعشرون
أعضاء أثرية وتأسلات – الجزء الثاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المُرسّلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
أما بعد، أحبتي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ومع الحلقة الثامنة والعشرين من سلسلة التطور، لازلنا نتحدث عن الأدلة والمُؤيِدات وأحسب أننا – إن شاء الله – شارفنا على إنهاء هذه السلسلة، وربما يتبقى لدينا – لا أدري تحديداً – سبع حلقات وليس أكثر من هذا إن شاء الله.
سأُحدِثكم الآن مُواصِلاً حديثي الذي انقطع في الحلقة السابعة والعشرين أيضاً عن بقايا التاريخ والشواهد الصامتة على التطور، فقد تحدثنا عن الجينات الزائفة Pseudogenes أو هى الجينات Genes الميتة أو الجينات Genes المُسكَتة أو المُصمَتة Dead Genes ، أو Silenced Gene، ومن هذه الجينات Genes جين Gene مشهور يُعرَف بجلو GULO، هذا الجين Gene مسؤول في الحقيقة عن تكوين خميرة Enzyme – Enzyme تُسمى بالعربية الخميرة – مُعين إسمها L-gulonolactone Oxidase، وهذا الـ Enzyme أو هذه الخميرة ضرورية لأجل تكوين أو إطلاق عملية تكوين فيتامين سي Vitamin C في الثدييات، وفيتامين سي Vitamin C مُهِم جداً وحيوي للميتابوليزم Metabolism أو التمثيل الغذائي كما نعلم جميعاً، وكل الثدييات لديها القدرة على تكوين هذا الـ Vitamin – أو الفيتامين كما نقول نحن العرب أو عوام العرب تلقائياً، فهى تُكوِّنه داخلياً تلقائياً، ماعدا الرئيسات Primates، أي أن نحن والقردة العُليا مثل الشِمْبانزِي Chimpanzee والغوريلا Gorilla والأورانجوتان Orangutan وكل أنواع الرئيسات التي تقريباً تشمل مائة وثمانين نوعاً، لكن هذه أهمها وأشهرها، والرئيسات إضافةً إلى بعض الكائنات الأخرى مثل خفافيش الفاكهة Fruit Bats ومثل قوارض أيضاً وخنازير غينيا Guinea لا تستطيع أن تُكوِّن هذا الفيتامين Vitamin، لماذا؟ لأن تكوين هذا الفيتامين – فيتامين سي Vitamin C طبعاً – من سكر الجلوكوز Glucose يتم عبر أربع مراحل مُتوالية، وفي الكائنات التي ذكرناها وهى الرئيسات وخفافيش الفاكهة وقوارض وخنازير غينيا Guinea يتم انجاز المراحل الثلاث الأولى، لكن الرابعة لا تُنجَّز وبالتالي لا يُصنَّع هذا الفيتامين Vitamin، ولابد أن تتناوله هذه الكائنات من مصادر الغذاء الخارجي وإلا تُصاب بالأمراض المعروفة، في البشر يُوجَد مرض الإسقربوط Scurvy الذي كان يُصيب البحّارة، وعلى كل حال لماذا لا تتم أو لا يتم انجاز الخُطوة الرابعة؟ لأن هذه الخميرة أو هذا الـ Enzyme غير موجود، لكن لماذا هو غير موجود؟ لأن للجين Gene الـ Switch – أي المفتاح – الذي يُشغِّله ويُنتِجه وهو جلو GULO الذي هو غير موجود، فهو غير موجود كنشيط Active، لكنه موجود ميتاً، فالجين Gene موجود لكنه ميت ولا يشتغل، لماذا؟ أصابته طفرةٌ Mutation في الماضي فعطلته، وحين يتعطل هذا لا يتم انجاز الخُطوة أو الحلقة الرابعة في السلسلة وبالتالي لا يُمكِن أن يُنتَج هذا الفيتامين Vitamin داخلياً، لكن ما دلالة هذا؟ ماذا نُحِب أن نقول؟ نُحِب أن نقول أنه أمر مُثير ويستدعي التساؤل، فلماذا في الرئيسات بالذات من دون سائر الثدييات – وطبعاً الأشياء التي ذكرناها مثل القوارض والخنازير وخفافيش الفاكهة والآن نتحدَّث عن كل الرئيسات Primates – هذا الجين Gene – أيGULO Gene – يكون مُعطَّلاً لديها؟ طبعاً لأن صلة القرابة بينها واضحة، ولذلك هى تُوضَع في رُتبة في Order، فهذه رُتبة الرئيسات، ضمن عائلة – Family – الثدييات Mammals، أي عائلة ورُتبة، فهذه رُتبة واحدة، وطبعاً بحسب المنظور أو من وجهة النظر التطورية الرئيسات صلات القرابة بينها متينة وقوية، فهذا أحد الأمثلة التي يتذرع بها التطوريون لكي يُفسِّروا افتقار الرئيسات إلى هذا الجين Gene كجين Gene نشط، إذن هو موجود كجين Gene زائف، لذلك يُرمَّز له بـ (ψ) باليونانية، إشارة إلى Pseudo، فـ Pseudo معناها زائف، وهو إسمه Pseudo Gulo، أي جلو Gulo الزائف، فجين Gene الجلو Gulo الزائف الذي لا يشتغل موجود لكنه لا يشتغل، وهو في كل الرئيسات لا يشتغل، ويبدو أنه في مراحل سابقة على انبثاق وظهور الرئيسات كان يشتغل بما أنه يشتغل في غير الرئيسات وفي غير المذكورات، وأعتقد أن التطور هنا يُقدِّم نموذجاً في التفسير!
تُوجَد مسألة أخرى أو مثال آخر، فهناك نمط من الجينات Genes الميتة أو الجينات Genes الزائفة الساكتة أو المُسكَّتة في جينوم Genome الحيوان بما فيه الإنسان، لكن هذا النمط من الجينات Genes ليس من مُكوِّنات الجين Gene الأصلية إنما من المُكوِّنات الوافدة عليه، فهناك جينات Genes وافدة على جينوم Genome الحيوان – مثلاً – وعلى جينوم Genome الإنسان، لكن مثل ماذا؟ أولاً هذه الجينات Genes الواردة طبعاً والتي تشتغل بعد ذلك أو تُعطَّل بطفرة من الطفرات تُسمى الجينات Genes العكسية داخلية المنشأ Endogenous،فالفيرس Virus يفعل هذا، وأنواع كثيرة من الفيرس Virus تفعل هذا، حيث يستنسخ جينومه Genome ثم يحقنه في نواة الخلية – خلية الحيوان المعدي أو المغزو – طبعاً، والهيف HIV الذي يُسبِّب السيدا أو الإيدز AIDS – نقص المناعة المُكتسَّبة – يقوم بهذه الحيلة دائماً ومن هنا قدرته التدميرية، ومثل هذه الفيرسات أو الفيروسات Viruses تُسمى الفيروسات Viruses العكسية – أيRetroviruses – داخلية المنشأ Endogenous Retroviruses، وهذه هى التسمية العلمية الدقيقة لها، فهذه تدخل وتحقن نفسها – كما قلنا – في جينوم Genome الحيوان المغزو أو المعدي بها – Infected – ثم بعد ذلك قد تتعطل بطفرة من الطفرات، فإذا أصاب – مثلاً – مثل هذا الكائن الغازي – مثل هذا الفيرس Virus الرجعي – الخلايا التي تُكوِّن المنويات أو البوييضات فإنه ينتقل بعد ذلك بالوراثة، أي ينتقل من الآباء أو من الوالدين إلى الأولاد، لأنه أصاب الناسلات،والعجيب أننا بدراسة الجينوم Genome البشري والذي طبعاً انتهينا من دراسته بشكل شبه تام لأنه لم يكن تاماً في الحقيقة في مطلع الألفية الثالثة في ألفين وثلاثة أنجز العلماء أيضاً المسح الكامل أو الدراسة شبه الكاملة أو التامة لجينوم Genome الشِمْبانزِي Chimpanzee، وأعتقد أنني ربما ذكرت هذا مرة قبل ذلك، والعجيب أننا حين نبحث عن مثل هذه الجينات Genes الميتة الواردة لنا من مُعديات خارجية – مثل فيروسات Viruses عكسية داخلية المنشأ – في جينوم Genome الإنسان نجدها في المواضع ذاتها – أي نفس الترتيب – في جينوم Genome الشِمْبانزِي Chimpanzee، وخاصة الشِمْبانزِي Chimpanzee لأنه أقرب الكائنات إلينا، فالـ Chimp أقرب إلينا مما هو للغوريلا Gorilla وراثياً، فحين تدرس وراثياً جينوم Genome الغوريلا Gorilla وجينوم Genome الشِمْبانزِي Chimpanzee تجد قرباً شديداً طبعاً، لكن هو أشد منه – أي هذا القرب – مع جينوم Genome الإنسان، وكما قلنا يصل إلى ثمانية وتسعين ونصف أو ثمانية وتسعين وستة من عشرة في المائة، وهذا أمر عجيب، وبعض الدراسات الوراثية تقول لك قرابة الـ Chimp للإنسان أقوى من قرابة بعض أفراد نوع واحد من بعض الحشرات والكائنات، أي في نفس النوع – Species – أقرب، فهو قريب بشكل غير طبيعي، هل هذه صدفة؟ هل هذا خطأ؟ هل هذا شيئ لا دلالة له ولا معنى له؟ أي هل طبيعي أن نجد هذه الجينات Genes العكسية داخلية المنشأ موجودة في نفس المواضع تماماً في جينوم Genome الـ Chimp وفي جينوم Genome الإنسان؟ كلما تراجعنا للخلف أكثر نجدها – نفترض مثلاً – في الغوريلا Gorilla لكن مع اختلاف يسير، وهذا يُؤكِّد مرةً أخرى القرب والبعد التطوري، وهو شاهد أيضاً من شواهد التاريخ الصامتة على وقوع واشتغال التطور، أي أن هناك مسائل علمية هامة، ولذلك حين نأتي إلى السلسلة الثانية لابد أن نكون واضحين، ما يُمكِن نقده علمياً وبالدليل والاستنتاج المنطقي السليم سوف نقول له أهلاً وسهلاً، فنحن لا نُحِب أن نُغالِط أنفسنا، لكننا لا نُحِب بالمرة أن نُغالِط الحقائق، فأنا أقول لكم أن مُغالَطة الحقائق في نهاية المطاف هى إضلال عن الحق ذاته، والمُؤمِن – هكذا أنا أنطلق بفضل الله دون أي حريجة – الذي يُؤمِن حقاً بالله وإيمانه ليس مُزعزَعاً وليس جباناً وليس خائفاً هو لا يُريد أن يصد وأن يذب عن الله خشية أن يزول الله، هذا أشبه بالشكّاك الذي يخاف، فهو يخاف من النظريات ومن العلوم ويرتعد ويبدأ يُكبِّر ويُصفِّق، وهذا أقرب إلى الشك وربما أقرب حتى إلى النفي منه إلى الإيمان، أما المُؤمِن الذي رسخ الإيمان واليقين فعلاً في قلبه هو معنيٌ بأن يعرف حقيقة الخلق كما هو موجود، وهو بعد ذلك مدعو – كما قلت غير مرة – أن يُغيِّر من نمط إدراكه لبعض المفاهيم العقدية الثيولوجية كمفهوم الخلق، علماً بأنني قلت هذا قبل ذلك أكثر من مرة، فليس بالضرورة أن يكون الخلق كما تفهمه أنت، مع أن القرآن لا يقول هذا والنصوص لا تقول هذا واللغة العربية لا تقول هذا، ففي نهاية المطاف الخلق هو التقدير كما نقول، لأن الأصل في الخلق – أصل وضع الكلمة – هو التقدير السابق وليس التكوين، فالتكوين موضوع آخر، والتكوين هو صيرورة ومسيرة طويلة الأمد جداً، أما الخلق الذي هو التقدير فهذا كما نقول تم بضربة واحدة في علم الله الأزلي أصلاً، وهو لا يتطور إطلاقاً، فما المُشكِلة إذن؟ على كل حال هذا سنوضحه طبعاً بتعمق كبير جداً، وسوف ندفع ما شئنا وشئتم من الشُبهات في السلسلة الثانية بإذن الله تبارك وتعالى، فإذن نحن نبحث ونحن مُنشرِحو الصدور بإذن الله تبارك وتعالى، ومهما بان لنا الشيئ بدليله صرنا إليه، فلماذا؟ نحن نُريد الحق ولا نُريد أن يُحرِّجنا أحدٌ بالحق الذي ضللنا أنفسنا عنه بعد ذلك ونقع في حيص بيص أو نكون كالمُتعامين أو كالذين يفرون من مُواجَهة الحقائق، فإذا فرتت فسوف يُواجِه غيرك، لكن بالذات هذا الذي سيُواجِه ربما يُلحِد، لأنك أنت أفقدته وأعدمته أن يُغيِّر منظوره على الأقل بمُقترَح جديد وبتفسير جديد وبنموذج جديد، وقد يكون هو الأقرب إلى روح القرآن وإلى روح الدين، لكن للأسف الناس يعتقدون أنهم فهموا الله مرة واحدة وإلى الأبد، وهذا غير صحيح بالمرة، وأنا أقول لكم كما أن الكون وكما أن الإنسان وكما أن الخليقة وكما أن العوالم لانزال نكشفها شيئاً فشيئاً ونفهمها أعمق فأعمق يوماً فيوماً فإذن من باب أولى وأحرى بليون مرة أننا نقترب من الله فهماً يوماً فيوماً وعبر خليقته، أما أن تظن أن أشياخنا وأئمتنا المرضيين – رضوان الله عليهم وجزاهم الله جزاء شاكر – هم الذين فهموا الله عز وجل مرة واحدة وبضربة وإلى الأبد بحيث لا مزيد على فهمهم فهذا خطلٌ وغلطٌ من الرأي، هذا خطل وغلط لأن الله لا يُمكِن أن يُفهَم بضربة واحدة ومرة واحدة وبنموذج فهمي واحد، هذا مُستحيل وهذا خطأ كبير، ولذلك من ضمن ما ندعو إليه ونسعي فيه بإذن الله تبارك وتعالى تجديد المناظير العقدية، لأن هذا مُهِم جداً خاصة في هذا الباب – أي باب الإلهيات – طبعاً، وهناك في النبوات أيضاً تجديدات طبعاً، لكن هذا هام بالذات في الإلهيات فيما يختص بالله – تبارك وتعالى – ومعرفة الله، فلابد أن نُجدِّد كثيراً وكثيراً، وطبعاً دائماً سنصل إلى صورة جديدة لله أكثر عمقاً وأكثر تقديساً وأكثر نزاهة وأكثر بداعة وأكثر جلالاً وأكثر جمالاً، فهذا المفروض، وعلى كل حال هذا موضوع آخر.
نأتي الآن إلى موضوع حاسة الشم لدينا، فحاسة الشم لدى النوع الإنساني ليست حاسة جيدة جداً، بالعكس هى أقرب إلى أن تكون بائسة رغم أننا نقتدر على أن نُميّز بين أكثر من عشرة آلاف رائحة، وهذا شئ مُتواضِع، فالأنف لدينا والجهاز الشمي والمُستقِبلات الشمية Olfactory Receptors تُساعِدنا على أن نُميّز بين أكثر من عشرة آلاف رائحة، وهذا عدد مُتواضِع بالنسبة لما تُميّزه العين من الألوان، فهى تُميِّز بين أكثر من ثلاثة ملايين لون، وبعضهم يذكر حتى أكثر من هذا، لكنها على كل حال تُميِّز بين ثلاثة ملايين، أما الأنف فتُميِّز بين عشرة آلاف رائحة، وهذا عدد قليل جداً، وذلكم أننا لا نحتاج الشم كثيراً، فنحن كائنات ثديية نهارية، أي أن أكثر نشاطنا في النهار وليس في الليل، ولأننا كائنات نهارية نعتمد أكثر على السمع والبصر، أب على ما نراه بالذات وعلى ما نسمعه، لكن هناك ثدييات كالقوارض – مثل الفئران والجرذان وما إلى ذلك – تنشط ليليلاً، فتحتاج أن تُنمِّي حاسة شم أقوى، وفعلاً هى أقوى لديها، فحاسة الشم عند الفئران – مثلاً – أقوى مما لدينا، ونحن لدينا تقريباً ثمانمائة مُستقبِل شمي، أي ثمانمائة جين Gene، ولذلك تُسمى جينات Genes المُستقبِلات الشمية، Or) genes)، أو Olfactory Receptors Genes، أي جينات Genes المُستقبِلات الشمية، فهذه الجينات Genes هى التي تُشغِّل العملية وهى ثمانمائة، تقريباً ثلاثة في المائة من جينومنا Genome، فيظل عندك ثلاثة وثلاثون، وهذا واحد إلى ثلاثة وثلاثين، وهذه ثلاثة في المائة، ثم نضرب في ثمانمائة وبالتالي يكون الناتج تقريباً هو أربعة وعشرون ألفاً، أو خمسة وعشرون ألفاً، فبالضبط هذا هو عدد الجينات Genes، أي بنسبة ثلاثة في المائة، ونصف الثممانمائة جين Gene من المُستقبَل الشمية يكون مُعطَّلاً Pseudogenes، فأربعمائة لا تشتغل، وهذا عجيب طبعاً، فهذا معناه أنها كانت تشتغل في يوم من الأيام، وهذا هو معنى المُعطَّل أو الـ Dead أو الـ Pseudo وما إلى ذلك، ففي يوم من الأيام في المسار التطوري البعيد كانت تشتغل وكنا نحتاجها، لماذا؟ لأننا كنا مُنحدِرين أو نحن مُنحدِرون بالأحرى من كائنات كانت تنشط ليليلاً وتحتاج هذه المُستقبِلات أكثر منا، فالفأر مثلاً – كما قلنا – هو كائن ثديي، وهو طبعاً من الثدييات – القوارض ثدييات – ولذلك هو يلد ويُرضِع، وهذا الثديي الذي ينشط في الليل لديه ألفا Or) genes)، فهو أكثر منا بنسبة تقريباً مائتين وعشرين أو مائتين وثلاثين في المائة، أي أن الأمر يصل إلى الضعفين والثلث، ثمانمائة إلى ألفين، فلماذا إذن؟ لانه يحتاجها أكثر منا، لكنه يُميّز بين عدد هائل من الروائح أكثر منا بكثير، فلماذا أيضاً؟ لأن الألفين تشتغل، فالألفين Or) genes) شغالات، فكله شغال ثم أنه بعد ذلك يعمل تركيبات – Combinations – وتوليفات بين الإشارات المجموعية التي تأتيه – في الدماغ – فلذلك هو يشم أكثر بكثير من عدد الجينات Genes الخاصة عندنا بالشم، وليس معنى وجود ألفا Or) genes) عنده أنه يشم ألفين رائحة، فهو يشم أكثر من هذا بكثير لأنه يعمل هذه التوليفات، والآن لابد أن نختبر شيئاً، فإذا كنا كثدييات تنشط نهارياً لا نحتاج إلى تنمية حاسة شم قوية وبالتالي تعطل عدد كبير من الجينات Genes الشمية – النصف كما قلنا – لدينا هل هذا ينطبق على الثدييات الأخرى النهارية؟ نعم ينطبق تماماً، فكل الثدييات النهارية لديها جينات Genes المُستقبِلات الشمية ونسبة منها مُعطَّلة، لكن مازال التنبؤ – Prediction – قابلاً للاختبار Testable Prediction، وهنا قوة النظرية دائماً، وذلك لأنها تطرح تنبؤات قابلة للاختبار – Testable Prediction – ومن ثم يُمكِن أن نذهب لكي نختبرها، والتنبؤ الأقوى من هذا – ليس هذا فقط لأن هذا يُمكِن اختباره الآن ويُمكِن أن نجده، فصحيح هذا موجود – أنك كلما اختبرت ثديياً أو حيواناً لديه هذه المُستقبِلات لكنه ينحدر من سلف بعيد جداً بحيث يكون أقرب إلى السلف المُشترَك – أي سلف طبعاً لأن السلف المُشترَك ليس واحداً – يُمكِن أن تجد هذا، ويجب أن ننتبه إلى عدم وجود حلقة واحدة مفقودة، فكل الحلقات هى حلقات مفقودة، فكل الـ Intermediate Links هى حلقات وسيطة، علماً بأننا سنشرح هذا – إن شاء الله – عند حديثنا عن تطور الإنسان، لكن على كل حال مفهوم الحلقة الواحدة Single-Link هو كلام فارغ، فلا تُوجَد حلقة واحدة مفقودة، هذا وهم كبير هوَّس العلماء في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ثم انتهى هذا الوهم وتبين أنه وهم كبير، فكل الحلقات كذلك، لكن سوف نأخذ أي سلف مُشترَك – سلف ما أو نُقطة في الزمان – تكون الحيوانات أقرب إليه – أي لم تذهب في مسار التطور بعيداً كما فعلنا نحن – طبعاً، فماذا يحصل حينها؟ تكون لديها هذه الجينات Genes المُعطَّلة أقل، والجينات Genes الشغالة تكون أكثر، وهذا ثابت بالدراسة وبالتفحص وبالتحقيق، وهو شيئ غريب، ويُمكِن أن نأخذ الدولفين Dolphin مثلاً، فنحن قلنا أن هذا الدولفين Dolphin هو ثديي مائي، وهو من الحيتانيات، ومُنحدِر من Tetrapods بري، أي من رباعي الأطراف بري، والمفروض أن الدولفين Dolphin بما أنه ينشط مائياً ويُزاوِل مُعظم حياته وأشغاله في الماء على الإطلاق – فقط يخرج للتنفس كما تعلمون لأنه يتنفس بالرئة وليس بالخياشيم Gills – أنه لا يحتاج إلى نفس النوع من الجينات Genes الشمية التي نحتاجها، وهذا صحيح طبعاً، ولذلك عنده مجموعة كاملة من الجينات Genes الشمية تختلف عن الجينات Genes التي تحتاجها الكائنات البرية بما فيها الثدييات عموماً، فهذه المجموعة قادرة على ترجمة الروائح الذائبة في الماء، وهذه جينات Genes مُختلِفة – سبحان الله – تماماً، لأن هذه التي يحتاجها الدولفين Dolphin فعلاً، وهذا شيئ عادي، بل بالعكس هذا يصلح أن يكون حُجة للتصميم وحُجة للخلقويين أو التكوينيين، لكن النبؤة الآن هى هل لدى الدولفين Dolphin هذه الـ Olfactory Receptors Genes مثل المُعطَّلة التي عندنا؟ موجودة عنده، لكن كم النسبة المُعطَّلة منها؟ هل ينبغي أن تكون كالنسبة المُعطَّلة لدى الإنسان أو أكثر؟ أكثر لأنه كائن بحري فلا تهمه الروائح الطيارة في الهواء، وفعلاً بالدراسة الوراثية تبين أو وضح أن ثمانين في المائة من الـ Or) genes) لدى الدولفين Dolphin يكون مُعطَّلاً، فهو لا يحتاجها لكنها موجودة، فلماذا موجودة؟ علينا أن ننتبه الآن، فهنا دائماً نتساءل لماذا هى موجودة؟ لماذا هذه المفاتيح وهذه الآليات موجودة ولا تشتغل؟ لا يُوجَد عبث في الخلق ولا يُوجَد عبث في التصميم الإلهي، والآن طبعاً بعض الناس يدخل ويتسلل ويقول لكم: هل رأيتم هذا الرجل؟ إنه يُشكِّك في التصميم الإلهي ويتهم كذا وكذا، لكن دائماً ما نُذكِّر بأننا نتقمص بشكل كامل دور التطوري، فنحن نُحِب أن نفهم كما يفهمون وكما يعتقدون، ثم بعد اللات والّلتيّا نحن لدينا فكرة مُختلِفة أصلاً – كما قلت لكم – عن موضوع التصميم والخلق والتكوين، إذن اصبروا حتى تسمعوها ثم بعد ذلك جادلونا فيها، فماذا لو أثبتنا فعلاً بدليل ودليل ودليل وأدلة كثيرة أن التطور بهذه الطريقة هو أسلوب الله في الخلق كما أقول دائماً؟ ماذا لو أثبتنا هذا ودفعنا كل الشُبهات وكل الإلزامات الباطلة التي تُؤثِر على المنظور الإيماني بشكل جيد يدعم المنظور الإيماني؟ ماذا يعني هذا؟ هذا هو الاجتهاد الفكري والعلمي، وليس التنطع على الناس بالترهيب، فنسأل الله الهداية.
إذن أكثر من ثمانين في المائة من الـ Or) genes) لدى الدولفين Dolphin مُعطَّلة لأنه لا يحتاجها، وبالتالي المسألة ليست عبثاً، وليست تصميماً، فليس من الواضح أنها مُصمَّمة لتشتغل، لأنها لو صُمِّمت لتشتغل لاشتغلت، لكن أكيد كانت هى مُصمَّمة لتشتغل في الماضي، وهذا هو المنظور التطوري، فهى كانت تشتغل ثم حصل تطور وتغيرات كثيرة وانتقل هذا الكائن من البر إلى الماء وأصبح كائناً مائياً وبالتالي هو لا يحتاجها، فتم تعطيلها بطفرات لأنه لا يحتاجها،و الانتخاب الطبيعي هنا لن يشتغل لاستبقائها، بل بالعكس سيترك الطفرات وحالها.
نأتي إلى قضية أو مثال آخر وهو إنتاج الـ Yolk، أي المُحّ أو صفار البيض، وطبعاً الزواحف والطيور كلها التي تبيض تُنتِج المُحّ أو صفار البيض، لأنه غذاء الجنين، والجنين في بيضة أصلاً، فلابد من وجود المُحّ أو كيس المُحّ Yolk Sac، ولذا هو موجود، وهنا أيضاً تُوجَد نبؤة جديدة تطورية، لكنهم طبعاً يتندرون على التطوريين، فيقول الواحد منهم – مثلاً – على أحدهم أن جده ضفدعة أو أن جده تمساح وهكذا، لكن هؤلاء يلعبون طبعاً، فالمسألة ليس فيها أي شيئ أن يكون جده تمساحاً أو أن يكون جده قرداُ أو غير ذلك، فما المُشكِلة إذن؟ إذا أردت أن تستخدم هذا المنطق سوف أقول لك أن الأكثر مهانة – إذا كان في الحكاية إهانة – أن يكون جدك طين وتراب، فأفضل مليون مرة أن تكون مخلوقاً من كائن حي فيه نفس، إذن ما المُشكِلة؟ ولكن هذه هى – كما قلت لكم – أنماط التفكير، فهو عنده نمط أنه مُختلِف وأنه غير ذلك، لكن هو طين ومن ماء مهين أيضاً، فحتى القرآن قال لك، فلا تعتقد في نفسك شيئاً غير ذلك، فأنت تكون شخصاً جيداً بعملك وبأخلاقك وبإيمانك وبفضائلك وليس بعنصرك الطيني هذا، فأنت من الطين اللازب، والله قال من حمأ مسنون، أي من حمأ مُنتِن، فالله يقول ويُذكِّرك بهذا، ومن ثم أعرف أصلك، فأصلك ليس شيئاً مُقدَّساً كما لو كان نيرانياً رهيباً، فأنت من الطين، والله قال لك أنك من حمأ مسنون ومن ماء مهين، وأنت من سلالة من طين، فإذا كانت الحكاية تتعلَّق بأننا نفاضل بين الأصول فأشرف لي أن أكون خُلِقت من خلية حية واحدة، وانظر طبعاً إلى الآثار السيكولوجية للنماذج السائدة وأنماط التفكير غير المنقودة، فلو قلت له أن أصلك من خلية سوف يقول هذا أمر عادي، ويتقبَّل فكرة أن أصله من خلية حية، لكن لو قلت له أن أصله من شِمْبانزِي Chimpanzee فإنه يُجَن جنونه، وطبعاً لم يقل أحد أصلاً أن أصل الإنسان هو الشِمْبانزِي Chimpanzee، لكن لو قلت له أن أصله كان من القرد فإنه يُجَن جنونه، فلماذا إذن؟ أنت قبلت أن يكون أصلك خلية حية مُفرَّدة لا قيمة لها، ورأيت أمراً عادياً لا يمس الكرامة وأن ليس فيه أي شيئ، وكذلك الحال مع فكرة أن أصلك من طين، في حين أن الطين أنزل مليون مرة عن رُتبة خلية حية، وبالتالي هذه فيها سر وفيها علم إلهي وفيها تقدير – في الخلية الحية – طبعاً، فهى شيئ كبير، لكن على كل حال هو يتقبَّل أن يُقال له أن أصله من طين أو تراب ميت وساكن وجامد ومطموس، فهذا أمر عادي بالنسبة له، ويتقبَّل أن أصله من خلية حية، أما أن يكون أصله من ضفدعة فلا، ومن ثم يُجَن جنونه، وهناك مَن يسخر ويقول جده ضفدعة، في حين أن هذه أشرف مليار مرة من خلية حية، فما القصة إذن؟
رحمة الله على الإمام الغزالي – علماً بأنني ذكرت هذا في المُحاضَرات الخاصة بالغزالي – الذي قال لك “هذا الفرق بين العالم والفيلسوف والمُفكِّر والفقيه وبين العامي البليد”، فكيف هذا؟ وما هذا العقل الكبير؟ العالم لو تأتيه بالعسل في إناء شكله قذر لكنه يعلم أن هذا الإناء يكون نظيفاً في الداخل وإن كان شكله قذراً من الخارج فليس عنده أي مُشكِلة في أن يقول لك هذا عسل، لكن العامي ليس كذلك، فهو يغتر بالإناء ويغتر بالظاهر، ويُقبِل ويُدبِر بحسب الظواهر، وبالتالي هو شخص مسكين عواطفي، لكن العالم يستخدم فكره ويستخدم المبادئ ويغوص إلى حقائق الأشياء ولا يغتر بالظواهر، فهذا هو المُفكِّر وهذا هو العالم، ومن ثم هو لا يخضع لأنماط ظاهرية!
على كل حال ما هى النبؤة الآن؟ سيُقال للتطوريين ولنا الآن طبعاً من ورائهم لأننا نلعب دور التطوريين بجدارة طبعاً – جدارة غاظت كثيرين من الناس لأنهم لم يفهموا، وطبعاً هم فقط يُريدون كما قلت أن يتسللوا لكي ينالوا، لذلك الله تبارك وتعالى عليم – أنتم تقولون أنكم مٌنحدِرون من زواحف، والزواحف تفرع منها فرع أصبح ثدييات، وبعد ذلك بخمسين مليون سنة فرع آخر أصبح الطيور Birds، فإذن أنتم أصلكم زواحف، والزواحف والطيور بعد ذلك ظلت مثلها على نفس الوتيرة، تنسج على نفس المنوال، فالزواحف تبيض – طبعاً بعضها يلد وهو قليل جداً، لكن الزواحف الأصل فيها أنها بيوضة، أي أنها تبيض – وتُغذي صغارها من هذا المُحّ، لذلك الصفار في الـ Yolk Sac يكون كبيراً دائماً، لكن هل لديكم أكثر من هذا؟ طبعاً، فحتى الجنين الإنساني في مرحلة مُعينة – هذا يزول بعد ذلك طبعاً، فهو يبدأ في الزوال في الشهر الثاني من الحمل لكن نحن نتحدَّث عن ما يحدث قبل ذلك – عنده هذا الكيس، ويُمكِن أن تفتح أي كتاب في الإمبريولوجي Embryology – علم الأجنة – وترى هذا، فسوف ترى هذا بعينيك مُصوَّراً بالألوان وهو شيئ لا يكاد يُصدَّق، حيث يُوجَد كيس مُحّ – Yolk Sac – كبير مربوط بالقناة الهضمية الجنينية، لكن ليس فيه المُحّ، فيه سائل لا ينفع ولا يضر، وبالتالي الجنين لا يحتاجه، فلماذا كيس المُحّ هذا؟إذن هذا أثر أثري – Vestige – من أجدادك الزواحف، فالزواحف إلى اليوم تصنع هذا الكيس في البيضة، لكن نحن عندنا المشيمة Placenta، فنحن ثدييات تتغذى أجنتها عن طريق هذه المشيمة، وتُوفِّر لها كل شيئ، وبالتالي لا نحتاج إلى المُحّ هذا، والمُحّ نفسه غير موجود، لكن كيس المُحّ موجود كما هو في البيضة، وهو كبير وواضح ومربوط بالقناة الهضمية الجنينية، فيُوجَد كيس كامل منه – أي من الـ Yolk Sac – طبعاً، وهو Empty، ففيه Liquid لكن ليس فيه الـ Vitellogenin، فهم يُسمون هذا بالـ Vitellogenin، أي البروتين Protein المُحّي المُغذي، وهذا الـ Vitellogenin موجود طبعاً في البيوض، لكن نحن ليس عندنا Vitellogenin، عندنا شيئ مثل الـ Placebo، أي نوع من الخدعة أو الدواء الوهمي، فلماذا يُوجَد هذا؟ هل هذا عبث أو تضليل أو لعب أو مسرحة؟ هذا المسار التطوري، وهذا أثر أثري – Vestige كما قلنا – يدل على مسارك التطوري وعلى أنك كنت مُنحدِراً من كائنات زاحفة كانت تبيض ولاتزال وتُغذي صغارها بهذا المُحّ، أي بالبروتين Protein المُحّي المُغذي، وهذه أشياء ليس من السهل أن تتغافل عنها وأن تبدأ تتحذلق دون أن تُعيرها اهتماماً، فعليك أن تتكلم بعلم، ونحن نُريد علماً حقيقياً ونُريد أن نهم ما الذي حصل، وطبعاً لا يُمكِن أن تخضع لنموذج آخر هزيل وأن تقول لي أن الله يُريد هذا لحكمة ما، فلا يُوجَد شيئ في العلم فيه إحالة على مجاهيل دائماً، يُوجَدعندنا وقائع مُصوَّرة ثابتة ويُوجَد نموذج لتفسيرها معقول جداً جداً ودقيق، فكلما اقتربت درجة النسب والقرابة نجد تشابهاً جينياً غير طبيعي، حيث يُوجَد تشابه في الأجهزة وفي الوظائف وفي أشياء كثيرة بل وحتى في الجينات Genes المُعطَّلة وفي نسبتها وفي مواضعها، وهذا شيئ غير طبيعي، وكلما ابتعدت تبتعد المشابه وتضعف، فنموذج التطور يُفسِّر لك هذا ، لكن نموذج لحكمة وتقدير وما إلى ذلك لا يفعل، نعم نحن نُؤمِن بالحكمة والتقدير في كل شيئ لكن الله يقول لك ابحث عن كيفية عمل هذه الحكمة، وبالتالي عليك أن تنتبه وألا تُحيل على الله، فهذه الإحالات هزيلة، ولن أصفها بأكثر من هذا، فمثل هذه الإحالة هى إحالة هزيلة تماماً وإحالة عامة بل شديدة العمومية، وتُساوي تماماً القول بأن الله يعلم السر وراء ذلك، وهذا ليس علماً وليس فكراً في نهاية المطاف، فهذا لا لاهوت ولا علم لأنك تقول لي الله هو الذي يعلم وفقط، وطبعاً الله يعلم لكن هذه الطريقة يتساوى بها أكبر عالم يُدعَى فيه العلم مع أصغر جاهل، فهذا سيفزع إلى القول بأن الله عليم بكل شيئ وأن السر عند الله وحده وأن الله أعلم، وطبعاً هذه لا تجعل العالم عالماً وتُبقي الجاهل جاهلاً، فميزة العالم هى أنه يُحاوِل دائماً أن يقترب من الله وأن يُقارِب كيفية وآلية عمل يد الله، والله يقول مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ۩، فالله يصنع ويشتغل – لا إله إلا هو – ويعمل، فهو يقول مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ۩، أي أنه يعمل باللغة القرآنية، والعلم كله في كل ميداينه هو مُحاوَلة لمُقارَبة كيفية عمل يد الله لا إله إلا هو، وخاصة العلوم الحقيقية مثل الفيزياء والكيماء والأحياء، لمعرفة كيف يعمل الله فعلاً في الكون وفي الخلق وفي عالم الخليقة وفي عالم الفليقة وفي الوجود العلوي والسُفلي، وهذا شيئ عجيب وبديع وجميل.
يُوجَد الآن تنبؤ Prediction جديد، هناك بعض الثدييات شديدة البدائية لدينا، ولو سألك أحدهم قائلاً: قل لي أو عيّن لي ثديي – Mammal – يكون هو الأكثر بدائية فيُمكِنك الجواب بما تحدَّثنا عنه، وقد حدَّثناكم وقلنا يُوجَد منه فقط نوعان، أولاً البلاتيبوس Platypus أو منقار البط أو خُلد الماء أو البطيطة كما يسميه العرب أيضاً، وهذا البلاتيبوس Platypus حدثناكم عنه بالتفصيل، ويُوجَد آكل النمل الشوكي، ومنه أربعة أنواع فرعية، فعموماً عندنا – آكل النمل الشوكي والبلاتيبوس Platypus، وهى ثدييات وحيدة المسلك Monotremes Mammals، فهى عندها فقط مسلك – Treme واحد – أكرمكم الله – للبراز وللتبول وللتزاوج، والكائنات الثديية الأخرى عندها مسالك – Multitremes – ثلاثة، لكن هذه لديها مسلك واحد، ولذلك تُسمى وحيدة المسلك Monotreme، وهى بدائية جداً، وفيها -كما قلنا – شبه من الزواحف وفيها شبه من الطيور وفيها شبه من الثدييات، فهى غريبة عجيبة من نوعها، علماً بأننا لن نرجع لكي نتكلَّم عنها الآن، وعلى كل حال هذا البلاتيبوس Platypus ثديي بدائي جداً، لكن هل هذا الثديي يُنتِج المُحّ ويُغذي جنينه على المُحّ؟ نعم، فما رأيكم؟ فهو يفعل هذا وهو ثديي، وهذا شيئ غريب لكنه يحدث لأنه بدائي وقريب من النشأة، فلم يجر عليه كثير من التطور، فهو قريب من نشأته الأولى، ونفترض طبعاً أن هذا السلف المُشترَك الزواحفي أو الزاحفي الذي انبثق منه هذا الـ Branch – Branch الثدييات – كان الآن في بداية الانبثاق، ثم نمشي ونرتقي في سُلَّم التطور إلى أن نبلغ أعلى الكائنات تطوراً، وهى نحن الكائن العاقل المُسمى الهومو ساپيانس Homo sapiens، أي الإنسان العاقل، وعلى كل حال هذا البلاتيبوس Platypus قريب من المنشأ وهو بدائي جداً، لذلك فيه صفات زواحفية ظاهرة، فما هذا الثديي الذي يبيض؟ نحن قلنا لديك ثدييان فقط على وجه البسيطة يبيضان، أي ثدييات بيوضة، فالثدييات كلها ولودة ويُوجَد الآن نوعان من الثدييات البيوضة، حيث يُوجَد لدينا ثدييان بيوضان هما البلاتيبوس Platypus وآكل النمل الشوكي، وبما أنه بيوض فإذن هو زاحف، ولذا قالوا هو بهذا الاعتبار زاحف، لكنه يُرضِع أبناءه وبالتالي هذا معناه أنه ثديي، وهو عنده منقار ولذلك إسمه منقار البط، فإذن هو طير، وكل هذا عمل خربطة كبيرة للعلماء، فهو كائن بدائي ولم يجر عليه الكثير من التطور، ولذا هو بيوض على أنه ثديي، ويصنع مُحّ في كيس – أي الـ Yolk Sac – ويتغذى عليه صغيره – أي جنينه – على أنه ثديي، فإذن واضح أن هذا المسار سارت فيه الثدييات.
نأتي إلى مثال أكثر روعة الآن، فسوف نبدأ الآن ندخل في أشياء جدية وجميلة جداً، حيث يُوجَد مرض إسمه انعدام القُـزَحِيَّة، وأنتم تعرفون البؤبؤ والقُـزَحِيَّة، وهذه القُـزَحِيَّة – Iris – هى التي تسمح له بالتقلص وبالانفراج طبعاً، وهذا المرض إسمه Aniridia، وكلمة Aniridia باللاتينية تعني لا قُـزَحِيَّة، فـ An تعني النفي، فهى مثل Un، ولذا كلمة Aniridia تعني انعدام القُـزَحِيَّة، ومرض انعدام القُـزَحِيَّة هو مرض نادر لكنه موجود ويرثه الطفل من أمه، فهذا العيب الجيني يورَّث دائماً عن طريق الأم وليس عن طريق الأب، وطبعاً لأن القُـزَحِيَّة غير موجودة يكون البؤبؤ كبيراً، فهذا البؤبؤ يكون كبيراً دائماً ولا يكاد يتقلص، وبما أنه لا يكاد يتقلص – تخيل كيف يكون هذا عندمت ترى بالمنظور أو حتى بالكاميرا Camera – فإنه يُؤثِّر سلباً، لأن هذا التقلص هو الذي يتواءم ويتسق مع بعد وقرب الصورة ويُعطيها وضوحاً، وهنا لا يُوجَد هذا التقلص لعدم وجود قُـزَحِيَّة Iris، فما الذي يحصل؟ يكون النظر تقريباً أقرب إلى العمى، يحدث شيئ مثل الضباب الكامل ونجد الأشياء غير مُتميّزة، فهذا المسكين المُصاب بالـ Aniridia يكون تقريباً شبه أعمى لعدم وجود القُـزَحِيَّة، إذن قلنا هذا المرض مُسبَّب عن جين Gene موروث من الأم، وفي سنة ألف وتسعمائة واثنين وتسعين توصل علماء الوراثة إلى ما يُسبِّب هذه الطفرة، فما هو هذا العامل الذي يُسبِّب هذا المرض؟ يُوجَد جين Gene من الجينات Genes بيشتغل هو الذي يعمل هذه المُشكِلة، وهذا – كما قلنا – يُوجَد عند الأم، وقد أسموه Pax-6، أي Pax ستة، وهذا الجين Gene إسمه جين Gene الـ Aniridia لأنه يُسبِّب الـ Aniridia في الإنسان، وفي سنة ألف وتسعمائة وأربع وتسعين كان العلماء يدرسون على ألوف ذبابات الفاكهة لكي يُحدِّدوا ولكي يتوصلوا إلى السبب وراء بعض العيوب الخِلقية في الأعضاء ومواضع الأعضاء وشكل الأعضاء في الذبابة – هذا كان البحث الأصلي – لكنهم تفاجئوا أثناء دراستهم أن بعض ذبابات الفاكهة – الدروسوفيلا Drosophila – تُولَد تقريباً بنفس المرض الذي يُصاب به الإنسان، فتكون تقريباً بلا عيون، ويُسمى هذا المرض بلا عيون Eyeless، فهو إسمه هكذا Eyeless بلا عيون، وهومرض وراثي مُسبَّب عن جين Gene، فقالوا لنبحث عن هذا الجين Gene إذن، وكانت المُفاجأة أن هذا الجين Gene هو Pax-6، أي أنه نفس الجين Gene، لكن قد يقول لي أحدكم كيف عرفوا هذا؟ طبعاً تُوجَد تسلسلات لديهم، فهم رأوا التسلسل ووجدوا نفس التسلسل هنا وهناك، فإذن هو الجين Gene نفسه، نفس هذه القطعة من الـ DNa موجودة هنا وموجودة هنا، وكما قلنا القرنبيط فيه الـ DNa أيضاً، وكذلك الحال مع التفاح والورد وكل الحيوانات طبعاً بما فيها الذباب وكل شيئ، فتفاجأ العلماء أن Pax ستة – Pax-6 – كان موجوداً في الدروسوفيلا Drosophila، فهذا الجين Gene اللعين موجود ويشتغل، فيُسبِّب هذا المرض، ويُسمونه في الذباب Eyeless، فهم سموا هذا الجين Gene بالـ Eyeless Gene، وهو ال Pax ستة – Pax-6 – الخاص بالذباب، فإذن المرض هنا هو نفسه هنا، والجين Gene هنا هو نفسه هنا، فما معنى هذا الكلام؟ طبعاً هذا يدل على أن هذه القضية تطورية، فعبر التاريخ أتيت أنت والذبابة في نهاية المطاف من أصل واحد، وأنت تحملون نفس المشاكل وعندكم نفس المُخطَط الجيني بخصوص هذه المُشكِلة بالذات، فهذه ذبابة وعينها تختلِف عن عين الإنسان لكن عندها نفس المُخطَط، علماً بأن سيأتيكم الآن بعد قليل – أو بُعيد قليل – كلام عن جينات الهوكس Hox Genes، فهذه الـ Universal Genes أعجوبة، وسوف ترون المُخطَط ، فنفس هذه المجموعات المعلوماتية أو المعلومات تشتغل في كل الكائنات وتفعل العجب.
إذن الـ Yycle أو الدائرة الجينية إذا كان فيها الـ Pax ستة – Pax-6 – فإنها دائرة جينية عالمية Universal، لأنها لا تختص بالإنسان أو بالثدييات، فهى موجودة في الإنسان وفي الدروسوفيلا Drosophila وفي حيوانات أخرى طبعاً، ولذلك قبل أن يُكتشَف ال Aniridia أو Eyeless كان العلماء يعتقدون – هذا تقريباً إلى قبل عشرين سنة، إلى ما قبل عشرين أو اثنين وعشرين سنة – أن العين كجنس تطورت مرات كثيرة وصلت إلى ملايين المرات، علماً بأن الحديث ليس عن العين الإنسانية، وإنما عن العين نفسها، مثل عين الذباب وعين سائر الكائنات، بمعنى أن العين تطورت في هذا الكائن ونشأت نشأة مُعينة ثم سلكت سبيلها إلى التطور، ثم في هذا الكائن تُوجَد عين أخرى نشأت ثم سلكت سبيل تطورها وهكذا وهكذا، وبعد اكتشاف هذه الحقائق صار واضحاً تماماً أن كل عيون الكائنات على الإطلاق نشأت من عين واحدة، والآن يقول علماء الأحياء التطورية لعلها كانت عيناً بسيطة جداً جداً جداً، وهى نشأت قبل مليار سنة، أي قبل العهد الكامبري بحوالي خمسمائة مليون سنة، أي أنها كانت عيناً بدائية قبل مليار سنة، وهذه العين البدائية هى التي تطورت منها أو عنها كل عيون الكائنات، وهذا الذي يُفسِّر كيف يُوجَد عيب في عين حشرة بسيطة وهو نفس العيب في عين الإنسان الذي هو أرقى الكائنات؟ فهذا مُسبَّب عن الجين Gene ذاته بنفس التركيب بطريقة تطورية.
نأتي الآن إلى جينات الهوكس Hox Genes، وهذه الـ Hox Genes يُسمونها بالجينات Genes العالمية، والذين اكتشفوها واشتغلوا عليها أخذوا جائزة نوبل Nobel بسببها وهم يستحقونها طبعاً، فهذه الجينات Genes مُثيرة جداً، وأعتقد أنه الـ Pax ستة – Pax-6 – أعطتنا تصوراً مبدئياً عن جينات الهوكس Hox Genes، فهذه الجينات Genes مفاتيح عامة – Master Key – تحكمية وتشتغل بالكيفية ذاتها في كائنات كثيرة، والمُثير والجميل في جينات الهوكس Hox Genes أنها تقوم بعمل لم يكن على الإطلاق مُتوقَعاً منها، وهذا مُجرَد جين Gene واحد، وليس الجينوم Genome كله طبعاً وإنما جين Gene واحد فقط، وهذا الجين Gene يشتغل – كما قلنا – كمفتاح مُعلِّم وكمفتاح رئيس على مُستوى الأعضاء، فهو يتحكَّم في العضو وليس في خلية أو في بروتين Protein أو في Enzyme وإنما في العضو نفسه، فهو يتحكَّم في عضو كامل مثل الرجل أو اليد أو العين أو الأنف أو المعدة أو البنكرياس أو غير ذلك، فجين Gene واحد هو الذي يُحدِّد متى يتكون هذا العضو وأين يتموقع، أي متى وأين، ويُحدِّد متى يبدأ يتكون الكبد، فالجين Gene هو المسؤول عن هذا الكلام، وهذا – كما قلنا – جين Gene واحد، فهو يقول متى يبدأ تكون الكبد وأين لابد أن يكون وأين يجب أن يذهب وأين تكون اليد أو تكون الساق أو غير ذلك، وهذا لم يكن مُتخيَلاً ولم يُصدِّقه أحد، لكن هذا ما ثبت علمياً، ومن هنا خطورة وإثارة إسم جينات الهوكس Hox Genes .
طبعاً كون كائنات وحيوانات كثيرة مُختلِفة وأنواع مُتعدِّدة مُتمايزة تشترك في الجينات Genes ذاتها فهذا – كما قلت لكم – شيئ مُثير جداً، وطبعاً هذا من أكبر أدلة التطور ومن أقوى أدلة نظرية التطور Evolution Theory، وهذا أدى إلى نشوء علم جديد إسمه Evo-devo، فهو علم جديد بسبب هذه الحقيقة، وهى أن أنواعاً مُتمايزة من الكائنات تشترك في مجموعة جينات Genes مُحدَّدة عالمية، وهذا معنى أنها عالمية، لكن ما معنى أنها عالمية؟ أنها تشتغل في الذبابة وفي التمساح وفي الخنزير – أكرمكم الله – وفي الإنسان وفي سائر الحيوانات، فنفس الجينات Genes – أي الجينات Genes نفسها – موجودة عند الكل، وهذا أمر عجيب، لكن تُوجَد نفس الجينات Genes ونفس التركيبة، والآن يُوجَد شيئ فيه تنبؤ – Prediction – خطير أيضاً، فهل من المُمكِن لو أخذنا الجين Gene من هذا الحيوان ووضعناه في خلية حيوان آخر أكثر بدائية منه بكثير – أي إذا أخذنا هذا الجين Gene من مُتقدِّم، نفترض من الإنسان مثلاً أو من فأر ووضعناه مثلاً في ذبابة – أن يشتغل؟ العجيب أنه يشتغل، والمُفترَض أن هذا جين Gene للفأر أو للجُـرَذ Rat، وهذا يعمل عيناً للفأر Rat، لكن هل هذا يعمل عيناً للذبابة؟ نعم يعمل عيناً للذبابة، أف، ولو كان يعمل ساقاً – Leg – مثلاً للجُـرَذ فهل يعمل ساقاً للفراشة؟ نعن يعمل ساق للفراشة، أف، هذا شيئ خطير ومُثير ومُخيف، وبالتالي هذه جينات Genes عالمية فعلاً، لذلك نشأ هذا العلم الجديد الذي إسمه Evo-devo : Evolutionary Developmental Biology، أي علم الأحياء التنموي التطوري، وهو علم جديد وعلم لطيف وفظيع، فاقرأوا عنه واقرأوا فيه إذن، لكن مَن الذي ألهم به وأوحى به؟ جينات الهوكس Hox Genes، فهو أوحى بعلم الأحياء التنموي التطوري، وهذا العلم طبعاً – كما رأيتم الآن – معنيٌ بماذا؟ بالبحث والتقصي لمسألة أو مسائل تكون الأعضاء أو البنى العضوية – Organic Structures – في الكائنات المُختلِفة وعن سبب وسر ومغزى المُشابَهة بينها والطريقة الوحيدة التي تتكون بها وتتموقع بها، وهذا شيئ – كما قلت – جميل ومُثير .
طبعاً – كما تعلمون – قبل ثلاثين سنة أدرك التطوريون – أي علماء الأحياء التطورية – لأول مرة شيئاً أصبح بالنسبة إلينا الآن في هذه النُقطة الزمنية – ولنا نحن خصوصاً لأننا نتابع هذه السلسلة – شيئاً عادياً جداً، فمَن تابع هذه الحلقات يعلم هذا تماماً، ولو سألت أي أحد تابع هذه الحلقات عن آلية اشتغال التطور سوف يقول لك هو لا يشتغل على الفينو تايب Phenotype، وإنما يشتغل على الجينو تايب Genotype، فالتطور لا يشتغل على النمط الظاهري، فالتطور ليس له علاقة باليدين وبالرأس وبالكبد وبالأعضاء وما إلى ذلك، فهو ليس له أي علاقة بهذه الأمور أبداً، وأنتم تعلمون التجارب التي أجراها فايزمان Weismann وهو أحد مُؤسِسي علم الداروينية الجديدة أو مذهب الداروينية الجديدة، علماً بأنني تحدَّثت عن فايزمان Weismann كثيراً، وهو الذي قام بتجربة قطع ذيول الجُـرَذ Rats لعدة أجيال، ودائماً تأتي الأجيال الجديدة بذيول، وهذا معناه أن هذا يُعَد كلاماً فارغاً، لكن هذه الضربة كانت قوية للاماركية Lamarckism – نسبةً إلى لامارك Lamarck – طبعاً، لكن نحن الآن مُدرِكون تماماً أن التطور لا يشتغل بهذه الطريقة، وأنه يشتغل على الجينات Genes، وهذا ما يُسميه التطوريون كلهم الآن بالـ Tinkering، ونحن نُترجِم هذه الكلمة بالسمكرة، وهذه السمكرة تعني وجود نموذج أصلي ثم يتم عليه الشغل دائماً، فنزيده من هنا وننقصه من هنا أو نمطه من هنا ونضغطه من هنا، وهكذا تحدث السمكرة – Tinkering – باستمرار، وهذه السمكرة – Tinkering – ليست سمكرة على الجسم وليست على الفينو تايب Phenotype أبداً – هذه زخرفة وبهرجة – وإنما سمكرة على الجينات Genes، فالشغل يكون على المنظومة الجينية وعلى المنظومة الوراثية لضمان المُراكَمة ومن ثم يحدث التطور،وهذه الحقيقة الآن – كما قلت لكم – بديهية بسيطة، فهى شيئ عادي بالنسبة لمَن درس التطور، لكن قبل ثلاثين سنة لم تكن واضحة، على أنها شديدة الوضوح الآن وعظيمة الأهمية، فلو سُئلت ما هو أعظم ما توصل إليه التطوريون في آخر ثلاثين سنة؟ قل لهم هو أنهم أدركوا بشكل واضح مع الأدلة أن التطور يعمل على الجينو تايب Genotype وليس على لفينو تايب Phenotype، فهم أدركوا هذا بشكل أقوى من ذي قبل بكثير، وبالتالي هذا أصبح واضحاً وأصبح من البديهيات لدينا، فإذن السمكرة هى سمكرة للجينات Genes وليست سمكرة للأعضاء .
للأسف أدركني الوقت، فإلى أن ألقاكم في الحلقة التاسعة والعشرين أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
أضف تعليق