نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة الأولى
أبو النظرية تشارلز داروين Charles Darwin – الجزء الأول
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المُرسَلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، ربنا علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، أما بعد، إخواني وأخواتي:
أُحييكم جميعاً بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في التاسع عشر من شهر أبريل لعام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين شُيعَ جثمان عالم التاريخ الطبيعي المشهور/ تشارلز داروين Charles Darwin إلى مثواه الأخير، ليس في بيته في Down المعروف بـ Down House وإنما في مثوى ومقر الشخصيات العظيمة مثل ملوك إنجلترا وكبار علمائها ونبلائها في Westminster Abbey أو أبرشية وستمنستر Westminster، لقد أصرت المُؤسَسة العلمية على أن يُدفَن الرجل الكبير ورجل العلم والبحث في هذا المكان إلى جوار الملوك والنبلاء وإلى جوار مشاهير ونبلاء رجال العلم وفي رأسهم السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Newton المدفون أيضاً في Westminster Abbey، وساهم عشرة من كبار العلماء في وقتهم في حمل غطاء نعشه وكان منهم اثنان ينتمون إلى الأسرة الملكية، ومن هؤلاء العشرة عالم التاريخ الطبيعي المشهور جداً والذي شارك تشارلز داروين Charles Darwin في اكتشاف ما يُعرَف بمبدأ أو قانون الانتخاب الطبيعي Natural selection وهو ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace، فكان أحد هؤلاء العشرة المُشارِكين، وعالم المورفولوجيا Morphology الشهير وتلميذ داروين Darwin وصديقه أيضاً توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley وعالم النبات الأشهر جوزيف هوكر Joseph Hooker فضلاً عن آخرين.
في كلمته التأبينية التي ألقاها توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley قال “إن العالم غدا أكثر فقراً بعد ارتحال تشارلز داروين Charles Darwin”، فمَن هو تشارلز داروين Charles Darwin الذي حظي بهذه المكانة وبهذا التمجيد والتبجيل العظيم؟
في يوم من الأيام كتب عالم اللغويات المُعاصِر الشهير نوام تشومسكي Noam Chomsky أو نعوم تشومسكي Noam Chomsky يقول “إن تقدم أي أمة من الأمم يُقاس بمِقدار فهمها لنظرية التطور”، وهذا شيئ عجيب، فعالم اللغويات الشهير والمُناضِل العالمي على مُستوى العالم من أجل حقوق المُستضعَفين وحقوق الإنسان بعامة تشومسكي Chomsky كان من رأييه أن تقدم أي أمة من الأمم ينبغي أن يُعيَّر وأن يُقاس بمدى فهمها لنظرية التطور، على أن هذه النظرية التي تحظى عند كثيرين من العلماء والمُفكِرين بهذه المثابة وبهذا الاعتبار العالي من أغرب جوانبها ما لاحَظه عالم الأحياء الفرنسي الحائز على جائزة نوبل Nobel في وسط الستينات جاك مونو Jacques Monod مع اثنين طبعاً من وطنه من الفرنسيين في الطب، حيث قال جاك مونو Jacques Monod “الغريب في هذه النظرية أن كل أحد يعتقد أنه يفهمها، مع أنها رغم بساطتها وجمالها أيضاً من أكثر النظريات التي تعرضت لسوء الفهم أيضاً والتشويه المُتعمَد”، وهذا لا يختص لأمةٍ دون الأمم، فحتى المملكة المُتحِدة إلى الآن يوجد فيها لاهوتيون كبار وعلماء وأدباء ومُفكِرون لا ندري هل يتعمدون أن يتجنوا على هذه النظرية أم أنهم بالفعل لا يفهمونها ويناقشونها نقاش مَن لم يفهم بسائط هذه النظرية وأولى أو أول مبادئها، فليس من النادر أن تسمع رجل دين كبيراً أو حتى عالماً ربما في العلوم الأحيائية يقول لك “لا يُمكِن أن يكون الإنسان أصله قرد”، ومَن قال هذا؟ لم يقل بهذا داروين Darwin ولا أحد من علماء نظرية التطور على الإطلاق، ولا يقول بهذا إلا رجل جاهل تماماً بنظرية التطور، لكن هذه العبارة تتكرر باستمرار “لسنا قروداً”.
داروين Darwin نشر كتابه الذي هو كتاب الحياة – كتاب حياته حقيقةً والذي أحظاه بهذا المجد الباذخ – سنة ألف وثمانمائة وتسع وخمسين أو عام ألف وثمانمائة وتسعة وخمسين وهو كتاب أصل الأنواع The Origin of Species، فنشره وبعد سنة تقريباً أو أزيد بقليل سنة ألف وثمانمائة وستين جرت محاورة – Debate – مشهورة جداً بين أخلص مُعاصري داروين Darwin لهذه النظرية المذكور آنفاً وهو توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley عالم المورفولوجيا Morphology الشاب بالقياس إلى داروين Darwin وبين أسقف أُكْسَفُورَد Oxford صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce، حيث جرت مُناظَرة مشهورة جداً يُمكِن أن تجدوها في مواقع كثيرة على النت Internet، فقط اكتبوا كلمة Debate أو النقاش بين هكسلي Huxley وبين الأسقف – Bischof بالألمانية – صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce.
في هذه المُحاوَرة قام الأسقف يتساءل ساخراً هل يُمكِن للسيد هكسلي Huxley أن يُخبِرنا أي أجداده كان قرداً، جده لأبيه أو جده لأمه؟ وواضح جداً أن هذا التساؤل الساخر ينُم عن جهل مُركَب بالنظرية، فهكسلي Huxley لا يعتقد أن أجداده أو أجداد البشر الأخرين من القرود، وداروين Darwin لم يقل هذا، ولم يقل بهذا أي عالم في التطور، إنه فقط الجهل المُتبجِح، فهذا هو تبجح الجهل، لكن هكسلي Huxley الذكي واللوذعي والبارِع كما كان يدأب داروين Darwin نفسه على وصفه بأنه من أبرع الرجال – لأنه كان ذكياً جداً وسريع البديهة وعالماً لا يُشَق له غبار – بادره بالجواب الذي صدمه وحطمه وأضحك الحضور عليه ثم ختمه بقوله “على أية حال أنا أفضل أن يكون أجدادي قروداً على أن يكونوا أمثال هذا الأسقف الذي يتكلم بجهل والذي يعمد إلى تضليل الناس بعدم ذكر الحقائق”، وأُسقِطَ في يد الأسقف الجاهل فعلاً، لأنه كان جاهلاً أو مُضلِلاً، فهو يحب أن يُضلِل الناس عن الحقيقة على الأقل كما يعرضها أصحابها.
نظرية التطور ليست مُجرَد نظرية، لكن طبعاً ستسمع كثيراً أيضاً – وهذا ظل يُقال على مدى عقود وإلى اليوم – مَن يقول لك “هى مُجرَد نظرية Only A Theory” لأنهم يُريدون أن يُضلِلوا الناس أيضاً، فيقولون أنها مُجرَّد نظرية بمعنى أنها لا ترتفع عن مُستوى أو مصاف فرضية لم تثبت بأي شكل من الأشكال، وهذا كلام مُضلِل تماماً وكلام مَن لم يفهم النظرية وكلام أيضاً مَن لم يفهم الفرق بين الفرضية والنظرية والوقائع أو الحقائق، وهذا سنتعرض له في أولى الحلقات التي نبدأ نعرض فيها لمُؤيدات النظرية، لكن نحن اليوم بلا شك سنعرض الخلفية التاريخية عن المُؤسِّس، فمَن هو تشارلز داروين Charles Darwin؟!
هذا الشخص الذي حين تسمعون يعني جزءً أو أجزاءً مما يتعلَّق بحياته لن يملك الصادق فينا مع نفسه إلا أن يمتلئ إعجاباً بهذه الشخصية وبإنسانية هذا الإنسان وبتواضعه وبعلميته، فهو شخصية مُعجِبة، وفعلاً هو عاش ومات وهو شخصية مُعجِبة ومُحبَبة، فكل مَن اتصل به أحب هذا الرجل لأنه كان إنساناً نبيلاً وإنساناً عظيماً كريماً بمعنى الكلمة، لكن نحن يهمنا أيضاً الجانب الفكري بعد ذلك والعلمي من عطاء هذا الرجل الكبير.
أحب أن أقول أن هذه النظرية لم تكن مُجرَد نظرية حتى بالمعنى الإيجابي للنظرية – أي القالب أو الإطار – أو حتى الفرضية التي تُفلِح في أن تُفسِر عدداً كبيراً من الحقائق في نظامٍ واحد، فهذا أحد معاني النظرية، والنظرية لا تعني مُجرَد فرضية خالية من الإثبات، وقد وعدتكم بأننا سنعود إلى هذا لكنها على كل حال تعدت كونها نظرية إلى كونها ثورةً علمية، فالعالم بعد داروين Darwin ليس كالعالم قبل داروين Darwin، ولذلك إذا ذُكِرَ داروين Darwin فإنه يُذكِّر بأشخاص ندرة وقليلين جداً من أمثال جاليليو جاليلي Galileo Galilei وإسحاق نيوتن Isaac Newton وألبرت أينشتاين Albert Einstein، فالجامع المُشترَك بين هؤلاء أو بين هذه الشخصيات أن هؤلاء الرجال العظام غيَّروا مفهومنا للعالم وكيف ننظر الآن إلى العالم الوسيع وإلى الكون – الكوزموس Cosmos – وإلى كوكبنا الأرضي والحياة على هذا الكوكب وتنوعاتها ومسارها، فهؤلاء ولهم أمثال قليلون جداً هم الذين ساهموا بالقسط الأعظم في تغيير منظورنا ومفهومنا إلى عالمنا وإلى وجودنا وإلى حياتنا، أي جاليليو جاليلي Galileo Galilei وإسحاق نيوتن Isaac Newton وألبرت أينشتاين Albert Einstein وداروين Darwin – تشارلز داروين Charles Darwin – طبعاً، ولذلك لا عجب أن المُطّلِع طبعاً على عالم الفكر والثقافة والعلم يكاد يصطدم تقريباً في كل حين بإسم داروين Darwin والتطور في كل شيئ، كالعلوم الإنسانية كما في العلوم الأحيائية وما يمُت إليها بسبب، فهذا يحدث باستمرار، وقد نشأت علوم كثيرة كلها تعتمد مبدأ التطور في التفسير، وليس أهونها ولا أيسرها علم النفس التطوري فضلاً عن العلوم كثيرة، فإذن هى ثورة، وهى الثورة الداروينية Darwinian Revolution أو ثورة نظرية التطور، ولدينا ثورة كوبرنيكوس Copernicus المعروفة بالثورة الكوبرنيكية – Copernican Revolution – لأنها فعلاً قضت على النمط أو على التصور القديم السائد لأكثر من ألف سنة عن العالم وهو التصور المعروف أو المُستنِد إلى مركزية الأرض Geocentric Model، فهذا النموذج – Model – انتهى، وبعد ذلك جاء النموذج – Model – الآخر وهو الـHeliocentric Model، وهذا أيضاً لم يكن دقيقاً ومن ثم تم تعديله على الدوام بعد ذلك ، لكن ثورة كوبرنيكوس Copernicus – البولاندي نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus طبعاً – تقريباً أكثر ثورة تتردد في عالم العلم، وبعد ثورة كوبرنيكوس Copernicus أكثر ثورة تتردد هى ثورة داروين Darwin أو ما يُعرَف بالثورة الداروينية Darwinian Revolution، فهى ثورة حقيقية ولذلك حقيقٌ بنا لا أٌقول كمسلمين وإنما كبشر وكمُثقَفين – ليس هناك ثمة أي داعٍ لكي ندخل الدين والإسلام في كل شيئ – نعيش في هذا العالم ، حقيقٌ بنا أن نفهم هذه النظرية فهماً على الأقل ينفي عنا الجهالة، ليس شرطاً أن يُلحِقنا بالمُتخصِصين وبكبار العلماء المُختَصين بأعماق هذه النظرية لأن هذا يحتاج إلى تخصص ويحتاج إلى سنوات طويلة جداً، وإنما على الأقل ينفي عنا الجهالة، فلا نُريد أن نكون مثل ذلك القس أو الأسقف الذي أضحك الحضور عليه، مع أن له أمثالاً كثيرين في عالمنا وفي جميع الدول وفي جميع النُطق الحضارية من أصحاب كلمة مُجرَد نظرية ونحن لسنا قروداً وأجدادنا لم يكونوا قروداً، فهؤلاء جهلة لم يتعلموا شيئاً على مدى مائة وخمسين سنة، والعالم تتطور كثيراً وصارت لديه إمكانيات أكبر بكثير أن يفهم هذه النظرية وبشكل رائع وجميل ومُتسِق لكنهم لم يفعلوا وظلوا مُصِرين على أن يقفوا في نقطة تعود إلى مائة وخمسين إلى الوراء للأسف الشديد، ومن هنا نحن نُريد أن ننفي الجهالة عن أنفسنا على الأقل إذا تحدثنا في هذا الموضوع سواء وافقنا أو خالفنا، مع أن في الحقيقة يجب أن نكون مُتواضِعين، فليس من حق كل أحد أن يقول أنا أوافق أو أنا أختلف، قال الله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ۩، فمن حقك فقط أن تقول هذا إذا كان لديك دليلٌ قويٌ يُمكِن أن يحترمه عالم مُختَص، وليس شرطاً أن يكون دليلك أنت بل يُمكِن أن يكون دليلاً لأحد العلماء مُختصين الآخرين لكن أنت وعيته وأدركته كما هو وتُحاجِج به، فهنا أهلاً وسهلاً، لكن أن يقول لك فقط بعنوان أنك مُثقَف أو مُتعلِم أو إنسان موقفاً هكذا مبدئي فهذا الموقف لا قيمة له ولن يُعيره أي أحد أدنى اهتمام.
طبعاً نحن الآن نعيش في عصر التواصل العظيم، فمثل هذه الجلسة لا يُمكِن أن تكون همساً مني إليكم أو منكم إليّ أبداً، فهذا الهمس بعد سويعات وربما بعد أيام بحسب العمل الذي يقتضيه تجهيز أو تجهيزات هذه المُحاضَرة للنشر سيصبح همساً للعالم وسيسمعنا الملايين، فسيسمعنا كل من أراد أن يسمعنا، وسيسمعنا من يُشارِكوننا أفكارنا وعقائدنا وديننا ومَن لم يشارِكوننا، ومن حق الجميع أن يبدوا رأيهم في ما نقول، وطبعاً ستتعرض آراؤنا وسيتعرض عقلنا وإدراكنا لمسألة تعيير قوية جداً وصارمة لا تعرف المُجامَلة لأننا نعرف بعضنا البعض أو لأننا أبناء دين أو أبناء أمة أو أبناء وطن، فهى مُجرَّد النقاشات العلمية الصارمة الحادة العارية، لذلك علينا أن نكون أيقاظاً وواعين وصارمين أيضاً حين نتعرض لهذه المسائل التي تهم المُجتمع العلمي حول العالم ولا تهم أمة دون أمة وأن نتسلح بهذه العلمية بصرامة وبجدة أي بجدية.
نبدأ كما وعدتكم في هذه الحلقة بإعطاء لمحة ليست مُفصَلة، فمَن أراد التفصيل يُمكِن أن يعود إلى المراجع المُختلِفة والكتب التي كُتِبَت حول حياة تشارلز داروين Charles Darwin وتطوره العلمي والفكري وحتى الديني فهى كثيرةٌ جداً وبالمئات والمئات والمئات، وبعضها بلا شك أجود من بعض، على أن تشارلز داروين Charles Darwin نفسه قد كتب ترجمةً ذاتية – Autobiography – لنفسه ثم بعد ذلك أضاف عليها الكثير ابنه فرانسيس داروين Francis Darwin وطبع ذلك كله في كتاب يُناهِز الألف صفحة في أجزاء ثلاثة كبيرة، ومن أراد أن يقف على هذا الكتاب يُمكِن أن يجده بالمجان في موقع Archive.org موجود – أيها الإخوة – طبعة قديمة بأجزائه كلها ، كاملاً ، اسمه :The Life and Letters of Charles Darwin حرره يعني Edited by : فرانسيس داروين Francis Darwin موجود هذا الكتاب . [button color=”red” size=”small” link=”https://archive.org/details/LifeAndLettersOfCharlesDarwinV.1″ icon=”” target=”true”]الرابط[/button]، ويُشكَر للمُترجِم المصري والرجل الفاضل المليجي – مجدي محمود المليجي – أنه ترجم الجزء المُهِم ربما من هذا الكتاب في أكثر من ثلاثمائة صفحة، علماً بأن مجدي المليجي أيضاً هو مُترجِم فاضل وهوالذي أنجز ترجمة جديدة لأصل الأنواع، فكأنه جعل مشروع عمره في نهاية عمره – نسأل الله له مزيداً من سنوات العطاء والبذل العلمي لأننا أمة تحتاج إلى الترجمة وتحتاج إلى العلم وتحتاج إلى التواصل مع العالم الواسع – هذه الموضوعات، علماً بأن ترجمته لأصل الأنواع هى ترجمة مُمتازة، لأن المكتبة العربية لم تحظ إلا بترجمة واحدة في بداية القرن العشرين وهى للأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، وبعد ذلك لم يُترجَم الكتاب ترجمة أخرى حتى جاء هذا الرجل الفاضل وترجمه، ثم ترجم كتاب نشأة الإنسان أو تحضر الإنسان The Descent of Man لداروين Darwin في ثلاثة أجزاء كبيرة، وهو عمل شاق جداً أخذ منه ألوف الساعات، وترجم أيضاً هذا الكتاب عن سيرة داروين Darwin، وترجم أيضاً كتاباً كبيراً آخراً من أهم كتب تشارلز داروين Charles Darwin وهو التعبير عن الإنفعالات أو العواطف لدى الإنسان والحيوان، وسوف نأتي عليه في وقته إن شاء الله، فهذا الرجل يُريد تقريباً أن يُترجِم مُعظم أعمال داروين Darwin المُهِمة، أي أهم أعمال داروين Darwin، فمن شاء أن يتوسع يُمكِن أن يعود إلى سيرة داروين Darwin الذاتية هذه وما حرره ابنه أو الكتب الكثيرة التي كُتِبَت عنه مثل كتاب الفيلسوف التطوري الشهير مايكل روس Michael Ruse، وهذا الكتاب إسمه تشارلز داروين Charles Darwin، فمايكل روس Michael Ruse عنده كتاب إسمه تشارلز داروين Charles Darwin، وهى سلسلة عقول عظيمة مشهورة جداً في الغرب هنا لأنها تُترجِم لأعظم العقليات العلمية والفلسفية والفكرية، فالفيلسوف التطوري مايكل روس Michael Ruse عنده كتاب إسمه تشارلز داروين Charles Darwin، وهذا كتاب مشهور جداً ومُهِم أيضاً ويعرض للنظرية بطريقة علمية قوية ومُحكَمة وفلسفية بلا شك، ويوجد كتب أخرى كثيرة موجودة على كل حال.
نأتي الآن لنتكلم عن تشارلز داروين Charles Darwin كما عرض هو لنفسه وكما عرض له أبناؤه، فتشارلز داروين Charles Darwin وُلِدَ في الثاني عشر من شهر فبراير سنة ألف وثمانمائة وتسع أو عام ألف وثمانمائة وتسعة ميلادياً في شروزبري Shrewsbury في إنجلترا طبعاً لأسرة علمية وهى أسرة مسيحية طبعاً، لكن يُقال لك بجهل “داروين Darwin يهودي وصهيوني وله علاقة ببروتوكولات حكماء صهيون” وهذا كلام فارغ وكلام سخيف للأسف الشديد وخطأ، فهو رجل مسيحي من أسرة مسيحية وأسرة علمية، وأبوه هو الدكتور روبرت داروين Robert Darwin وجده هو إراسموس داروين Erasmus Darwin، وجده كان طبيباً وفيلسوفاً وعالماً خاصة في علم الحيوان – Zoology – وشاعراً،أي أنه كان ذا مواهب علمية ومواهب أدبية، وأبوه أيضاً كان طبيباً، حيث أنه تحصل على شهادة الدكتور في الطب (MD) من جامعة لايدن Leiden بهولندا، ومارس المهنة بدءاً من الحادي والعشرين لستين سنة بعد ذلك، تقريباً حتى تُوفيَ سنة ألف وثمانمائة وثمانية وأربعين، فإذن أبوه كان طبيباً، وداروين Darwin كان يُظهِر الاعتزاز البالغ بوالده في مواطن كثيرة من ذكرياته واسترجاعاته، وكان له عادة أن يبدأ جُملاً كثيرة بالقول “والدي الذي كما أعلم أو في حدود علمي هو أكثر الرجال الذين عرفتهم حكمة”، فهو يُعبِّر عن إعجاب شديد بوالده، ويبدو أن والده كان شخصية مُعجِبة بلا شك، وحسب كلام ابنه تشارلز داروين Charles Darwin والده كان شخصاً خيّراً وعظيم التعاطف مع الناس، فداروين Darwin سيرث هذه الصفات طبعاً، ومن ثم كان داروين Darwin شديد الحساسية والحنان والتعاطف مع البشر والحيوان، وطبعاً هذا يتناقض على طول الخط مع الفكرة التي أُشيعَت أو سادت حول أن الداروينية Darwinian نظرية تجعل الإنسان قاسياً ومُجرِماً وقد تأثر هتلر Hitler وموسوليني Mussolini ونيتشه Nietzsche بها، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن هذا لا علاقة له بطبيعة داروين Darwin نفسه، لأن داروين Darwin نفسه بريء من كل التضمينات الفلسفية والتوظيفات الأيدولوجية والسياسية لنظريته، فهو برئ من هذا ولا يُدان بهذا، لكن يُدان بهذا من ضمّنوا النظرية بشكل خاطيء ومُتعثِر مثل هذه التوالي والتضمينات، أما الشخص في حد ذاته كان شخصاً عظيم الخيرية والتعاطف والمحبة للكائنات الحية، ويرى فيها عظمة ويرى فيها جلالاً ويرى فيها إبداعاً، فكان كذلك وعاش ومات كذلك.
فإذن أبوه كان شديد التعاطف مع الناس، ومن هنا يقول تشارلز Charles “لم يكن والدي شديد التعاطف فقط لجهة أنه يتعاطف مع المنكوبين في نكباتهم ومع المُصابين في مصائبهم ،بل أيضاً لجهة إرادته وعمله على إشاعة السرور في كل مَن حوله”، فهذا التعاطف – Sympathy – لا يعني مُجرَد أنه يتعاطف مع منكوب أو مُصاب فيُخفِف من حزنه وألمه وتباريحه أبداً وإنما كان أيضاً يحاول أن يُشيع الفرحة والسرور بين كل الذين يتصلون به، لأنه شخص مُتعاطِف ومُحِب للبشر ومُحِب للناس، وهو الدكتور روبرت داروين Robert Darwin.
ذكر أيضاً ابنه تشارلز Charles صفة مِن الصفات التي وسمته القدرة الاستثنائية على معرفة الناس قائلاً “لم يحدث أن والدي أخطأ في تقييم رجلاً لكي يتخذ منه صديقاً أو يتجنب مصادقته إلا مرة واحدة وسرعان ما اكتشفه”، فعنده قدرة وحدس أو فراسة في البشر، وبالتالي يعلم أن هذا صادق و أن هذا طيب وأن هذا ماكر وأن هذا مُحتال وأن هذا خبيث وأن هذا نهّاز، فالرجل يعلم هذا، وهذا يدل على أنه كان رجلاً ذا عقل، فكان رجلاً عاقلاً بلا شك وذكياً.
من الناحية الشكلية يصفه ابنه بأنه كان طويلاً فيقول “أضخم من رأيت”، حيث كان طوله قد بلغ ستة أقدام وبوصتين، أي يصل طوله إلى مائة وخمسة وثمانين سنتيمتر، ومن ثم يقول “أضخم من رأيت، وكان بادناً وسميناً جداً إلى حد بالغ، ففي أخر حياته لم يكن يستطيع المشي، فكان يسير دائماً على كرسي مُدوّلاب”.
فهذا كان والده روبرت داروين Robert Darwin الذي قال عنه أنه لم يكن ذا ذهنية علمية بالطريقة التي يتميز بها ابنه تشارلز Charles بحيث يُعمِم – العلم هو التعميم – من خلال أن يبدأ من فرضية ثم ينتهي في النهاية إلى القانون، فالقانون هو تعميم أو نوع من التعميم، ولذلك قال “والدي لم يكن ينزع إلى التعميم، ولا أذكر له من التعميمات إلا تعميماً واحداً – ويا له من تعميم، فعلينا نحن أيضاً أن نستفيد منه – حيث قال مرةً وقَعَد قاعدة على غير طريقته وعادته إياك يا بُني أن تتصادق مع أي رجلٍ لا ترى أنك مُضطَرٌ إلى احترامه أو مدفوعٌ إلى احترامه”، ويا لها من نصيحة، فإياك أن تتخذ صديقاً أي شخص تشعر بأنك غير مدفوع إلى احترامه لأنك تعلم مثلاً أنه يكذب أو أنه ينم على الناس أو أنه غير عفيف – غير عفيف الفرج أو غير عفيف اللسان أو غير عفيف اليد أو غير عفيف النفس – لكنه قريبٌ منك بشكل أو بآخر ويُسدي إليك خدمات لأنه ربما كان قريبك – ابن عمك أو ابن خالتك أو ابن خالك أو زميلك في المدرسة – وربما أنت تُحبه وتستلطف منه أشياء ولكنك لا تحترمه، وهذه نصيحة من أروع ما يكون، ولا يُمكِن أن يتفوه بها إلا رجل حكيم قد أوتى الحكمة، لأن الشخص الذي لا تحترمه في نهاية المطاف لا يُمكِن إلا أن يجلب إليك العار، وفي نهاية المطاف لابد أن يخذلك لأنه غير مُحترَم، وهذا الغير مُحترَم يُمكِن أن يبيعك، وعلى كل حال لا نحب أن نواصل في شرح هذه النقطة، فقط هو قال “هذا تعميم وحيد تقريباً آثرته عن والدي”، ثم قال “كان والدي ذا ذاكرة هائلة وخاصة فيما يتعلق بالتواريخ – تواريخ الولادات وتواريخ الزواج وتواريخ الوفيات – وبالتالي تقريباً ما مِن أحد في شروزبري Shrewsbury إلا يعرف والدي ما تيسر مِن تواريخه، سواء تاريخ الميلاد أو تاريخ الزواج وتاريخ الوفاة – إن كان توفى – لأنه لا ينساه أبداً بسبب أن عنده ذاكرة رقمية هائلة”، وداروين Darwin ورث هذه الذاكرة لكن بشكل غائم، ومن هنا يقول “أنا ايضاً لدي ذاكرة هائلة لكنها غامضة وليست مُحدَدة، فتتذكر أشياء وتُخفِق في تذكر أشياء قريبة جداً، فهناك – مثلاً – مواعيد مُعينة لا أستطيع أن أحتفظ بها أكثر من يوم أو يومين، ثم أنسى كل ما يتعلق بها”، لكن كان يتذكر أشياء أخرى في اتجاهات يبدو أنها غير مُحدّدة لديه إلى الآن، فلا يعرف ما هى هذه الاتجاهات بالضبط، ولذا كان يقول عنها أنها غير مُحدّدة وغائمة، فنعم هى ذاكرة هائلة وكبيرة ومُحيطية لكنها غائمة، وطبعاً هى وراثة في نهاية المطاف، فلابد أن يرث أشياء من أبويه ومن أجداده أيضاً.
المُهِم حديث داروين Darwin عن والده حديث طويل، لكن مِن اللافت أن والده كان قد اتخذ موقفاً طيلة حياته لم يتراجع عنه مِن الخمر ومن احتساء الخمور، فهو يحظرها – يحضر الخمور – على نفسه وعلى أولاده البتة ولا يتساهل في هذا، ولذا يقول “لم أعلم أن والدي ذاق قطرة كحول Alcohol طيلة حياته”، وهذا يُؤكِد أيضاً أنه كان رجلاً عاقلاً، مع إن دينه يُبيح له هذا والناس يفعلون هذا ولكنه لم يحتس ومثله تشارلز داروين Charles Darwin الخمور لأنه حرمها على نفسه تماماً.
أيضاً من صفات والده أنه كان رجلاً ربما لفرط حساسيته وعظم وقوة شفقته وحنانه لا يحب منظر الدم، فيفزع منه على أنه طبيب ودرس الطب كما سمعتم في لايدن Leiden بهولندا، ولكنه لم يكن أيضاً يُسيغ مُجرَد التفكير في إجراء عملية جراحية بل لا يستطيع أن يُفكِر في المسألة أصلاً، مثل كيف يُفتَح إنسان أو كيف يُجرَح إنسان، فهو لا يستطيع أن يُفكِّر في هذا ومن ثم كان يُصاب بالغثيان وبالرُعب، فقال “وقد أورثني هذا الرعب”، ولذا داروين Darwin منذ البداية فشل في دراسة الطب كما سيأتي بُعيد قليل بسبب أنه يكره منظر العمليات الجراحية ويكره الدماء، ومن هنا قال “كان يُمكِن أن يُغمى عليّ لو رأيت رجلاً ينزف دماً”، فهذامشهد مُروِع مُخيف لكنه قال “هذا ورثته عن والدي”.
نكتفي بهذا القدر عن والده، أما بالنسبة إلى جده فإسمه – كما قلنا – إراسموس داروين Erasmus Darwin، وهو طبيب وفيلسوف وشاعر وعالم في الحيوانات، وهو صاحب كتاب مشهور – هو قمة انتاجه النثري وليس الشعري – إسمه تسمية الحيوانات Zoonomia، فكتاب تسمية الحيوانات Zoonomia هو كتاب إراسموس داروين Erasmus Darwin جد داروين Darwin لأبيه الذي كان يُسمي فيه الحيوانات، ومن اللافت أن داروين Darwin اعترف طبعاً وأقر بأنه قرأ هذا الكتاب مرتين، حيث قرأه في مُقتبَل شبابه وفي ريعان شبابه وأُعجِب به جداً، علماً بأن الكتاب يُشير إلى فكرة تحول الأنواع وتطور الأنواع، وطبعاً هذه الفكرة لم يبتدعها داروين Darwin، لأن هذه الفكرة قديمة وقال بها فلاسفة أغارقة وقال بها فلاسفة مسلمون أو إسلاميون، وممن قال بها بشكل مُذهِل إخوان الصّفاء و خلان الوفاء، علماً بأن رسائلهم مطبوعة، وأنا قرأت هذه الرسائل وكانت شيئاً عجيباً، فهم يتحدثون عن تطور الأنواع وتحولها بشكل قريب جداً مما توصل إليه علماء التطور الغربيون المُحدَثون في العصر الحديث، فكيف توصلوا لهذا؟ هذا شيئ غريب، وكذلك ابن خلدون في المُقدِمة تحدث عن تحول الأنواع بشكل مُدهِش جداً وقال “آخر أفق التراب أول النبات، وآخر أفق النبات أول أفق الحيوان، وآخر أفق الحيوان أول أفق الإنسان”، ثم يقول “وآخر أفق الحيوان مثل القردة – ولعله أراد القردة العُليا مثل الغوريلا Gorilla أو Chimpanzees أو إنسان الغاب Orangutan – وبعد ذلك يبدأ هنا الإنسان”، وهذا شيئ غريب، فهو يتحدث حديثاً علمياً، أما الجاحظ المُعتزِلي الكبير تكلَّم أيضاً في الحيوان كلاماً عن تحول وتطور الأنواع، فداروين Darwin ليس أول مَن تحدَّث عنه، وطبعاً في الغرب هنا كثيرون سبقوا داروين Darwin، وكلنا سمعنا بالفرنسي جان بابتيست دي لامارك Jean-Baptiste De Lamarck صاحب النظرية المشهورة جداً في تحول الأنواع، لكنها طبعاً تختلف في جوهرها وفي طرقها وآلياتها العلمية عن جوهر وآليات نظرية تشارلز داروين Charles Darwin، وباختصار هى نظرية الاستعمال والإهمال Use and Disuse، فإذا استُعمِل العضو تحت ظروف تضطر الحيوان أن يُكثِر من استعماله أو أن يستعمله على نحو مُعين نما هذا العدو وتضخم وتخصص وتقوم، وإذا تم إهماله فإنه يضمر وربما يختفي، فهذه هى نظرية لامارك Lamarck باختصار، وطبعاً الآن هذه النظرية لم تعد تقريباً تحظى باعتبار كبير، فليس لها إلا أدنى الحظ من الاعتبار في مُقابِل نظرية التطور العضوي لتشارلز داروين Charles Darwin بآلية الانتخاب الطبيعي ضمن آليات أخرى كثيرة طبعاً، ولكن الانتخاب الطبيعي أشهر آلياتها، وهذا ما سيأتي تفصيله – إن شاء الله – في إبانه أو في وقته.
أيضاً في سنة ألف وثمانمائة وإثنين وأربعين نُشِرَ كتاب عن الآثار الباقية للتاريخ الطبيعي للخلق Natural History of Creation، وهذا الكتاب أثار ضجة كبيرة، وهو يتكلم أيضاً عن تحول الأنواع وعن الأصول الحيوانية للآدمية وللبشر، فأثار ضجة كبيرة جداً ومُعارَضة عارمة خاصة لدى المُؤسَسة العلمية المُمثَلة في صف العلماء في كامبريدج Cambridge بالمملكة المُتحِدة، ولم يُعرَف من الذي ألف هذا الكتاب، ثم اكتُشِف بعد ذلك أن الناشر الاسكتلندي لهذا الكتاب وهو روبرت تشامبرز Robert Chambers هو الذي ألفه، لكن هو قال “أنا مُجرَد ناشر، فالمُؤلِف لا يُريد أن يُعرَف”، ثم اكتشفوا أن الناشر هو الذي ألفه، والكتاب في مُجمَله كما يقول النقاد ليس علمياً ولكن فيه تبصرات، حيث يأتيه أفكار وتبصرات علمية لافتة، وهو كتاب فيه جرأة عجيبة، لكن هُوجِم هجوماً شديداً من المُؤسَسة الدينية والمُؤسَسة العلمية على سواء، وكان من أشهر الشخصيات الذين هاجموا هذا الكتاب عالم الجيولوجيا Geology الإنجليزي الشهير آدم سيدجويك Adam Sedgwick، وآدم سيدجويك Adam Sedgwick هو الذي سيتعرف عليه داروين Darwin وسيستفيد منه الكثير لكنه على كل حال هاجم هذا الكتاب بشراسة.
إذن فكرة التطور وتحول الأنواع فكرة مطروحة وموجودة في السوق، فعندك لامارك Lamarck وعندك إراسموس داروين Erasmus Darwin وعندك تشامبرز Chambers، وكثيرون كانوا يتكلمون عن هذا، لكن سوف نرى ما الجديد الذي أضافه داروين Darwin، ولماذا داروين Darwin بالذات هو الذي عُرِفَ وصار تقريباً أيقونة – Icon – هذه النظرية أو أيقونة – Icon – هذا الفكر التطوري بعامة، سوف نرى – إن شاء الله – كل شيئ في وقته.
فإذن داروين Darwin وُلِدَ لهذه الأسرة العلمية، فهذا هو أبوه وهذا هو جده، وجده – كما قلت لكم – كان أيضاً طبيباً، ومثل والده كان شخصاً ضخماً وكان شخصاً ذا نزعة تطوعية خيرية- يبدو أن هذه الصفة في العائلة جميعاً – لأنه كان خيّراً ومُحِباً للناس ومُتعاطِفاً معهم، وتميز من حفيده داروين Darwin أنه كان ذا نزعة أدبية جعلته شاعراً، فداروين Darwin لم يكن شاعراً بل بالعكس في العشرين الثلاثين سنة الأخيرة من حياته تراجعت ميوله وأذواقه الفنية والأدبية بالمرة بحسب ما قال داروين Darwin.
فهذا هو داروين Darwin، وسنذكر هذا أيضاً بُعيد قليل، لكن جده كان شاعراً ومن ثم يكتب الشعر، وكان فيلسوفاً وكان عالماً مثل حفيده وكان شخصاً طيباً، لكنه لم يكن – كما يقول المُؤرِخون – يتسم بالبساطة والتواضع اللذين وسما وطبعا تشارلز داروين Charles Darwin، فداروين Darwin كان بسيطاً شخصاً بسيطاً جداً في كلامه وفي شخصيته وفي كتاباته وفي أسلوب الكتابة الخاص بكتبه، فكتب داروين Darwin يقرأها غير المُختصين ويفهمونها بسلاسة وبسهولة، لأن هذا الرجل كان بسيطاً جداً جداً ولا يُحِب الإدعاء ولا يُحِب الانتفاخ ولا يُحِب التكلف، إنما كان على فطرته، لكن جده لم يكن كذلك – كما يقول المُؤرِخون – وإنما كان شخصاً يتصف بصفات مُغايرة بخصوص هذه المسائل بالذات.
أمه لم يذكر عنها تقريباً أي شيئ، فقط ذكر أشياء تتعلق بنعشها يوم توفيت، فلماذا إذن؟ لأنها توفيت وداروين Darwin كان صغيراً، كان في السنة الثامنة من عمره، فهى توفيت سنة سبع عشرة وثمانمائة وألف – 1817 – وكان عمره تقريباً ثمان سنوات لأنه وُلِد في تسعة وثمانمائة وألف – 1809 – طبعاً، فكان عمره ثمان سنوات عندما توفيت والدته إلى رحمة الله إن شاء الله، لذلك هو لم يذكر عنها أشياء كثيرة، فهذا هو كل ما يتعلق بأمه.
بالنسبة لإخوانه كان هو خامس ستة، فرُزِق والداه ستة أولاد “أربع بنات وذكرين”، الذكران هما تشارلز داروين Charles Darwin – وهو أصغر الذكرين- وأخوه الأكبر إراسموس داروين Erasmus Darwin الذي كان على إسم جده أيضاً، فإسمه إراسموس روبرت ورينج داروين Erasmus Robert Waring Darwin وأبوه إسمه روبرت ورينج Robert Waring، وأخوه كان أيضاً رجلاً مُلِماً بعلوم وفنون وآداب كثيرة كما يذكر عنه تشارلز داروين Charles Darwin، حيث كان يعرف الآداب والشعر والفن والرواية والمسرحية والعلوم المُختلِفة وعلم النبات وعلم الحيوان، فكان رجلاً مُثقَفاً ثقافة عالية أدبية وفنية وجمالية وعلمية أيضاً، وكان شخصاً طيباً، ودرس الطب وتخرج بعد ذلك، لكن من كلام تشارلز Charles يبدو أنه لم يُمارِس هذه المهنة، والعجيب أن داروين Darwin لم يُحِب الطب، فأباه الذي مارس المهنة لستين سنة – كما قلت لكم في البداية – على الأقل كان يكرهها، ومن هنا يقول ابنه تشارلز داروين Charles Darwin “كان والدي شديد البغضة لمهنة الطب، لكنه اندفع إلى مُمارستها من أجل كسب عيشه، ثم بعد ذلك ظل يُمارِسها على الرغم من كونه يكره الدماء ويكره العمليات الجراحية”، وهذا يُؤكِد تقريباً أنه لم يكن مُحِباً بطريقة فطرية لمهنته، على أنه كان ماهراً فيها وكان طبيباً ماهراً مشهوداً له ولكنه لا يحبها، وابنه أيضاً إراسموس داروين Erasmus Darwin درس الطب وتخرج حسب ما أفادنا أخوه تشارلز داروين Charles Darwin لكنه تقريباً لم يُمارِس المهنة، وهذا شيئ عجيب، فهذه نزوعات داخلية وهذا مزاج علمي مُعين، فلم يُمارِس هذه المهنة ولكنه كان شخصاً أيضاً طيباً ومن أقرب الناس إلى أخيه تشارلز داروين Charles Darwin، فرافقه الدراسة المدرسية ورافقه أيضاً في كامبردج Cambridge ورافقه أيضاً في المرحلة الأولى من رحلته الشهيرة التي غيرت مُستقبَل العلم خاصة في علم الأحياء إلى حد ما والتاريخ الطبيعي والجيولوجيا Geology وهى رحلة البيغل Beagle – رحلة سفينة البيغل Beagle -التي سأحدثكم عنها ربما في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، وأخوه إراسموس داروين Erasmus Darwin عاش عزباً ولم يتزوج لأنه كان يقول “لم يكن لدي أي استعداد لأن أدفع أعباء الزواج، فالزواج له أعباء كثيرة”، ونفس الشيئ ينطبق على داروين Darwin، فحين تزوج لم يتزوج هكذا إنما تزوج بعد أن أنفق وقتاً – لا ندري طوله – في إجراء مُقارَنات بين الزواج وبين العزوبة وبين المسالب والمزايا هنا وهناك، فكان يقول سأتجوز من أجل كذا كذا وسأبقى عزباً من أجل كذا كذا، وكتب هذا وأطلع عليه أخوه فرجح له أن يتزوج، ومن ثم قال ” من الأفضل لي أن أعيش مُتزوِجاً بدل أن أعيش كنحلة تعمل وتعمل وتعمل ثم تموت هكذا وحيدة، فلا أُريد أن أموت بهذه الطريقة وإنما أُريد رفيقة دربي”، وفعلاً زوجته شكلت له دعماً معنوياً كبيراً جداً في حياته، على أنها كانت مصدومة بآرائه في نظرية التطور وإنكاره للخلق والتصميم الإلهيين، فكانت مصدومة تماماً ومجروحة لأن هذا آلمها جدا، فكانت تقول “يُشكِل لي هذا رُعباً أن أتصور – مُجرَد أن أتصور- أنك لن تكون رفيقي في الجنة الأبدية، فهذا يُمثِل لي مصدر رعب كبير”، لأن هذه يعني وفقاً لهذه الطريقة أنك كافر، لأنك حين لا تُؤمِن بأن الله خلق وصمم فأنت سوف تكون كافراً، وبالتالي لابد أن تُؤمِن بهذا، أي بنظرية الخلق الكتابية – Biblical – كما ذكرها الكتاب المُقدَس.
على كل حال أخوه – كما قلنا – مات عزباً ولم يتزوج يوماً، ولكنه كان إنساناً فاضلاً، ويذكره داروين Darwin في مذكراته بقوله “راس Ras أخي العجوز الفاضل”، فراس Ras هو إسم الدلع و الاختصار لإسم إراسموس Erasmus، وكان دائماً يناديه بـ راس Ras، فيقول له ” يا راس Ras،يا راس Ras”، وقال لنا أنه يقول عنه “أخي العجوز الفاضل راس Ras،أخي المسكين راس Ras”، فكان إنسانً فاضلاً وطيباً، وأيضاً شكل مصدر دعم كبيراً لأخية تشارلز داروين Charles Darwin.
نأتي الآن إلى ما يتعلق بالمسار الدراسي للعالم الكبير تشارلز داروين Charles Darwin، فقد يتوقع بعض الناس إن هذا الرجل خُلِقَ عبقرياً، لكن بالعكس مسار حياة هذا الرجل الدراسي على مُستوى المدرسة والجامعة ظاهرياً يُؤكِد أنه سيكون إنساناً فاشلاً، بل بتعبير والده “سيجلب العار لنفسه وللعائلة” لأنه غير متفوق بالمرة، فدائماً كان يحوم على الوسط – أي مُتوسِط وربما دون المُتوسِط – ولم يكن لديه من إرادة التحصيل الدراسي ما يجعله يواصل سواد الليل ببياض النهار – كما يُقال – أو أن يستمع إلى نصائح المُدرِسين فيلتزم التزاما تاماً بالمساق الدراسي، لكنه كان مُفرِطاً في كل هذه الأشياء، ويُمارِس هوايته المُفضَلة وهى جمع العينات النباتية والحيوانية مثل حشرات وغير الحشرات ومثل الفئران فضلاً عن أنه كان يهتم بالكلاب، أما بالنسبة للقطط فحبه لها ظل ضئيلاً حتى آخر حياته، نعم لا يكرهها لكنه يحبها حباً يسيراً، في حين أنه يحب الكلاب كثيراً ومن ثم كان مُهتَماً بالكلاب، وسوف ترون في الفصل الأول من كتابه أصل الأنواع حديثاُ مُسهَباً عن الكلاب وأنواعها وتدجينها وتهجينها، وهذا شيئ عجيب، فهذا أفاده طبعاً وألهمه في نظريته في تطور الأنواع وتحولها، ولذلك كان يُمارِس هذه الهواية، وعلى كل حال في السنة التي توفيت فيها أمه – أي قبل أن تتوفى ربما بفترة قصيرة جداً وذلك في سنة سبع عشرة وثمانمائة وألف 1817 – قرر والده أن يُلحِقه وهو ابن ثمان سنوات بمدرسة نهارية في البلدة التي يعيشون فيها، أي في شروزبري Shrewsbury، فألحقه بهذه المدرسة النهارية ومكث فيها سنة كاملة، لكن التحصيل كان أيضاً ضعيفاً جداً، فلماذا إذن؟
لأن – كما قلت لكم – لم يكن باله ولا عينه على المنهج الدراسي الكتب ونصائح المُدرِسين، لكنه كان يُمارِس هواية الجمع – جمع العينات – طبعاً، ولكنه كان يُمارِسها بإنسانية، ومن هنا يقول “كنت أُمارِسها بعطف وبحنان كما تعلمت من أخواتي البنات، فحين كنت أجمع بيوض الطير أقتصر على بيضة واحدة من كل عُش” فلا يأخذ البيوض كلها حتى لا يفجع أم هذه البيوض في بيوضها، وإنما يأخذ بيضة واحدة، ثم قال “مرة واحدة من باب التبجح أخذت بيضتين، لكن عموماً آخذ بيضة واحدة فقط”، وهذا يدل على الرحمة التي كانت لديه، فهو إنسان فيه رحمة وفيه حنان، علماً بأن – سبحان الله – هذا أيضاً كان أحد الأسباب التي ألهمته نظريته في التطور بالاصطفاء أو الانتخاب أو الانتقاء الطبيعي، لكن لماذا؟ لأنه تأثر جداً بهذا الصراع – Struggle – الدامي ناباً ومِخلباً في الطبيعة وبهذه القسوة في الصراع من أجل البقاء، تأثر جداً جداً ومن ثم هذا شككه في أن يكون الله هو الذي يفعل هذه الأشياء، فالله من المفروض أنه رحيم وأنه كامل الرحمة، وهذا من وجهة نظره طبعاً ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن إلى الآن كما وعدتكم طبعاً سنقتصر في السلسلة الأولى على عرض النظرية، فنحن لن نُعرِب عن موقفنا لا العلمي ولا العقدي الفكري، وإنما نُريد أن نعرض لهذه النظرية كما هى دون أن نتدخل، لكن في السلسلة الثانية سنعرض – إن شاء الله – لكل ما بين أيدينا وبما تحصل بين أيدينا من نقود ومُعارَضات علمية وبعد ذلك مُعارَضات فلسفية وفكرية مُختلِفة لكن في السلسلة الثانية، فذكري لشيئ مُعيَّن لا يعني أبداً أنني أقرِر شيئاً أو أنني مُقتنِع به تماماً وأوافق عليه، ولكن أنا أعرض الشيئ كما هو عرضاً مُحايداً موضوعياً.
قال داروين Darwin أيضاً “علمت لأول مرة أنه يُمكِن إماتة الديدان التي كنت أستخدمها في الصنارة من غير أن أخترقها بالشِص – عملية مُؤلِمة أن نخترقها وهى حية بالصنارة – وذلك بإماتتها أولاً عن طريق نقعها في محلول ماء مُملَح – ماء وفيه كمية من الملح وتُوضَع فيه الديدان ومن ثم تموت – ثم أضعها بعد ذلك وهى ميتة في الشِص، وكنت أفعل هذا باستمرار مُذ علمته ولم أخالفه مع أنه يُؤثِر سلباً على نتائج الصيد، فحين تكون الدودة حية تُغري الطير وتُغري السمك، ولكن أنا لا أُريد أن أعذبها بأن أخترقها وهى حية”، وذلك لأنه إنسان فيه رحمة، فلكم أن تتخيَّلوا أنه كان صغيراً في ذلك الوقت، فكان ابن تسع سنوات أو عشر سنوات لكن كان عنده هذا الحنان وهذه الرحمة وهذه الإنسانية الفائقة، فداروين Darwin كان إنساناً رائعاً، ولذلك – كما قلت لكم – حين تقرأه لا يُمكِن إلا أن تُحب هذه الشخصية، فهو – سبحان الله – شخص محبوب ومُحبَب ولطيف جداً.
إذن بقى سنة واحدة على كل حال ثم بعد ذلك في صيف سنة ثمان عشرة وثمانمائة وألف 1818 – أي بعد سنة واحدة – نقله والده إلى مدرسة أكبر ليمكث فيها سبع سنوات كاملة وهى مدرسة الدكتور بتلر Butler، هكذا تُعرَف أيضاً وهى كانت في نفس البلدة، فمكث سبع سنوات في هذه المدرسة وكان يُقيم بها لوجود مهجع للطلاب فيها، وكانت تبعد فقط عن بيتهم – أي عن بيت الأسرة – مسافة ميل واحد – أي واحد ونصف كيلو تقريباً – فكان كلما انتهى الدوام الدراسي وقبل أن تُغلِق أبوابها – طبعاً في الفترة بين انتهاء الدوام وبين أن تُغلِق أبوابها ليلاً – كان يُهرَع إلى بيته، ويصف ذلك قائلاً “كنت أهرع إلى البيت عَدواً، فكنت أعدو إليه لأنني عَداء جيد كما أرى أو كما أُقدِّر”، وهذا أكسبه مزيد من تعزيز العلاقات الودية والتواصلية مع أهله، لأنه لو كان يمكث سبع سنوات دون أن يعود إلا في نهاية الشهر أو نهاية الأسبوع لضعفت العلاقات، لكنه كان يعود يومياً تقريباً، لأنه شخص عاطفي ومن أسرة عاطفية ومُتعاطِفة، فلا يستطيع أن يبتعد عن أسرته، ومن ثم كل يوم يُهرَع إليهم، وربما يمكث عندهم ساعة أو ساعتين، ثم يعود قبل أن تُغلِق المدرسة أبوابها.
لكن مرة أخرى هنا لم يكن أداؤه جيداً، فكان يقول “أشعر بالخزي كلما تذكرت قولة أبي لي – أبوه كان عظيم العطف لكن هذه المرة غضب – حين قال لي يا بُني أنا أراك لا تهتم إلا بثلاثة أمور: إطلاق الأعيرة النارية في السماء وصيد الفئران والاهتمام بالكلاب، فمن رأيي أنك ستكون عاراً على نفسك وعلى أسرتك”، ثم يقول مُستتلياً “أبي الذي عرفته عظيم الرحمة وعظيم الحنان والحب لنا جميعاً أُرجِح أنه قال هذا وهو قول – أي أن أكون عاراً، فماذا فعلت أنا لكي يقول هذا؟ أنا أُمارِس هوايتي لأنني أُحب هذه الأشياء، فأنا لست راسباً، فمُستواي مُتوسِط ولم أرسب يوماً، وهذا صحيح فكان مُستواه عادياً جداً، وكذلك ذكاؤه كان عادياً، فنعم هو من أسرة متفوقين لكنه لم يكن متفوقاً إلى الآن – غير مُنصِف لي في لحظة غضب”، أي أن الغضب استفزه ومن ثم أخرجه عن طوره فنعتني بهذا النعت الذي أراه غير مُنصِفاً.
أدركنا الوقت، نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإن شاء الله نُكمِل الكلام عن سيرة تشارلز داروين Charles Darwin في الحلقة المُقبِلة، فإلى أن ألقاكم أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد . أنا والله لا أجد من الكلمات ما يمكنني من التعبير عن حبي للدكتور عدنان إبلااهيم حفظه الله . ولو أنني حاولت أن أقول ما يعجبني ويدهشني ويغمرني بحب هذا الرجل ما تكفيني الصفحات بكل صدق . ولكني أسطيع أن أقول . جزاك الله عنا خير الجزاء ووفق الله أينما كنت وأينما حللت وبارك الله لك في عمرك وصحتك وأهلك وذريتك ووقتك وعلمك وأخلاقك وقبولك وكل ما تملك وما لا تملك .
ولي سؤال أرجو أن أجد إجابته إن شاء الله كما أحبها وأرجوها . هل هناك جزء ثان من سلسلة التطور . وهو الجزء النقدي كما وعد الدكتور في الجزء الأول من السلسلة ؟ وهو بالنسبة لي وللجميع شيء هام جدا جدا جدا . ونطالب به منذ أكثر من سنة لأن الدكتور وصل بنا إلى حد قؤيب من الإقتناع بالنظرية بشكل كبير . ولكنه قال أنه سوف ينقضها وينقدها في الجزء الثاني . فهل هناك جزء ثاني لم نسمع به تم تصويره ؟ أم أن الدكتور لازال يعد له ؟ أم أنه قرر عدم المواصلة ؟ز ولكم جزيل الشكر والتحية