نظرية التطور
السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات
الحلقة السادسة عشرة
التطور الصُغروي – الجزء الأول
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المُرسّلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.
أما بعد، أحبتي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، في هذه الحلقة سنبدأ بحول الله تبارك وتعالى في استعراض أدلة التطور، إلى الآن تقريباً ست عشرة حلقة أو خمس عشرة حلقة قضيناها في استعراضٍ تاريخي مُفصَّل للنظرية وما اكتنفها من ظروف مُختلِفة والمعارك التي خاضتها هذه النظرية والمد والجزر الذي اعتورها حتى استوت على سوقها في شكل نظرية تقريباً جديدة تُعرَف بالنظرية التركيبية المُعاصِرة أو التركيبية التطورية المُعاصِرة التي ختمنا بالحديث عنها الحلقة الأخيرة الخامسة عشرة مُلخِصين لها في عشر نقاط، فمَن أراد أن يفهم التطور فعليه أن يفهمه من خلال التركيبية المُعاصِرة، ومَن أراد أن يُسدِد للتطور أيضاً بعض النقود أو المُلاحَظات والمُؤخذات فعليه أن يتعامل مع هذه النُسخة الأخيرة وليس مع النُسخة الأولية البدائية لتشارلز داروين Charles Darwin فضلاً عن النُسخ التي تلت ذلك.
في هذه الحلقة السادسة عشرة سنتحدَّث ولنكن واضحين – نحن لا نُريد أن نُمارِس الإغماض والالتباس الذي يفتعله بعض التطوريين بقصودٍ لا تخفى – عن التطور الصُغروي أو التطور الصغير الـ Microevolution، وليس عن التطور الكبير وتطور الانتواع، فلن نتحدث عن انتواع، ولن تسمعوا في حلقة اليوم والحلقات التي تتلوها – بإذن الله – بصدد التطور الصغير أو الصُغروي أي شئٍ بصدد الانتواع، فلن تروا نوعاً يخرج من نوع ولن تروا نوعاً يتطور من نوع، إنما سترون ضروباً من التكيفات والتغايرات تطرأ على النوع نفسه، وهذا الضرب من التغيرات والتباينات يقبله التكوينيون ويقبله الخلقويون Creationists، فالإلهيون والمُؤمِنون وأتباع الأديان السماوية يقبلون هذا ويستخدمونه دليلاً على وجود الله وعلى جميل صنعه بمخلوقاته كما سوف ترون، فأنتم ستُمارِسون هذا تلقائياً وسوف ترون أن هذا يدل على الله – تبارك وتعالى -ولا يدل على نفيه، لكن التطوريون على كل حال يعتمِدون نماذج كثيرة جداً تُعّد بالمئين من التطور الصغير أو الصُغروي على أنها أدلة حقيقية وقوية للتطور، وسوف نرى هذا وسوف نُناقِش هذا الحساب لكن في السلسلة الثانية، لكن أردت أن أكون واضحاً معكم منذ البداية، وهذه الأدلة في هذه الحلقات طبعاً ستتلوها أدلة أو ما يُرى أنه أدلة على التطور الكبير أو الكُبروي لكن بعد ذلك، فنبدأ بأقوى الأدلة وهى الأدلة الثابتة فعلاً على التطور الصغير أو الـ Microevolution،وطبعاً التطور الصغير يُمكِن أن يُعبَّر ويُمكِن أن نُعرِّفه تعريفاً مبدئياً إجمالياً بالقول إنه الانتخاب الطبيعي – Natural Selection – وهو يعمل.
تشارلز داروين Charles Darwin تحدَّث عن الانتخاب الطبيعي حديثاً نظرياً مُسهَباً لكنه لم يدعم حديثه بأمثلةٍ ونماذج مما رآه هو أو رآه غيره في زمانه، فهو لم يُفلِح في هذا ولم يفعل هذا ولم يُعنى أحدٌ في وقته أن يفعل هذا، إنما أتانا بأدلة على الانتخاب الاصطناعي أو الاستيلاد الاصطناعي Artificial Selection، فهو أتى بأدلة كثيرة قوية ومُوحية عن هذا وليس عن الانتخاب الطبيعي وذلك بحكم طبيعته، فهو يعمل في زمانية طويلة مُمتَدة لا يُمكِن أن تراه عين الإنسان في جيل واحد أو جيلين أو حتى ثلاثة أجيال على أن الجيل البشري الواحد يُساوي عشرين سنة، فالتطور بالانتخاب الطبيعي في نظام داروين Darwin لا يُمكِن أن يراه الإنسان في ثمانين وفي مائة سنة وفي خمسة أجيال مثلاً، هذا لا يُمكِن لأنه يحتاج إلى أزمان مُتمادية مُتطاوِلة جداً.
ما سنراه اليوم هو التطور يعمل أو قيد العمل In Action، لكن بالانتخاب الطبيعي على مُستوى النوع نفسه، أي داخل النوع ذاته، وهو التطور الصغير، إذن التطور قيد العمل أو كما استحب أن يدعوه التطوري الصلب ريتشارد دوكنز Richard Dawkins بالتطور أمام أعيننا Before Our Very Eyes، أي أمام أعيننا مُباشَرةً وهو يعمل، وهناك عالم تطوري كبير مشهور طبعاً في هذا الحقل إسمه جون إندلر John Endler أحصى في كتاب مشهور جداً على الإطلاق – لعله أشهر الكتب الجامعة للنماذج – إسمه الانتخاب الطبيعي في البرية Natural Selection in the Wild مائة وخمسين حالة للتطور وهو يعمل، وأعتقد أنه نشره في سنة 1986، أي أنه يُعتبَر قديماً الآن نسبياً، فجون إندلر John Endler أحصى مائة وخمسين حالة للتطور وهو يعمل In Action، لكن كل هذه الحالات كلها حالات من التطور الصغير أو الصُغروي، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه لأنه
مُهِم جداً، ونحن اليوم في هذه الحلقة وربما في حلقتين تتلو هذه الحلقة سنعرض لبعض هذه النماذج ولأشهر هذه النماذج التي أصبحت أيقونات – Icons – للتطور، فهى نماذج مشهورة جداً مثل براقش داروين Darwin أو الفينشز Finches الخاصة بداروين Darwin كما يُقال، فهى أصبحت أيقونة – Icon – للتطور، على أنها تُشير إلى تطور صغير وليس إلى تطور كبير، مع أنها أيقونة – Icon – من أيقونات – Icons – التطور، فيجب أن ندفع الالتباس منذ البداية وأن نكون مُحدَدين وواضحين.
نبدأ بسمك الجوبي Guppy، لكن لماذا أبدأ بسمك الجوبي Guppy؟ هذا السمك الجميل الذي يعيش في المياه العذبة مشهور جداً، وهو يعيش في الأحواض – Aquariums – التي تعيش فيها أسماك الزينة، وهو سمك فضي جميل أزرق بذيل مُزركَش وفيه بُقع كبيرة وصغيرة، المُهِم هو أن سمك الجوبي Guppy هذا المُلتمِع المُتألِق الجميل بدأت به أو آثرت – أي اخترت – أن أبدأ به لأن التجربة الفضل
فيها يعود إلى جون إندلر John Endler الذي ذكرت لكم أنه صاحب الكتاب الشهير الانتخاب الطبيعي في البرية Natural Selection in the Wild، فهو الذي قام بهذه التجربة، لكن ماذا فعل جون إندلر John Endler؟ سمك الجوبي Guppy ذكوره تجذب إناثه بفضل ألوانها الزاهية البرّاقة، وتعيش أسماك الجوبي Guppy عموماً في أحواض وفي جداول الماء في البرية وليس في الأحواض الصناعية على خلفيات مُختلِفة، وبعض هذه الخلفيات يكون فيها الحصى الغليظ، أي رمال كبيرة أشبه بالحصى الغليظ، فتكون لها – أي لهذه الأسماك – بُقعة مُعينة تُتناسِب خلفيتها، فلماذا إذن؟لدينا هُنا ضرورتان، أولاً ضرورة الكاموفلاج Camouflage أو التمويه، وثانياً ضرورة الازدهاء والزهو الجنسي، أي حتى تنتخب الإناث الذكور Sexual Selection كما حدثناكم عنه قبل ذلك، فهناك حالات كثيرة، وهذه حالة من حالات الانتخاب الجنسي، ولدينا حالات الطواويس ولدينا حالات الدراج Phasianid وحالات كثيرة تُمارِس فيها الحيوانات الانتخاب الجنسي على حساب حتى ميزات بقائية بحيث يتعرض الذكر للافتراس أو لخطر الافتراس، ويبدو عند المُوازَنة تُفضِل الذكور كما الإناث أن يتعرض للافتراس على أن يبقى مزهواً بجماله وبهائه، فهذا الذي يحدث وسنُناقِش أيضاً هذه الفكرة مُعمَقاً في السلسلة الثانية، لأن الانتخاب الجنسي يُمكِن أن يخدم في اتجاه تأييد نظرية التطور كما يُمكِن أن يخدم في الاتجاه الناقض بشدة لنظرية التطور، وفكِّروا في هذا ملياً وخذوا وقتكم، وهناك خلفيات أخرى يكون فيها الحصى ناعم جداً مثل الرمال الصغيرة، فماذا فعل جون إندلر John Endler؟ صنع أو بنى عشر برك – جمع بركة – صناعية، ثم قسم هذه البرك العشر أو العشرة – يجوز الآن أن تقول البرك العشر أو العشرة، لكن قبل ذك ينبغي أن تقول عشر برك، لكن الآن يُمكِن أن تقول برك عشر أو برك عشرة، كلاهما فصيحان صحيحان – قسمين،فجعل خلفية خمس منها – أي خمس برك من هذه البرك – بالحصى الغليظ وبالحصى الكبير، وخلفية خمس برك أخرى – وهى سائر البرك – بالحصى الدقيق جداً الذي يُشبِه الرمال الناعمة، ثم بعد ذلك أخذ بركتين – بركة من الحصى الغليظ وبركة من الحصى الناعم – وأخلاهما أو سيخليهما من المُفترِسات Predators، فلن يكون فيهما أي مُفترِس لأسماك الجوبي Guppy – أي الـGuppies، فالـ Guppies هى مجموعة من أسماك الجوبي Guppy مجموعة، والواحدة منها تُسمى جوبي Guppy – الخاصة به، ثم بقيَ لديه ثمان برك، فأخذ أربعة من هذه البرك وجعلها مُستعمَرة لمُفترِس قوي يُشكِّل خطراً حقيقياً جدياً على أسماك الجوبي Guppy وهو رمح البلطي Pike cichlids، فرمح البلطي Pike cichlids يُعتبَر مُفترِساً قوياً خطيراً جداً على أسماك الجوبي Guppy، وسوف يضع رمح البلطي في أربعة من هذه البرك، اثنتان منهما بحصى غليظ واثنتان منهما بحصى ناعم، والآن بقيَ لديه أربع برك، فسوف يضع في الأربع البرك مُفترِسات ضعيفة لا تُشكِل خطراً، فتقريباً وجودها كعدمها، لكن لماذا يضعها؟ هو لديه بركتان بلا مُفترِسات، وهذا ظرف حاكم – كما يُقال في علم التجربة وفي الأدبيات التجريبية – في التجربة يجعلها أكثر طبيعيةً وأقرب من الواقع الطبيعي – الـ Real – من عدم وجوده أو مُقارنَةً بحال عدم وجوده، لكن لماذا؟ لأنه في البرية – Wild – تقريباً لا توجد جداول ماء يعيش فيها الجوبي Guppy أو غير الجوبي Guppy بلا مُفترِسات، فهذا قانون الله – تبارك وتعالى – وهم يُسمونه قانون الطبيعة:
ولكل شيءٍ آفةٌ من جنسهِ حتى الحديدُ سطا عليه المبردُ.
ففي الطبيعة في كل الجداول وفي كل المياه هناك مُفترِسات، إذن لنضع مُفترِسات ضعيفة وإن كان وجودها كعدمه من أجل أن نُحاكي الواقع في طبيعيته.
الآن فهمنا كيف صُمِمَت التجربة، والآن سوف يترك البروفيسور Professor جون إندلر John Endler هذه الأسماك – أسماك الـ Guppies – في البرك العشر كما وصفناها لستة أشهر تتوالد وتتناسل وتتكاثر بشكل طبيعي كما هى من غير أي مُفترِسات، فما الذي يحدث الآن؟ تتكاثر كما تتكاثر بشكل عام، لكن علينا أن ننتبه إلى أن في هذه الحالة سوف نرى أن الأسماك تميل إلى أن يزدهي ذكورها بمزيد من عوامل الإغراء للإناث، فمثلاً البُقع الكبيرة هى عوامل جذّابة على بدن السمكة، وفي غياب المُفترِسات من المفروض هنا تنبؤات نظرية التطور تُفيد بأن الذكور يجب أن تُطوِّر عوامل جذب للإناث أكثر، وطبعاً كل نظرية علمية أحد أهم أركان نجاحها أو عناصر وعوامل نجاحها أن تُقدِّم تنبؤات، ثم تُختبَر هذه التنبؤات، لكي نرى هل تنجح أو لا تنجح، فالنظرية التي لا تستطيع أن تُقدِّم تنبؤات لا يُمكِن أن تُعتبَّر نظرية علمية، لذلك بشكل مبدئي الآن – هذا سنخوضه في التجربة أيضاً أي في السلسلة الثانية – نقول أن نظرية التصميم الذكي Intelligent Design Theory ID)) في الحقيقة هى نظرية تعجز فعلاً إلى حد بعيد عن تقديم تنبؤات، فهى تُحاوِل أن تُقدِّم انتقادات فقط لنظرية التطوروتُحيل دائماً على عامل آخر ذكي، على عامل مُصمِّم Designer يتمتع بالذكاء وما إلى ذلك، ولكن هل تستطيع الـ ID Theory أن تُقدِّم تنبؤات مُعينة وتُختبَر؟ للأسف لم تفعل هذا ولو لمرة، والذين كتبوا فيها هم أيضاً بروفيسورات – Professors – وأساتذة كبار في العلوم على مُستوى العالم أيضاً لكنهم لم يفعلوا هذا، فالنظرية تصميمها أصلاً تقريباً لا يسمح بأن تُقدِّم ذلك، لكن نظرية التطور قدمت تنؤات كثيرة ولاتزال تُقدِّم وتُختبَر هذه التنبؤات، والآن – مثلاً – من التنبؤات المُقترَحة هى أن في ظل عدم وجود المُفترِسات في بيئة هادئة مُسالِمة تماماً من المفروض أن تُطوِّر الذكور عوامل جذب للإناث أكثر كما يقول التطوريون، وهذا الذي حدث، يعني الآن لن يكون حتى للتمويه – الكاموفلاج Camouflage، أي أنها تُموِه نفسها – أرجحية، لكن لماذا هى تُموِه نفسها؟ لأنها تُحاوِل أن تتماهى بالخلفية، فمثلاً إذا كانت الخلفية ذات حصى دقيق جداً فمن مصلحة الأسماك أن تكون بُقعها على أبدانها دقيقة جداً وصغيرة حتى تتماهى بالخلفية،وإن كانت الخلفية ذات حصى غليظ يجب أن تكون هذه البُقع – Spots – ذات حجم كبير لكي تتماهى بالخلفية، وهذا في حال وجود المُفترِسات، لكن في حال عدم وجود المُفترِسات يكون العكس، وهذا الذي حدث، وهذا معناه أن الانتخاب الطبيعي يشتغل – It Works – ويعمل، فهذا نجح، لكن على كل حال ليس هذا هو المُهِم الآن، فنحن لم ندخل في التجربة الآن، هذه بداية التجربة فقط، لكن هو تركها ستة أشهر، وبعد ذلك وضع ماء – كما ذكرت لكم – ووضع في برك أربعة المُفترِسات من رمح البلطي، ووضع في أربع بركة أخرى مُفترِسات ضعيفة، وأخلى بركتين من أي مُفترِسات، وتركها بغير تعداد لخمسة أشهر، وبعد خمسة أشهر جاء وبدأ يعد، وطبعاً الآن البروفيسور Professor إندلر Endler مُهتَم بموضع البُقع مبدئياً طبعاً، فهو كان اهتمامه بموضوع البُقع من حيث عدد البُقع وأحجام البُقع، وعلى كل حال بعد خمسة أشهر بدأ يعد ما يُوجَد في كل البرك بما فيها طبعاً البرك التي فيها المُفترِس القوي، وهذا هو أهم شيئ، وبعد إجمالي أربعة عشر شهراً – تسعة أشهر بالإضافة إلى خمسة أشهر، فالإجمالي هو أربعة عشر شهراً – جاء وأعاد التعداد من أول وجديد، في الستة أشهر الأولى حصل ما ذكرت لكم، وهذا مفهوم، لكن ما الذي سيحدث بعد ذلك الآن؟ الذي سيحدث هو ما لاحظه وكان يتوافق تماماً مع تنبؤات نظرية التطور، ففي البرك التي فيها المُفترِسات القوية في الخلفية ذات الحصى الغليظ أصبحت البُقع عموماً تتماهى مع حجوم هذه الحصيات الغليظة، فهذا هو المطلوب الآن للتمويه، فالتموية هو المطلوب هنا، وفي البرك ذات الخلفية الحصى الدقيق جداً حدث نفس الشيئ، فالبقع أصبحت دقيقة، وهذا يعني أن الانتخاب الجنسي الآن أصبح مُتراجِعاً، فالاعتبار والاهتمام بالبقاء – Survival – حتى لا تنقرض وحتى لا تموت.
قد يقول لي أحدكم الآن: هذا الكلام فيه حلقة مفقودة، فيه شيئ غير مفهوم، فهل الأسماك تُدرِك هذا حقيقةً؟ هل تُدرِك أن رمح البلطي يُشكِّل خطراً؟ طبعاً معروف في الكائنات غير المُتطوِرة عموماً أن الكائن لا يُدرِك ولا يعي ماذا يُفكِر فيه الآخر أصلاً، فنحن نعرف هذا تماماً في علم النفس وفي علوم الدماغ والأعصاب، فكلما ارتقى الكائن في سلم التطور أصبح لديه القدرة على أن يعرف ماذا يُفكِّر فيه الآخر، ولذا الإنسان يتميز بهذا، وهذا يبدأ مع الطفل بعد قليل وليس بُمجرَد ولادته أو في الأشهر الأولى، وإنما بعد قليل، في حين أن الشمبانزي Chimpanzee يتأخر في هذا، لكن هل الأسماك تُدرِك هذا؟ قطعاً لا تُدرِك، مُستحيل أن تُدرِك الأسماك هذا، ويستحيل أن السمكة تُدرِك – سمك الجوبي Guppy مثلاً – كيف يُفكِّر المُفترِس رمح البلطي وأنه إن رأني بكذا وكذا سوف يفعل كذا، فهذا الكلام غير موجود على الإطلاق، وهى لا تُدرِك نفسها ولا ترى نفسها أصلاً، فهى ليس عندها مرآة لترى نفسها، ولا تستطيع أن تُدرِك أن شكل البُقع وعدد البُقع عليها جسمها سيكون مُماثِلاً أو مُضاهياً له على جسم أختها مثلاً، فهذا غير موجود في عالم الأسماك، وهذا شيئ عجيب، وهى لا تُدرِك أيضاً أن هذه البُقع تُماهي الحصى الغليظ مثلاً، فهى لا تُدرِك شيئاً من هذا، لكن ما الذي يحدث؟ يقول التطوريون يحدث انتخاب طبيعي، لكن ما معنى انتخاب طبيعي؟ وكيف تجري المسائل في الطبيعة؟ باختصار مثلاً في البدايات حين تكون البُقعة كبيرة في خلفية الحصى فيها دقيق وليس غليظاً سوف تُلتَهم هذه الأسماك، لأنها سوف تدل على نفسها وبالتالي رمح البلطي سوف يراها ومن ثم يأتي يلتهمها، والآن عدد قليل – سمكة أو أكثر – من الأسماك يكون فيه هذا التغاير وهذه الصفة المُباينة وذلك بأي حكم من الأحكام، سواء بحكم طفرة أو بحكم جينات Genes تشتغل أو بحكم أي شيئ، هذا ليس لنا علاقة به لكن المُهِم هو وجود برنامج جيني مضبوط أو طفرة في هذا البرنامج، فهى أصبح لديها بُقع صغيرة بدل البُقع الكبيرة، وهذه لديها فرصة أن تُموِه نفسها، لكن هى لا تُدرِك أنها تُموِه نفسها، فهكذا الأمور تجري بطبيعتها دون أن يُدرِك أحد، فلا البلطي يُدرِك ولا السمك يُدرِك ولا الطبيعة ولا الانتخاب الطبيعي الذي هو ليس كيان يُدرِك ويفهم، فهذا الكلام غير موجود، وطبعاً التطوريون يُؤكِدون هذا، فيقول لك الواحد منهم حين تُناقِشه لا تُناقِشني على أن الانتخاب الطبيعي كيان حقيقي وتبدأ تُوجِه له النقد، فنحن لا نقول هذا، هذا مُجرَّد مجاز Metaphor، علماً بأنني نبَّهت على هذا، لكن هكذا تجري الأمور وينبغي أن تجري هكذا، وذلك لأن البلطي لن يرى الأسماك التي تتماهى تقريباً إلى حد بعيد مع خلفياتها، فهو سيعجز عن أن يراها وبالتالي لن يفترسها، ومن ثم سيطول عمرها إذن، وسيكون لديها فرصة أن تُمرِّر جيناتها عن طريق أن تتناسل أكثر، وبعد جيل أو جيلين أو عشرة أو عشرين أو مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين سوف نصل إلى نُقطة تستحوذ فيها هذه الأسماك الناجية على المشهد، فتقريباً لن يوجد إلا الأسماك الناجية بالبُقع الصغيرة، وسوف تختفي الأسماك بالبُقع الكبيرة لأنها تكون قد التُهِمَت، وهذا هو الانتخاب الطبيعي، فالموضوع لا يتعلَّق بأن هذا يُدرِك وهذه تُدرِك، فهذا الكلام غير موجود بالمرة، لكن أيضاً هذا إلى الآن كلام غير كافٍ، فسوف تسمعون في السلسلة الثانية أشياء عجيبة جداً لها علاقة بالتمويه – الكاموفلاج Camouflage – ولها علاقة بهذا الإدراك الذي سحبناه ولم نُرِد أن نُسقِطه على الطبيعة، سواء على المُفترِس أو الطريدة أو هذا المُسمى بالانتخاب الطبيعي، لكن على كل حال سوف نرى، فهل هناك فعلاً ثمة شيئ يتحرك أو ثمة وعي أو ثمة إدراك أو ثمة خُطةأو ثمة منطق ما؟ هذا شيئ مُحير ولكننا سوف نرى هذا بالتفصيل!
أنا أعتقد بقدر جمال نظرية التطور وبساطتها وقدرتها التفسيرية لأشياء كثيرة سوف يكون النقد أيضاً لها في أمور كثيرة أكثر جمالاً وأكثر عمقاً، والمفروض أن يستفيد منه أعداء التطور وقبل ذلك نُصراء التطور حتى يُعمِّقوا اللوازم أو التوالي الفلسفية لنظريتهم بطريقة صحيحة وليس بطريقة خاطئة كما يفعل أكثرهم خدمةً للإلحاد ولإنكار وجود الله والمُصمِّم وهذه الأشياء، قالمسألة أعقد من هذا بكثير ولذلك أعتقد أن الأمر يستحق أن نقضى فيه كل هذا الوقت الطويل، فنحن قضينا خمس عشرة ساعة تقريباً في التأريخ للنظرية وتاريخ النظرية، والآن سنقضي أكثر من ذلك أكيد في أدلة النظرية، لكن سنكون قد تعمقنا وأسسنا على أساس قوي ومتين، وبعد ذلك نبدأ نتأمل وننتقد ونرى أيضاً ما سجلته الأقدام الناقدة الأخرى حول العالم من المُتخصِصين ومَن يمت إليهم بسبب أو بآخر!
إذن النتيجة هى أن الأسماك في الأحواض التي فيها المُفترِسات بدأت تعمل على تمويه نفسها حتى تنجو، ولكن ماذا حدث في الأحواض التي ليس فيها مُفترِسات – حوضان أو بركتان – أو التي فيها مُفترِسات ضعيفة – Weak Predators – وهى أربع برك؟ حدث العكس تماماً، فتقريباً هذا المُفترِس الضعيف كأنه غير موجود، وعلى كل حال حدث العكس، والعكس ليس فقط في أن الأسماك الذكور بدأت تزدهي وتُكوِّن بُقعاً جذّابة للإناث كبيرة مع أنها ضد التمويه لكنها تعمل للجاذبية الجنسية أو الجذب الجنسي، فسوف يحدث شيئ أعجب من هذا في أمور أخرى الآن سنتلوها عليكم، لكن ما هو هذا؟ جون إندلر John Endler تابع معه هذه التجربة علماء
آخرون لأنها تجربة طويلة، فهى امتدت لفترة طويلة، وكان أحدهم يُدعى ديفيد رزنيك David Reznick، فديفيد رزنيك David Reznick من الذين تابعوا مع جون إندلر John Endler في هذه التجربة المُثيرة جداً والتي ثبت بها – كما يقولون – أن الانتخاب الطبيعي موجود وأنه يعمل أمام أعيننا Before Your Very Eyes، فلاحظنا هذا في بضع سنين أو أقل من هذا، لكن هم في أشهر لاحظوا هذا، ففي سنة وشهرين لاحظوا هذه النتائج المبدئية، لكن في الحقيقة رزنيك Reznick وصل بعد ذلك لسنين مع أسماك الجوبي Guppy، وعلى كل حال كلاهما – أي إندلر Endler ورزنيك Reznick – لاحظا ماذكرناه إلى الآن بخصوص البُقع والتمويه وعدد البُقع وأحجامها وكيفيتها، وهذا يسمونه بالتباعد التطوري، فهكذا يُسمى في مُصطلَح النظرية بالتباعد التطوري، وهذا هو جوهر تنبؤ التطور في هذه التجربة، لكن ما هو التباعد التطوري؟ المفروض إذا كان التطور صحيحاً والانتخاب الطبيعي يعمل ويشتغل أن يحدث لهذه الأسماك في البرك المُختلِفة تباعد بحسب التهديد وبحسب المُفترِس – المُفترِس موجود أو غير موجود، قوي أو غير قوي – وبحسب الخلفية، فالمفروض أن ننتهي إلى استبقاء الأسماك التي لها ميزات الآن وصفات مُغايرة عمل عليها الانتخاب الطبيعي طبعاً بحيث تنجو تبقى وتمتد، بمعنى – كما قلت لكم – أن تُؤثِر موضوع التمويه على موضوع الجاذبية الجنسية فتتماهى مع خلفياتها، ولكن عجيب أنك ترى في البداية في هذه الأحواض أسماكاً مثلاُ ببُقع مُختلِفة – بعضها كبير وبعضها مُتوسِط وبعضها صغير – وفي هذه الأحواض نفس الشيئ، وبعد سنة ونصف السنة ترى في هذه الأحواض فقط أسماكاً ببُقع كبيرة، وفي هذه الأحواض أسماكاً ببُقع صغيرة، فأين ذهبت الأسماك ذات البُقع الكبيرة؟ كل شئ تغيَّر وتبدل، وهذا إسمه التباعد التطوري،لأن الانتخاب الطبيعي يشتغل ويستبقي الأصلح Fittest، فهذا الذي حدث، وقد رأينا هذا، ولكن – كما قلت لكم – هذا لم يُخرِج الأسماك عن أن تكون أسماكاً، وأسمالك الـ Guppies بقيت كما Guppies، فقط الاختلاف في موضوع البُقع من حيث عددها وأحجامها.
لاحظ كلاهما أن هذه قمة جبل الجليد، فهناك شيئ أعجب من هذا بكثير، وهو أننا سوف نرى أن أسماك الجوبي Guppy في الجداول أو الأحواض التي فيها المُفترِسات القوية تبلغ نضجها الجنسي مُبكِّراً، وهذا شيئ عجيب، فهى تُبكِّر في النضج الجنسي لكي تُنقِذ نفسها، لأنها إن لم تفعل هذا سوف تفنى، فهناك شيئ – سبحان الله – عجيب يشتغل هنا كما قلت لكم، هى تبلغ نضجها الجنسي في وقتٍ أبكر من الأخرى، ووتيرة تناسلها أو تعداد ذّراياتها أكثر وأعلى، وهذه الذُرية تكون أكثر عدداً لكن أصغر حجوماً وإن كانت كثيرة، وذلك ليبقى هناك ما يعيش مهما التهم هذا المُفترِس، وعكس هذا يحدث في البرك التي خلت من المُفترِسات أو فيها مُفترِسات ضعيفة، فما الذي يحدث إذن؟ يتأخر نضج الأسماك جنسياً، ووتيرة التعداد نفسها تُصبِح واطئة، فتضع بيوضاً أقل وتكون أحجامها أكبر بعد ذلك، فتكون الأسماك أكبر وإن كانت أقل عدداً، وهى كلها قضايا نسبية طبعاً، فهى ليست أقل بشكل هائل لكن أقل بشكل نسبي، وهذه مُلاحَظة مفهومة جداً، فمعروف لماذا – كما قلت لكم – يُريد هذا أن يُسرِع في النمو، وذلك لكي يُنقِذ نفسه وإلا سوف يموت، في حين أن السمك في الجهة الأُخرى يعيش في أمان فينضج بشكل بطيء ويستغرق وقتاً أطول، أي أنه يأخذ وقته كما يُقال، فتكون الأعداد أقل وتكون الأحجام أكبر، وهذا كان مُثيراً جداً لرزنيك Reznick وإندلر Endler، فهو من أعجب ما يكون، ولذا قالا “هذا التطور يعمل إذن بشكل مُباشِر”.
هناك تجربة أعجب من هذا، ففي مُقابِل الشواطئ أو الساحل الكراوتي – كرواتيا، يوغوسلافيا السابقة Ex Yugoslavia – تُوجَد جزيرتان، جزيرة تُعرَف ببود مرتشارو Pod Mrcaru باليوغسلافية – الصربو كرواتية بود مرتشارو Pod Mrcaru – وبالإنجليزي تُعرَف ببود مركارو Pod Mrcaru كما يقولون، لكن هى إسمها بود مرتشارو Pod Mrcaru على كل حال، والجزيرة الأخرى إسمها : بود كوبيشته Pod Kopište، وبالإنجليزي تُنطَق بود كوبيست Pod Kopište، لكنها باليوغسلافية بود كوبيشته Pod Kopište، إذن هما جزيرتان.
في جزيرة بود كوبيشته Pod Kopište يُوجَد نوع من العظايا أو السحالي – Lizards – تقريباً يتغذى بشكل حصري على الحشرات بأسنان إبرية صغيرة مثل كل الكائنات التي تتغذي على الحشرات تكون أسنانها إبرية صغيرة وتكون غير قاطعة وغير طاحنة طبعاً، فهناك نوع من السحالي يتغذى بشكل شبه حصري على الحشرات وذلك في جزيرة بود كوبيشته Pod Kopište أو كوبيست بحسب النطق، من هذا النوع من العظايا يُوجَد كائن عنده إسم علمي باللاتيني وهو بود أرسيس سكيولا Podarcis Sicula، فبود أرسيس سكيولا Podarcis Sicula هو نوع من السحالي، وهذه السحالي غير موجودة في الجزيرة الثانية وهى بود مرتشارو Pod Mrcaru.
في سنة 1971 أخذ جماعة من العلماء خمسة أزواج من بود أرسيس سكيولا Podarcis Sicula من الجزيرة الأولى وهى بود كوبيشته Pod Kopište ونقلوها إلى الجزيرة الثانية بود مرتشارو Pod Mrcaru – هاتان الجزيرتان مفصولتان طبعاً فصلاً فيزيقياً، فهناك مسافة بينهما – ووضعوها هناك لكي تتكاثر في ظروف جديدة، وسوف نرى هذه الظروف على كل حال، ففي الجزيرة الأولى تكون الحشرات مُتوافِرة دائماً، فتتغذى على الحشرات، لكن في الجزيرة الثانية سوف نرى الوضع!
بعد سبع وثلاثين سنة – أي في سنة 2008 – ذهب مجموعة من العلماء البلجيك – من بلجيكا – إلى الجزيرة بود مرتشارو Pod Mrcaru لكي يروا ما الذي حصل وما الذي طرأ من تطور – إن كان ثمة تطور – على هذه السحالي، وطبعاً تكاثرت وأصبحت أعدادها كبيرة جداً، فأخذوا عينات من أفراد من هذه السحالي وفحصوا الـ DNA ووجدوها فعلاً تنتمي إلى نفس النوع، أي إلى البود أرسيس سكيولا Podarcis Sicula نفسها، فهى هى ولا يُوجَد إلا هذا النوع، لكن الغريب أنهم لاحظوا أن تغيرات لافتة طرأت على هذه السحالي بسبب أن الحشرات قليلة جداً في هذه الجزيرة، لكن في المُقابِل فيها أعشاب وفيرة، فتكيفت هذه السحالي على أن تغتذي بالأعشاب، وأصبحت تتجه إلى أن تتغذى بشكل شبه حصري على الأعشاب فقط، لعدم وجود أي لحوم أو لعدم وجود أي حشرات، فما الذي حدث إذن؟ لاحظوا أن رؤوسها أصبحت أطول وأعرض وأكثر ارتفاعاً، وهذه مُلاحَظة لافتة، فهى من نفس العائلة لكن حدث تغير، والأسنان تغير شكلها من أسنان إبرية كانت تلتقط بها الحشرات لتتغذى عليها إلى أسنان عريضة مثل أسنان العاشبات عموماً، فالأسنان العاشبة تكون طاحنة لكي تقدر على أن تطحن، أما اللاحمة – Carnivorous – فتكون أسنانها قاطعة، ومعروف كيف يكون شكل هذه الأسنان القاطعة طبعاً، وتستطيع أن تنظر – مثلاً – إلى شكل أسنان الخيل – أكرمكم الله – أو الحمار أو المواشي أو الفيلة، علماً بأن عندنا كبشر إسنان طاحنة، فنحن عندنا هذه الطواحين التي تكون مثل الحجر، وعلى كل حال الفيلة والمواشي والحصان والحمار وإلى آخر هذه الكائنات عندها أسنان طاحنة مثل الحجر أو مثل الطاحون، فعلاً هذه العظايا في بود مرتشارو Pod Mrcaru أصبحت أسنان طاحنة وليست أسناناً إبرية، وطبعاً لها الآن فكان غليظان قويان، فلابد أن تكون الجمجمة أوسع وأكبر، لموضع العضلات التي تُحرِّك هذين الفكين، وهذا الي حصل، فالرأس – كما قلت لكم – أطول وأعرض وأرفع، فهو أضخم بشكل عام، وهذا شيئ غريب ولكن هذا تم في ظرف سبع وثلاثين سنة فقط من حيوان يتغذى على الحشرات إلى حيوان عاشب، وهذا يستلزم طرق وتكيفات جديدة بنيوية، لكن هذا الذي حدث، وهناك شيئ أعجب من هذا سوف نرى ما هو.
طبعاً نبدأ من هنا مسألة النباتات أيضاً، فكل الحيوانات النباتية – كما قلت لكم -تكون فكوكها أقوى وأسنانها أيضاً أقوى وجماجمها أكبر وأوسع نسبياً، فكل هذا شيئ نسبي، وأمعاؤها تكون أطول وأوسع طبعاً من الكائنات اللاحمة Carnivorous، فهذه كائنات عاشبة وتلك آكلة للحلم Herbivorous and Carnivorous، لكن هل نحن لاحمون أم عاشبون؟ نحن قارتون، فهذا يُسمونه بالقارت، لكن ما هو القارت؟ هو الذي يتغذى على الاثنين، أي على اللحوم وعلى النباتات والأعشاب، لذا نحن حيوانات قارتة!
إذن هذه صفات الحيوانات النباتية عموماً كما قلت لكم، فأمعاؤها تكون أطول وأوسع وأكثر تعقيداً، طبعاً لماذا ينبغي أن تكون لديها أسنان أقوى ويُترجَم هذا إلى أسنان أقوى وفكين أقوى وعضلات أكثرة قوةً؟ هذا يجد تعبيره في ماذا؟ في عض أقوى، فالعضة تكون أقوى من عضة اللاحم أو الحشري – وطبعاً الحشري لاحم – لأن في الخلايا النباتية هناك مادة إسمها السيلولوز Cellulose، والعرب يسمونها السيلِولوز، ومادة السيلولوز Cellulose هى التي تُعطي الخلية النباتية قوة أكثر من الخلية الحيوانية، فلكي تتغذى على النباتات لابد أن يكون العض أقوى، وأن يكون العضل أكفأ – أي أكثر كفاءةً – طبعاً، ولذلك تتكيف أمعاء الحيوانات العاشبة – Herbivorous – التي تقتات على الأعشاب والنباتات بوجود خلايا بكتيرية خاصة فيها تُساعِدها على هضم هذه المواد القوية السيلولوزية، وإلا لا تستطيع.
في كل الحيوانات العاشبة تقريباً يوجد السيكم Cecum وهو الأعور، علماً بأنالسيكم Cecum ليس هو الزائدة الدودية، فالزائدة الدودية التي عندك هى بقية الأعور الذي كان فيك، وهذا يُؤكِّد أننا مُنحدِرون من كائنات كانت تتغذى في الماضي البعيد قبل ملايين ملايين السنين على الأعشاب فقط والنباتات، فإذا رأيت الأرنب – مثلاً – سوف تجد أن هذا الأعور الذي عنده يُعَد طويلاً جداً، وهو قصير عند الإنسان، لكنه طويل عند الأرنب لأنه عاشب، فالعاشبات عموماً عندها هذا الأعور – السيكم Cecum – طويل ومُتخصِص، فهو عضو له فائدة، وهو يعمل كحُجيرة تخمير، وتكثر فيه هذه البكتيريا جداً على أنها موجودة في الأمعاء بشكل عام طبعاً، لكن هنا يكثر عدد هذه البكتيريا الخاصة، وهناك شيئ إسمه صمامات الأعور Cecal Valves، وصمامات هى جمع صمام، علماً بأنهم يقولون بالعامية الآن صمّام، لكن صمام هو اللفظ الفصيح، وعلى كل حال إذا نظرت في الأعور سوف تجد في الأعور نفسه قواطع لحمية أو عضلية أحياناً تكون غير مُكتمِلة، لكن ما معنى غير مُكتمِلة؟ أي لا تسده لأن إذا سدته سوف يموت طبعاً، وهذا القاطع يرتفع ثم ينزل ويرتفع ثم ينزل وهكذا، وهذه القواطع تراها إذا أخذت مقطعاً عرضياً – مثلاً – وتستطيع أن تراها الآن في الصورة، ويُمكِن أن تدخل على مرجع مُتخصِص
أو على الشبكة العنكبوتية، فقط اكتب Cecal Valves وسوف ترى الصورة التشريحية الخاصة بهذا الموضوع، وعلى كل حال صمامات الأعور موجودة فقط في الحيوانات العاشبة، لأنها تجعل المساحة أوسع، كما أنها تُنظِّم وتضبط عملية نزول هذه المواد إلى الأسفل، فهى يجب أن تنزل قليلاً قليلاً لأن هضمها صعب ويحتاج إلى وقت ويحتاج أن يمكث هنا في الأعور – السيكم Cecum – من أجل غرفة التخمير لكي تُنجَز العملية بكفاءة عالية، والآن المُفاجأة العجيبة جداً وهى أن عظايات بود كوبيشته Pod Kopište ليست عاشبة، فليس لديها ولا للعائلة – Family – بالترتيب الحيوي التي تنتمي إليها – ليس للعائلة نفسها، وليس حتى النوع وإنما العائلة نفسها – هذه الصمامات ولا تعرفها أصلاً، فهى ليس عندها صمامات الأعور من أصله، والعجيب أن بعد سبع وثلاثين سنة فقط وجدوا أن هذه العظايا في القبيلة أو العشيرة Population – يسمونها (P)، فهذه العشيرة الأولى وهذه العشيرة الثانية الآن – الموجودة في بود مرتشارو The Pod Mrcaru قد اتجهت – كما قلت – لتُصبِح حيوانات عاشبة بدل أن تكون لاحمة ولديها الأعور ولديها صمامات الأعور، وهذا شيئ غريب جداً، وطبعاً يفرح بهذا التطوريون، فهذه خطوة أقوى من خطوة الـ Guppies، فالآن هناك تطور على مُستوى البُنى الداخلية العضوية، حيث تنشأ أعضاء جديدة غير موجودة، فإذن لك أن تتخيل بعد ملايين السنين أن من المُمكِن أن يحدث هذا الانتواع، فيتطوَّر النوع بحيث ينتهي إلى أن يكون في نهاية المطاف نوعاً آخراً بتعريف النوع طبعاً الذي قدمناه عدة مرات، فهذه هى تجربة سحالي بود كوبيشته Pod Kopište وبود مرتشارو Pod Mrcaru، وهى تجربة مُثيرة وعجيبة جداً، فهى من أعجب التجارب في هذا الصدد!
نأتي الآن إلى تجربة أيضاً عجيبة ومُثيرة، وهى تجربة استمرت أكثر من عشرين سنة وتتعلق بالبكتيريا وبلايا البكتيريا وبكيف تتطور البكتيريا فعلاً بشكل جميل، فهذا الشيئ بالنسبة للعلماء الإخصائيين يدعوا إلى الإذهال، لكن بالنسبة لغير المُختَص يُعتبَر شيئاً عادياً، لأن للأسف لا يعرف قيمة الشيئ إلا من يُحسِنه طبعاً، فغير المُختَص سوف يقول لك هذا أمر عادي وكل شيئ قد يحصل، فهو عنده كل شيئ عادي لأنه لا يعرف قيمة هذا الشيئ، لكن المُختَص الذي يعرف الشيئ وقانونه ودستوره هو الذي يعرف أهمية التغير الذي يطرأ عليه، فحين أن غير المُختَص يرى أن الأمور كلها سيان، وعلى كل حال هى بالنسبة للمُختَصين بلغت حد الإذهال، فهم كانوا مذهولين من النتيجة وقالوا هذا الدليل من أقوى الأدلة على أن التطور يعمل وعلى أن الانتخاب الطبيعي – جوهر التطور – يعمل!
طبعاً لابد أن نُنبِه على أننا لاحظنا ما جرى للعظايا في ظرف سبع وثلاثين سنة، وهذه العظايا أو السحالي – التي ذكرتها لكم – جيلها في المُتوسِط سنتان، وهذا ما يُسميع العلماء بالـ Generation Turnover، وعلى كل حال الجيل دائماً يأخذ مُدة سنتين، وعندنا نقول ثمان وثلاثين سنة، أي تقريباً تسعة عشر جيلاً.
فقط في تسعة عشر جيلاً حدث عندنا تطور بنيوي على مُستوى الأعضاء الداخلية، فضلاً طبعاً عن الأسنان وعن العضلات وعن الفكين وعن الفك وعن كل هذه الأشياء التي ذكرناها، فهذا كله فقط في تسعة عشر جيلاً، فكيف إذا أمكن لنا أن ندرس كائناً يكون الجيل من حياتنا نحن البشر بعشرات آلاف الأجيال من جيله؟ أي أن يصل الجيل من حياتنا إلى سبعين ألف أو خمسين ألف أو ثلاثين ألف جيل، كالبكتيريا مثلاً، لأن البكتيريا أحياناً يكون جيلها – الجيل الواحد Generation Turnover – ثلاث ساعات أو أربع ساعات، وعموماً البكتيريا
التي سندرسها الآن هى الإشريكية القولونية Escherichia coli، وجيلها تقريباً في المُتوسِط أربع ساعات، ففي اليوم الواحد عندك ستة أجيال، فكيف لو درسناها لعشرين سنة؟ سيكون لدينا زُهاء سبعة آلاف يوم، ومن ثم سوف نضرب سبعة آلاف في ستة وبالتالي يصل الناتج إلى اثنين وأربعين ألف جيل، وفي الحقيقة أكثر من هذا لأن العشرين سنة أكثر من سبعة آلاف يوم بقليل طبعاً، لأن إذا كان عدد أيام السنة يصل إلى ثلاثمائة وخمسين سوف يصل الناتج إلى عشرين ألف لكنها أكثر من ذلك، ولذلك في عشرين سنة نستطيع أن نحصل على خمسة وأربعين ألف جيل من هذه الإشريكية القولونيةEscherichia coli، وهذا شيئ عجيب، فنستطيع أن نُجري تجربة وأن نُصمِم تجربة لكي نرى خط التطور واتجاه التطور ومفعول وأثر التطور على مدى خمسة وأربعين ألف جيل وليس على مدى تسعة عشر جيلاً، ولذلك هذه فرصة غير طبيعية كما قال مُصمِم التجربة العالم في البكتريولوجي Bacteriology الكبير ريتشارد لينسكي Richard Lenski، فهو قال “هذه فرصة أكثر من ذهبية لدراسة تبنؤات التطور”، فنحن نستطيع أن نفعل هذا، لأن خمسة وأربعين ألف جيل تُوازي بالأزمان الجيولوجية ملايين السنين، فمن المُمكِن أن يصل العدد إلى عشرين أو ثلاثين أو سبعين مليون سنة أو مائة مليون سنة طبعاً، فإذن نحن الآن سنُكثِّف الزمان وسنضغط الزمان ونختصره حتى نرى تأثير التطور على هذه الكائنات البسيطة جداً والوحيدة
لمزيد من المعطيات والمعلومات حول تجربة ريتشارد لينسكي
فهذه البكتيريا – علماً بأن العرب يُسمونها الإيشيريشيا القولونية -تعيش في الأمعاء – Colon – بشكل معروف جداً وبأعداد مهولة،
وتُسمى باللاتينية إسكريكيا كولي Escherichia Coli، وبالإنجليزية يُقال كولاي Coli، أي الشرشيا كولاي Escherichia Coli، لكن على كل الإسمها باللاتينية إسكريكيا كولي Escherichia Coli وهى الإيشيريشيا القولونية، ويُوجَد منها دائماً عشرة أس عشرين – عشرة مرفوعة للأس عشرين – على وجه البسيطة، أي مائة مليار مليار بكتيريا، لأن المليار يُساوي عشرة أس تسعة، فإذن سيكون العدد هو مائة مليار مليار أو مائة بليون بليون كما يُسميه الأمريكان، فالأمريكان يُسمون المليار باللبليون Billion، وهذا عدد هائل جداً جداً، ففي أمعاء الإنسان – أي في أمعاء كل واحد منا – يوجد منها بليون Billion – أي عشرة أس تسعة – أو ألف مليون بكتيريا تعيش في أمعائنا من الإيشيريشيا القولونية، لكن ما معنى هذا بلغة علم الوراثة وبلغة الأحياء التطورية؟ طبعاً هذه تتكاثر، ودورة الجيل – كما قلنا – هى أربع ساعات في المُتوسِط، بمعنى ست مرات في اليوم، أي ستة أجيال، ومعنى هذا أن يومياً بل ساعاتياً لابد أن يطفر جين Gene من الجينات Genes في كل عشيرة أو في كل مجموعة منها في العالم، وأنت عندك مائة مليار مليار، فلابد أن تتناسخ، وهى تتناسخ لا جنسياً طبعاً، فلا يُوجَد ذكور وإناث في البكتيريا كما تعرفون، ولذلك هى تتناسل وتتكاثر لا جنسياً Asexual Reproduction، وهذه فرصة أيضاً أكثر من ذهبية لكي يحدث الخطأ أو الطفر أو التطفر بوقوع طفرة -Mutation – ما، ولكن قد تقول لي ما علاقة الطفرة بهذا؟ ونحن فهمنا طبعاً علاقة الطفرة، فالطفرة هى المادة المُهِمة جداًوالعامل المُهِم لموضوع التطور وما يتعلَّق بكيفية حدوث التباينات وكيفية حدوث التغيرات، فأحد الأسباب الرئيسة هو الفطرة، والسبب الثاني هو الخلط الجيني وذلك في الانقسام الميوزي Meiosis – كما قلنا – وبعد ذلك في التلقيح، أي تلقيح البوييضة بالحيوان المنوي، فيحدث Recombination إذن، فهنا يُوجَد عندنا First Recombination، وهناك يُوجَد عندنا Second Recombination أيضاً، وتقريباً هذان هما المصدران العتيدان المُعتمَدان علمياً لحدوث التغيرات ولحدوث التباينات، وهنا يبدأ يشتغل الانتخاب الطبيعي طبعاً على هذه التباينات، فنحن لدينا الآن إمكان هائل لوقوع هذه التباينات، فلماذا إذن؟ لأن الأعداد كثيرة جداً جداً جداً والأجيال قصيرة الأعمار، لأن في كل أربع ساعات تقريباً يُوجَد جيل، فطبعاً يحدث باستمرار طفور، حيث يطفر جين Gene هنا وجين Gene هنا وجين Gene هنا وهكذا، فهذا أمر لازم، وبالتالي التطور يتنبأ أن مُستقبَل هذه الإيشيريشيا القولونية لابد أن يشهد تغيرات مُستمِرة – أي تطوات وتغيرات تطورية – ولابد نلاحظ أن هناك تطورات لافتة في حياة هذه البكتيريا، فهل هذا حصل؟ وهل هذا يحصل؟ هذا ما سوف نراه في الحلقة المُقبِلة – بإذن الله تبارك وتعالى – مع التجربة الطويلة التي امتدت أيضاً سنوات طويلة جداً والتي سنذكرها لكم وهى تجربة العالم الكبير لينسكي Lenski، فإلى أن القاكم أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تمت المُحاضَرة بحمد الله)
[…] العالم الكبير ريتشارد لينسكي Richard Lenski التي شرعت في آخر الحلقة السابقة بالتقديم لها، فأنا قدمت لهذه التجربة دون أن أخوض في […]
[…] العالم الكبير ريتشارد لينسكي Richard Lenski التي شرعت في آخر الحلقة السابقة بالتقديم لها، فأنا قدمت لهذه التجربة دون أن أخوض في […]