إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ۩ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ۩ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ۩ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ۩ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ۩ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۩ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ۩ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ۩ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۩ كِرَامًا كَاتِبِينَ ۩ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ۩ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۩ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ۩ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ۩ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ۩ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ۩ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
يُمكِن للعين المُتفحِّصة ولو قليلاً حين تمر على كتاب الله – تبارك وتعالى – أن تُلاحِظ استقصاءً شاملاً وتاماً ودقيقاً للأسباب الباعثة على الكفر، والكفر مُتحدَّث عنه في هذا السياق – في سياقنا الذي نستقبله – هو أعم من أن يكون كفراً بالله وحده بل يعم ذلك إلى جانب الكفر بالنبيين وبالكتب وبالحقائق الإلهية المِلية بعامة، فهذا هو الكفر، قال الله وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ۩، فهذا استقصاءٌ شامل وتام ودقيق وغير مسبوق ولا ملحوق حتى أنني زعمت في دروس التفسير أن هذا الموضوع أو هذه الموضوعة يُمكِن أن يكون موضوع أطروحة عُليا أو عدد من الأطاريح، بسهولة يُمكِن لأي باحث جاد مُستبصِر أن يقوم بهذا وسيأتي بأشياء بديعة عجيبة، نعم لم يتفطَّن لها المُفسِّر التقليدي نظراً لقاعدته أو خلفيته المعرفية التي تعكس معارف عصره، لكن المُفسِّر الحديث والدارس الحديث ينبغي أن يكون أكثر اتساعاً وأكثر عمقاً حين يُلقي أضواء هادية على هذه الآيات الكريمة اللافتة حقاً للنظر، لكل نظرٍ مُنصِف وموضوعي ومُحايد.
هذه واحدة، أما الأمر الثاني الذي أُريد أن أُقدِّمه بين يدي هذا الحديث الذي يُشكِّل دراساً موضوعاتياً للقرآن الكريم هو أنني أُحِب أن أُميِّز بين الدرس والتفسير الموضوعي والدرس أو التفسير الموضوعاتي، فالموضوعي يُعنى بالسورة وحدها أو بسورةٍ بحيالها يُريد أن يكشف عن وحدتها الموضوعية، مثل كيف يتصادق آخرها وأولها وكيف يتآزر آخرها مع أولها، فهذه هى الدراسة الموضوعية، أما الدراسة الموضوعاتية فهى أن تأخذ موضوعاً بحياله ثم تكر عليه في موارده في كتاب الله كله سبحانه وتعالى، فأنا أُسمي هذا دراسةً موضوعاتيةً، وبعض الناس يشمل النوعين بإسم الدرس الموضوعي، لكن هذا فيه لبس وفيه اختلاط لأنهما منهجان مُتميازان، فهذا درسٌ موضوعاتي إذن، وطبعاً كنت أحسب أنني سأُكثِّف الكلام وأُركِّزه لكي أستعرض العناصر السبعة عشر التي تقصيتها إلى الآن ويُمكِن أن تكون أكثر وأن تكون أكثر بكثير، علماً بأن بعض المُفسِّرين التقليديين أو العلماء التقليديين من علماء العقيدة ذكروا خمسة عناصر أو ستة عناصر، لكن أنا وجدتها سبعة عشر عنصراً ويُمكِن أن تكون حتى عشرين أو ثلاثين، فلا أدري، لكن إلى الآن وقفت على سبعة عشر باعثاً وسبباً يحمل الناس على أن يتنكَّروا للحقائق وعلى أن يجحدوها وعلى أن يُعرِضوا عنها وعلى أن يكفروا بها، واللفظ العام هو على أن يكفروا بها، فالقرآن فعل هذا بشكل غير مسبوق – كما قلت – ودقيق ومُلفِت حقاً فسبحان مَن أنزله، أحياناً كنت لا أتمالك نفسي فأصرخ وحدي قائلاً “الله أكبر، الله أكبر، فعلاً هذا كلام إلهي ولا يُمكِن إلا أن يكون كذلك، لا احتمال آخر”.
النُقطة الثانية هى أن بعضاً للأسف هنا وهناك يزعمون أن القرآن فعلاً ابن سياقه الثقافي والحضاري والبيئي، وطبعاً وما المرحوم نصر أبو زيد – رحمة الله عليه وغفر الله له – وأمثاله منا ببعيد، حيث أنهم اقتنعوا بهذه الفكرة واستولت عليهم وسطت بهم وهى أن القرآن هو منتوج ثقافي، وطبعاً هذه مفاهيم ماركسية ومفاهيم مادية وباللغة التي يفهمها العامة والخاصة جميعاً القرآن هو من توليف محمد بطريقة أو بأُخرى، فالقرآن عندهم هو صنيعة محمد ومحمد كان صادقاً مع نفسه – هكذا يزعمون – حين زعم أنه عند من الله لأنه خُيِّلَ إليه أنه من عند الله بعد أن نظمه وركَّبه وولَّفه وألَّفه بطريقة ما ثم أنه في مزاج روحي صادق مع نفسه سمح له بأن يتخيَّل أنه يُوحى إليه، وهذا بحد ذاته كفر، سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ۩، هذا الاعتقاد كفر حقيقي وهو مُصادِم لقواطع القرآن وجوازمه في عشرات الموارد والمواضع، فلسنا من هذا الهزل ولسنا من هذا السُخف وبالتالي سوف نترك هذا، لكن هؤلاء المساكين يزعمون للأسف هنا وهناك أن القرآن هو الذي دلنا على أنه منتوج ثقافي ابن بيئته وأن هذه هى تاريخية القرآن أو الدرس التاريخي ولذلك القرآن فعلاً يُمثِّل مرحلة وانتهى كل شيئ، فهو ليس كتاباً مُطلَقاً وليس كتاباً لكل الأزمان ولكل الثقافات ولكل جيل ولكل عصر وإنما لأجيال مُحدَّدة ولحقب تاريخية مُعيَّنة، وفَّى ربما ببعض غاياتها واستنفذ أغراضه وانتهى كل شيئ، ومرة أُخرى نقول سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ۩ ومُبين، فهذه فرية بلا مرية، لكن لماذا؟!
قالوا انظروا – مثلاً – مُحاجَة القرآن – وهى مُحاجَة الله – للكفر، إنها لا تعدو نطاق الكفر الشركي وكفر المُنافِقين، وفي نهاية المطاف كفر المُنافِق هو كفر شرك، فهو يعود إلى الشرك إذن، لأن الذي يُقابِل إيمانه المزعوم هو إيمانه بالأصنام وبالأوثان وبالأخشاب وبالتالي إذن هو كفر شرك، فقالوا القرآن دائماً لا يُجادِل الملاحدة، أين الإلحاد في القرآن الكريم؟ أي الإلحاد باللغة العصرية – Atheism – أو مذهب الإلحاد مذهب النفي وهو ما كان يُسميه أبو العلاء المعري النفي ويُسمي أصحابه النُفاة، وهى تسمية أدق من الإلحاد لأن الإلحاد هو الميل، والقرآن ذكر هذا المُصطلَح لكن ليس بمعنى Atheism أو بمعنى النفي أنه لا إله وإنما بمعنى تخفيض أسماء الله وصفاته أو نفي بعضها، قال الله في سورة الأعراف وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ۩، فهذا هو الإلحاد وهذا هو الميل، وعلى كل حال لا مشاحةَ في الاصطلاحات، فنحن في هذا المقام سنستخدم الإلحاد بالمعنى المُعاصِر أي بمعنى الـ Atheism أو مذهب النفي أو الاعتقاد بلا إله، فهم قالوا أين الإلحاد في القرآن الكريم فالله لم يتحدَّث عنه مرة واحدة؟ لأن العرب لم تعرفه فإذن فقط هو مُختَص بالعرب، وبالتالي هو كتاب عربي ابن بيئة عربية، لكن العرب المُشرِكون كانوا يعترفون بالله في عشرات المواضع، قال الله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ۩ وقال الله أيضاً وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۩ فضلاً عن أنه قال وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ۩، وهناك آيات كثيرة جداً جداً في هذا الصدد، قال الله قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ۩ ويُذيل الله الكثير من الآيات بقوله أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ۩ وقوله أَفَلَا تَتَّقُونَ ۩ وقوله فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ۩، وسنكتفي بهذا حتى لا نُطوِّل بذكر الآيات الكريمات على جلالاتها فهى معلومة كشواهد للجميع!
إذن هؤلاء لم يكونوا نُفاةً ولم يكونوا ملاحدة وإنما كانوا كافرين كفراً مخصوصاً، إنه كفر الشرك وكفر الوثنية، وأشار القرآن إلى كفر الثانوية كالذين ثلَّثوا وعبدوا ثالوثاً والذين عبدوا الشمس والقمر كالمجوس مثلاً، ونهى الله عن عبادة الشمس والقمر والسجود لهما، فهذه كلها إشارات، لكن أين كفر النفي؟ هذا تعجّل، قبل أن نُفيض في موضوعنا الرئيس وهو موضوع الأسباب الباعثة على الكفر أود أن أقول أنني أستخدم الأسباب بمعنى أو بطريقة وقائعية موضوعية – Positive – وليس بطريقة عقلية، فهذه ليست أسباب عقلية معقولة وتُنتِج معلولاتها كالعلة، لأنها ليست عللاً وإنما أسباب نصفها بطريقة وقائعية، وفي الحقيقة كانت هذه هى أسباب كفرهم بغض النظر تُنتِج الكفر هى بطبيعتها أو لا تُنتِج، وإن أكثرها لا يُنتِج الكفر بطبيعته ولكن هم كفروا بسببها، وهذا ما حصل، فهذه هى المُقارَبة الوضعية الوقائعية Positive Approach، وعلى كل حال هذا ليس بالمعنى العقلاني وبمعنى العلة التي تُنتِج معلولها بطريقة ضرورية حتى نكون دقيقين علمياً.
أعود لكي أقول أن هذا الكلام غير صحيح بالمرة، لأن القرآن أيضاً كان دقيقاً ومُفصَّلاً ومُدهِشاً في عرضه أنماط الكفر وليس فقط في عرض أسباب الكفر، وطبعاً الأنماط أقل من الأسباب لأن دائماً الأسباب أكثر بكثير من الأنماط والنماذج، وهذه هى أنماط الكفر في القرآن الكريم بسرعة وعلى عجل:
هناك كفر الإلحاد وسأبدأ به لأنه هو الذي أثار شُبهةً وشغب به هؤلاء المساكين أصحاب الدراسات التاريخية والمنهج الماركسي والتاريخاني للقرآن الكريم للأسف الشديد، فماذا يقول الله تبارك وتعالى؟!
يقول – سبحانه وتعالى – بشكل واضح وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ۩، أي ما من إله خلق وما من إله أحيا وما من إله يُميت وما من إله يبعث وينشر، إنما هو الدهر أو الزمان أو الكون أو المباديء الطبيعية أو عناصر الطبيعة أو قوانين الطبيعة أو سير الزمان أو سهم الزمان فقط، فالآية واضحة في مذهب النُفاة Atheism إذن، وبالتالي أين هم من هذه الآية؟!
طبعاً القرآن لم ينخرط إلى أمد بعيد أو عميق مع النُفاة، لماذا؟ لأن العرب فعلاً لم يعرفوا هذا المذهب، فعرفه قلة منهم، نعم بعض طواغيت العرب كانوا نُفاة وكانوا حتى لا يُؤمِنون بالله أصلاً، فلا يُؤمِنون لا بإله ولا بغيره ولكنهم كانوا قلة قليلة جداً،
والمقالاتيون وأصحاب المقالات – مقالات الأديان المُقارَنة – عرفوا هذا تماماً ونسبوا إليه نسبةَ الدُهرية وتحدَّثوا عن المذهب الدُهري.
هناك مُلاحَظة على “المذهب الدُهري”، فمن الناحية الصرفية هى نسبة على غير قياس ولكنها نسبة الصحيحة، فلا تقل لي “النسبة للدهر وبالتالي هذا إنسان دَهري وهؤلاء دَهريون” فهذا خطأ صرفياً وإنما قل “دُهَري” ولا تقل “دَهري”، والأفغاني – رحمة الله عليه – حين ألَّف كُتيبه الصغير “الرد على الدُهريين” بعض المُحقَّقين العباقرة في اللغة العربية صحَّحوا العنوان إلى “الرد على الدَهريين” لأن النسبة إلى الدَهر كما كان يظن وهذا خطأ، فهذا جاهل ولكنه يُصحِّح على عالم، ونحن نقول له اذهب وصحِّح جهلك واقرأ كتب النحو والصرف لأن النسبة إلى الدهر نسبة غير قياسية، مثل النسبة إلى البَصرة بِصري، وهناك مَن يقول بَصري لكن الأصح بِصري وليس بَصري لأنها نسبة غير قياسية، وكذلك النسبة إلى الدَهر دُهري، فنقول المذهب الدُهري ونقول أنهم دُهريون.
إذن ما المُراد بالدُهريين؟ الملاحدة الذين لا يعترفون لا بإله خالق ولا رازق ولا مُحيي ولا مُصرِّف ولا مُدبِّر ولا ناشر ولا باعث وإلى آخره، فيعزون كل شيئ إلى الطبيعة – Nature – والكون وانتهى كل شيئ.
إذن القرآن لم يفته الإشارة إلى المذهب الدُهري أو إلى مذهب النُفاة أو إلى الملاحدة، لقد فعلها بشكل واضح، ولعله فعلها أيضاً ضمناً في مثل قوله في نفس السورة وهى سورة الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ۩، فمَن الذي يتخذ إِلَهَهُ هَوَاهُ ۩؟!
الذي يقول “هواي، فأنا أُشرِّع لنفسي وأنا رب نفسي، ليس هناك رب خارج حدودي أصلاً”، وهذا هو مذهب النفي وهذه هى نفس الدعوة التي دعا إليها الفيلسوف هيجل Hegel الألماني وهو رجل مُلحِد الرجل وليس مُجرَّد فيلسوفاً وذلك حين قال “الرب الإله ليس شيئاً خارج البشر وليس كائناً مُتعالياً – Transcendental – وإنما هو أشواقنا وأحلامنا وآمالنا وإسقاطات نُسقِطها على كائن مُتوهَّم نُسميه الله ونُؤمِن به ونضحك على أنفسنا”، فهيجل Hegel المُلحِد يقول أن الله هو مُجرَّد أفكارك أنت وآمالك وأحلامك ومُنتخَباتك الفكرية وليس أكثر من هذا، وهى الفكرة التي كرَّرها نيتشه Nietzsche بشكل واضح جداً جداً وذلك حين قال “ابحثوا عن الله في أنفسكم، فالله ضاع ومات وانتهى، أنتم قتلتموه وبقيَت ظلاله ولابد أن تمسحوها، وبعد ذلك لكي تستعيضوا الأمان الذي ذهب والسكينة والطمأنينة والتراحم والتعاطف الذي كان بإسم الله – أيها الإخوة – يُعمَّد ويُكرَّث ويُمارَس افعلوا ذلك الآن ولكن بإسم الإنسان، آمنوا بأنفسكم فأنتم الآلهة”، أي أن الواحد منهم مثل سوبر مان Superman أو Übermensch، فهو هذا نفس الإلحاد إذن!
لودفيغ فيورباخ Ludwig Feuerbach كان تلميذاً لهيجل Hegel وهو يُعتبَر من أساتيذ ماركس Marx وهو المُلحِد الأكبر، فيورباخ Feuerbach عنده كتاب مشهور جداً يُمكِن أن تقرأه في جلسة وهو “جوهر المسيحية” الذي قال فيه “هذا الإله عبارة عن كلام فارغ ووهم، فهو مُجرَّد اسقاطات لنا نحن، وأتى الوقت لكي نمحوه بالكامل”، وتأثَّر بهذا الكُتيب ماركس Marx وتجاوزه.
إذن مثل هذا التفكير الفارغ موجود عبر العصور، والقرآن أيضاً كثَّفه بكلمة واحدة أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ۩، فهكذا أنا أفهم الآية فلسفياً، فمثل هذا يقول “أنا الإله وأنا المألوه، أنا الخالق وأنا المخلوق، هذا كل شيئ فقط، فالله ليس شيئاً خارجياً”، وطبعاً مُؤسِّس التحليل النفسي سيجموند فرويد Sigmund Freud كرَّر هذه الفكرة الغبية – وهى فكرة باطلة تماماً – في أكثر من كُتيب وأكثر من دراسة، فقال “يقولون الله خلقنا، والصحيح أننا نحن الذين خلقنا الله، فالله فكرة الإنسان ابتدعها”،وهذا كلام فارغ.
إذن القرآن ذكر هذا بشكل واضح وهذه كان أولاً، ثانياً يُوجَد كفر الشرك، ولن أتحدَّث عنه لأنكم تعرفونه تماماً، فأصحابه اتخذوا مع الله ومن دون الله أولياءً وأوثاناً وأخشاباً وأحجاراً وشفعاء وغير ذلك من هذا الكلام الفارغ، والقرآن انخرط انخراطاً بعيداً جداً وعميقاً في مُحاجَجة كفر الشرك، لماذا؟ لأن هذا كان كفر العرب فعلاً.
ثالثاً هناك كفر الجحود، قال الله فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ۩
إذن الله قال وَجَحَدُوا بِهَا ۩، فما معنى الجحد؟!
في اللغة الفقهية يقولون “جاحد العارية”، وفي صحيح مسلم “نسيَ آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته”، ومعنى جاحد العارية أن تأتي إلى جارك تستعيره طبقاً أو إناءً أو طنجرة أو حلة أو حتى حُلياً لزوجك أو أي شيئ، فيُعيرك ذلك الشيئ وبعد ذلك يطلب منك أن تُعيد إليه عاريته ، فتقول له أنا لم آخذ منك شيئاً، أي أنك جحدت وأنت تعرف أنك أخذت هذه العارية وهى عندك، فهذا باختصار إسمه الجحود الجاحد.
إذن الكافر الجاحد مَن هو؟ هو مَن علم يقيناً في قلبه أن محمداً حق وأن الله حق وأن القرآن حق وأن البعث والنشور والحساب والجزاء حق وأن الدين حق والمِلة حق ولكنه يجحد كل هذا ويقول لك هذا كله كلام فارغ، والإنسان طبعاً جاحد، وعموماً النبي قال “نسيَ آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته”، فهل تعرفون قصة هذا الحديث اللطيف؟!
الله حين خلق آدم قال له يا آدم سنُعطيك ألف سنة عمر، فعُمِّرَ آدم كما هو معلوم ألف سنة، ثم عرض عليه أبناءه، وطبعاً أهم الأبناء هم الأنبياء والمُرسَلون بوجوههم الشُعشُعانية تشع نوراً لأنهم وجه البسطة كما يُقال، فلاحظ واحداً منهم جميل الخِلقة جداً وطيب ومُبارَك فقال مَن هذا؟ فقال هذا أحد أبنائك من الأنبياء إسمه دواد، فقال ما شاء الله، هذا مُبارَك، كم سيُعمَّر هذا على الأرض؟ فقال له سيُعمَّر حتى يصل إلى سن الستين، فتعجب مِن أنه سيُعمَّر إلى سن الستين فقط وهو أبوه الأكبر وسيُعمَّر ألف سنة فقال أنا سأهبه أربعين سنة، ولم يكن لديه مُشكِلة في أن يُعطيه أربعين حتى يصير عمره مائة سنة بعد أن تُجمَع هذه السنوات مع الستين، وهذا شيئ جيد من آدم الإثاري Altruistic، لكن بعد ذلك حين انقضى من عمر آدم تسعمائة وأربعين سنة جاء ملك الموت وقال يا آدم فقال له ماذا؟ قال نُريد أن نقبض الروح وأن نأخذ النفس، فقال أنا عمري ألف سنة، قال له ولكن أنت وهبت ابنك ستين سنة ، فأنكر هذا وقال أعوذ بالله، أنا لم أفعل هذا، وهو يعلم أنه فعل هذا.
وطبعاً نسيَ – فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩ – حين أخذ الله عليه الميثاق ألا يأكل من الشجرة فنسيَ، إذن مرةً نسيَ ومرةً جحد، ولذلك قال عليه السلام “نسيَ آدم فنسيت ذريته – وأول ناسٍ أول الناس وأول جاحدٍ أبو الجاحدين، وهو آدم – وجحد آدم فجحدت ذريته”.
فهذا هو كفر الجحد إذن، وهو أن تعرف الحقيقة ولكنك تنطق بغيرها، كأن تعرف أنه صادق وتقول كاذب أو أن تعرف أنه مُحِق وتقول مُبطِل أو أن تعرف أنه مُستقيم ومُهتدٍ وتقول هو ضال مُتهوِّر، فهذا هو الجحد والعياذ بالله، والإنسان كما لقَّبه دوستويفسكي Dostoyevsky هو الجاحد السائر على قدمين، فأكبر جاحد هو الإنسان ولكن هذا له موضع آخر للتفصيل!
ثالثاً هناك كفر الإعراض، وكفر الإعراض يُمكِن أن نُسميه أو ننعته كفر الصد – أي الصد عن سبيل الله، فنجد أن الواحد منهم قد أعرض وانصرف ولم يُرد أن يسمع أصلاً – أو كفر النأي، فيُمكِن أن نُمسيه كفر النأي أيضاً لأن الواحد منهم ينأى كما قال تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ – عن القرآن الكريم – وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ ۩، فيقول لك الواحد منهم “لا تسمع”، وهو أيضاً في ذاته لا يسمع ولذلك يُريد منك إلا تسمع وأن تكون مثله، تقول الآية الكريمة وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ ۩، أي لا تسمعوا هذا من حيث الأصل، فهم يُريدون منك أن تكفر به من قبل أن تستمع إليه، وهذا أمر عجيب لكن هذا هو كفر الإعراض، فهذا نوع من الكفر طبعاً، ولكن كيف هذا؟!
لماذا خلق الله لك منافذ للفهم وللإدراك وللحس فتُعطيك الإدراك الحسي والإدراك العقلي؟ علينا أن نعرف أولاً أن القلب هو إداراك عقلي وأن السمع والبصر إدراك حسي، ولذلك تقول الآية الكريمة خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ۩، علماً بأن اليوم – إن شاء الله إن لم أنس – سأُطلِعكم على مُقارَبة لهذه الآيات عجيبة غريبة جداً جداً، فأنا اقترحت تفسيراً جديداً قبل سنة تقريباً لمثل هذه العقوبات الإلهية، لأن هناك مَن يقول الله هو الذي ختم فما ذنبه إذن؟ ولكن ليس الأمر على هذا النحو، فيجب أن نفهم الآيات اليوم بشكل دقيق وعلمي حتى في إطار علم الأعصاب، وسوف نرى كيف يتم الموضوع في هذه المُقارَبة الجديدة تماماً بإذن الله تبارك وتعالى.
إذن هذا كفر الإعراض، وطبعاً له أسباب كثيرة لكن في النهاية هى أسباب سيكولوجية، وهو – أي كفر الإعراض – يحتاج أيضاً بحد ذاته إلى مُحاضَرة وحدها، فقد يكون الخوف على المصالح هو أحد أسبابه، تقول الآية الكريمة وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۩، أي سوف تضيع مصالحنا وتضيع حيثياتنا وبالتالي نحن لا نُريد هذا.
ولذلك حتى البحث عن الحق وسماع الحق – مُجرَّد أن تسمح لنفسك أن تستمع إلى الحق – يقتضي شجاعة، فلابد أن تكون شجاعاً لكي تستمع إلى الحق، وأحياناً الإنسان أجبن من أن يسمح لنفسه أن يستمع إلى الحق أو أن يقرأ إلى الحق أو أن يعرف الحق فيقول لك لن أفعل هذا لأنه يعرف أن هذا الحق ربما يُقنِعه وبالتالي هذا سوف يُرتِّب عليه تبعات هو الآن على الأقل غير مُستعِد أن يدفعها، فهناك أثمان باهظة لكن هو لا يُريد أن يدفعها ومن ثم يقول لك أنا لا أُريد أن أسمع من حيث الأصل وسوف أنصرف.
ومن الأسباب السيكولوجية والنفسية أيضاً الاستكبار، فهناك مَن يرى أن محمد لا يستحق أن يسمع له أصلاً، فمَن هو محمد هذا؟ هذا يتيم أبي طالب وأنا فلان الفلاني، فأنا من علية القوم وعندي أموال وعندي جواري وعندي خدم وحشم وعبيد فكيف أسمع لمحمد؟ ولذلك قال الله وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا – يجري مُبتعِداً لأنه يُريد أن يسمع – كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ ۩، فهو لا يُريد لأنه مُستكبِر مُتعالٍ!
وهناك أسباب أُخرى ولكن هذا الموضوع طويل، فالآيات التي تتحدَّث عن كفر الإعراض كثيرة جداً، مثل وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ۩، فكفر الإعراض أو كفر الإنصراف كان موجوداً من أيام نوح، وطبعاً من أسبابه الانشغال، لأن المسألة المِلية أو المسألة الدينية الروحية ليست ضمن أولويات هذا المُعرِض، فهو أولوياته الأكل والشرب والجنس والحيوانية والبهيمية في الحياة والسُلطة والقوة والبطش وتجميع المال، لكن الدين والله والآخرة والفضائل لا تُعتبَر من أولوياته، فهو ليس لديه أي وقت لها، لذا هذا من ضمن أسباب كفر الإعراض، ولذلك آية بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۚ ۩ يفهمها مَن حضر دروس التفاسير، فمثل هؤلاء ليس لديهم الوقت لكي يُفكِّروا في قضايا الآخرة، وإن أعطى أحدهم هذه الموضوعات وقتاً يكون بنسبة واحد من عشرة آلاف وذلك إذا أعطى أصلاً، وهذا طبعاً لا يُنتِج علماً ولذلك لا يُحيطون علماً بهذه القضايا، فهم لم يُحيطوا علماً بقضايا الدين لأنهم مشغولون عنها، فكان هذا هو السبب الثالث من أسباب كفر الإعراض والصد والانصراف والنأي، وهذا مذكور في كتاب الله بشكل واضح، قال الله في مطلع سورة هود أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ – يسمعون ومُباشَرةً ينصرفون – لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۩، وهذا هو كفر الإعراض.
هناك كفر النفاق أيضاً، وكفر النفاق ضرب عجيب من ضروب الكفر، والقرآن طبعاً أوعب كثيراً جداً في تحليله وتشريحه بطريقة إلهية – ولن نقول بطريقة علمية فلسفية وإنما بطريقة إلهية – ولا أدق ولا أبدع، فالمُنافِق في الحقيقة ليس كاذباً دائماً كما نظن، المُنافِق أحياناً يكون صادقاً بل ويُؤمِن بصدق فيكون مُؤمِناً وعنده إيمان ولكن بعد ذلك لأسباب لسنا الآن في مورد استقصائها يعود إلى الكفر، ولذلك الله نسبه إلى الإيمان حين قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ – إذن الله قال آمَنُواْ ۩ – ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ۩، ذن الله قال أنهم يُؤمِنون أحياناً ثم يكفرون، والنبي حين ذكر القلوب الأربعة وصفاتها ذكر القلب المُصفَّح، وفي أحاديث أحمد عن أبي سعيد القلب المُصفَّح هو قلب المُنافِق، فقلب المُنافِق فيه نور وفيه ظلام وفيه هُدى وفيه ضلال وفيه إيمان وفيه كفر، وشبَّهه المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين – بالقَرحة – أي القُرحة كما نُسميها باللغة العامية، وهى هذا الدمل الكبير – يمدها الدم والصديد، والدم من المُمكِن أن يُعالِجها وبالتالي هذا جيد لكن الصديد – Eiter – يزيد الإخماج فيها والإنتان وقد تنتهي ببتر العضو المُتقرِّح، فالنبي إذن قال هذا هو قلب المُنافِق، فيه هُدى وهذا مثل الدم الطيب وفيه ضلال وظُلمة مثل القيح، أيهما غلب عليه غلب، فهذه الحالة عجيبة وهى حالة طبعاً نفسية سيكولوجية، حالة شخصية مُشتَّتة ضائعة حائرة، فهى ليست مُستقِلة وليس عندها فردية وإنما هى تابعة – كما قلنا في الخُطبة السابقة – للنمط وللمُجتمَع، فيُريد الواحد منهم أن يُرضي هؤلاء وأن يُرضي هؤلاء، ولذلك إذا دخلوا دخلوا بشيئ وإذا خرجوا خرجوا بشيئ، قال الله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ – إلى إخوانهم وأمثالهم – قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ۩، إذن هذه شخصية ضعيفة ولابد من دراستها أيضاً في أضواء سيكولوجية مُعمَّقة، وبالتالي القضية لا تتوقَّف على كونه إنساناً كذّاباً ويُمارِس الكذب أو أنه جاسوس أو ما إلى هنالك، فالنفاق أدق من هذا لأنه حالة مُعقَّدة جداً وتحتاج إلى تشريح دقيق كما فعل الله – تبارك وتعالى – وعلَّمنا ولكن المُفسِّرون يختزلون الأشياء للأسف الشديد.
لا أُريد أن أذهب إلى آخر أنماط الكفر، ولكن هذه الأنماط الشهيرة في الكفر، إذن القرآن كان دقيقاً جداً جداً، فهو ليس ضيق النطاق كما يزعم هؤلاء التائهون في أنه لم ينخرط في مُحاجَجة ومُجادَلة إلا الكفر الشركي فقط، فمثل هذا الكلام يصدر بسبب قلة العلم وقلة الاستقصاء، هذا كلام مَن لم يُحيط علماً وكلام مَن لم ينشغل بتلاوة كتاب الله والتدبّر فيه، لكنهم انشغلوا بتكذيبه والتشغيب عليه ومن ثم حدث نفس الشيئ ووقعوا في نمط من أنماط الكفر، حيث أنهم يُسارِعون إلى التكذيب قبل أن يستوفوا الآلة – آلة البحث العلمي – وقبل أن ينصرفوا بهمة وبجد وبرصانة منهجية إلى موضوع بحثهم، والصحيح هو أن تنصرف بهمة إلى موضوع بحثك ثم بعد ذلك اخرج علينا بنتائج ومُقرَّرات، فلا تفعل هذا قبل أن تستوفي هذه الشروط، ولكن هذا هو ما يفعله الاستخفاف العلمي، وبالتالي هذا استخفاف علمي للأسف الشديد.
نأتي الآن إلى موضوعنا لأنني – كما قلت لكم – ظننت أنني سأُوفي ربما على العرض السريع لسبعة عشر عنصراً، ولكنني أجدني ملزوزاً أن أتحدَّث عن عنصر واحد فقط من هذه العناصر السبعة عشر من أسباب الكفر والبواعث عليه، فسأبدأ بالعنصر الذي يُشكِّل تواصلاً مع خُطبة الجمعة الماضية – إن شاء الله – لأن هذا سيكون أفضل للتواصل الفكري والعلمي، لكن كيف سنعرضه؟
كالتالي: أولاً هو له علاقة بالنمط، وبالتالي هو كفر النمط لأنه يحدث بسبب غلبة النمط، وأُعيد مرةً أُخرى التذكير بالنمط وكيف يُؤثِّر النمط وكيف أنه شيئ أبعد وأكثر تعقيداً من التقليد والمُحاكاة – Imitation & Emulation – طبعاً، فالتقليد أحياناً يكون واعياً ومشفعواً بالعصبية ومن ثم قد أُقلِّد عصبية لأنني أُريد هذا، أما النمط فلا، النمط مُريح والنمط تلقائي وأحياناً غير واعٍ وغير شعوري لأنه يحدث من تلقاء نفسه بشكل طبيعي.
مثلاً أنا بالأمس ذكرت في درس التفسير أشياء أنتم تستوعبونها بطريقة سلسة عادية، لكن حين يسمع الدرس التفسيري في الموقع الإلكتروني Website على الإنترنت Internet – مثلاً – أُناس في القاهرة أو في دمشق أو في غزة أوفي القيروان أو في طرابلس أو في أي مكان فإنهم سيستغربون وسيقولون ما شأن هذا الشيخ غير الطبيعي والذي يتحدَّث في أشياء غير واقعية؟ لكن كيف هذا؟ بسبب النمط، فالنمط في بلادنا – مثلاً -أن الذي يُطلِّق هو الرجل وبالتالي العصمة دائماً بيد الرجال ويندر جداً أن تكون في يد المرأة، لكن في تونس – مثلاً – وهى دولة علمانية مُعلّمَنة من عشرات السنين تذهب المرأة بشكل عادي إلى القضاء وترفع دعوى قضائية وتُطلِّق زوجها مثل الغرب هنا، وهذا لا يحصل بهذه النسبة في عدد من البلاد العربية الأُخرى وإن كان الآن بدأ يُصبِح شيئاً فشيئاً نمطاً، ولكنه لم يُصبِح عادياً بنسبة كبيرة، لكن هنا هذا طبيعي جداً جداً جداً لأنه يحدث كثيراً، فكثير من شبابنا العرب المساكين الغلابة والمسلمين هم مُطلَّقون، فالواحد منهم يُطلَّق ولا يُطلِّق، فزوجه تُطلِّقه وتأخذ أولاده وبيته والنفقة، ونحن ذكرنا هذا على أنه إحدى نتائج المعاصي ولكن في سياق آخر مُختلِف تماماً، وهذا مفهوم جداً كنمط هنا لأن المرأة تُطلِّق هنا بشكل عادي، لكن هذا في بلادنا غير مفهوم.
الآن – مثلاً – في العالم كله تقريباً – على الأقل المُتحضِّر أو القريب من المُتحضِّر – الناس تأكل ثلاث وجبات، أو ثلا طقات كما يُسميها البعض، فهو يطق كما لو كان يُعبيء تانكاً Tank، فهذا نمط Pattern إذن، فلا يُوجَد مَن هو يُريد أن يأكل كل ساعتين، هذا غير معقول وبالتالي هذا ليس نمطاً، وإن وُجِد سوف تقول الناس له تقول له ما لك؟ هل أنت مفجوع؟
لكن النمط هو وجود ثلاث وجبات تُؤكَل في ثلاث مرات – الفطار والغداء والعشاء – لأن هذا هو الشيئ الطبيعي، ونحن نُرتِّب حالتنا ومصروفنا ووضعنا وجلساتنا على هذا الأساس.
الناس – مثلاً – تُسمي الشوارع أولاً، فالشارع هو الذي يُسمَّى ثم البيوت تُرقَّم ثم العمارات وهكذا، فهذا أمرٌ طبيعي عندهم، ولذلك حين تسترشد تسأل المسؤول عن إسم الشارع أولاً، وبعد أن تعرف إسم الشارع يُمكِنك أن تذهب إلى رقم البيت بطريقة سلسة وجميلة جداً، ولكن حين يأتي ياباني – مثلاً – من اليابان إلى أمريكا لأول مرة سوف يُصدَم في البداية بهذا النمط وسوف يقول ان هذا غير مفهوم، لأنه قد يسأل عن إسم البلوك Block في حين أن الأمريكي سوف يُحدِّثه عن الشارع وليس عن البلوك Block ما يُؤدي إلى تشويش الياباني، فهو سوف يُصبِح الآن مُشوَّشاً Confused وبالتالي سيمضي الأمريكي وهو يقول له “شكراً، لا أستطيع مُساعَدتك”، لأنهم غير قادرين على أن يفهما بعضهم بعضاً، فهناك نمطان مُختلِفان على الأقل في تخطيط المُدن أو في الاستخطاط – مثل خطط المقريزي – كما يُسمونها، فالنمط مُختلِف إذن لأن في اليابان يُوجَد العكس تماماً، لا يُوجَد أسماء للشوارع وإنما يُوجَد بلوكات Blocks كاملة على شكل مُربَّع أو مُستطيل أو مُعيَّن أو أي شيئ، وبالتالي إذا أردت أن تسأل عن شيئ فاسأل عن هذا البلوك Block وليس عن إسم الشارع، لأنك إن سألت عن إسم الشارع سوف يُحدِّثك عن البلوك Block وبالتالي ستكون مُشوَّشاً Confused طبعاً، لأن الشوارع في اليابان فارغة ولا أسماء لها، على عكس البلوكات Blocks هى التي لها أسماء، وطبعاً هذه عملية مُعقَّدة جداً بالنسبة لنا كأجانب ولكنها سلسة تماماً لهم، علماً بأن هذا البلوك Block قد يحتوي – مثلاً – على خمسة عشر عمارة، وكل عمارة قد تحتوي على سبعين شقة، وهذه عملية مُعقَّدة!
لكن هناك مُشكِلة أُخرى وهى أنك قد تصل إلى البلوك Block المطلوب والذي يكن فيه – مثلاً – صاحبك ولكنك الآن تُريد أن تذهب إلى العمارة المطلوبة، فهو سوف يقول لك – مثلاً – اذهب إلى العمارة الأولى، لكن أين هى العمارة الأولى؟ سوف يقول لك أن العمارة الأولى موجودة في مكانها لكن المُشكِلة تكمن في عدم وجود نظام مُعيَّن منطقي لترتيب العمارات، فالعمارة التي تُبنى أولاً هى العمارة رقم واحد أو العمارة الأولى، وبالتالي قد تجد العمارة الثالثة قبل الأولى أو قبل الثانية وهكذا، ومن ثم هذه عملية مُعقَّدة جداً بالنسبة لنا لكن بالنسبة لهم هى عادية وسلسة ومن ثم يستدلوا بها على بعضم البعض بكل سلاسة لأن هذا هو النمط الشائع لديهم!
باختصار لكي أُوضِّح هذه الفكرة مرة أُخرى أُحِب أن أقول أن النمط يُشبِه أن أسير في طريق مُعبَّد لكنه موجود ومشقوق في غابة أو في حرجة أو في غيضة مُلتفَّة كثيفة الأشجار، ولكن هناك طريق طبيعي يُمكِن أن أسير فيه لأنه أحسن وأسهل وأسلس بكثير من أن أختبر إمكانية اكتشاف طريق آخر يزعم أحدهم – وهو النبي في هذه الحالة – أنه هو الطريق الأفضل والأقصر ويبعد عن المخاوف ويُفضي إلى الأمان وبالتالي يجب أن نذهب إليه، فهذا النمط أسهل لي لأنه مُعبَّد ولأنني مشيت فيه مائة مرة إلى الآن، فلماذا أدخل في طريق جديد؟!
فهذا هو النمط وهكذا يفعل النمط، ولكن قد يقول لي أحدكم “هذا الكلام يا عدنان يعني أن الناس حين تُؤمِن بشيئ – علينا أن ننتبه إلى أن الإيمان الآن قد يتعلَّق بالمذاهب والطوائف فهو لا يقتصر على بالأديان فقط، فالإيمان يُوجَد في أشياء أُخرى مثل الإيمان بالأشخاص وبالآراء وبأشياء كثيرة جداً جداً جداً بشكل عام – لا تستخدم فعلاً العقل المنطقي والبرهاني والاستدلالي، وإنما تستخدم انفعالاتهم، فالناس يُسعِد بعضها بعضاً ويُوافِق بعضها بعضاً، فكما يُقال أنا من القوم وأنا معهم، وهل أنا إلا من غزية، وكما قال دُرَيْدُ:
ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وأنا أقول بدوري أن القرآن أثبت هذا بشكل واضح، ولكن هل تعرفون مَن هم الاستثناء الخارق مع الأنبياء؟ الاستثناء الخارق هم أتباع الأنبياء وخاصة الأتباع الأُوَل، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن ليس المقصود بأتباع الأنبياء هو نحن وإنما المقصود أمثال عليّ وأبي بكر وعمر وعثمان وسعد والجماعة الأُوَل والعشرات الذين آمنوا في البداية لأنهم شقوا النمط وتحدوا المُجتمَع وخالفوا الكل، ومن ثم كانوا بالعشرات لأن هذا الشيئ صعب جداً، أما نحن فإيماننا يُعتبَر نمطياً تقريباً إلا إذا أثبت لنفسك ولي ولله أن هذا الإيمان ليس نمطياً وإنما هو إيمان اختيار، وسوف نرى الآن كيف نُثبِت هذه العملية الصعبة، لكن على كل حال هؤلاء هم الاستثناء الفاقع الخارق، ولذلك لهم مكانة مُميِّزة دائماً ولا يُمكِن لأحد أن يُضارِب عليها إلا أن يكون مُكابِراً مُغالِطاً في الحقائق.
إذن البشر يفعلون هذا دائماً والقرآن ذكر هذا بشكل واضح، وأنا أقول لكم أنه لم يذكره في مرة أو مرتين وإنما في عشرات المرات بشكل مُكثَّف ومُركَّز ومُؤكَّد ولذلك أنتم سوف تندهشون من هذا، فالله يقول أن عملية الانتخاب الفكري والعقدي والمِلي ليست عملية حسابية جافة وليست عملية فكرية بسيطة ذات اتجاه واحد أو اتجاهات مُحدَّدة أبداً، وإنما هى عملية مِزاجية كثيرة أو شديدة التعقيد والتركيب وتدخل فيها العناصر الانفعالية العاطفية أكثر بكثير من إسهام العناصر الإدراكية العقلية، لكن كيف هذا؟!
هناك كلمات مفتاحية كما يُقال في الدرس السيميائي والسيمانتيكي، حيث يقولون لك “هات المفتاح وهات المُؤشِّر أو الإنديكس Index”، وعندي مُؤشِّرات كثيرة كما يُقال في الدرس السيمانتيكي على هذا مثل مُؤشِّر إسمه مُؤشِّر التزيين، قال الله زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، وعندي مُؤشِّر أعمق منه إسمه الفرح وهو مُؤشِّر عجيب جداً، قال الله فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩، فالواحد منهم يكون فرحاناً بهذا، ومن هنا قد يقول لي أحدكم أن هذا – والله – صحيح ولفت بالفعل انتباهه، لكن لماذا نقول أنه فرحان؟ لماذا نقول كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ ولا نقول حزب بما لديهم مُؤمِنون أو كل حزب بما لديهم مُقتنِعون؟ علماً بأننا نستخدم هذه اللغة الجاهلة وغير العلمية، لكن اللغة القرآنية هى الدقيقة لأن الناس ليسوا بما هم عليه مُؤمِنون ولا مُوقِنون ولا مُصدِّقون، وإلا مَن قال هذا؟ هذا كذب علمي، هذا كذب على الأعصاب نفسها وعلى المخ، فالناس فرحون بما عليه وليسوا مُؤمِنين بما هم عليه، فهم يُسعِد بعضهم بعضاً كأن يقول أحدهم للآخر أنا معك وأنت معي وبالتالي كل شيئ سوف يكون مُمتازاً لأنني لستُ شاذاً وإنما أفعل كما يفعل الناس، وهذا العنصر هوعنصر انفعالي – Emotional – وليس عنصراً إدراكياً، ولذلك القرآن لم يستخدم تعبيرات إدراكية وإنما استخدم تعبيرات انفعالية عاطفية.
هناك مُؤشِّر التحبيب، قال الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۩، وهذا شيئ غريب، لكننا سنتوقَّف قليلاً مع الفرح الآن وسوف ترون الفتح الإلهي في كتاب الله، فهذا فتح رباني إلهي، فالله فتح فتحاً هنا قبل العلوم كلها، فلماذا يُقال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩؟!
سأذكر لكم شيئين علميين محضين، الشيئ الأول عبارة عن تجربة أُجريَت وصُمِّمَت أثناء احتدام المعركة الانتخابية بين الحزبين الحاكمين في الولايات المُتحِدة الأمريكية – USA – بين الحزب الجمهوري وكان مُرشَّحه سيء الذكر جورج بوش George W. Bush الصغير وبين الحزب الديمقراطي ومُرشَّحه جون كيري John Kerry، وذلك في ألفين وأربعة حيث أتت جامعة إيموري Emory بفريق من العلماء بقيادة عالم نفس مشهور جداً وعالم أعصاب في نفس الوقت وأجروا هذه التجربة، فأتوا بفريقين – فريق مُؤيِّد للحزب للمُرشَّح الجمهوري وهو بوش Bush وآخر مُؤيِّد للمُرشَّح الديمقراطي وهو كيري Kerry – وعرضوا على أفراد كل من الفريقين المُختبَرين مقاطع من كلمات وخُطب لكلٍ من المُرشَّحين يُناقِض فيها المُرشَّح نفسه، فبوش Bush – مثلاً – كان يُناقِض نفسه بشكل واضح، أي أنها كانت تناقضات واضحة ليس لها أي حل لأنها كانت نوعاً من الكذب والتدجيل السياسي على الناس، وكذلك جون كيري John Kerry الشيئ نفسه، حيث أنه ناقض نفسه عشرات المرات أيضاً، والآن – كما قلنا في الخُطبة السابقة – استخدموا تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي MRA – هذه عيون كما قلنا على الدماغ، أي لكي نرى ماذا يحدث في الدماغ، فحين تُفكِّر أو تشعر أو تحس نرى تماماً هذا على شاشة الكمبيوتر Computer ونعرف ما الذي يحصل وأين هى النقطة أو الموقعRegion الذي ينشط فيه مخك وكيف ينشط وبأي نسبة، وهذا شيئ عجيب، لكن هكذا حدثت هذه الثورة التقنية، فهى أكبر ثورة في علم الأعصاب ومن ثم غيَّرت كل مفاهيمنا عن الدماغ والعقل والأعصاب والفهم والإدراك، وهذا شيئ رهيب، فهذه الثورة بدأت في التسعينيات وهى مُستمِرة إلى اليوم – والعجيب جداً حين بدأ الاختبار وجد العلماء أن كل أحد من كلا الفريقين المُؤيِّدين للجمهوري والمُؤيِّدين للديمقراطي لم تنشط الأجزاء الخاصة بالتقويم – أي الأجزاء الإدراكية في الدماغ – أبداً، فكانت هذه الأجزاء مُعطَّلة مبدئياً، لأن من المُفترَض طبعاً أنه سوف يُجيب عن التناقضات ولكن هذه التناقضات كثيرة ويُوجَد تكاذب بين المقاطع ومن ثم لن يستطيع الإجابة عن هذا التكاذب لأن هذا التكاذب يدل على أن المُرشَّح يكذب على الناس أو أنه رجل تائه وحائر ولا يعرف ماذا يقول، وبالتالي ينبغي أن يُقاوَم هذا أدراكياً، ولذلك الدماغ الإدراكي لم يشتغل أبداً عند كل المُختبَرين هنا وهناك – علماً بأن هذه حقائق علمية وليست مُجرَّد أي كلام – وإنما تحرَّكت ونشطت الأجزاء الخاصة بالانفعال وبالمراكز الانفعالية، كأن يُقال “بوش Bush مننا وفينا لأنه من حزبنا – الحزب الجمهوري – وبالتالي فهو حبيب لنا”، لكن لو فعلت العكس وأعطيت المقاطع البوشية لجماعة كيري Kerry سوف تنشط المواقع الإدراكية وسوف يقولون هذا الرجل تناقض مع نفسه وكذب، وبالتالي هذا الرجل دجّال وأفّاك وكذا كذا كذا كذا، والعكس صحيح تماماً.
فمبدئياً من خلال التفكير تنشط العاطفة وينشط الجزء الانفعالي من دماغك أما الجزء المُفكِّر يموت أو ينام أو يأخذ استراحة، وهذه النتيجة غير طبيعية لذلك كانت صادمة للعلماء!
إذن أنا سأقول الآن: أيها العقل الذي بإسمك آمن مَن آمن وكفر مَن كفر وقتل مَن قتل وذبح مَن ذبح وانتهك مَن انتهك – بإسمك فُعِل كل هذا – أين حظك من الفعل والتأثير؟ الأنماط هى التي تفعل، فأين أنت؟
قال تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩، الله أكبر، قال فَرِحُونَ ۩ ولم يقل مُقتنِعون أو مُؤمِنون لأن هذه ليست قناعات وإنما هى مواقف انفعالية ومن ثم ينبني الرأي والموقف انفعالياً وليس إدراكياً، ويتم الدفاع عنه وتبريره انفعالياً، فهذا الموقف الفرح، فيفرح الواحد منهم ويقول أنه يُؤيد حزبه وجماعته لأنه يجد نفسه في ذلك!
قال العلماء حين كان يُضطَر الفرد أن يُخالِف الجماعة قليلاً كانت تنشط مراكز في دماغه وتُؤدِّي رسالة تُفيد بأن الوضع يُعتبَر خطيراً جداً جداً جداً، ولذلك أنا اُخاطِر – أي أنني في مُخاطَرة – لأنني أُحاوِل أن أُعيد اختبار موقفي من الجماعة، ومن المُمكِن أن تكون الجماعة التي أنتمي إليها مُخطئة أو أن يكون الحزب مُخطئاً أو أن يكون المذهب باطلاً ولذلك هذا يُشكِّل خطراً، ومن هنا يقول لك الدماغ “هناك خطر ما، أنت مُقدِم على مُخاطَرة جديدة، إذن ارجع حتى لا تقع وتتدهور” وبالتالي ترجع.
فهل رأيتم دقة القرآن الكريم إلى أي حد؟ ما هذا يا أخي؟
قال الله كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ ولم يقل مُصدِّقون أو مُوقِنون لأن هذا موقف انفعالي محض، فهم يُحِبون هذا ويفرحون به.
قال الله فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۩، أي أنهم استهزأوا بهم، لأنهم كانوا فرحين بما عندهم وبالتالي هذا الموقف يُعتبَر موقفاً انفعالياً لأنه غير علمي، وهذا معنى أن الله ختم عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ۩ فهنا في ختم وإلا أين العقل – أي الفؤاد – الذي يُدرِك هنا؟ أين الإدراك الآن؟ فلماذا لا تُفكِّر إذن؟!
انظروا الآن إلى الآية العجيبة التي وردت في سورة العنكبوت وهى آية من أعجب الآيات، وهى الآية التي تحدَّث فيها قال أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم، تقول الآية الكريمة وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ۩، علماً بأن إبراهيم لم يكن عالماً في الأعصاب ولم يعش في القرن الحادي والعشرين،ولكنه كان رسولاً وكان يُوحى إليه، ولذلك الفهم الذي عنده والتقويم والإدراك تخطى الزمان كله بل وتخطى معلوماتنا هذه – والله العظيم – أيضاً، تقول الآية الكريمة وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ۩، فإبراهيم قال لهم أنه يفهم أنهم فعلوا هذا لكي يُسعِد بعضكم بعضاَ، ولذلك هم فرحون ويُطبطب بعضهم على بعض، فالحكاية كلها تتعلَّق بالطبطبة وبالفرحة وبالتحزب، والمُشكِلة أن هذا التحزب في قضايا المِلة والعقيدة والدين والحق والباطل والجنة والنار، وهذه الأمور تتعلَّق بمصيرك الأبدي ومع ذلك أنت مُتحزِّب، ولذا قال إبراهيم مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ – أي أنك تفعل هذا لكي توده، ولكن إن تخليت عن هذه المودة سوف يقول لك المُخ أنك تُخاطِر الآن ومن ثم عليك أن ترجع وإلا سوف تقع، ومن ثم ترجع للأسف – فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ۩،
علماً بأن خاتم الآية عجيب بقدر عجب أولها، فالآية تقول ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ ۩ وهذا شيئ عجيب، فما معنى يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ ۩؟ هل هم آمنوا في الدنيا ببعضهم؟ نعم آمنوا ببعضهم البعض، فهل رأيت النظرية القرآنية إذن؟ هم لم يُؤمِنوا بالأوثان ولم يُؤمِنوا حتى بالآلهة ولا بعُزير ولا بالمسيح، هم لم يُؤمِنوا بهذه الأشياء كلها وإنما آمنوا بماذا؟ بالمُجتمَع وبالنمط، هم آمنوا بأنفسهم وآمنوا بما يُريد الآخرون ضمن الحزب الواحد وضمن المُجتمَع.
إذن – كما قلت مرة ولكنني الآن اُعيد ما قلت – أكثر الخلق من المسلمين ومن الكافرين لا يُؤمِنون بموضوع إيمانهم اللي هم أُفهِموا أنهم يُؤمِنون به، فالوثني – مثلاً – يُفهَّم أنه يُؤمِن بالوثن وفي حقيقة الأمر هو لا يُؤمِن بالوثن، وهذا المسلم العامي أُفهِم أنه يُؤمِن بالله وهو – صدِّقوني – لا يعرف هذا جيداً للأسف الشديد، والمسيحي فُهِّمَ أنه يُؤمِن بالثالوث وهذا كله يُعتبَر كلاماً فارغاً لأنه لا يعرف ما هو الثالوث – Trinitate – أصلاً، إذن هذا إيمان بإيمان الجماعة، فموضوع إيمان الواحد من هؤلاء ليس عيسى وليس الوثن وليس الله، وإنما موضوع إيمانه هو إيمان الجماعة حتى ولو كان مُغطىً – Covered – ومُغلَقاً، فهو يأخذه كما هو بغض النظر عن أي شيئ دون أن يكون عنده مُشكِلة في هذا، ولذلك حين تُغيِّر هذه الجماعة إيمانها تماماً ويُخلَق نمط جديد في التوجّه هو يُغيِّر إيمانه أيضاً بشكل عادي، ويكون مرتاحاً ويقول لك هذا سليم لأن البُرهان يدل عليه، فعن أي بُرهان يتحدَّث؟ ولذلك إيمانهم لم يكن بالأوثان أو بغيرها وإنما ببعضهم البعض، فهم آمنوا ببعضهم البعض وآمنوا بالمُجتمَع فقط.
قد يقول لي أحدكم: أنت قلت أن الاستثناء هم الأنبياء وأتباعهم، فما موقفهم إذن؟!
موقفهم هو الموقف المُضاد تماماً، ولذلك قال إبراهيم كَفَرْنَا بِكُمْ ۩، فهو يُريد أن يقول نحن لا نُؤمِن بالمُجتَمع، وأنا تحديدياً لا أُؤمِن بكم، فلا أُؤمِن لا بالكُبراء ولا بالسادة ولا بالنمط، أنا أُؤمِن بموضوع إيماني وهو الله الواحد – لا إله إلا هو – لأن لي عليه أدلة كثيرة فضلاً عن الرسالة”، ولذلك هو حاججهم لما رأى الكوكب ورأى القمر ورأى الشمس وقال لهم “هناك براهين عندي أقطعكم بها وأنا قطعت النمرود نفسه – لعنة الله عليه – بها، وهى براهين عقلية ولذلك أنا أُؤمِن بالله وبالتالي موضوع إيماني هو الله وليس المُجتمَع والنمط”، وهذا هو معنى أن إبراهيم – عليه السلام – قال لهم كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ۩، إذن موضوع الإيمان لدى إبراهيم هو الله – عز وجل – وليس المُجتمَع، أما موضوع إيمانهم هم فهو المُجتمَع، لأنهم يُؤمِنون بإيمان بعضهم البعض وبأيمان الآخر أياً كان إيمانه، ولذلك يوم القيامة جاءت النتيجة المنطقية، فما هى؟!
النتيجة أتت في الآية التي تقول يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ ۩، أي أنهم سيكفرون ببعضهم ويلعنون بعضهم ولكن هذا لن يُجدي نفعاً، ولات حين كفر ولات حين براءة!
فما هذه الدقة القرآنية؟ ما هذا الإبداع؟ ما هذا العجب؟ هذا شيئ غير طبيعي!
أختم للأسف لأن الوقت أزف وتحرَّج علينا وتضيَّق – بتجربة أُخرى أيضاً، وبالأحرى هى ليست تجربة وإنما هى ثورة أو جزء من الثورة العصبية التي تحدَّثنا عنها، وهذه الثورة ذكرت لكم نُتفة منها قبل أسابيع في خُطبة التراحم – Compassion – والتعاطف والتي كانت موضوعها عن الخلايا العصبية المرآوية Mirror Neurons، ولكي نتوسَّع قليلاً سوف نذكر أن مُكتشِف هذه الخلايا هو عالم إيطالي مشهور جداً طبعاً وهو جياكومو ريزولاتي Giacomo Rizzolatti من جامعة بارما Parma، لكن طبعاً من خمسينيات القرن العشرين اكتُشِفَ شيئاً في دماغ الإنسان يُسمى بالمُستقبِلات الحركية العصبيةOrdinary Motor Command Neurons، فهذه خلايا عصبية مُستقبِلة للحركة وللأشياء وهذا هو إسمها بالإنجليزية، وهذه موجودة – كما قلنا – من الخمسينيات، فمثلاً إذا مددت يدي ألألتقط القلم تنشط هذه الخلايا في القشرة – في الكورتكس Cortex – وخاصة في المنطقة الحسية – Sensory Region – تحديداً، وهذا معروف من الخمسينيات لكن العالم الإيطالي ريزولاتي Rizzolatti اكتشف شيئاً عجيباً جداً، وهذا الشيئ العجيب هو أنك حين تمد يدك لتلتقط قلمك فإن هذه الخلايا تنشط عندي أنا أيضاً وهذا شيئ عجيب، لأن من الطبيعي أن تنشط عندك، فلماذا تنشط عندي أنا أيضاً؟ ولكن ما الذي ينشط عندي تحديداً؟ الذي ينشط ليس الخلايا الخاصة بالحركية العصبية – Ordinary Motor Command Neurons – وإلى آخره وإنما عشرون في المائة منها هى بمثابة خلايا مُتخصِّصة ولذلك تنشط بشكل غير طبيعي، وهذا اكتشاف عجيب بل هو ثورة، وسماها بعد ذلك بالخلايا العصبية المرآوية أو خلايا المرآة Mirror Neurons، وذلك لأنها مثل المرآة، حيث يحدث نشاط عندي مثلما يحدث عندك وهذا شيئ عجيب لأنه يحدث رغم عدم وجود اتصال حسي ما بينا، فلا يُوجَد جهاز عصبي واحد، لكن يبدو أن هناك جهازاً عصبياً إلهياً بين هؤلاء البشر ومن ثم يقع التعاطف، فأنت تلتقط شيئاً ما وأنا تنشط لدي هذه الخلايا التي اكتشف ريزولاتي Rizzolatti نشاطها وهذا شيئ جميل، وهذا يعود إلى أن عشرين في المائة من الخلايا الحركية العصبية هى خلايا مرآوية عصبية، أي خمس الخلايا، علماً بأنها تُوجَد في الفص الجبهوي Frontal Lobes.
ثم بعد ذلك ثار سؤال في وجه العالم الإيطالي الكبير المُكتشِف وهو: إذا كان ذلك صحيحاً لم أنت – مثلاً – حين تُلمَس أو تلسعك النار لا أشعر بهذا؟!
وهذا سؤال وجيه، فكيف هذا؟ بحسب ما قلنا الآن حين ألمس نفسي تنشط الخلايا عندي هذه في الفص الجبهوي – Frontal Lobes – وحين ألمسك تنشط عندك والمفروض أنها تنشط عندي أيضاً، ولكن حين تُلمَس أنت دون أن أكون أن اللامس فإنها تنشط عندي أيضاً، وهذا حتى الآن أمرٌ صحيح وسليم ومُتسِق، لكن حين تُلمَس أنت أو تُلسَع بنار فإن الخلايا تنشط عندي دون أن أشعر أنني لُمِست، فلماذا إذن لا لأشعر بهذا؟ هى تنشط عندي ولكن كأنه ليس لها أي فعل علىّ، فأنا لا أشعر بأنها نشطت ولكن الذي عرف أنها نشطت هو التصوير بالرنين المغناطيسي وليس أنا، فأنا لم أشعر بهذا، والسؤال الآن لماذا إذن؟!
هذا السؤال مُحيِّر، ولذلك بحث هذا العالم فيه مع الفريق المُختَص حتى اكتشف فالسر هو الجلد – Skin – الخاص بنا، لكن كيف هذا؟!
هذا الجلد فيه مُستقبِلات – هذه من بديهيات علم أساسيات علم الأعصاب – للمس وللألم وللحرارة وللبرودة ولأشياء غير ذلك، وهذه مربوطة أيضاً بالقشرة الحسية، وهى التي تُعطي الإشارة ثم يُترجَم الإحساس إلى ألم، ثم يُعطي المخ ردة الفعل، وهذا مفهوم وجميل وبسيط جداً، لكن ريزولاتي Rizzolatti قال لك يا سيدي العزيز الحاصل كالتالي: أنت عندما تُلمَس وتُنشط هذه الخلايا في الفص الجبهوي – Frontal Lobes فإن المُستقبِلات التي لدي في الجلد تعطي إشارة للدماغ وتقول له أنت لم تُلمَس فلا تقلق – Don’t Worry – وبالتالي أنت بخير، لكن فقط تعاطف – Empathize – معه دون أن تُشوَّش ودون أن يحدث عندك أي ارتباك أو تشوّش لأنك لست الملموس – لست الملموس باليد وليس بالجن – أو لست الملسوع أو لست الملدوغ وإنما هو”.
قد تقول لي: هذا الكلام منطقي جداً، وأدركت أن لهذه الدرجة تتأثَّر الناس بعضها ببعض عن بُعد، لكن ماذا لو نزعنا الجلد؟ ماذا لو خدَّرنا الجلد؟ ماذا لو قطعنا اليد؟ هل سيحدث نفس الشيئ إذن؟ لو قطعنا يد إنسان لا قدَّر الله – هناك أُناس تُقطَع أيديهم في الحوادث – هل هذا المقطوع اليد حين يرى أن شخصاً آخراً تُلمس يده يشعر باللمسة؟
هذا مفهوم عجيب في علم الأعصاب وفي الطب وإسمه الأطراف الشبحية -Phantom Limb – أو الطرف والعضو الشبحي، وهذا معروف ومشهور في الفسيولوجي وفي علم الأعصاب، فكل الأطباء يعرفون هذا الطرف الشبحي لمَن قُطعَت يده، فلو نظر هذا الشخص إلى شخص آخر تحكه يده فإنه سوف يشعر أن يده تحكه، ولكن أين هذه اليد وهى مقطوعة؟ يده الشبحية – Phantom – هى التي سوف تُشعِره بهذا وسيشعر أنه يحكها في الهواء، ومن ثم عندما يحك هذا الآخر يده سوف يشعر بالراحة، وهذا شيئ غريب، فما هذا الذي يحصل؟ هل إلى هذه الدرجة نحن مُتواصِلون؟
هذه هى مأساة الإنسان، فنحن نتأثَّر ببعضنا أكثر مما نظن، وبالتالي طبعاً حينما أجدك – مثلاً – تكفر بشيئ وتقول عنه أنه شيئ مُقزِّز وشيئ غير معقول من المُمكِن أن تحدث معي نفس الحالة فأقول فعلاً هذا الشيئ مُقزِّر وغير معقول، وكأن الواحد منا فعلاً لُمِسَ أو سُكِنَ بالجن عصبياً وعلى المُستوى البيولوجي دون أن يدري، فالقضية إذن خطيرة وعميقة جداً ومُتجذِّرة، ولكن قد تقول لي مُتسائلاً: هل لهذا من مزايا ومن فوائد؟!
طبعاً له مزايا، أكبر مزايا هذا التواصل العصبي اللاحسي بيننا بالخلايا العصبية هو إنشاء الحضارة وإنجاز التقدّم المُتسارِع المُتراكِم العجيب الذي حقَّقناه وأصبحنا به سادة الأرض وسادة الكوكب وسادة حتى العالم المرئي، وطبعاً بحسب بابتيست لامارك Baptiste Lamarck – ليس بحسب داروين Darwin وإنما بحسب لامارك Lamarck – من المُمكِن أن يُفسَّر تطورياً وبالتالي تُعمَّق فكرة لامارك Lamarck في التطوّر، لكن كيف هذا؟!
الخروف الصغير أو الحمل – مثلاً – لكي يُطوِّر الفرو – كنوع Specie – في منطقة مُعيَّنة يحتاج إلى ألوف السنين، وأنتم ترون شكل الحملان – مثلاً – في البلاد الباردة وترون كيف يكون الدهن عندها، فالدهن يُعتبَر كثيراً جداً وكذلك الفرو يُعَد كثيفاً على عكس الحملان التي تعيش في البلاد الاستوائية – Tropical – والحارة، فلكي يُطوِّر الحمل المسكين هذا سوف يحتاج إلى ألوف السنين – مُمكِن مائة ألف سنة أو أكثر من مائة ألف سنة -بحسب داروين Darwin لكي يقدر على أن يتكيَّف مع البيئة فيستقر ويمتد وتبقى جيناته موجودة كما هى في حوض الجينات Genes كما يقولون، وهذا شيئ جميل، لكن الطفل يتعلَّم من أبيه كيف يذبح الخروف بطريقة عنيفة وسريعة وفعّالة ويسلخ فروته ويأخذها ويتكيَّف مع البرد بها ربما من مرة واحدة أو من مرتين أو ثلاثة، فهل تعرفون كيف يتم هذا؟!
قديماً كنا نقول أن السبب يعود إلى التقليد والمُحاكاة – Imitation & Emulation – دون أن نفهم كيف يتم هذا، لكن الآن علمنا أن هذا يتم بآلية الخلايا العصبية المرآوية، فهذا هو الذي يُمكِّننا من فعل هذا، فلو لم يكن لدينا هذه الخلايا العصبية المرآوية لأصبح من الصعب جداً أن يتم هذا الموضوع ولأخذ وقتاً طويلاً جداً وبالتالي سوف يُصبِح التطوّر بطيئاً جداً.
إذن اتضح أن هذه الثورة في فهم الحضارة لها العديد من الأُسس العصبية، وهذه فائدة هامة، ولكن هنا لابد أن نُعقِّب وأن نقول أن أن كل شيئ في هذا الوجود وفي هذا الكون له مزايا وله مثالب، وهذه هى المزايا كما قلنا، فأين المثالب إذن؟!
المثالب تمثل في أن هذا يجعلنا دون أن نشعر ضحايا للمُحاكاة والتقليد والتعاطف الغبي – أستغفر الله – بل التعاطف الكافر، فأنا أتعاطف مع الكبير ومع عالمي ومع الرابي ومع القسيس ومع الشيخ ومع المُلا ومع المُلحِد ومع الفيلسوف ومع أستاذ الجامعة حتى في كفره وفي تجديفه، أتعاطف معه بل وأُردِّد ما يقول وأشعر أنني مُقتنِع وفي حقيقة الأمر أنا لست مُقتنِعاً، أنا مُجرَّد مُتعاطِف ومُجرَّد ضحية من ضحايا هذه الخلايا العصبية المرآوية، فالعقل مُتعطِّل والإدراك مُتوقِّف، وهذا معنى قول الله كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ ۩، وبالتالي قد تقولون لي: هذه مُصيبة تُثير القلق، فأنت أثرت قلقنا ومن ثم بدأنا نشك في أنفسنا وفي خياراتنا العقدية والفكرية، فماذا نفعل إذن؟!
على كل حال أنا أقول لكل أحد فيكم: ما دام خياراتك هذه تتعدَّى بفضل الله وجود الله التصديق برسول الله وبالقرآن وبالآخرة فالأمر – إن شاء الله – سهل، فلا تخف – والله العظيم – من كونك شيعياً ولا تخف من كونك سُنياً ولا تخف من كونك إباضياً، أنت مُؤمِن مُوحِّد بعون الله وبالتالي أنت ناجٍ إن شاء الله تعالى، ولكن خياراتك الثانية هذه لابد أن تنتبه لها، عندما تأخذ موقفاً من عدنان أو موقفاً من سامي أو من سميح عليك أن تتراجع لأن هذا نوع من الظلم، فعليك أن تنتبه لأنك من المُمكِن أن تكون ضحية لهذه الخلايا وأنت لا تدري، أنت فقط تُصفِّق وتُردِّد دون أن تعلم ما الذي يحدث، فالآن عليك أن تتراجع وكُن مُتواضِعاً في مواقفك وتقييماتك وقراراتك لأن الأمر ليس كما تعتقد أنه ابن إدراكك وابن انتخابك واصطفائك الفكري وأنه مُدلَّل ومُبرهَن، فالأمر يجري على نحو آخر تماماً.
لكن هل من حل لهذه الورطة؟ هل من مخرج من هذه الورطة ومن هذه الأزمة الانتخابية في الآراء والعقائد والمِليات؟!
يُوجَد مخرج، وهذا المخرج ذكره القرآن، ولكن كيف هذا؟!
لو الآن سألت أي أحد فيكم وكلكم ما شاء الله أذكياء ولمّاحون وقلت له: لو افترضت واقترحت أنت حلاً وقلت أنه موجود، فمن أين يجب أن ينطلق أو ماذا يجب أن يعكس هذا الحل؟ هذا الحل عليه أن يعكس ماذا؟
هذا الشخص المسؤول سوف يقول لي “بصراحة في مثل هذه الحالة خير وسيلة لانتخاب حُر لآرائي ومواقفي هو الانسحاب”، أي الانسحاب من شعاع المُجتمَع ومن أضواء المُجتمَع، والانسحاب من وجوه الآخرين، فسوف أجلس وحدي لمدة شهر أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر وأُعيد التفكير في هاته الأشياء، وهذا الذي فعله كل الأنبياء وكل المُصلِحين وكل العظماء، وهى ظاهرة لفتت نظر المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي Arnold Toynbee وسماها ظاهرة الانسحاب أو العُزلة والعودة، فكلهم فعلوا هذا، فإبراهيم فعلها ومحمد فعلها وبوذا Buddha فعلها وكونفوشيوس 孔夫子 فعلها وعيسى فعلها على الاقل لمدة أربعين يوماً على الجبال وحده دون أن يرى أي بشر، والنبي كان يتحنَّث كل سنة الليالي الطويلة ويتعبَّد في حراء بعيداً عن العالم كله، بل وأين دهمه الوحي؟ في حراء وهو وحده، إذن كلهم يفعلون هذا، ولذلك توينبي Toynbee ذكر محمداً وقال كلهم فعلوها، وسماها بظاهرة الانسحاب والعودة، ومن ثم فإن هذا الشخص حين يعود فإنه لا يعود بالنمط مرة اُخرى وإنما يعود بما يكسر النمط، أي أنه يعود بشيئ جديد، ومن ثم يكون مُساهِماً في خلق نمطاً جديداً، ولكن قد يقول لي أحدكم أن هذا ينطبق على النبي وعلى بوذا Buddha وعلى هذا المُصلِح الفلاني والعلاني ولكن مَن أنا لكي ينطبق علىّ هذا؟ وأنا أقول لك أنت خليفة الله، أنت الإنسان المُكرَّم، أنت المأمون على الأقل بما وجَّه الله به أنظار الكافرين فأنت أعز وأشرف كثيراً منهم وذلك حين قال في سورة سبأ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ ۩، علماً بأن كلمة بِوَاحِدَةٍ ۖ ۩ تحتاج إلى وقفة، فلماذا قال الله بِوَاحِدَةٍ ۖ ۩؟ كأنه يقول لك هناك طريقة سهلة وتشتغل – Works – بنسبة مائة في المائة وفعّالة وقاطعة وأنا أضمنها لك، فهذه إذن ليست ورطة كبيرة يعرضها عليكم عدنان، فإذا حيَّرتكم هذه الورطة فإن الله يقول أنا سوف أُعطيكم الحل وهو فعّال ويعمل بنسبة مائة في المائة ومن ثم سوف تخرجون من كل هذه المطبات والالتباسات والاشتباهات، لكن أين هذا الحل يا رب العالمين؟ قال كلمة واحدة وهى بِوَاحِدَةٍ ۖ ۩، فما أجمل هذا القرآن، ما هذا القرآن فعلاً؟ الله أكبر، قال الله قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى – أكثر عدد هو اثنان، فلا يُمكِن أن يكون ثلاثة وإلا سوف يُسيطر عليكم النمط ونعود إلى إشكالية كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ ويحدث الخوف مرة أُخرى، فأقصى حد أن يصل العدد إلى اثنين أو أن يجلس الشخص وحده وهذا سيكون أفضل، كأن تجلس وحدك لمدة ساعة أو ساعتين أو ألف أو شهر أو شهرين وتُفكِّر وتُعيد النظر وتستهدي الله وتبتعد عن الكبر والغطرسة والمصالح والهوى وتستهدي الله، وبعون الله سيهدك الله تبارك وتعالى، هذا هو جواب الشرط أو جواب الأمر، أي استهد الله وسيهدك الله تبارك وتعالى – ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۩، صلوات ربي وتسليماته وتشريفاته وتبريكاته عليه إلى أبد الآبدين!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المُستغفِرين!
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الإخوة:
لفت نظري اليوم وأنا أُحضِّر أيضاً عناصر خُطبتي هذه وأُركِّزها شيئٌ عجيب في كتاب الله ولأول مرة أيضاً ألتفت إليه، فما هو هذا الشيئ؟!
ذكرت في الخُطبة السابقة أنه حين يتم اختبار شخص مُعيَّن في موضوع له علاقة بالإدراك الحسي – مثل أيهما يتشابه وأيهما يتخالف ومَن أطول ومَن أقصر – فإن من طبيعي أن هذا الشخص حتى ولو كان طفلاً يعرف الجواب بسرعة، وهذا ما يحصل بالفعل، لكن حين يتأثَّر بالآخرين ويستمع إلي الآخرين يتشوَّش عليه الإدراك الحسي، فلا يرى الشيئين المُتماثِلين مُتماثِلين، فإذا قالت الجماعة – مثلاً – أنهما مُتخالِفان سوف يراهما كذلك، وهذا ليس عن قرار وإرادة – هذه هى تجربة سولومون آش Solomon Asch التي دُعِمَت في ألفين وخمسة، علماً بأنني ذكرت لكم تجربة آش Asch من قبل ولكن الآن أُذكِّركم بها – وإنما الدماغ هو الذي يراهما فعلاً غير مُتماثِلين وهذا شيئ عجيب، ولذلك علَّق مُصمِّموا التجربة قائلين أن السبب في هذا يعود إلى الجماعة أو الحزب، وهذا معنى أن الله كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ وأنه قال أيضاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ ۩، وأنا اليوم أيضاً لأول مرة في حياتي أفهم هذه الآية، فلا أعرف تفسيراً صحيحاً دقيقاً بمقدار هذا التفسير، فلماذا يُسمي الله كفّار مكة وأشكالهم أحزاباً؟!
لكي يُحدِّثك عن آلية الكفر وعن كيفية حدوث الكفر عندهم، فلك أن تتخيِّل هذه الدقة إذن، ولذلك سماهم الأحزاب، وأيضاً سمى الأقوام الأخرى الكافرة بالأحزاب، قال الله في ص أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ ۩، وهذا شيئ مُذهِل، فالقرآن مُذهِل وعجيب جداً، وهذا معنى قول الله وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْد حِين ۩، أي أن في كل عصر سوف تكتشف القرآن بشكل جديد، وهذا أمر غير طبيعي فعلاً!
إذن الدماغ يراهما فعلاً كما تراهما الجماعة، ومن هنا قالوا أن الجماعة أو النمط أو الحزب أو المجموعة تُؤثِّر على كيفية رؤيتنا للعالم، فهى تُعيد ترتيب رؤيتنا للأشياء وللعالم، وهذا ملمح جميل جداً.
أنا وجدت آية قرآنية تذكر هذه التجربة وهذا الذي جعلني – والله العظيم – أصيح اليوم “الله أكبر، الله أكبر” لأن هذا شيئ غريب، قال تعالى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩، الله أكبر، الله أكبر على هذه الآية، الله أكبر من هذه الآية التي هى في سورة الأنعام، ما هذا؟!
الله يقول: حين تسمع الحق – علينا أن ننتبه لأن هذا ينطبق علينا اليوم حتى الآن – وحين ترى الحق طبعاً لأول وهلة ستتأثَّر به وستعلم أنه حقٌ ساطع ورأيٌ قاطع وحُجةٌ دامغة وسوف تُوقِن بهذا لأنه حق ولأنه ويُوافِق فطرتك، لكن إن تركت ما شعرت به وأيقنت به واطمأنت نفسك به وعُدت مرةً أُخرى لتستمع إلى الحزب أو إلى الجماعة أو إلى النمط أو إلى الناس فسوف تكون ضيَّعت على نفسك فرصة كبيرة، وسوفتبقى في تيه وحيرة وتقلّب وتردّد، أي أنك سوف تبقى أعمى.
فما هذا يا أخي؟ ما هذه الآية؟ هذه الآية أحسن شرح لها يكون في ضوء تجربة آش Asch وتكملتها في ألفين وخمسة، قال الله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩، فمُتابَعة النمط والمُجتمَع هو طُغيان – والعياذ بالله – ومُجاوَزة لحدود انتخاب الحقائق ومعرفة الحق وتمييزه من الباطل.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُلهِمنا رُشدنا وأن يُعيذنا من شر أنفسنا!
اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا واهدنا واهد بنا واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم اجعلنا من عبادك المهديين أولي الألباب الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ ۩، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم ارحمنا في هذا اليوم الكريم، في هذه الجُمعة التي لعلها تكون آخر جُمعة من آخر الشهر الكريم وارحمنا برحمتك التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۩ برحمتك يا أرحم الراحمين في شهر رمضان، اللهم واغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، قديمه وحديثه، صغيره وكبيره، ظاهره وباطنه، وللمسلمين والمسلمات، اللهم وإنا نرغب إليك ونضرع إليك ونبتهل أن تعتق رقابنا من نار جهنم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا خير الغافرين، يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وصديقنا وأزواجنا وذرارينا وشيخنا ومُحِبنا فيك وأخينا فيك وكل مَن له حقٌ عليا برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزدكم، وسلوه من فضله يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله، وأقِم الصلاة!
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (3/9/2010)
أضف تعليق