إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُحسِنين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز وقد عز من قائل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۩ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۩ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
عيسى بن مريم – عليهما الصلوات والتسليمات – نبي عظيم، ورسول كريم، بل هو أحد الخمسة أولي العزم من الرُسل – عليهم الصلوات والتشريفات والتبريكات أجمعين -.
نبي خلقه الله خلقاً فذاً عجيباً، لغير أب، من أم بغير أب، نُسِب إليها – عليهما السلام أجمعين -، وآتاه الله – تبارك وتعالى – من الآيات والمُعجِزات الشيئ الباهر المُعجِب، كان يُبرئ الأكمه والأبرص، وأعجب من ذلكم كان يُحيي الموتى بإذن الله.
ينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً، يضع الجزية، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، بارئاً إلى الله مما افتروه عليه المُفترون، ومما كذبه عليه أتباعه الذين غالوا فيه، فتعدوا فيه الأمد الأقصى – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
ويُبعَث يوم يُبعَث – يوم القيامة – مُحمَّدياً، من هذه الأمة، على أنه صاحب من أصحاب رسول الله، وهو نبي، وهو أجل أصحاب رسول الله أجمعين، فهو أجل من أبي بكر، وأجل من عمر، وبها ألغز بعضهم، مَن هو الصاحب الذي يفوق في جلالته وعلو مرتبته الصدّيق وعمر ومَن دونهما؟ إنه عيسى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لأنه حين ينزل في آخر الزمان لا يسعه إلا أن يحكم بشريعة محمد، سيد الخلق أجمعين، سيد الأولين والآخرين، آدم وموسى وعيسى ومَن دونهم – عليهم الصلوات والتسليمات والتشريفات والتبريكات أجمعين، وآل كلٍ وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين -، فهو نبي وهو صحابي جليل – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
ويُدفَن بعد مُكثه أربعين سنة إلى جانب رسول الله، عن ميمنته، ولذلك يمين رسول الله – يعلم هذا مَن زار الروضة المُشرَّفة، على مُنوِّرها ومُنوِّر مدينة رسول الله ألف تحية وألف سلام – فارغ، ميمنته – عليه الصلاة وأفضل السلام – فارغة، في انتظار عيسى بن مريم – عليهما السلام أجمعين -.
وفيه يقول نبينا الصادق المصدوق – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنا أولى الناس جميعاً بعيسى بن مريم، ليس بيني وبينه نبي، ليس بيني وبينه نبي! فمحمد أولى الأنبياء بعيسى – عليهما الصلوات والتسليمات أجمعين -، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى وأبوهم واحد، فسَّرها بقوله أمهاتهم شتى وأبوهم واحد، أخرجه البخاري ومُسلِم، ومن قبل الإمام أحمد في مُسنَده.
أيها الإخوة:
ما هي قصة هذا النبي العجيب؟ ما هي قصة هذا الرسول الكريم؟ عيسى بن مريم أراد الشيطان اللعين – إبليس الذي أخرج أباه وأبانا أو أبويه وأبوينا من الجنة – أن يفتنه، وأنى له ذلك مع نبي مُخلَص محفوظ معصوم؟ وسيأتيكم نبأ قصته مع إبليس وفتنته في إبانه وحينه، فلما أيس واستشعر العجز الكامل عزم وصمم وأبى إلا أن يجعله فتنةً للناس، وحقاً أضل به خلقاً كثيرين، لم يُفلِح في أن يفتنه، ففتن به، لعنة الله على إبليس، بل لعائن الله مُتتابِعة عليه وعلى أعوانه وأوليائه إلى يوم الدين.
ما هي قصة هذا النبي الكريم والرسول العجيب – عليه الصلاة وأفضل السلام – الذي نستشعر توقيره وجلاله ومحبته وكرامته كسائر أنبياء الله، وإن كان هو في الزُمرة المُقدَّمة منهم، لأنه أحد الخمسة أولي العزم كما سمعتم وكما علمتم؟!
القصة تبدأ من مدينة الناصرة، المدينة الفلسطينية الصغيرة الوادعة، ذوات الأسر أو الأسرات الفقيرة، من نسل داود في الأغلب الأعم، الذين امتهنوا مهناً مُختلِفةً يتعيَّشون ويتكسَّبون بها، ففرع داود امتهن التجارة في الأقوات، وفرع هارون – عليه الصلاة وأفضل السلام – امتهن تجارة الأخشاب، والفروع الأُخرى من سائر الأنبياء والرُسل امتهنوا تجفيف الجلود وصناعتها ودباغها، وبعضهم امتهن تجفيف التين، مدينة فقيرة بأسر صغيرة من أحفاد وأنسال وذراري الأنبياء، ذوات الدور البيض الجميلة على صغرها.
في هذه المدينة كان يقطن سيد جليل، وعالم ربي من علماء وربيي إسرائيل أو بني إسرائيل، إنه السيد الجليل التقي الطهور عمران، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۩، إنه عمران – عليه الصلاة وأفضل السلام -، الذي ينميه نسب إلى نبي الله داود – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فهو من نسل ومن ذراري داود، إنه من بيت داود.
كان يقطن مع زوجه العابدة التقية حنة، حنة بنت فاقوذ، وقد كانت مشهورةً بالعبادة والتُقى والصلاح والصيانة والديانة، وكرَّ عليهما زمن إثر زمن، حتى جاشت في نفس عمران – عليها السلام – رغبة كريمة، جاشت في نفسه رغبة أن ينحدر قاصداً إلى الأرض المُقدَّسة، إلى بيت المقدس، أورشليم، لكي يتعبَّد الله – تبارك وتعالى – في المعبد الكبير، في بيت الله – عز وجل -، الذي كان يُعرَف بالمعبد العظيم أو المعبد الأعظم، ولا جرم فهناك وقد سبقه قبل حين بعيد نبي الله وسيد إسرائيل في وقته زكريا – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان زكريا صهره، فأخت زوجه – أخته حنة بن فاقوذ اليصابات – كانت زوجاً أيضاً لزكريا، وقيل بل بنته، بنت عمران، وهذا قال به جمهور علمائنا ومُؤرِّخينا، والله أعلم بالحقيقة والصواب في ذلك، قيل بل بنته، كانت تحت زكريا – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
وقد رأى عمران في منامه أنه يخدم بيت الله – تبارك وتعالى – ويُجمِّله ويُطهِّره ويقضي فيه أوقاته مُتألِّهاً مُسبِّحاً حامداً مُمجِّداً الملك الرب الجليل – سُبحانه وتعالى -، وعرض الأمر على زوجه فوقع منها موقع الرضا والقبول، وهكذا تدليا من الناصرة إلى أورشليم، إلى بيت المقدس، وبقيَ هناك الرجل الكريم الذي كان كما سمعتم عالماً كبيراً وربياً، بل كان صاحب صلاة بني إسرائيل، هو الذي يُصلي فيهم، هو الذي يُصلي فيهم ويُصلي بهم – عليه السلام -، حتى مضت فترة الله – تبارك وتعالى – أعلم بقدرها، مر حين من الزمن الله – تبارك وتعالى – أعلم بقدره، وكانت ذات يوم أن رأت حنة – عليها السلام – طيراً يزق فراخه، فاشتهت الولد، والظاهر من الروايات أنها رُزِقت الولد من قبل، لكن يبدو أنها انقطعت عن الولد مُدةً مديدةً، مُدةً مُتطاوِلةً، فاشتهت كما تشتهي النساء، اشتهت الولد، وكانت في سن الحمل والولادة، لم تبلغ اليأس من المحيض، فاشتهت الولد ودعت الله – تبارك وتعالى – أن يرزقها، فلباها الله – تبارك وتعالى – ورزقها الولد.
واعتل السيد الجليل عمران – عليه السلام – وهي حامل، أي في مُدة حملها، أصابه مرض برَّح به، وتطاول به مرضه واشتد عليه، حتى أيس الأقربون والمُحِبون من شفائه، وحُم القضاء لينتقل هذا العالم الجليل إلى رحمة الله مُلبياً نداء ربه وامرأته حامل في رواية، وقيل بعد أن وضعت حملها، والله أعلم! وامرأته حامل لبى نداء ربه، فأزمعت حنة – عليها السلام – العود إلى الناصرة، من أورشليم، بيت المقدس، إلى الناصرة، وقبل أن تشد رحالها عرَّجت على بيت الله – تبارك وتعالى -، تُصلي وتدعو وتبتهل، فوقعت عينها على زكريا، زوج أختها أو زوج بنتها، فحرَّك أشجانها وزاد أحزانها، لقد فقد بيتها الشرف الذي شرَّفه الله – تبارك وتعالى – به، أن يكون منه رجل أو نفس أو نسمة تتعبَّد الله – تبارك وتعالى – وتتزلَّف إليه وتتقرَّب بخدمة بيته، لقد مات عمران الذي كان الله – تبارك وتعالى – شرَّفه بل توَّجه بهذا التاج الكريم، فنظرت إلى السماء ورفعت يديها داعيةً، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ۩، ليكون مكان أبيه، هو مُحرَّر خالص، تُريد أن تمحضه للعبادة ولخدمة البيت الطهور المُقدَّس، البيت القُدس، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩، هذا هو سبب الدعوة.
ثم تدلت إلى الناصرة من جديد، عادت أدراجها إلى المدينة الوادعة الصغيرة الجميلة، الناصرة! حتى أتمت أيامها ووضعت، فإذا بها وقد فجأها وفُوجئت بما وضعت، إنها أنثى، ليست ذكراً، وليس من عادة الناس أن يتقبَّلوا أو أن يُحرِّروا الإناث لبيت الله، فساءها ذلك، وأقبلت على الله – تبارك وتعالى – تقول كالمُعتذِرة رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ۩، وفي قراءة والله أعلم بما وضعتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ۩ هي، فالفاعل طبعاً ضمير مُستتِر، وفي قراءة والله أعلم بما وضعتُ، ثم فكَّرت بعد ذلك في تسميتها، ماذا تُسميها؟ فخطر على بالها أن تُسميها باسم أخت نبيي الله الكريمين الجليلين والسيدين العظيمين موسى وهارون، فقد كانت أختهما قبل ذلك بمئات السنين اسمها مريم، وهي مشهورة، ونبؤها معروف في كتاب الله المُقدَّس، في توراتهم، فقالت فلأسمها على اسم مريم أخت هارون وموسى، فهي مريم، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا – أي أعذيها وأعيذ ذريتها بك – مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۩.
يقول رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجاه في الصحيحين – هذه رواية البخاري عن أبي هُريرة، يقول فيها عليه الصلاة وأفضل السلام الآتي، وأخرجه أحمد أيضاً – ما من مولود يُولَد إلا مسه الشيطان، قال إلا مسه الشيطان، في رواية نخز أو نخس في جنبه، فيستهل صارخاً، يصرخ لأجل مسة الشيطان هذه، هذا أمر لا شأن للعلم به، إنه من الغيوب، فيستهل صارخاً، إلا عيسى وأمه مريم، مريم أيضاً لم يمسها الشيطان، الصدّيقة البتول الطهور – عليها الصلوات والتسليمات والتشريفات -.
وقد قال غير واحد بنبوتها، كالإمام الظاهري الجليل ابن حزم وغيره، قالوا بأنها كانت نبية، والصحيح وعليه الجماهير أنها لم تكن نبية، لأن الله ما بعث نبياً ولا رسولاً إلا من الرجال، إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ۩، وهذا هو الصحيح، قول الجماهير، أي قول جماهير أهل العلم.
أياً ما كان ذلك على كلٍ إلا ما كان من عيسى وأمه مريم – عليهما الصلوات والتسليمات -، يقول أبو هُريرة واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ۩، أعاذها الله أولاً ثم أعاذ ابنها – كلمته وروحه، عيسى عليه الصلاة وأفضل السلام -، هكذا!
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا – تبارك وتعالى – بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ۩، قيل نشأت نشأة صالحة، في بيت عبادة وبيت علم وبيت ذكر وبيت تسبيح وتمجيد لله – تبارك وتعالى -، وقيل أنشأها أو نشّأها نشأة حسنة بمعنى أنها كانت تنبت لا كما ينبت الأطفال، إنما كانت تنبت سريعاً، تنبت في الشهر وتزداد ما لا يزداده غيرها في أشهر، والله أعلم بحقيقة ذلك، والأول أقرب إلى مجرى العادة، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا – أي نشّأها – نَبَاتًا حَسَنًا ۩.
وبعد أن بلغت العمر الذي انقطعت معه حضانتها كان واجباً على أمها أن تفي لله بالنذر الذي نذرت، فأخذتها وقصدت إلى بيت المقدس، لأنها نذرتها لله، وتقبَّلها الله – تبارك وتعالى -، نذرتها لله – تبارك وتعالى -، فانطلقت بها قاصدةً أورشليم أو بيت المقدس، وفي بيت المقدس سمع العبّاد الركّع السجّد بنبأ هذه المُحرَّرة فتنازعوها، تنازعوا في كفالتها، كلٌ يُريد أن يكفلها، وتقدَّم زكريا زوج أختها أو زوج خالتها اليصابات، وقال كلا، ما أحدٌ أحق بها مني، أنا أحق الناس بها، قالوا رادين عليه ما أحدٌ أحق بها من أحد، لِمَ؟ ألأنك زوج خالتها؟ لا، ألأنك زوج خالتها؟ كلا.
قال زكريا فماذا ترون؟ قالوا أن نقترع، فوافق، فجاء كلٌ بالقدح، أي خشبة السهم المبرية المُمضاة، جاء كلٌ بقدح له معروف، ووضعوا القداح، وأتوا بغُلام صغير لم يبلغ أن يُراهِق البلوغ، غُلام لم يبلغ الحُلم، بالعبرية يُسمى كاتون، أتوا بغُلام – كاتون – وقالوا له خُذ هكذا، لا على التعيين، امدد يدك وخُذ قدحاً، فالقدح الذي يخرج صاحبه له حق الكفالة، فمد الغُلام الصغير النقي يده فإذا به قدح زكريا، قالوا لا نرضى، شعروا بالمغلوبية، قالوا لا نرضى، قال ماذا تُريدون؟ قالوا نذهب إلى النهر، ونُلقي القداح، فأيها جرى على غير جرية المياه – أي في اتجاه مُعاكِس لمجرى الماء في النهر – كان هو صاحب الحق، قال لكم ذلكم، وانطلقوا إلى النهر، ورموا قداحهم، فسارت كلها مع اتجاه الماء، إلا قدحاً واحداً، كان يسير عكس التيار، فنظروا فإذا هي قدح زكريا، شأن الله – تبارك وتعالى -، إنه أمر الله، أمر دبَّره وأراده الله – تبارك وتعالى -، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ۩.
وهكذا انقلبوا مغلوبين، وانقلب بها زكريا – عليهما السلام – فائزاً فرحاً بها، وبنى لها بناءً من خشب في علية، جعله محرابها ومُتعبَّدها، ومضى عليها زمن ليس بالطويل، وهي تتعبَّد الله وتبتهل إليه – تبارك وتعالى -، حتى إذا كان ذات ليلة شعرت كأن شيئاً معها في محرابها، وهي مُقبِلة على الله – تبارك وتعالى -، فدخلها فزع وخوف ورهبة، دخلها فزع وخوف ورهبة ثم تساءلت مَن هنا؟ فإذا بصوت ملائكي وقور رخيم، كله ثبات وطمأنينة، يسكب السكينة في رُوع سامعه، أنا رسول ربك، ملك من الملائكة، مُرسَل من عند الله، أنا رسول ربك، ماذا تُريد؟ تثبَّتت وقالت ماذا تُريد؟ فجاءها الجواب من هذا الملك الكريم يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ۩ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ۩، وهي لا تعلم ما سر هذه الرسالة الإلهية ولا تعلم خطر وشرف وجلالة الأمر الذي أراد الله – تبارك وتعالى – بها، لا تعلم لماذا، وذهب الملك، وإذا بها تشعر بسكينة وبفرح غامر وبنشوة وطمأنينة، فاجتهدت في العبادة، وزادت عبادتها لله – تبارك وتعالى – عما كانت عليه من قبل، تتعبَّده آناء الليل وأطراف النهار، في فحمة الليل وفي رائعة النهار ورابعته، لا تنقطع ولا تمل، الله يُقويها ويُمدها – سُبحانه وتعالى -.
وذات يوم يدخل عليها زوج أختها أو زوج خالتها زكريا – نبي الله، عليه الصلاة وأفضل السلام – فيفجأه ويُدهِشه ويُثير عجبه وجدانه فاكهةً عندها في غير أوانها، إن كان ذلكم في الصيف فهي فاكهة من فواكه الشتاء أو العكس، فيتعجَّب ويقول يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ۩، من أين لك هذه الفاكهة وليس أوانها؟ ليس الأوان أوانها، من أين لك هذه الفاكهة وليس أوانها؟ قالت باختصار وبيقين – بيقين مَن أمده الله وأيَّده بآياته -، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩.
فانقلب الرجل مُتعجِّباً، وقد زاد يقينه بالله – تبارك وتعالى -، وهو نبي جليل، واطمأن قلبه إلى أن يدعو ربه بما يجول في خاطره من أمد، فقد كان يُؤرِّقه هم يُقيمه ويُقعِده في الأصابح والأماسي، في الغدو والرواح، لقد دنا الأجل بعد أن مسه الكبر، لقد مسه الكبر، وبلغ من الكبر عِتياً، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ۩، عِتِيّاً ۩ أو عُتياً، وهما قراءتان، لكن امرأته أيضاً إلى ذلكم عاقر، لا تُنبِت، لا تحمل، لم تأته بولد من قبل، مسه الكبر، وامراته عاقر، وقد كان يخشى إن هو هلك – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألا يليه إلا العصبة، أبناء عمومته وقراباته من الرجال، وهم على كل قول وفي كل الأقوال شرار بني إسرائيل، وهذا معنى قوله – سُبحانه – وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ۩، مَن هم الموالي؟ العصبة، أقرباؤه من الذكور، لا يتوسَّط في قرابتهم إناث، أقرباؤه من الذكور، في كل قول كانوا شرار بني إسرائيل، لم يكونوا بالجيدين، لم يكونو بالصالحين، وهو يُريد هذا، هذا هو معنى وسر طماعية وطموح هذا النبي الجليل إلى الولد وإلى الخلف، هو يُريد أن يرزقه الله – تبارك وتعالى – وأن يهبه من لدنه غُلاماً صالحاً تقياً زكياً، لكي يُحسِن خلافته في إسرائيل، أي في بني إسرائيل، ليس فقط لكي يحفظ اسمه كما يُقال، وإنما ليرث نبوته وصلاحه، ويُحسِن خلافته في بني إسرائيل، لأجل هذا السبب، قال رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ۩.
لقد اقترب الأمل، انفسح الأُفق أمام هذا الأمل الكريم، إنه من أكرم الآمال وأجلها، انفسح الأُفق، لماذا؟ لأن الذي يُعطي ويُرزق فاكهةً في غير أوانها يُعطي الولد بغير شرطه وفي غير أوانه، وقد تقضى وتصرَّم أوان الولد، آية! قد مسَّه الكبر، وهن عظمه، واشتعل رأسه شيباً، وامرأته إلى ذلكم عاقر، لكن هل يُعجِز الله – تبارك وتعالى – أن يُعطي الشيئ في غير أوانه؟ هل يتكاءده ذلك؟ هل يتعاياه شيئ من هذا القبيل؟ كلا وحاشاه، لا إله إلا هو!
فأقبل على الله مُبتهِلاً، رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ۩، الآن انفسح الأُفق أمام أمله الكريم، وكان في المحراب يُصلي ويتبتل، وإذا بنور غامر قد عمّ المكان وضوّأه، وإذا بتسابيح وتمجيدات إلهية تطوف بها أملاك الله – تبارك وتعالى -، ومعها جاء الجواب، بُشرى بغُلام تقي صالح نقي، لم يُسم باسمه أحد من قبل، أول مَن سُميَ بهذا الاسم هو يحيى – عليه السلام -، يحيى! لأن في رسالته، في مواعظه، وفي تباشيره حياة القلوب، حياة الأرواح والنفوس، وأيضاً هذا الغُلام يحيى، سيبعثه الله – تبارك وتعالى – مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ ۩، إنه عيسى، بعثه الله مُصدِّقاً بعيسى، وقد كان أقل من عيسى، فعيسى أرفع رُتبة ولا ريب، كانت أمه اليصابات – أم يحيى – تقول لأمها أو لأختها حنة بنت فاقوذ إني أرى الذي في بطني يسجد للذي في بطنك.
وقد حملت مريم – عليها الصلاة وأفضل السلام – بعد ستة أشهر من حمل اليصابات، مر عليها ستة أشهر وظهر حمل مريم، وسيأتي خبرها – إن شاء الله في إبانه -، سيأتي هذا – إن شاء الله تبارك وتعالى – في إبانه.
ونعود إلى مريم، في ذات سنة – في نفس السنة التي حملت فيها اليصابات، أي في تلكم السنة – جاء موعد عيد الفصح، وأهل وجاء الوفود والحجيج من أنحاء البلاد، من سوريا ومصر وبابل وأثينا وآسيا الوسطى، من بلاد مُتعدِّدة! ومن أنحاء فلسطين بلا شك، جاءوا يسوقون النحائر أمامهم، يسوقون النحائر قدامهم، إلى البيت العظيم، إلى بيت المقدس، وإلى معبد الرب، إلى بيت الله – تبارك وتعالى -، وجاءت أمها – أي أم مريم، حنة بنت فاقوذ – أيضاً مع بلد وفدها بلدها الناصر، مع الناصريين، وهناك التقت أثيرتها وقرة عينها مريم الصغيرة البتول المُحرَّرة لبيت الله – تبارك وتعالى -، واستأذنت في أن تعود معها أياماً، تُقضّيها في بلدها، أي في الناصرة، وهكذا رجعت.
وفي هذه الأيام أتى إلى خِطبتها أحد أبناء عمومتها وقيل ابن خالها، إنه يوسف بن يعقوب المعروف بالنجّار، لأنه كان يمتهن النجارة، اسمه يوسف بن يعقوب، وهو من بيت داود – عليه السلام -، شاب وضيء، فقير نعم لكنه تقي صالح ماجد، تقي صالح ماجد! ينميه نسبه وعرقه إلى داود – عليه السلام -، ومعروف بصلاحه وتُقاه، خطبها وليس أحسن في إسرائيل إذا بلغت الفتاة هذا المبلغ وكانت بنت بضع عشرة سنة – إحدى عشرة أو ثنتي عشرة أو ثلاث عشرة، اختُلِف في سنها لكنها في مُعظَم الروايات كانت فوق العاشرة، كانت فوق العاشرة من عمرها – من أن تُزوَّج وتُستَر، ليس أحسن للبنت في إسرائيل إذا بلغت هذا المبلغ من أن تُزوَّج وتُستَر، هكذا كانت عادتهم، وهكذا قبلت أمها وقبل أقرباؤها، ولكن كان على يوسف بن يعقوب – رضيَ الله عنه – أن يُعِد المهر، وهو رجل فقير، يعمل بالنجارة في بلدة فقيرة، لا يُعطي أهلها إلا النزر اليسير، فكان عليه أن ينتظر طويلاً لكي يجمع المهر، ولكي يُهيء بيت الزوجية الذي يسوق إليه عروسه، الذي يسوق إليه ويزف إليه عروسه، فهكذا عادت مريم – عليها السلام – إلى مُتعبَّدها وإلى محرابها في بيت المقدس.
وبين هي ذات ليلة أيضاً في ابتهالاتها وتمجيداتها وتسبيحاتها إذ غُمِر المكان بتسابيح وبأنوار وتهاليل، ودخلها خوف أٌقل من المرة السابقة، لأنها اعتادت ذلك، اعتادت ذلك! وإذا بالملائكة تُبشِّر، لا ندري هل كانت بُشرى جماعية على أكثر من لسان ملك أو بلسان ملك واحد وهذا هو الأظهر، الله أعلم بحقيقة الحال، يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ – هنا جاءت البُشرى – اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۩، لقد كانت تقرأ عنه في الكتاب المُقدَّس، كل يهود وكل بني إسرائيل يُردِّدون دوماً وينتظرون موعد هذا المسيح، موعد هذا المسيح الذي سيتملق عليهم ويُنقِذهم ويهديهم سواء السبيل ويجمع شملهم بعد ألم يكن مُلتئماً، وهي أيضاً كانت تسمع بنبأ هذا المسيح، عجيب! سيكون ابناً ينبت في أحشائي؟!
هكذا نادتها الملائكة، يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۩، إشارة إلى أنه منكِ، هل عقلت وهل عرفت معنى الإشارة إلى غايتها وأنه منكِ من غير ذكر أو من غير أب؟ سنرى! اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۩ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ۩، لكن البتول الطهور عقلت الإشارة، عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۩؟ إذن هو ابني، أين أبوه؟ لماذا يُنسَب إلىّ؟ فهمت – عليها السلام -، هذا خطاب ملائكي قصير ومُوجَز جداً، إعلان إلهي، تمهيد وإرهاص، فتساءلت أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۩، وفي مريم أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ۩، أي في سورة مريم، كيف؟ فجاءها الجواب، قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ۩.
وهنا كان على مريم أن تزداد من العبادة ومن الابتهال ومن الانقطاع إلى الله بالكُلية ظاهراً وباطناً، وهكذا فعلت، حتى نحلت قليلاً، لكنها صفت وشفت ورقت وأصبحت مُهيأةً، وجاء فصل الصيف، وفي ذات يوم من أيام الصيف الطويلة الحارة القائظة مسها حر العطش، فرفعت قلتها، فإذا ليس فيها ماء، فنزلت من عليتها، وقصدت بئراً ليست بالبعيدة من المعبد العظيم لكي تملأها، ولما ملأتها وأرادت أن تنثني راجعةً وقفت تتطلع وتتأمل، فالجو عجيب جداً، هدوء وسكينة يُخيمان على المكان بأسره، لا تُسمَع نأمة، لا يُسمَع حس، كل شيئ ساكن واجم، والجو صائف، لكنه رائق، كأن السماء تُريد أن تُرسِل وحيها إلى الأرض، فتلفتت تتطلَّع فإذا بشاب وسيم، يفيض وجهه نوراً ولألاءً وبشراً، نظر إليها مُبتسِماً، فارتدت مُضطرِبة، مُخاطِبة إياه إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ۩، فالتقي ذو نُهية، التقي ذو نُهية، تنهاه تقواه وخوفه لله – تبارك وتعالى -، أما إن لم تكن تقياً فما يُفيد؟ ما يُفيد هذا التعوذ؟ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ۩، لكن وجهه يُبشِّر بالخير.
قال لها لا تُراعي أو لن تُراعي، سألته مَن أنت؟ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ۩، جاءت الساعة وجاء الموعد يا مريم، كلها كانت إرهاصات، ما مر بنا كان تقديمات وإرهاصات لهذه الساعة، لهذه الساعة الموعودة، تلتقي السماء بالأرض، في لحظة قدسية عجيبة جداً، حيث تنبثق الحياة بغير أسبابها وعلى غير شرائطها المعهودة، إنها قدرة الله تعمل، إنها قدرة الله تعمل بطريق المُباشَرة، لا إله إلا الله، جل في علاه – تبارك وتعالى -، لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ۩ قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ۩، كل همها الشرف والطهارة، وماذا يقول الناس؟ ماذا يتقوَّل بنو إسرائيل وهم أصحاب الإفك والبُهتان؟ لكنه أخبرها بأنه قضاء الله، لا راد لقضائه – سُبحانه وتعالى -، هذا ما قضاه الله، واستسلمت لقضاء الله بين الفرح الغامر وبين الخوف والتظني مما سيُقال في حقها، ونفخ فيها.
قيل نفخ في جيبها، هذا هو الجيب، ما فُتِح من أعلى ثوب المرأة، ما جيب من أعلاه، هذا هو الجيب، وليس الجيب المعروف، فنفخ في جيبها، وقيل في كُمها، لا يهمنا ما كان من ذلك، المُهِم أنه جبريل – عليه السلام -، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ۩، هو جبريل، روح الله، نفخ إن في كُمها وإن في جيبها – في هذه الفتحة -، فنزلت النفخة في رحمها، فحملت بعيسى – عليه السلام -، لا إله إلا الله!
ولا تنسوا أيها الإخوة والأخوات أن جبريل هذا – عليه السلام – حين كان راكباً على فرس – فرس جبريل – رآه موسى السامري – لعنة الله عليه، سامري بني إسرائيل – وعلم أن في الأرض التي وطأها حافر فرس جبريل يكمن سر الحياة، فأخذ قبضة من أثر رسول الله – تبارك وتعالى -، أي من أثر فرس الرسول، من أثر فرس الرسول – على سبيل الإيجاز بالحذف – أخذ هذه القبضة، ولما جاءوا بالذهب وصهروه وشكَّلوه على شكل ثور نبذ القبضة في هذا الذهب المُسال، فإذا به ينقلب عجلاً له خوار، انقلب إلى عجل من لحم ودم يخور، وهذا جبريل – عليه السلام -، فيه سر الحياة، شيئ عجيب! ولا ينزل على الأنبياء والرُسل إلا بسر الحياة، سر حياة الأرواح.
قال أحد الحواريين لعيسى – وسيأتيكم هذا مرة – وهو متى العشّار – عليه الرضوان، اسمه متى العشّار، وإليه يُنسَب الإنجيل المعروف، وهو الوحيد من بين أصحاب الأناجيل الأربعة الذي كان من الحواريين، فقط متى بلا خلاف، وقد كان عشّاراً، سيأتيكم نبأه، فمتى العشّار قال له الآتي – ائذن لي يا روح الله أن أذهب لأدفن أمي فقد ماتت، قال اتبعني وخل الأموات يدفنون موتاهم، قال اتبعني، لتأخذ سر الحياة، هؤلاء موتى يشتغلون بموتى، وخل الأموات يدفنون موتاهم، ولذلك مَن تبعه – كان يقول – يحيا حياة الأبد، ولا يدخل الملكوت إلا مَن وُلِد ثانيةً، بدعوته – عليه السلام -، إنها دعوة التوحيد، دعوة لا إله إلا الله.
على كلٍ حملت به – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وبعد أن نتأ بطنها وكلف وجهها واصفر ونحل جسمها بدأت الأقاويل والشائعات تطير بين المُتقوِّلين، بين الأفّاكين، وبين أصحاب الظنون وأصحاب البُهتان والكذب، وبلغ الخبر يوسف النجّار – عليه السلام -، أي ابن يعقوب، وساءه ذلك، وقاطعه الناس، وجعلوا ينظرون إليه بازدراء واحتقار، لأنه قطف الثمرة قبل أوانها، والرجل بريء الثوب، بريء الذيل، لم يأت شيئاً، لم يغش فجوراً، ولم يأت جُرماً ولا جريرة، لكن الناس أفّاكون، وسمع هذا الكلام، فنزل إلى بيت المقدس، ووجد مريم على ما وُصِف له، حاملاً! لقد كانت حبلى، نتأ بطنها أمامها، سألها يا مريم لقد سمعت الناس يتقوَّلون، قالت له قل قولاً جميلاً، أنت تعرفني وتعرف بيتي وأهلي، قل قولاً جميلاً، قال أما إني لا أقول إلا الجميل ولكن يا مريم – عليها السلام – أينبت زرع بغير مطر؟ قالت نعم، قال يا مريم أتخرج شجرة بغير غيث؟ قالت نعم، قال يا مريم أيكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم، كيف يا مريم؟ قالت له يا يوسف بن يعقوب مَن الذي خلق الشجر أولاً؟ أليس الله وقد خلقه من غير بذر، ومن الشجر كان البذر، ومن البذر يكون الشجر، الذي خلق الشجر أول مرة لم يخلقه من بذر، خلقه هكذا، كُن فَيَكُونُ ۩، ثم أنزل الغيث، وبقدرته جعل الغيث غوثاً لهذا الشجر؟ قال اللهم بلى، قالت له يا يوسف بن يعقوب مَن الذي خلق آدم بلا ذكر ولا أنثى؟ أليس الله؟ قال اللهم بلى.
وقد كان يوسف – عليه السلام – تقياً نقياً، يقرأ التوراة، ويعلم بموعود الله – تبارك وتعالى – أو بوعد الله، أنه – سُبحانه وتعالى – سيُرسِل في إسرائيل أو في بني إسرائيل في آخر أزمانهم مسيحهم يُقيمه من بين أظهرهم، فلِمَ لا يكون هذا المسيح؟ وبعد أن بدأ يسترسل مع أفكاره قطعت عليه حبل أفكاره، وقالت له فاعلم يا يوسف بن يعقوب أن الله بشَّرني بالمسيح عيسى بن مريم، أنا مريم وهو عيسى ابني وهو المسيح.
ومن هنا تكون البداية الأكثر حراجةً، لنا – إن شاء الله – صلة وتكملة في خُطب آتية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وخيرته من عباده، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين المُحسِنين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه.
اللهم إنا نسألك ونضرع إليك ونبتهل أن تنصر الإسلام وأن تُعِز الإسلام، اللهم انصر بعزتك وبقوتك الإسلام والمُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، اللهم اخذل مَن خذل المُسلِمين، اللهم عليك بأعدائنا، أعدائك، أعداء الدين، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، اللهم أدِر عليهم دائرة السوء فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أرنا فيهم تعاجيب قدرتك وآيات انتقامك وعلائم بأسك الشديد الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين.
اللهم عليك بيهود، بالصهاينة المُجرِمين الوالغين، فإنهم قد أفسدوا في البلاد، فإنهم قد طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، اللهم فصب عليهم من عندك ومن لدنك سوط عذاب، وكُن لهم بالمرصاد، اللهم دمِّرهم تدميراً، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود عليهم قريباً بقدرتك وعزتك يا قوي، يا عزيز، يا جبّار، يا قهّار.
اللهم عليك بالأمريكان المُجرِمين الوالغين في دماء المُسلِمين وفي بلادهم، اللهم دمِّرهم تدميراً، اللهم أرنا فيهم آيات قدرتك، اللهم أنزِل عليهم بأسك الشديد الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين، اللهم أيِّد عبادك المُسلِمين وعبادك المُجاهِدين في كل مكان، اللهم أيِّدهم على أعدائك، أعداء الدين، بقوتك يا عزيز، يا متين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
نعوذ بالله أن نقول زوراً أو أن نغشى فجوراً، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً وبالإساءة غُفراناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(26/12/2003)
أضف تعليق