مولانا جلال الدين الرومي
جلال الدين الرومي – الجزء الأول
محيط الحب والجمال
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، نعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بمُعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له ولا نظير له ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم، بفضله ومنّه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين. اللهم آمين.
أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
أُحييكم جميعاً بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأشكر لأخي الفاضل المُهندِس أبي عدنان هذه المُقدِّمة الطيبة التي حقاً كانت مُقدِّمة ناجحة في إدخالنا وتشويقنا إلى الدخول والولوج إلى هذا العالم الوسيع وإلى هذا المُحيط الأوقيانوس المُندَاح، ولا أكتمكم أيها الإخوة أنني لأول مرة تقريباً – أستطيع أن أقول هذا إن شاء الله تعالى – أشعر بالتهيب والوجل والاضطراب والاختلاط بين يدي حديثي في موضوع ما، لأول مرة! وتعتريني حالة غريبة جداً، وهذه الحالة لازمتني مُنذ أيام، حتى أنني حين تهيأت لكي أستجمع نفسي وأفكاري وأُطالِع بعض ما ينبغي أيضاً أن يكون جديداً حول هذا المُحيط المُترامي من الجمال والجلال والحُب والوله والعشق الرباني داخلتني روعة ومازجتني هيبة، فكتبت على البديهة هذه الكلمات على جدار كتاب أو على جلد كتاب أحببت أن أتلوها عليكم، لأنه سيكون لها قصة وأي قصة!
كتبت أقول كم يُشفِق المرء على نفسه! لا على نفسه فحسب بل على مَن أتى ليستمع، وأكثر من ذلك إشفاقه على الحقيقة، على الجمال والجلال، حين يُدعى فقير، ضحل، باهت، خافت، زاوٍ، ذابل، بلا لون ولا ريح ولا طعم، ليتحدَّث عن عالم ملآن بالجمال، مُركَّن بالجلال، مُحاط باللطافة، تجري فيه أنهار الحياة وتصدح في رياضه عنادل الحُب وتُغرِّد على أغصانه أطيار الهُيام وعلى أفنانه ينوح من الوجد الحمام، هل لليل البهيم أن يتحدَّث عن الضحاء الغامر؟ وهل لأبي لهب أن يُحدِّثنا عن المُصطفى المُحمَّد؟ وهل للأعور المسيخ أن يُحدِّثنا عن الجمال اليوسفي؟ أم هل للجعلان أن تنظم الشعر في شذى الورد وعبق الزهور؟ أين المُناسَبة؟ يحتاج الجمال إلى جمال ليتحدَّث عنه، إلى مرآته! نُريد مَن إذا قال قطع قولنا وأخرس ألسنتنا، يروعنا ويبهرنا، يهزنا وينشينا، ينشرنا ويطوينا، مليك القول وصرّاخ المعنى وتام العيار، عياذاً أن نكون وكلاء الفضول ورُسل التطفل، فمَن ذا الذي وكَّلنا أن نغتصب القول في الأكابر؟ إن أحدنا إذا أسفر في حاجة له تخيَّر الأحسن الأقدر والأجمل الأليق، فهل تُرى مولانا يرتضي أمثالنا سفراء له ووكلاء عنه؟
عطره – كما سترون هذه الليلة إن شاء الله تعالى، وأسأل الله أن يُطلِق لساني وأن يُفيض قلبي – لن يكون بريح البنفسج أو الياسمين، ولا بنشر الورود والنسرين أو بشذى العبير والسوسن، بل سيكون جنائنياً من ألف زهرة قدسية وألف وردة رضوانية مُزِجت بماء العشق وعجنتها يد الوله على عين الرحمة في حضرة الجلال.
وبعد أن كتبت هذه الكلمات هكذا على البديهة توجَّهت بقلبي إلى الله – تبارك وتعالى – وقلت أي مولاي الرحيم وربي الشفوق، لو أنك أريتني ونصبت لي علائم وآيات أعلم بها هل أنا مرضي عندك وعند عبدك الصالح هذا أن أتكلَّم عنه، لأفرخ روعي ولهدأت نفسي، ثم تتالت الآيات، خمس آيات كاملات تامات، هذا الحديث سيكون – إن شاء الله – في آخر المُحاضَرة، وإنها لعجب من العجب، أدركت بها – ولله الحمد والمنّة – أن روح هذا المُحيط العظيم حاضرة، تفرض حضورها، ولذلك نحن – بحمد الله تبارك وتعالى إن شاء الله تعالى – في هذه الليلة وفي هذه الساعة المبرورة المسعودة في حضرة السعادة إن شاء الله تعالى، بذكر الصالحين تتنزَّل الرحمات، فكيف – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – إذا كان لأرواحهم حضور وظلال يُلقونها على المكان وعلى المجلس؟ نسأل الله حُسن الإمداد من أرواحهم وجميل التعطف من أنفاسهم، وأن يُعيد علينا من بركاتهم، وأن يُنوِّر أسرارنا وضمائرنا كما نوَّر أسرارهم وضمائرهم، اللهم ارض عنهم وأرضهم وارض عنا بحُبنا إياهم. اللهم آمين.
مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره الكريم – كما سمعتم من أخي أبي عدنان – بارك الله فيه وفتح عليه – العالم مشغول به، العالم كله! وإن كان العرب – كما ألمع أخي بارك الله فيه – أقل العالمين انشغالاً به، لا أدري لماذا؟ هل لأننا سطحيون؟ هل لأننا لسنا عاشقين، لسنا مُتيمين، ولسنا ولهين، أم لأننا قطعنا حبالنا ووصلتنا مع الثقافة ومع الفن الجميل الرائق والفكر العميق الدقيق؟ لا أدري لماذا؟ هذا العام – كما سمعتم – هو عام الرومي، ثمانمائة سنة على ميلاده الميمون.
وفي سنة ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين ميلادية أيضاً احتفل العالم بمرور سبعمائة سنة على وفاته، وهذا العام يحتفل العالم بمرور ثمانمائة سنة على ميلاده، اهتم به المُسلِمون جميعاً، الإيرانيون، الأتراك، في القارة الهندية، في الباكستان، في أفغانستان، وفي البنغال، كل المُسلِمين! والعرب اهتموا قليلاً للأسف الشديد، ولا زال اهتمامهم به قليلاً، فجزى الله مَن قضى بعض دين العرفان ودين العشق والوله والحُب واللطافة، كما سأذكر أسماءهم – إن شاء الله – في تضاعيف المُحاضَرة، جزاهم الله خير الجزاء، وهم قلة! إلا أن جهودهم مقدورة، تُذكَر فتُشكَر، ومُبارَكة وفيها نفس إلهي بحمد الله تبارك وتعالى.
محمد إقبال شاعر الإسلام الأكبر لعله في القرن العشرين المُنصرِم، رحمة الله تعالى عليه، وهو القائل:
صيَّر الرومي طيني جوهرا شاد من غباري كوناً آخر.
لأنه عرض له في المنام كما قال في أحد دواوينه الشعرية، عرض له في المنام شيخ الروم – الشيخ الرومي كان يُسميه شيخ الروم أحياناً، قدَّس الله سره – وأمره أن يقول، أمره أن يُشعِل مجامع القلوب وكوانين الأفئدة، أمره أن يقول فيُشعِلها، وقام وقال قدَّس الله سره، وصار تَلميذاً – تَلميذاً معنوياً – لجلال الدين الرومي، على بُعد ما بينهما من هذه القرون المُتمادية المُتطاوِلة.
في رسالته جاويد نامه – أي رسالة الخلود، وهي معراجه، أي معراج محمد إقبال، والمعراج هو أكثر ما تفنن فيه أدباء الفرس والأدباء الناطقون بالفارسية، وأكثر دواوين إقبال ويا للعجب ليست بالأُردية لُغته وإنما بالفارسية، بعضها بالأوردو، أقلها! أكثرها بالفارسية، لُغة فن ولُغة أدب راقية وعالية جداً، كما هي لُغة مولانا أيضاً جلال الدين الرومي، قدَّس الله أسرارهم ونوَّر ضرائحهم وتربهم أجمعين – جعل حكيم الروم – قدَّس الله سره – دليله في هذه الرحلة، وهي الرحلة التي عارض بها كوميديا دانتي أليغييري الإلهية The Divine Comedy of Dante Alighieri، عارضها فيها بجاويد نامه، ودليله هو مولانا جلال الدين الرومي، يُسميه دائماً أستاذي وشيخي ومُعلِّمي، تماماً كما سماه أستاذي ومُعلِّمي العلّامة الإمام المفتوح عليه المُجدِّد بديع الزمان النورسي، قدَّس الله سره الكريم، سماه في أكثر من موضوع من كتاباته النيرة بأستاذي وشيخي، المعنوي طبعاً! أستاذي وشيخي الرومي قدَّس الله سره الكريم.
يقول لقد علَّمني حكيم الروم أن ألف حكيم أحنوا رؤوسهم للتفكير – يعني الفلاسفة والحكماء – لا يُضارِعون كليماً واحداً، الكليم موسى هنا، الكليم والحكيم! الحكيم هو الفيلسوف، والكليم هو النبي، قال ألف فيلسوف لا يُمكِن أن يُوزَنوا بنبي واحد، من أين تعلَّم هذا؟ قال علَّمني إياه شيخ الروم، لماذا؟ لأن شيخ الروم علَّم العالمين، علَّم الناس! إلى اليوم يُعلِّم الناس هذا الرجل، له حضور عجيب، صحيح مئات السنين على أفول شمسه إلا أن شعاعها لا يزال إلى اليوم آسراً ضاحياً وغامراً، شعاعه ينبعث إلى اليوم، لم يختف، بالعكس! يبدو أنه يزداد على الأزمان، لأنه رباني، شعاع رباني، شعاع خالد.
أبو سليمان الداراني – قدَّس الله سره، شيخ الشام وأولياء الشام في وقته – يقول قلب الصوفي أو قلب العارف بالله قلب رأى الله، ومَن رأى الله لا يموت، إنه خالد، كذلك لسان العارف الذي يمتح من الغيب لسان خالد، ما يقوله وما يكتبه سيخلد، سيبقى خالداً، لن يغيب! لأنه من هناك، ولذلك هو يقول – مولانا الرومي نفسه يقول – عن أولياء الله إنهم حلوم وشبان دائماً، لا يشيخون، عندهم حلاوة! كلامهم دائماً كلما قرأته تجد فيه الجديد.
المُستشرِق الإنجليزي الكبير رينولد نيكلسون Reynold Nicholson – وهو ثاني أكبر وأشهر وأروع شخصية استشراقية قرأت التصوف الإسلامي وسير العرفاء في سياقنا الحضاري الإسلامي بعد لويس ماسينيون Louis Massignon الفرنسي – قضى مع مولانا ثلاثين سنة، علّامة مثل نيكلسون Nicholson يسلخ من عمره ثلاثين سنة مُتطاوِلة في صُحبة الشيخ الرومي قدَّس الله سره، مولانا! وبعد ثلاثين سنة أنفق منها خمساً وعشرين في ترجمة المثنوي إلى الإنجليزية، وهي من أدق الترجمات، بعد ثلاثين سنة يقول اليوم أعود إلى نفسي فأجدني لم أُوف الشيخ جلال الدين حقه، وأجدني لم أكن مُبالِغاً حين قلت قبل ثلاثين سنة إن هذا الرجل هو أعظم شاعر عرفاني وصوفي عرفته الدنيا، ولست مُبالِغاً! قال لا تكاد يده تمس شيئاً حتى تُحيله شيئاً مُختلِفاً تماماً، أنا أقول تكشف عن جانبه الإلهي، الفكرة الأساسية الناظمة، الروح التي تخلَّلت أنحاء كل كتابات مولانا وكل آثاره المعنوية – شعرية ونثرية – هي ماذا؟ هي تجلي الحق – لا إله إلا هو – في خلقه، في الوجود! فيما يخطر على بالنا وفيما لا يخطر على بالنا، وهذه آية اختلبت ولطالما ولا تزال تختلب عقول العرفاء وأهل الله، سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ۩، هناك بضع آيات هي الآيات التي سحرت ألباب ووجدانات أهل الله وعرفاء الله، آية الكرسي، آية الولاية، آية المشكاة في سورة النور، وهذه الآية، سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩.
هذا الرجل سيُبرهِن لنا – كما سنرى في المُحاضَرة التي ستطول على ما يبدو – ويُدلِّل لنا أن الله – تبارك وتعالى – يُمكِن أن نراه وأن نتلمَّس وأن نتحسَّس – بالروح طبعاً، لا باليد، لا بالجارحة – وجوده ولُطفه ورحمته وقهره وبره وإنعامه وفعله وحضوره في كل شيئ، في كل شيئ! وهكذا يكون الإيمان حياً يقظاً، هكذا ينتقل الإيمان من نظرية فلسفية أو نظرية علمية أو نظرية استدلالية إلى تجربة عشق وتجربة محبة، وشتان ما بينهما!
ولذلك كان يقول دائماً مُتصرِّفاً في المثل الشهير كلب يقظان خيرٌ من أسد نائم، كان يقول قلب عشقان – أي عاشق مُتولِّه – خيرٌ – أي هذا القلب – من ألف عقل صاحٍ، القلب وليس العقل، القلب! إن ساق – أي رجل – الاستدلال ساق خشبية، لا مرونة فيها ولا تمكين، لا تنعطف بسهولة، ولا يتمكَّن عليها مَن تحمله أيضاً بثبات، هذه ساق الاستدلال! أما العقل الإيماني – يُسميه عقل الإيمان، هناك عقل الجسم والأبدان، وهناك عقل الإيمان، وهذا عقل النبوات وعقل الرسالات وعقل الأولياء والعُرفاء والصُلحاء – فشأنه مُختلِف جداً.
وبعد نيكلسون Nicholson جاء تَلميذه أيضاً آربري Arberry – المُستشرِق آربري Arberry الشهير، وله جهود حتى في ترجمة القرآن الكريم – وواصل مشوار أستاذه في دراسة مولانا، وجاء اليونسكو UNESCO أيضاً – على ذكر اليونسكو UNESCO – وأخذ بعض أعماله، مثل مُنتخَبات من شعر مولانا أو بالأحرى حكايات من شعر مولانا – Tales from the Masnavi، أي حكايات من المثنوي – وجعلها ضمن قائمة الأعمال الروائع الإنسانية، وقد طُبِعت بلُغات شتى.
الألمان، النمساويون – كما استمعنا -، الهولنديون، السويس، الطليان، التشيك، البوسنيون، الإسبان، ومَن تُريدون، تقريباً كل العالم مُهتَم بجلال الدين الرومي!
قبل سنتين كان مولانا – قدَّس الله سره – هو الأكثر شعبيةً في الولايات المُتحِدة الأمريكية، بيع من دواوينه ما لم يُبَع من دواوين أي شاعر أمريكي مُعاصِر أو تقليدي على الإطلاق، حتى بيع منها مئات آلاف النُسخ، كما سمعنا مئات آلاف النُسخ! مع أنه لم يُترجَم كاملاً، كولمان باركس Coleman Barks ترجم بعض أعماله بإشارة من أستاذه، فأصابت حظاً من القبول مُنقطِع النظير، فعلاً تعرَّفوا على عالم مُختلِف، الآن بعض المُستشرِقين الألمان والأمريكان صاروا يقولون إذا أراد العالم الغربي المسيحي أن يجد طريقاً للتعامل مع العالم الإسلامي وأن نفك وأن نفض النزاع والخصومات فلابد من توسيط مولانا جلال الدين الرومي، مُستشرِكون كبار! لابد من توسيط مولانا جلال الدين الرومي.
على كل حال نفس الوضع في إيران كما استمعنا أيضاً، إخواننا الإيرانيون الفرس يُؤكِّدون على أنه فارسي، هل هو شيعي إذن؟ هكذا يهتمون به! قبل سنوات حين زار وزير خارجية إيران تركيا أول ما طلب أن تُقله الطائرة إلى قونية لكي يُلقي التحية على مولانا في مرقده وفي متربته السماوية، وزير خارجية يطلب هذا! مُثقَّف ودارس ولعله عاشق أيضاً من العشّاق، لكن مولانا ليس شيعياً، هو سُني، سُني تماماً! وهو مُعتَز بسُنيته، وكان يقول إن طريق السُنة هو الصحيح، وأهل الجماعة هم خير رفقاء الطريق، وثرَّب على الشيعة وثرَّب على المُعتزِلة أيضاً، يعترف بسُنيته ويضرب الأمثال بأبي بكر وعمر، يقول كم هو شاق وصعب أن تتحدَّث عن أبي بكر لرافضي وعن عمر لشيعي! ويُسميهم الرافضة هكذا، لكن إيران تعشقه وتُقدِّره، وهي مشغولة به ومهمومة به كثيراً وجداً، هل تعرفون لماذا؟ لأنه برهن وأثبت أن رجل الله يُمكِن أن يرسم أُفقاً يتجاوز المذهب وإن كان مذهبياً، لكنه لا ينحصر في المذهب، طبيعي في النهاية – في نهاية المطاف – أن يكون هذا شيعياً وأن يكون هذا سُنياً، وهكذا! لكنه لا ينحصر في زجاجة المذهب، ولا يُعتقَل في زاوية الطائفة أبداً.
ولذلك هذا الرجل برهان على أن طريق الله أيضاً وطريق التمكن في التعامل مع الله – تبارك وتعالى – يُمكِن أن تشق طريقاً جديداً لتوحيد المُسلِمين، طبعاً أعلم أن بعض الشيعة الذين وصفهم العلّامة الإيراني الكبير البروفيسور Professor بديع الزمان فوروزانفر Badiozzaman Forouzanfar بالمُتعصِّبة دسوا أشياء، وهو من أروع الدارسين الأحياء حالياً، أعتقد أنه لا يزال حياً، مد الله في فُسحته، من أروعهم وأكثرهم تحصيلاً وتدقيقاً، وله كتابات مُترجَمة أيضاً بلُغات كثيرة، بديع الزمان فوروزانفر Badiozzaman Forouzanfar وصف هؤلاء الشيعة – وهو شيعي طبعاً اثنا عشري – الذين يرون أن الكذب والتزييف ودس الأشعار ودس الأشياء يُعتبَر قربة بلحاظ مذهبي – بلحاظ نُصرة المذهب وتدعيم المذهب – ويطلبون الأجر الأخروي بالمُتعصِّبة، أعلم أن هؤلاء قد دسوا أشياء، إذا قرأتها أنت تشعر أن مولانا هو شيعي، لأنه يتحدَّث عن الأئمة الاثني عشر وبأسمائهم، أما العلّامة الشيعي فوروزانفر Forouzanfar فهو يُؤكِّد أنه مدسوسة ومكذوبة على مولانا، ليست صحيحة، مُستحيل! قال لأنه كان سُنياً وكان فقيهاً حنفياً، تلقى طريقة الأحناف ونشأ عليها ومات عليها، رحمة الله تعالى عليه، قال وبفرض أنه تشيَّع – وهذا الفرض غير صحيح وساقط من أول درج البحث – الأوضاع في بلده – أي في قونية – في وقته لم تكن لتسمح قط البتة بأن يُظهِر ميوله الشيعية، فهذا كذب قال، هذا كذب! التعصب يفعل هذا.
بالنسبة الآن لنسبته – هل هو تركي؟ هل هو أفغاني؟ هل هو فارسي؟ – طبعاً لا خلاف ولا مُشاكَسة بين كونه أفغانياً وفارسياً، لماذا؟ لأنه من مواليد بلخ، بلخ كانت أعظم قصبات خراسان، أعظم مُدن خراسان كانت بلخ، على حدود طاجيكستان حالياً، أيامها لم تكن في أفغانستان، كانت ضمن البلاد الفارسية، إذن هو فارسي بلا شك، الآن يُقال أفغاني، الآن صار أفغانياً بعد تقسيمات وتحديدات جديدة سياسياً، لكن هو أيامها كان فارسياً، هو خراساني، هو من بلخ، بلد الأولياء وبلد العلماء، بلد شيخ زهّاد خراسان إن لم يكن شيخ زهّاد عصره إبراهيم بن أدهم البلخي، بلد شقيق ابن عبد الله البلخي، بلد أبي عليّ – الشيخ الرئيس ابن سينا – البلخي، وهي بلد مولانا، قدَّس الله أسرارهم أجمعين، وهؤلاء كلهم فرس!
أما أنه تركي فهذه المسألة لا نستطيع أن نقطع بها، قصارى ما نعلمه أنه بلخي وأن أرومته أرومة صدّيقية طيبة، فأبوه ينميه نسب إلى أبي بكر الصدّيق رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، ولتكن بدايتنا من هنا.
إذن هو من مواليد بلخ، التي كانت أعظم مُدن خراسان، ذكرها ياقوت وامتدحها وذكر أنها من أعظمها ومن أوسعها غلةً وأرزاقاً، بلخ هذه كانت مشهورة، مشهورة بالعلم وبغيره، على كل حال وُلِد فيها – قدَّس الله سره – سنة أربع وستمائة هجرية، لعالم جليل وولي صالح كان يُدعى بهاء ولد، ولد تُلفَظ بالفارسية والد، بهاء ولد المُلقَّب بسُلطان العلماء، محمد بهاء ولد المُلقَّب بسُلطان العلماء! يُحكى عنه كما يحكي الأفلاكي قصة عجيبة، والأفلاكي هو من تَلاميذ ابن مولانا المعروف بسُلطان ولد، تتلمذ عليه وبإشارة منه كما يُقال ألَّف كتابه الشهير مناقب العارفين، ولعله بدأ في إفراغ معلوماته وتذكرته على الأوراق في سن التسعين، هكذا تُعطينا المُقارَنات التاريخية، المُهِم ذكر الأفلاكي الآتي، وحين نقول الأفلاكي نعلم أن هذا من أعظم ومن أشهر المراجع في التعريف بمولانا، معروف الأفلاكي! وسبهسالار Sipehsâlâr – فريدون سبهسالار Ferîdûn Sipehsâlâr تَلميذ مولانا – من أوثق المراجع أيضاً، هناك مراجع تتكرَّر باستمرار، لأنها هي التي عرَّفت بمولانا وهي وثيقة الصلة به، هذا تَلميذه، وهذا من تَلاميذ ابنه، سبهسالار Sipehsâlâr تَلميذه، والأفلاكي من تَلاميذ ابنه، إذن من الجيل الثالث لمدرسة ومولانا دائرة مولانا، وأما سر تلقيبه بسُلطان العلماء فعجب، يذكر الأفلاكي أن علماء بلخ اتفقوا في ضُحى واحد على تلقيبه بسُلطان العلماء، لماذا؟ لأنهم جميعهم رأوا الرسول في ليلة واحدة، وقد أمر بتلقيبه بسُلطان العلماء، شيئ عجيب، كرامة ويا لها من كرامة! فقام العلماء وقد أطبقوا وأجمعوا على رؤيتهم للرسول في ليلة واحدة، إن صح هذا فهذا من أعجب العجب، وهو ليس بعجيب، يُمكِن أن يحدث، ليس بعجيب بمعنى أنه يدخل في باب الاستحالة، لا! ليس بمُستحيل، هذا مُمكِن، أنا أعرف أشياء شبيهة بهذا، فالمُهِم لُقِّب بسُلطان العلماء بإجماع علماء بلده، بهاء ولد سُلطان العلماء – قدَّس الله سره – وهو من نسل أبي بكر الصدّيق.
أما أم مولانا جلال الدين محمد – قدَّس الله سره – فيُقال إنها من نسل الخوارزميين، علاء الدين خوارزم شاه كان حاكماً أيام بهاء ولد وميلاد مولانا، يُقال إن أم مولانا هي من نسل هذا الرجل، طبعاً أسرة الخوارزميين مشهورة جداً، حكمت تلكم البلاد والأسقاع، ولها فضل على الإسلام كما أنها للأسف بسوء تصرفها هي التي جلبت علينا ويلات التتار، معروف! هذه قضية تاريخية، لكن هذا لم يثبت ثبوتاً قطعياً، أنها من نسل الخوارزميين، الله أعلم! أما أبوه فالأرجح أنه من نسل أبي بكر الصدّيق رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فهذا يجعل أصله عربياً من جهة أبيه على الأقل، من جهة أبيه! والله تعالى – أعلم.
الآن لماذا هاجر بهاء ولد – كما ألمع أخي أبو عدنان بارك الله فيه – من بلده بلخ؟ لماذا؟ هل ضاق عليه المقام؟ هل قُتِّر عليه في الرزق؟ هل كان له أعداء؟ هل أُزعِج من موطنه؟ هناك رواية مشهورة تقول إنه خرج منها لمساعي الفخر الرازي، الإمام الشهير والمُفسِّر الكبير الشافعي فخر الدين الرازي، المعروف بابن خطيب الري قدَّس الله سره، صاحب التفسير العظيم المعروف بمفاتيح الغيب، والمشهور بالتفسير الكبير، لأن الفخر الرازي – قدَّس الله سره – كان من الحكماء، على طريقة المُتكلِّمين، درس الفلسفة وتوسَّع في علم الكلام وكان رجلاً صالحاً بلا شك، ولكنه يجفو ويُجافي طريقة المُتصوِّفة والعُرفاء، غير مُتعاطِف مع الصوفية ومع العُرفاء، طبعاً هناك نزاعات في المشارب وفي المذاهب، وخاصة مع الطريقة الكبروية، التي أسَّسها الشيخ نجم الدين كُبرى، المقتول سنة ثماني عشرة وستمائة للهجرة.
طبعاً الدكتور يوسف زيدان – العلّامة المصري والمُحقِّق الكبير للتراث، وهو لا يزال الآن في بداية شيخوخته، نسأل الله أن يمد في عمره – كان له أيضاً فضل على المكتبة العربية الإسلامية حين ترجم أشهر كُتب العلّامة والولي نجم الدين كُبرى قبل سنوات، لأول مرة يُترجَم – بحمد الله تبارك وتعالى – كاملاً.
المُهِم بهاء ولد أيضاً الأرجح أنه كان على الطريقة الكبروية، بعضهم يدّعي أنه كان على طريقة العشق الصوري، عشق الله – تبارك وتعالى – عن طريق الصور البشرية، الحسان من الناس! وهي طريقة طبعاً مرذولة، هذه طريقة مرذولة وتُنسَب إلى أحمد الغزّالي شقيق مولانا أبي حامد الغزّالي قدَّس الله سره، طبعاً هذا يكاد يكون قطعياً ومُسلَّماً، أن طريقة أحمد الغزّالي كانت – نعم – هي التوصل إلى الله عبر عشق الصور الحسنة، وهي طريقة رديئة جداً والعياذ بالله، نحن نستبعد هذا، لماذا؟ لأن الأفلاكي ذكر أيضاً فتوى لسُلطان العلماء، والد مولانا قدَّس الله أسرار الجميع، إن صحت هذه الفتوى فهي تقطع باستحالة نسبته إلى طريقة أحمد الغزّالي، ذكر في فتواه أن النظر إلى الحسان والمردان – أي الشباب والأطفال الصغار الذين لم تبقل لحاهم ولم يطر لهم شارب وشعر – زنا روحي، وهي فتوى بمحل عالٍ من الصواب، هذا صحيح! هذا من أرذل ومن أسوأ ما يكون والعياذ بالله تبارك وتعالى، وحذَّر منه الصوفية الكبار والشيوخ المُسلِّكون والمُريدون السالكون أيضاً، وكانوا يقولون إننا نرى معهم سبعين شيطاناً، مع الأمرد الصغير هذا نرى سبعين شيطاناً، ومع المرأة ربما شيطاناً واحداً، فحذَّروا من هذا، هذا من أسوأ ما يكون! ولذلك انتشر في بعض دوائر المُتصوِّفة بعض الفسقيات وبعض الأشياء التي لا تليق البتة، بعض المُهلِكات والعياذ بالله، قديماً انتشر هذا، ودائماً هذا يتكرَّر، على كل حال بحسب الأجواء، فقال هذا زنا روحي، فهذا يُبعِد انتسابه إلى طريقة أحمد الغزّالي، فيبدو أن طريقته كبروية، نسبة إلى نجم الدين كُبرى.
وهذا لم يكن مرضياً ولم تكن طريقته بالمرضية عند خوارزم شاه، والرازي أيضاً كان يسترذلها ويُهجِّنها، حتى أن خوارزم شاه يُقال بمساعٍ من تَلاميذ الفخر الرازي ألقى مجد الدين البغدادي – وهو أشهر تَلاميذ نجم الدين كُبرى – في نهر سيخون، ألقاه فمات طبعاً، قتله بهذه الطريقة! في البداية كان خوارزم شاه نفسه مُقتنِعاً بصحة طريقة الأولياء والعُرفاء، الصوفية كما نقول! لكن كلمة صوفية – انتبهوا – لها وقع أو لها دلالة حسنة الجُملة في المشرق العربي، أما في بلاد فارس فتكاد تكون قاعدة أن هذه الكلمة وقعها الدلالي سيء جداً، لا تكاد تُذكَر كلمة صوفي وتصوف إلا في معرض الذم، يتكلَّمون عن الأولياء – نعم -، عن رجال الله، وعن العُرفاء، لكن مع الصوفية يختلف الأمر، كلمة صوفي لا يُحِبونها، لا يُحِبون هذه الكلمات، فلا تكاد تُذكَر هناك في الأدب الفارسي، في الأدبيات الفارسية لا تُذكَر إلا في معرض الذم، ولذلك سوف يجد مَن يُطالِع آثار مولانا الرومي ذماً كثيراً جداً للصوفية والمُتصوِّفة، مع أنه من أولياء الله ويمدح أولياء الله، لأن الصوفية بشكل عام كمُصطلَح غير مقبولة لديهم هناك، لكنهم يتكلَّمون عن الأولياء، عن العُرفاء، عن أهل الله، وعن رجال الله، إلى آخره، هكذا! فكان حسن الظن بهؤلاء، والإمام الرازي كان يُناقِشه دائماً، حتى أنه اضطر بعد ذلك – أي الرازي – أن يُبرهِن له بطريقة عملية أن هؤلاء لا يصلحون وأن العلماء خير منهم وأن عليك أن تتشبَّث بأذيال العلماء وأن تنتنمي إليهم، لا إلى هؤلاء الصوفية، كيف؟ أتى برجل من العمّال، من المُحترِفين! يُقال كان يكنس القمامة، أي زبّال، أتى به وألبسه زي الصوفية المُخرَّق، يُسمى هناك بالدلق، اسمه بالفارسية الدلق! ألبسه الدلق وعمَّمه بعمامته وأجلسه في مكان، ثم دعا خوارزم شاه، وحين أجلسه تقرَّب منه الفخر الرازي وسأله الدعاء والبركات، فتأثَّر – تأثَّر خوارزم شاه رحمه الله – وطلب منه أيضاً الدعاء والبركات، وبعد أن انصرف قال له كيف وجدت نفسك؟ كيف وجدت حالك؟ قال والله تُوجَد حالة عالية، شعرت بشعور طيب، فقال له هذا قصته كذا وكذا، هذا من الشارع أتيت به، أصبح صوفياً وخدعك، لكن لا يُمكِن لإنسان أن نأتي به من الشارع وأن يخدعنا بصفة عالم، يستحيل! صعب أن تُبرهِن لنا أنك عالم، مسألة صعبة جداً جداً، من أول خمس دقائق في الحديث سنعرف أنك عالم أو جاهل، بل أقل من هذا، من أول جُملة تفوه بها سنعرف أنك عالم أو جاهل، لكن هذا بهذا اللباس سيخدع العالمين، فتركهم بعد ذلك وجافاهم، أي خوارزم شاه.
فنحن نستبعد أن يكون بهاء الدين ولد قد هاجر – طبعاً ومعه ابنه جلال الدين – بتأثير وبسعي أو بسعاية من الفخر الرازي، لماذا؟ لأن هجرته في أدنى الأقوال كانت سنة تسع وستمائة أو عشر وستمائة، لأن المشهور أنهما حين هاجرا كان عمر مولانا خمس سنوات، إذن لابد أن يكون هذا على الأقل سنة تسع وستمائة، هو مولود سنة أربع وستمائة، بعضهم يقول لا، الهجرة كانت سنة سبع عشرة أو ست عشرة وستمائة، أي سنة سبع عشرة أو ست عشرة بعد الستمائة، وهذا أشهر! هذا يعني أن عمر مولانا كان حوالي ثنتي عشرة سنة وليس خمس سنوات، والفخر الرازي متى تُوفيَ إلى رحمة الله؟ سنة ست وستمائة، مُستحيل أن نقول مات الرجل سنة ست وستمائة وهما هاجرا سنة ست عشرة وإنه السبب، لا! ليس هو السبب.
ولذلك الأرجح أن السبب هو الهرب من جحافل المغول التي كانت على الأبواب، فعلاً في سنة سبع عشرة بعد الستمائة الهجرية – أي سنة سبع عشرة وستمائة – لم يبق من بلخ إلا الخرائب تتناوح فيها الغربان والبوم، انتهى كل شيئ، خُرِّبت عن آخرها وقُتِل الآلاف، ولذلك الهجرة كانت بهذا السبب، وربما كانت بإشارة إلهية طُولع بها هذا السُلطان الكبير، سُلطان العلماء! وهو أيضاً من ملوك الأولياء رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فهاجر! في بعض المصادر التاريخية أنه هاجر بأهل بيته ومعه ثلاثمائة من أحبابه وخلصانه، أي أودائه، هاجروا وأرادوا أن يقصدوا بيت الله الحرام، فعرجوا وهم في طريقهم على نيسابور، ونزلوا على الشاعر الكبير والعارف الشهير فريد الدين العطّار قدَّس الله سره، صاحب منطق الطير، وهذا أثر عرفاني مشهور على مُستوى العالم أيضاً، وصاحب رسالة الأسرار، اسرار نامه! الكسرة باللُغة الفارسية للإضافة، جاويد نامه رسالة الخلود، اسرار نامه رسالة الأسرار، نامه معناها رسالة أو كتاب، هذه الكسرة للإضافة دائماً، فيُقال إنه طبعاً كان في عشر التسعين من عمره، هو تُوفيَ سنة ستمائة وثماني عشرة، فالرحلة قطعاً كانت قبل ذلك، وقطعاً كانت قبل أن تتخرَّب بلخ، لكن الله أعلم هل هي سنة ست عشرة أم سنة عشر أم سنة تسع؟ الأقوال مُختلِفة جداً، الأقوال مُختلِفة اختلافاً كثيراً.
المُهِم أن فريد الدين العطّار – قدَّس الله سره – رأى مولانا وتفرَّس فيه فراسة، فأهداه كتابه على صغر، ثم التفت إلى أبيه وقال له لن يلبث ابنك هذا حتى يُشعِل النار سريعاً في هشيم العالم، كما قلنا في بداية المُحاضَرة هذا سيُشعِل كوانين القلوب ومجامع النفوس إن شاء الله تعالى، قال له لن يلبث ابنك هذا حتى يُشعِل النار سريعاً في هشيم العالم، تفرَّس فيه فريد الدين العطّار! لعل أباه بلا شك سُرَّ بهذه النبوءة الطيبة، ثم واصلوا سيرهم حتى أتوا بغداد، فعرض لهم بعض الناس فسأل سُلطان العلماء مَن أنتم؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟ قالوا نحن بالله وإلى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، جواب عجيب! فسكت الرجل ونما الخبر وأن هذا الرجل أجاب بهذا الجواب العجيب المُحيِّر إلى الشيخ السهروردي، أبي حفص السهروردي، فقال ينبغي أن يكون سُلطان العلماء، بهاء ولد! مشهور لدى العلماء والأولياء، وهذا في بغداد، السهروردي!
طبعاً انتبهوا، السهرورديون ثلاثة، هناك السهروردي الشاب القتيل أو المقتول، هذا مُتقدِّم بنحو ستين سنة، هذا قُتِل في حلب بأمر يُقال من صلاح الدين، سنة خمسمائة وسبع وثمانين للهجرة، وهناك أبو النجيب السهروردي، وهو عم أبي حفص هذا، هذا أبو حفص! ابن أخي أبي النجيب، أبو النجيب السهروردي، وابن أخيه أبو حفص السهروردي، هو هذا أبو حفص السهروردي قدَّس الله سره، شيخ مشهور جداً وهو صاحب كتاب عوارف المعارف المطبوع مع إحياء علوم الدين، فهو شيخ كبير وكان له دالة عند السلاطين وعند الكبار، شيخ صالح – قدَّس الله سره كريم – تربى في زاوية عمه أبي النجيب السهروردي، فالسهرورديون ثلاثة.
المُهِم فالسهروردي خرج مُباشَرةً من زاويته ليستقبله في الشارع، فلما رأى سُلطان العلماء أكب على ركبته وقبَّلها، وأخذ بركاب دابته، فنزلوا عنده، اختُلِف في مكان نزولهم، أن يُقال نزلوا في المدرسة المُستنصرية غير صحيح، لأنه لم يكن قد تم بناؤها، ولم يتم بناؤها إلا في سنة ثنتين وثلاثين بعد الستمائة، فكيف نزلوا في المُستنصرية؟ هذا من تخليطات المُؤرِّخين، هناك مُؤرِّخون يتكلَّمون كلاماً له معنى له، كالذين قالوا بعد أن التقى مولانا وهو صغير بالعطّار عرَّج على حكيم غزنة السنائي قدَّس الله سره، صاحب حديقة الحقيقة وطريقة الشريعة، كتاب مشهور أيضاً في التصوف والعرفان على مُستوى كبير جداً، معروف حكيم غزنة السنائي، من أكثر مَن استشهد بهم مولانا في آثاره حكيم غزنة وفريد الدين العطّار! وقد ذكرهما في سياق واحد في بيت من الشعر، وجعلهما سابقين ومُتفرِّدين حتى عليه، تواضعاً منه قدَّس الله سره.
على كل حال قال ذهبوا إلى حكيم غزنة السنائي وتلقى عليه بعض المعارف والعلوم، وهذا غير صحيح، لأن السنائي – قدَّس الله سره – تُوفيَ سنة خمس وأربعين بعد الخمسمائة، فكيف هذا؟ أي هو تُوفيَ قبل أن يُولَد مولانا الرومي بنحو ستين سنة، فأن يُقال تتلمذ عليه تخليط! وهؤلاء مُؤرِّخون، يكتبون ما لا يعرفون، كلام! يسمعون ويكتبون كل شيئ، فمَن أراد أن يقرأ لابد أن يُحقِّق وأن يُدقِّق، لا ينقل كل كلام، الكبار طبعاً تُنسَج حولهم دائماً الخُرافات.
على كل حال بعد ذلك قصدوا مكة شرَّفها الله، ولما فرغوا من مناسكهم عادوا فتوجَّهوا تلقاء بلاد الشام، اختُلِف في مُدة إقامتهم بالشام، غير معروفة! هل كانت لأشهر أو لسنة أو لسنتين أو لسنوات؟ اختلاف كبير جداً، ويُقال إن الشيخ الأكبر مُحي الدين بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي مولداً قد التقى بهم أو هم التقوه، ويُقال بعد أن جرت بينه وبين سُلطان العلماء مُباحثات ومُدارَسات انطلق بأهله وبابنه فرأى الشيخ الأكبر – يُقال هكذا في أحد الكُتب – مولانا جلال الدين – محمد – يمشي خلف أبيه، فقال سُبحان الله، مُحيط يمشي خلف بُحيرة، هذا الشيخ الأكبر! قال سُبحان الله، مُحيط يمشي خلف بُحيرة، أي أين أبوه منه؟ طبعاً هو كان لا يزال طفلاً أو شاباً أو غلاماً، لكن كأنه رأى ما سيؤول إليه، سيكون مُحيطاً!
طبعاً أنا حين اخترت هذا العنوان – مُحيط الحُب والجمال – لم يكن في بالي هذه الحكاية، سُبحان الله! الآن ذكرتها فقلت تتفق مع اختيار العنوان، مُحيط! فعلاً هو مُحيط، قدَّس الله سره الكريم.
بعد ذلك هل نزلوا في لارنده المعروفة الآن بقرمان أم لم ينزلوا؟ بعضهم يقول نزلوا ومكثوا سنوات، قيل مكثوا أربع سنوات في لارنده أو في قرمان، فهي معروفة الآن بقرمان، حيث تُوفيت أم مولانا جلال الدين الرومي وحيث تزوَّج هو أيضاً بفاطمة خاتون، وأنجبت له أول أبنائه الذي اختُلِف هل هو بهاء المشهور بسُلطان ولد أم علاء الدين محمد؟ اختُلِف! قيل هذا وقيل هذا، علماً بأن الاختلافات كثيرة في تاريخ أحداث ومجاريات حياته رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
وبعد ذلك ألقوا عصا التسيار وحطوا رحالهم في قونية، وهي إحدى عواصم الأناضول، عاصمة للسلجوقيين! حطوا رحالهم هناك، اختُلِف طبعاً بناء على الاختلافات السابقة في سنة حطهم رحالهم، هل كانت قبل العشرين بعد الستمائة أم كانت قبل الثلاثين؟ لأن سُلطان العلماء تُوفيَ سنة ثماني وعشرين وستمائة، بعضهم يقول مكث في قونية عشر سنوات، فإن كان كذلك فهو لم يُقِم لا بالشام ولا بالقرمان إلا ربما أشهراً أو أسابيع فقط، وضاعت مسافة سنة أو سنتين ربما في التنقل بين البلاد، لم يُقِم إقامة طويلة في أي بلد، لا في الشام ولا في قرمان، وبعضهم يقول بل مكث في قونية – قدَّس الله سره – سنتين ثم وافته المنية هناك، لأن وفاته سنة ثماني وعشرين وستمائة أمر مُسلَّم به، إذن كم مكث؟ هذا المكث يترتَّب عليه – كما قلنا – تقرير ما إذا كان أقام بمَن ارتحل بهم في قرمان وفي الشام أو لم يُقِم، على كل حال أيضاً تُوجَد خلافات.
جاءوا إلى قونية، سمع بهم مَن؟ السُلطان السلجوقي هناك علاء الدين كيقباد رحمة الله عليه، وكان رجلاً يهتم بالعلم وبالعلماء وبالصُلحاء، ولم يُعرَف له في مجلسه أو في مجلس من مجالسه نبوة، مجالسه كلها جد وعلم ومُباحثات وفتوح، وأمراؤه كانوا على شاكلته، رحمة الله عليه، وكان له اعتقاد حسن في الصالحين وأهل الله، فلما سمع بسُلطان العلماء أتى خرج إليه يستقبله بنفسه مع كبار رجال دولته وحاشيته وخاصته، فيُقال إن مولانا سُلطان العلماء – والد مولانا جلال الدين قدَّس الله أسرارهما – قال كلمة، مر بأرض – قطعة أرض هناك، هي الآن مثواهم – فقال إني لأجد ريح أولادنا وأحفادنا هنا، في مكان كان يُسمى باغ سلطان، باغ معناها حديقة بالفارسية، أي حديقة السُلطان، باغ سلطان! فأهداها له السُلطان السلجوقي، فلما وافته المنية دُفِن فيها، ثم دُفِن إليه ابنه، والآن دُفِن من هذه النبعة الكريمة زُهاء ستين، في نفس هذه البُقعة الرضوانية دُفِن زُهاء ستين في قونية، التي يأتيها زوّار وقصّاد من كل أنحاء العالم، كأنها غدت كعبة للعاشقين ومزاراً للمُتيمين، المُهِم كانت هذه أيضاً من نبوءاته ومن فتوحات الله – تبارك وتعالى – عليه.
وهناك اقتعد مقعده وأخذ مجلسه، يعظ الناس ويُبشِّر ويأمر وينهى ويُنذِر ويُنكِر – قدَّس الله سره – على طريقة العلماء المُشترِعين والأولياء الواصلين، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان له هيبة وسؤدد ومكانة، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، مع تقلله وتبلغه بالقليل، لم يترك آثاراً مكتوبة، لأنه كان طالما كرَّر أن رجل الله – تبارك وتعالى – لا يترك سواداً في بياض، ليس هذا أثره، إنما أثره ما يتركه في القلوب والنفوس، هذه الآثار!
ابنه تأثَّر بهذا المعنى بلا شك، تأثَّر به طبعاً ذوقاً ومُعايشةً، لا تقليداً، وسيأتيكم الآن تثريبه وتهجينه التقليد، لذلك كان يقول أنا لست رجل قال، مولانا الرومي كان يقول هذا! أنا مرآة! أنا مرآة تستطيع أن ترى حقيقتك في، مرآة ومعيار لك، كان يقول هذا، شيئ عجيب! وهذا فعلاً الرجل الكامل، إذا واجهته فإنك تستطيع أن ترى حقيقتك وأن تُعيِّر نفسك وأن تعرف وزنك بإزائه، أنا لست رجل قال، إنما أنا مرآة، أبوه كان عنده هذا النفس، ولكن له أثر واحد يُعرَف بالمعارف، يُقال إنه في أعلى درجة وأرفع مقام من مقامات البيان والبلاغة بالفارسية، أما تقريره للحقائق وغوصه على الأعماق فيقول مَن درسوا وتفحَّصوا دقائق هذا الكلام إنه لا يُبارى ولا يُجارى فيه، وهذا غير بعيد عن سُلطان العلماء كلقب من لدن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن صحت الحكاية، فهذا الأثر الوحيد الذي تركه!
وهذا الأثر أيضاً ترك أثره في بعض آثار مولانا، في المثنوي، في كتاب فيه ما فيه، وفي آثار أُخرى، أخذ من معارف والده وتحقيقاته ونسج أيضاً على منوالها، وعمَّق وبسط ومد الكثير منها، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
المُهِم هناك تُوفيَ الشيخ الوالد رضوان الله تعالى عليه، وكان أوصى إلى ابنه جلال الدين – قدَّس الله سره – أن يأخذ مجلسه في الوعظ والإرشاد، وكان يعلم عزوفه عن هذا، هو عازف ولا يُحِب هذا، هو عازف ولا يُحِب هذا لأن كان به حياءً وخجلاً كبيراً، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وعلى أدب جم!
يحكي مَن فصَّلوا في سيرة حياته أنه كان إذا باحث أو ناقش أو دارس العلماء – وكان مُتمكِّناً جلال الدين الرومي في العلم، كان مُتمكِّناً جداً – يُفحِم الآخر، فكان إذا أفحم وألزم أحدهم – وكثيراً ما كان يفعل هذا، في كل مجلس هو دائماً له الغلبة والسُلطان، سُبحان الله، لأنه رجل عبقري – لا يُسلِّم له، أي لا يُسلِّم له الآخر، يقول لا أُسلِّم، لا أُقِر! فيسكت، أما هو إذا أراد الآخر أن يُفحِمه فإنه يقول له أُسلِّم ثم يُباحِثه بعبارة لطيفة وينقد كلامه، فقيل له لِمَ تُسلِّم وأنت غير مغلوب؟ فقال كيف لا أقول له لا أُسلِّم وهو أكبر مني بسنة؟ عيب قال، عيب! أي لا أكسر خاطره، أدب عجيب، طبعاً لأن هذا الرجل من نسل أبي بكر الصدّيق المعروف أيضاً بالحياء والأدب، وفي نفس الوقت ابن سُلطان العلماء، أدب كبير جداً! فأن يُصبِح مُدرِّساً وواعظاً مسألة صعبة، أبوه أوصاه بهذا، قال لابد من هذا، فلم يجد بُداً، فاقتعد مقعد أبيه ودرَّس ووعظ وعلَّم وأرشد سنةً، لعل كثيراً من هذه المواعظ والدروس ضُمِّنت كتابه الشهير فيه ما فيه، عنده كتاب مشهور اسمه فيه ما فيه.
كما قلت لكم هناك بعض مَن له الآن يد ونعمة علينا، منهم الأديب والعالم والأكاديمي السوري الفاضل الدكتور عيسى العاكوب مد الله في عمره، هذا الرجل فعلاً إنسان فاضل وعالم كبير في الأدب، ويُجوِّد اللُغة الفارسية جداً، ترجم كثيراً من آثار مولانا، هو الذي ترجم فيه ما فيه، وترجم المجالس السبعة، وترجم رُباعيات مولانا جلال الدين الرومي، ترجم هذه الأشياء وترجم دراسات أُخرى نفيسة أُخرى عن مولانا، سنذكرها ربما في آخر المُحاضَرة، ففيه ما فيه كتاب حوى كثيراً من مواعظ هذه المجالس، أيضاً المجالس السبعة، وهي سبعة مجالس، اسم على مُسمى!
نعود، وبعد سنة قدم على قونية رجل يُعرَف بالسيد برهان الدين مُحقِّق الترمذي، وكان أحد تَلامذة والده سُلطان العلماء، رجل من كبار أولياء الله وهو عالم أيضاً ملآن وخصيب، قدم على قونية والتقى بمولانا، وشهد له أن له باعاً وقدماً راسخةً في العلوم، في علوم الظاهر، يجوز ولا يجوز! لكنه أسر إليه بسر، قال يا جلال الدين هذا بأمر وإشارة من السيد الوالد رحمة الله عليه، كما أنت مُتمكِّن وراسخ القدم في علوم الظاهر لابد أن تتمكَّن وترسخ لك قدم في علوم الباطن، هي علوم الرجال وهي علوم حقيقية، العلوم الحقيقة! بئساً وتعساً لعلم لا يصل حبلك بالله، بل يقطعك أحياناً عن الله!
وحين تقرأ في التاريخ الحضاري لتلكم الفترة وخاصة في تراجم العلماء والفقهاء ترى شيئاً عجيباً، كثيرون من العلماء كانوا يتصفون بالصلف وبالكبرياء وبالعجرفة وبالعُجب، شيئ غريب جداً! كان إذا ذُكِر العالم – وهو عالم الظاهر – يكون معروفاً أنه صاحب الكبر والغرور واللبسة الخاصة والسطو على الناس، ويُقبَل له هذا! يُقبَل منه هذا ويُسلَّم، لأن هذا عالم، من حقه أن يتكبَّر، فما هذا العلم؟ بئس هذا العلم والعياذ بالله! فقال له لابد أن تكون لك قدم راسخة في علم الرجال، في علم الباطن! وأن تتسلَّك بي، وهذا بإشارة من والدك، فوافق ودخل معه وصار تَلميذاً له، لكن بعد مُدة لا تزيد عن سنة أشار له شيخه برهان الدين مُحقِّق الترمذي – قدَّس الله سره – أن يقصد بلاد الشام أيضاً ليستكمل علوم الظاهر ويتفنَّن فيها، وكانت بلاد الشام من أشهر البلاد آنذاك في علوم الظاهر، في الفقه والأصول واللُغة والنحو والصرف وكل هذه الأشياء، فلبى الإشارة ونزل على طلب شيخه، فأتى في البداية حلب، لم يُعرَف إلى الآن بدقة – لم يُعرَف – كم أقام في حلب! لكنه أقام هناك، وتلقى العلم عن الإمام العلّامة كمال الدين بن العديم، مشهور جداً! من كبار علماء الإسلام، كان أستاذه، وتلقى الفقه الحنفي ودرس كُتبه التي كانت مطلوبة، مثل الهداية للمرغيناني، درسه بالتفصيل، ثم انتقل بعد ذلك إلى دمشق، واختُلِف في مُدة إقامته في دمشق، من أربع سنوات إلى سبع سنوات، بعضهم قال أربع، بعضهم قال خمس، بعضهم قال ست، بعضهم قال سبع، الله أعلم، قالوا هذه المُدة هي كذلك، الله أعلم!
جاء إلى دمشق والأرجح أنه هناك طبعاً اتصل سببه بسبب الشيخ الأكبر مُحي الدين بن عربي، تقريباً من المُستبَعد جداً إن لم يكن من المُستحيل أن يأتي مثل جلال الدين الرومي – ابن سُلطان العلماء بهاء الدين ولد، الصوفي والعالم الكبير – إلى دمشق ولا يلتقي بشيخ ملأ مسامع الدنيا كلها، الشيخ الأكبر مُحي الدين بن عربي! لذلك يُرجِّح كل مُترجِمي سيرته أنه التقى بالشيخ، وربما أخذ عنه قليلاً أو كثيراً، ليس عندنا تفصيلات.
طبعاً سوف نرى بعد ذلك أن الشيخ مولانا الرومي ليس مِمَن يتعاطفون مع نهج الشيخ مُحي الدين بن عربي، هو لا يُحبِّذه كثيراً! لذلك بعض الذين بالغوا في تأثر مولانا بنهج ابن عربي غفلوا عن هذه الحقيقة، وتكلَّفوا في أحايين كثيرة وأرادوا أن يجعلوه عربياً على الرُغم منه ومن أفكاره، لا! نهجه مُختلِف، فيه تفرد، يختلف كثيراً.
طبعاً هناك بعض المسائل والمباحث الكلامية المُعمَّقة جداً لن نتطرَّق إليها في مُحاضَرة اليوم كمسألة وحدة الوجود، وهل كان مولانا وحدوياً كما هو شائع تقريباً في كل الدراسات؟ لكن – إن شاء الله – أن أعدكم بمُحاضَرة مُوسَّعة – بإذن الله – جداً عن مسألة وحدة الوجود، وسنُحقِّق فيها موقف مَن اشتُهِروا بانتمائهم إلى هذا المذهب أو نُسِبوا إلى الانتماء إليه، مثل مولانا الرومي، لكن هو لم يكن يتعاطف مع طريقة الشيخ مُحي الدين، حتى مما يُحكى في ذلك مما أذكره أنه كان جالساً يوماً ودخل رجل يُدعى بزكي القوّال، القوّال هو المُنشِد، وهو من تَلاميذه، فأخذ يُنشِد قصيدة عرفانية، فطرب لها الشيخ وتأثَّر به واعترته حال، ثم قال فتوحات زكي قوّال خيرٌ من الفتوحات المكية، فكان لا يُعظِّم المكية الفتوحات المكية كثيراً، يقول هذه الفتوحات أفضل، هذه أفضل من فتوحات الشيخ الأكبر.
على كل حال ظل هناك إلى أن أشبع نهمته كما يُقال أو قضى نهمته من سفرته هذه، ثم كر راجعاً إلى قونية، رضوان الله عليه، شيخه برهان الدين مُحقِّق كان في قيصرية، أي في مدينة قيصرية، بعد سنة – سنة ستمائة وثماني وثلاثين – جاءه نبأ وفاة شيخه، يُقال إن شيخه ترك قونية بنبوءة أيضاً، قال عما قليل – أي عما قريب، هذا التعبير قرآني، قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ۩ – سيأتي أسد روحي، ولا يجتمع اثنان في مكان، نهرب! مَن هذا الأسد الروحي؟ سوف نرى، هرب الشيخ برهان الدين مُحقِّق إلى قيصرية، وجاء الشيخ هناك ومارس أيضاً التعليم والتدريس على طريقة فقهاء الظاهر، وبلغه في سنة ستمائة وثماني وثلاثين أن شيخه تُوفيَ، فقصد أو يمَّم تلقاء قيصرية وأدى حق شيخه وأخذ كُتبه ورسائله ودفاتره وأعطى بعضها لبعض خاصة الشيخ وتَلاميذه من باب الذكرى، ثم عاد.
ومارس التدريس سنتين وقيل أكثر من هذا، قيل أكثر من سنتين، بعضهم قال إلى سنة ثنتين وأربعين وستمائة، أين الأسد الروحي؟ الآن ندخل في مُنعطَف هو أكثر المُنعطَفات حراجةً ودراماتيكيةً في حياة مولانا الرومي، حدث تغير هائل في كل حياته ومسلكه حين التقى برجل معلوماتنا عنه جد قليلة، بلا شك هو من العارفين، من الصوفية، لكن على أي طريقة؟ لا نعرف، هل هو قلندري؟ أي هل هو من القلندرية كما يُقال؟ هل هو درويش قلندري؟ لا نعرف، يُرجَّح هذا، على كل حال جاء هذا الرجل، رجل طويل، ممشوق القوام، في نحو الستين من عمره، يُعرَف بشمس الدين التبريزي، يُنسَب إلى تبريز، يُعرَف بشمس الدين التبريزي!
الآن قصة لقائه بمولانا وماذا حدث قصة اختلفت فيها الروايات ونُسِجت حولها الحكايا أو الحكايات، روايات كثيرة! نذكر بعضها، قال بعضهم إن هذا الرجل – أي شمس الدين التبريزي، والذي كان مشهوراً بالإنكار والغِلظة على علماء الظاهر، كلما رأى فقيهاً أو عالماً أحرجه وسدَّد إليه سهام إنكاره ونقده وتثريبه – سمع بمولانا، فانتظره في شارع، وقيل على غير سبق انتظار، وإنما كان بمحض التقدير الإلهي، رآه مُقبِلاً وهو على بغلته الفارهة وحوله طلّاب العلم والكبراء فعرض له، أخذ بلجام بغلته وقال له هل أنت مولانا؟ قال له يقولون هكذا، قال أيهما أعظم: محمد بن عبد الله أو أبو يزيد البسطامي – يُسمى بالفارسية بايزيد -؟ فهاله هذا السؤال، ما هذا السؤال؟ فقال ماذا تقول؟ محمد هو رسول الله، خاتم الأنبياء والمُرسَلين، فكيف تجعله في قرن وفي سياق مُقارَنة مع رجل من أمته؟ لكن هذا السؤال كان مطروحاً بالمُناسَبة في دوائر التصوف، أيهما أعظم؟ قال له فإذا كان ذلك كذلك فكيف قال محمد – صلى الله عليه وسلم – سُبحانك ما عرفتك حق معرفتك وأبو يزيد قال سُبحاني سُبحاني – نطق باسم الله -؟ فيُقال إنه عند هذا السؤال أُغميَ على مولانا، تأثَّر من شدة هذا السؤال، هذا السؤال مُحرِج ومُخيف وجريء وجسور، وفيه جراءة حتى على الله وعلى رسول الله، أُغميَ عليه! وقيل لا، الإغماءة كانت بعد ذلك، فتحيَّر وشُدِه، هناك رواية تقول إن شمس التبريزي هو الذي أدلى إليه بالجواب، هناك – رواية أعتقد عند الجامي، مُلا نور الدين عبد الرحمن الجامي، الشاعر الكبير، آخر شعراء الفرس العظام، رحمة الله عليه، معروف! الذي قال في مولانا لم يكن نبياً، لكنه أُوتيَ الكتاب، أي المثنوي! قال لم يكن نبياً، لكنه أُوتي الكتاب – تقول إن الذي أدلى بهذا الجواب هو مولانا الرومي، فتح الله عليه وأدلى بالجواب، قال له محمد أعظم وإن قال ما قال، قال لِمَ؟ وغير بعيد هذا عنه، عالم مُحقِّق أيضاً ورجل صالح، فهذا ليس بعيداً أيضاً عن مزاج وعن أذواق ومُنازَلات الصوفية والعُرفاء وأولياء الله، هو من هذه الأسرة أيضاً، قال له محمد أعظم وإن قال ما قال، قال أبو يزيد قال ما قال لضيق الحوصلة، حوصلته ضيقة، اكتفى بدفقة من العطاء الإلهي، وظن نفسه توحَّد مع الحق، لأنه ضيق قال، عطنه ضيق! وهذا صحيح، قال أما محمد فأُصيب باستسقاء عظيم، فمهما أُوتيَ كان يقول زِدني زِدني زِدني، ومن هنا كان يستغفر ربه، يُقال ثم أُغميَ عليه، وهذا جواب في غاية الروعة وهو صحيح، هذا الصحيح! كما قيل – وهذا جواب لشيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره – مثلاً الرسول كان – صلى الله عليه وسلم – له حال مع الله بلا شك، لا يسعه فيه ومعها لا ملك مُقرَّب ولا نبي مُرسَل، وكان له حال أيضاً مع أهله وأزواجه، وكان قلبه يسع حُب الله تبارك وتعالى، ويسع حُب ولده وبناته وأبنائه وأصحابه، وكان يبكي عليهم، وحين مات ابنه إبراهيم بكى عليه وقال إن القلب ليحزن، لكن يُوثَر عن أولياء كبار كثيرين غير هذا، مثلاً الشيخ القطب عبد القادر الجيلاني كان إذا وُلِد له ولد يأخذه هكذا ويقول أُشهِدك أنه خرج من قلبي، هو مات، انتهى! فإن عاش أو مات بعد ذلك استوى الأمر عنده، هو يُسميه طبعاً ويُؤذِّن له ويُقيم الصلاة ويفرح به ويدعو له ثم يأخذه ويقول أُشهِدك أنه مات، بالنسبة لي هو مات، انتهى! لا يُريد لقلبه أن يسكن فيه إلا الله تبارك وتعالى، هو مرآة للحق، منظر للحق فقط، قال ابن تيمية – ونِعْمَ ما قال رحمة الله تعالى عليه – حال رسول الله أعظم، لأن دائرته أوسع، أوسع بكثير! هذه دائرة ضيقة، لا تتسع، فعلاً مثل دوائرنا، كلما جعلنا أحداً أو شيئاً مع حُب الله طرد شيئاً من حُب الله، لأننا ضيقون، سُبحان الله! أما هو فهو المُحيط، صل الله عليه وآله وأصحابه وسلم، أو قال كلاماً هذا معناه وغايته، والله – تعالى – أعلم، على كل حال هذه رواية.
هناك رواية ثانية، أنه أخذ أيضاً بلجام بغلته وقال له ما غاية العلم؟ ما القصد من العلم؟ أنت عالم، وتُعلِّم الناس، لماذا؟ ماذا تُريد من هذا العلم؟ قال الدلالة، الدلالة على حُكم الله وعلى شرع الله، على ما يُرضي الله وعلى ما يُغضِب الله، وعلى كذا وكذا، فقال له شمس بيتاً بالفارسية هو لحاكم غزنة السنائي، الحكيم السنائي حكيم غزنة، قال له إن علماً لا يصلك بالله الجهل خيرٌ منه، يُقال أُغميَ على مولانا لما سمع هذا، أنت محجوب قال، أنت محجوب! تتكلَّم في علم الحيض، النفاس، الحلال، الحرام، وما إلى ذلك، لكن أنت محجوب عن رب الناس، ما الفائدة من هذا العلم؟ لابد أن تصل إلى الله، فأُغميَ عليه، ولازمه بعد ذلك، سنرى قصة المُلازَمة، المُلازَمة فيها تقريباً شبه اتفاق مبدئي.
هناك رواية ثالثة، أنه آتاه وهو في مجلس، الله أعلم أي ذلك هو الصحيح، لكن أياً ما كان فالنتيجة واحدة، انقلاب هائل في حياته، أحاله إنساناً آخر، مُختلِفاً تماماً، بالكُلية! وسوف نرى هذا، يُقال إنه دخل عليه في مجلس تعليمه وهو بين طلّابه وأحبائه، وعنده كُتب، فقال له ماذا؟ فقال كُتب العلم والشرع، فأخذها ورمى بها في بركة الماء، عنده مثل نافورة وما إلى ذلك، فقال يا رجل ماذا فعلت؟ بعض هذه الكتابات لوالدي، ولا يُمكِن تعويضها، كتابات والدي! فأدخل يده – أي شمس – وأخرج كتاباً كتاباً، لم يبتل حرف بالماء، فقال ما هذا الحال؟ ما هذا السر؟ طرد تَلاميذه ولزم شيخه، قال هذا هو.
قيل دخل عليه وحده – رواية مُشابِهة تقول دخل عليه وحده – وكان عنده كُتب العلم، فقال له ما هذا؟ أي كما يسأل الجهلة، قال له ما هذا؟ فقال له هذه كُتب علم، ما أدراك ما هذا؟ أي لماذا تسأل ما هذا؟ أنت لا تعرف، هذا ليس على قدك، هذا شيئ أكبر منك! فلم يُتِم كلمته حتى بدأت النار تشتعل في الكُتب، فاحترقت عن آخرها، فقال له ماذا؟ فقال له ما أدراك ما هذا؟ شمس قال له وأنت ما أدراك ما هذا؟ أنت تقول لي وما أدراك ما هذا؟ وأنا أقول لك وأنت ما أدراك ما هذا؟ سوف نرى مَن الأقوى: ما هذا؟ الخاص بك، أم ما هذا؟ الخاص بي؟ أي سؤالك! فلزمه.
أما الخُرافة الواضحة البطلان فهي ما حكاه أبو عبد الله بن بطوطة – رحمة الله عليه – في الرحلة، طبعاً ابن بطوطة زار الأناضول وزار قونية وصلى في مرقد مولانا جلال الدين الرومي بعد وفاة بستين سنة، زارها فقال وأتينا على مرقد شيخ عارف جليل، مُعظَّم عند هؤلاء الناس، يقرأون كلامه في مجالسهم وزواياهم وفي ليالي الجُمع، يُعرَف بمولانا، كانوا يُسمونه مولانائى روم، مولانائى روم! يُعرَف بمولانا وله قصة عجيبة، طبعاً أكذوبة كبيرة، غير صحيحة طبعاً، ولم يحكها إلا ابن بطوطة، وغير مذكورة في أي مصدر فارسي، لا ندري من أين أتى بها، تهويمات! لعله سمعها من بعض العامة ولم يُحقِّق، فذكرها على عادته، كما نسب أشياء لبعض العلماء ليست تصح إطلاقاً، رحمة الله عليه، وهو على كل رحّالة، ليس مُؤرِّخاً دقيقاً ولا مُحقِّقاً عميقاً، قال إنه كان جالساً في مجلسه – يُقال هذا ويُحكى، يُحكى أنه كان جالساً في مجلسه – فدخل عليه الشيخ وهو شمس التبريزي وعلى رأسه حلوى – كان حلونياً هذا! بائع حلويات – مُقطَّعة، فقال بكم الحلوى؟ الشيخ، قال بفلس، القطعة بفلس! قال أعطني، فأعطاه قطعة ولم يُعط غيره، فلما أكلها الشيخ ترك كل شيئ ولحق به، فغاب لسنين، يقول ابن بطوطة هذا، وهذا كلام فارغ طبعاً، غاب لأعوام ولم يعد، أي أعوام طويلة! ثم عاد يتكلَّم إلا بالشعر المعروف عندهم بالمثنوي، يتكلَّم الشعر المثنوي، بحيث لا يفهمه أحد، وهذا غير صحيح! المثنوي موجود ويُفهَم ويُشرَح وشُرِح مئات الشروح، شُرِح مئات الشروح ولا زال الشرّاح يشرحونه، طبعاً هذه خُرافة – كما قلنا – ليس لها أصل على الإطلاق.
فهاته تقريباً مُجمَل الروايات في هذا الانقلاب العظيم، أياً ما يكن القدر المُتفَق عليه أن لقاءه بشمس هذا أحدث نُقلة روحية ومسلكية هائلة في حياته، بحيث غدا إنساناً آخر، هو الذي نعرفه اليوم ويعرفه العالم بمولانا، قبل ذلك كان مُجرَّد فقيه وعالم من علماء الظاهر، مُجرَّد عالم من علماء الظاهر! أي مثل كل الفقهاء، بعد ذلك اختلف تماماً بهذا اللقاء.
انتبهوا واحذروا من بعض المُغرِضين المرضى، مثل المدعو مُصطفى غالب، هذا الرجل شيخ كبير في لبنان، أعتقد أصله لبناني لكن هو إسماعيلي، يبدو أنه إسماعيلي باطني، طبعاً له كتابات كثيرة، كتاباته بالعشرات في الفلسفة والتراجم والفرق واللاهوت، زعم في كتابه – وهو كتاب غير مُحقَّق وغير دقيق إطلاقاً، فيه أخطاء كثيرة جداً، اسمه مولانا جلال الدين الرومي – أن شمس تبريز هذا كان من أركان الإسماعيلية، ما يُسمى بالحد، كان حداً من حدود الإسماعيلية، أي كان واحداً من أكبر دُعاة الإسماعيلية، كان من طائفة الإسماعيلية الباطنية، قال هذا سر كبير، لم يعرفه إلا مولانا، وكان يعرفه شمس، وما شاء الله عرفه في القرن العشرين الذي ألَّف فيه الكتاب الدكتور مُصطفى غالب، الإسماعيلي الكبير! هذا كلام فارغ وتخليط ونوع من تنفيق بضاعته ودعوته الباطنية، غير صحيح.
طبعاً – كما قلنا – معلوماتنا عن شمس قليلة، لكن ما صح منها وما ذكره الثقات يُؤكِّد أنه كان عارفاً وكان عالماً، عكس ما أُشيع أنه كان أُمياً، لا يقرأ ولا يكتب، بل كان عالماً وعارفاً، وفي نفس الوقت كان مُتشرِّعاً مُلازِماً لرسوم وحدود شرع الله تبارك وتعالى، ومن أحسن ما يُنقَل عنه في هذا الباب أنه سُئل في مسألة الذين يُسقِطون بعض الفرائض والواجبات الشرعية بزعم أنهم وصلوا وكوشِفوا، وهذا طبعاً كل باطني وكل إسماعيلي يُؤكِّده، كل الباطنية! هذه من أركان قول الباطني، أي هذه الفكرة الزنديقة والعياذ بالله، فماذا قال شمس قدَّس الله سره؟ قال سلوا هؤلاء وقولوا لهم أعرفتم ما لم يعرفه محمد وأصحابه؟ فإن قالوا نعم فقد كفروا فاقتلوهم، أي معرفة عرفتم؟ هل عرفتم ما لم يعرفه الرسول؟ ما شاء الله! إن قالوا نعم عرفنا فهم زنادقة، قالوا كفروا فاقتلوهم، وإن قالوا لا، فهم زنادقة، يُريدون طبعاً أن يتحلَّلوا من الفرائض والعياذ بالله، زنادقة! هذه طريقة الزنادقة، مثل هذا لا يقوله إسماعيلي، انتبهوا! وهذا ثابت عنه، مثل هذا لا يقوله إسماعيلي إطلاقاً، بل لا يقوله إلا عالم مُتشرِّع ومُتحقِّق، رضوان الله تعالى عليه.
ثم إن ليس مثل هذا الإسماعيلي الضحل كما صوَّره هذا الرجل التائه مَن يُدير عقل مثل الإمام العلّامة الرومي، علّامة كبير جداً وراسخ وابن علّامة، كيف يُدير عقله في مجلس واحد؟ مُستحيل!
على كل حال بعد ذلك يُقال إنه اختلى بشمس أربعين ليلة مُتواصِلة، وهذا شيئ عجيب، لم يُدخَل إليهم لا طعام ولا شراب، وبدون أي حاجات بشرية، أربعون ليلة مُتواصِلة! وهذا أعجب شيئ، ولما خرج مولانا فعلاً خرج إنساناً مُختلِفاً بالكُلية، وجعل ينظم الشعر، المُقطَّعات والمُرجَّعات والأغزال والمثنويات طبعاً والرُباعيات، شيئ غريب! مع أن الشعر كان يُزري بالعلماء والفقهاء، وكان مُحتقَراً في بلاد الأناضول عند علماء الشريعة، وذكر هذا في المثنوي، ذكره! قال أنا هنا بين قوم لا يُحِبون ولا يُحبِّذون صناعة الشعر، ولكن ماذا أفعل؟ فحكى طبعاً شعراً معناه أنه مُذ رأى هذه الشمس اختلف حاله واشتعلت النار في هشيمه أو في حطبه، قال وتركت صناعة العقل الدقيق والكتاب والقلم والحرف، وصرت أنظم الشعر في العشق الإلهي، اختلف وضعه، غُلِب على أمره، لا يستطيع! وهو يُستشهَد في المثنوي بقول يُنسَب إلى الرسول، ليس بحديث لكن هو يظنه حديثاً، مَن عرف الحق طال لسانه، لابد وأن يتكلَّم، لا يستطيع أن يسكت، لابد – كما نقول – أن يُخفِّف عن نفسه، أن يبث! وإلا ربما قتله ما يعرفه، فيبث! لكن كيف بث؟ كيف بثه ونشره؟ هذا موضوع بل صُلب المُحاضَرة، بثه ونشره قدَّس الله سره.
وبعد ذلك توثَّقت الصلة جداً بينه وبين شيخه شمس تبريز، عشقه حتى الهُيام، لأنه دله على الله وسبر قلبه وفتح عين بصيرته، فله فضل كبير جداً عليه، عشقه حتى الهُيام، وتعلَّق به! ولأجل توثيق الرابطة زوَّجه من إحدى ربائبه، من بُنية كانت ربيبة عنده في بيته – زوَّجه منها – تُدعى بكيميا، فعلَّقها أيضاً شمس وأحبها جداً، لحُسن منبتها وحُسن تربيتها، وأعطاها غُرفةً من غُرف داره ومنزله، وهنا بدأت نار الحقد والحسد والبغضاء تشتعل في نفوس مَن؟ خاصة وتَلاميذ وطلّاب مولانا الرومي، مَن هذا الأُمي الذي جاء هكذا – سقط كما يُقال من السماء فُجاءة علينا – واختلب قلب شيخنا وعقله حتى انقطع الشيخ عن التدريس؟ ما عاد الشيخ يُدرِّس، فقط يقول الشعر، أغزال كلها وهُيام في الله – تبارك وتعالى – وفي الحق سُبحانه وتعالى، قالوا ما هذا؟ هذا خرَّب علينا كل شيئ، فكرهوه واحتقدوها عليه، احتقدوا هذه الفعلة عليها، اعتبروها فعلة مُنكَرة، ما الذي فعلته بشيخنا؟ وكان مُتواطئاً معهم ابن مولانا علاء الدين، ليس سُلطان ولد وإنما علاء الدين، الآخر كان مُتواطئاً وكان يكره شمساً، ويبدو أن شمساً أيضاً بدوره لم يكن يميل إليه، يُقال إنه مر يوماً أمام غُرفته فغضب شمس، وقال له عليك ألا تُؤذي ضيوف والدك، فاحتقدها أيضاً علاء الدين عليه، مَن هذا الرجل البليد الذي جاء عندنا ويتأمَّر علينا في بلادنا؟ لم يستوعب هذا، ولذلك للأسف بعض المُستشرِقين أيضاً قال يبدو أن الرجل كان يتميَّز بنوع من البلادة، لكن هذه ليست بلادة يا أخي، هذه سطوة سلاطين العرفان والعشق، هو يعرف نفسه ويعرف مَن هو، قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، قال توضيحاً لهذا المعنى طبعاً مولانا الرومي – قدَّس الله سره – النبي والرسول إذا بُعِث وأُمِر فإن لكلامه سُلطاناً وسطوةَ، طبعاً النبي لا يتكلَّم ككلام إنسان يُريد أن يُصلِح الناس، أي المُصلِح، لا! يتكلَّم ككلام نبي، فيأتيك من فوقية، يأتيك من علو، ويُجرِّدك أحياناً، يُثرِّب عليك، يُهجِّنك، يفضحك، يُزلزِك، يُقلقِك، يتوعَّدك، ويُنذِرك، لأنه نبي! قال وكيف لا يكون له هذا السُلطان وهذه الهيبة والسطوة وهو رسول الملك العلي؟ هو يتكلَّم باسم الله، هل ينبغي عليه حين يتكلَّم أن يترجاك؟ لا يُمكِن، هذا هو! قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، هو يُريد هذا! فإذا أردت ان تنتفع بكلام الرسول والنبي عليك أن تُواجِهه بضده، هو فيه سطوة واستعلاء، وبالتالي عليك أن تُواجِهه بماذا؟ بتسليم وذل وتطامن، أنزل رأسك! إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، لا تتفلسف، لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۩، مَن لم يتصف بهذا لن تكتحل عينه بنور الانتفاع بالنبوة، لن يستفيد بالمرة! وكذلك مع أولياء الله أيضاً، أولياء الله عندهم هذا طبعاً، الواحد منهم يتكلَّم بمدد من الله وبسُلطان، وتحس أنت أحياناً أن له هيبةً وسُلطاناً عليك، فعلاً تحس هذا، بعض الناس يشعر أمام أولياء الله أنه هو المقصود بذاته، والولي لا يقصده بذاته، يقول لك هو يقصدني تماماً، فعلاً عرَّاني هذا، فضحني وكأنه يُريدني أنا، هو لا يُريدك أنت، لكن كلامه عنده تنزلات عجيبة جداً جداً، لأن له مصدراً إلهياً، هذه ليست قلة أدب وليست وقاحة وبلادة كما يظن المُستشرِقون الأغفال، لا! هذه معاني أُخرى مُختلِفة تماماً.
المُهِم حقدوا عليه وبدأوا يكيدون له المكائد، وظهر حقدهم وكراهيتهم وتضييقهم عليه حتى اضطُر في ليلة من الليالي أن يُغادِر قونية، تركها شمس! فلما افتقده مولانا شفه الوجد، وأضناه الحنين، ولم يقر له قرار، أصبح كالعصفور فوق المقلاة، لا يذوق غمضاً ولا طعاماً ولا شراباً، يبكي ويتغزَّل ويهيم ليل نهار، حتى أشفقوا عليه، وكتب يقول بعثت إليك مائة رسالة، ورسمت لك مائة طريق، فما عاد أحد، فلعلي أخطأت الطريق ولعلك لم تقرأ الرسالة، بعد ذلك قالوا له يُقال إنه في دمشق، قال سمعت أن شمس تبريز طلعت في دمشق، أية صباحات تطلع في دمشق إذا كان في دمشق؟ أي إذا كان هناك، فأرسل إلى دمشق ابنه سُلطان ولد، وهو بهاء الدين، بهاء الدين المعروف بسُلطان ولد، وهو أنجب أولاده، وهو الوحيد الذي اشتُهِر من بين أربعتهم، الوحيد! يُقال كتب على جدار المدرسة بأمره سُلطان ولد – أي ابننا – عاش طيباً ويموت طيباً مُبارِكاً، وفعلاً هكذا كان، وهو الذي أسَّس الطريقة المولوية وركَّن أركانها بعد والده، ابنه هذا! كان يتنبأ له بهذا ويعرفه، فيه سر أبيه، الولد سر أبيه، هذا! ليس علاء الدين، وإنما هذا، أي بهاء الدين المعروف بسُلطان ولد، أرسله إلى دمشق وقال له لا تعد حتى تأتيني به إن وجدته، فذهب وتندَّس الأخبار حتى التقى بشمس، وألح عليه وتوسَّل إليه فوافق أن يعود وعاد، فلما عاد طبعاً لم تسع الدنيا مولانا من الفرح بشيخه، عاد إليه! فعاد الحاقدون وعاد الحاسدون إلى المكر من جديد، ونغَّصوا على شمس الذي يُقال إنه قال – على ذمة مَن؟ على ذمة سُلطان ولد، قال هو قال الآتي – هذه المرة سأغيب ولن أعود، سأبتعد بعيداً بعيداً، وطويلاً طويلاً، سينتظرونني – يقصد مولانا وتَلاميذه – وحين لن أعود سيقطعون الأمل مني – سييئسون – ويقولون لعله قُتِل، لعله مات، قال لن أرجع في هذه المرة، هو يعرف ماذا يقول، وهو رجل غريب طبعاً!
سُلطان ولد يحكي عن شمس التبريزي الآتي، وهذا لأول مرة يُقال في دواوين التصوف والعُرفاء، لأول مرة! تكلَّم عن مقامات جديدة، مقام العشق معروف، لكن هو تكلَّم عن مقامات جديدة، قال هناك مقام عاشق ومقام معشوق، هذا لم يُقل من قبل، لأول مرة قيل على لسان شمس تبريز، مولانا قرَّره – يبدو أنه تحقَّق منه – وقاله أيضاً على ذمة ابنه سُلطان ولد، عنده كتاب اسمه ولد نامه، أي رسالة الولد، ولد نامه! المُهِم قال مقام العاشق ثلاثة، أعلى وأوسط وأدنى، ومقام المعشوق ثلاثة، أعلى وأوسط وأدنى، فأما الحلّاج فكان في بداية مقام العاشق الأول، وأما شمس التبريزي فهو ملك سلاطين أصحاب المقام الثالث المعشوق، شيئ عجيب! أي هو شيئ كبير، هل صح هذا؟ الله أعلم.
من كلام شمس التبريزي – قدَّس الله سره – الآتي، كان يقول خططت لكم ثلاثة خطوط، خطاً أقرأه أنا وتقرأونه معي، وخطاً أقرأه أنا – أي أفهمه – ولا تقرأونه، وخطاً لا أقرأه – أي لا أفهمه – لا أنا ولا أنتم، هناك أشياء أنا حتى أحملها ولا أُطيقها، لا أفهمها! لا أفهمها ولا أعرفها، شيئ لا يُصدَّق، هذا ما يُعرَف بمقام وبطور ما وراء العقل.
من مفاهيم مولانا – قدَّس الله سره – أن الإنسان له حواساً باطنة، وحين نقول الإنسان لا نعني هذا المسلاخ الجلدي، ليس هذا الإهاب أبداً الذي يُزيَّن ويُغطى بهذه الأثواب، الإنسان هو هذه النفحة الإلهية، هذا السر الأكبر فعلاً، وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، حين نتكلَّم عن الإنسان نقصد هذا، يقول مولانا إن له حواساً باطنة، الحواس الظاهرة معها عمياء صمياء خرساء، كالبعر والحجر إلى الجوهر والدُر، لا تسوى شيئاً، الجواهر الحقيقة – قال – هي الحواس الباطنة بإذن الله تعالى، وهذه الحواس تُريد طريقها حتى تنمو، تُريد طريقها! قال لو كان أهل العقل والاستدلال والكلام يعرفون سر الدين لكان الفخر الرازي قائد رجال أسرار الله تبارك وتعالى، لكن – قال – الفخر الرازي لا يعرف شيئاً من هذه الأشياء، يبدو أنه يعرف الظاهر، الكلام الظاهر! كلام الفلسفات والحُكماء، لا يعرف هذه الأشياء، هذا كلام مولانا – قدَّس الله سره – على كل حال.
فيُقال الآن – هذا بروايات مُختلِفة – إن شمساً ذهب فعلاً ولم يعد بناءً على هذه الرواية ويُقال إنه قُتِل، العلّامة الكبيرة المرحومة آنا ماري شيمل Annemarie Schimmel – رحمة الله عليها – هي صاحبة تقريباً دراسة من أروع وأوسع وأوعب الدراسات على الإطلاق لمولانا وآثاره، عندها كتاب ضخم في ثمانمائة صفحة المعروف بالشمس المُنتصِرة، موجود بالإنجليزية وتُرجِم إلى الفارسية وتُرجِم أيضاً إلى العربية، ترجمه العلّامة الدكتور العاكوب بارك الله فيه، وطُبِع في إيران، طبعة إيرانية مُمتازة! اسمه الشمس المُنتصِرة لآنا ماري شيمل Annemarie Schimmel، آنا ماري شيمل Annemarie Schimmel عاشت مع مولانا أربعين سنة، العلّامة الكبيرة – رحمة الله عليها – التي كتبت تسعين كتاباً عن حضارة الإسلام والمُسلِمين، ما أنصفنا مُستشرِق أو مُستشرِقة مثل الدكتورة شيمل Schimmel، كتبت تسعين كتاباً! أتحدى أن يكون عالم مُسلِم أو مُفكِر مُسلِم كتب تسعين كتاباً عن حضارتنا، فعلتها الدكتورة شيمل Schimmel، كتبت تسعين كتاباً، شيئ عجيب! كانت تُجيد ثماني أو تسع لُغات شرقية إجادة تامة، كانت تقرأ الشعر بالفارسية والأوردو، شيئ عجيب! رحمة الله عليها، علّامة كبيرة جداً، قالت لما أُخرِجنا من برلين بعد هزيمة النازي في سنة خمس وأربعين أخذت طبعاً حاجات أو حوائج قليلة جداً، لأنهم أُخرِجوا إلى مُعسكَر الاعتقال ومُخيم التركيز، قالت من ضمن ما حرصت على أخذه معي مثنوي مولانا الرومي، أهم شيئ أن آخذ معي هذا، قالت عايشته أربعين سنة، وأنا مسرورة بهذا، لأن الصوفية يقولون العارف لا يُولَد والسالك لا يصل ولا يتصل إلا بعد أربعين، لا تنضج إلا في أربعين، تحتاج إلى أربعين كاملة! قالت أنا عايشته أيضاً أربعين سنة، وارتأت – رحمة الله عليها – أن تذهب إلى أنقرة، أقامت في أنقرة خمس سنوات، كانت تُلِم فيها بين الفينة والأُخرى بقونية حيث تعيش في حضرة مولانا، تُريد أن تعيش منه بالقُرب وأن تتعطَّر من أنفاسه، أي الدكتورة شيمل Schimmel! ليست للأسف كالعرب الذين لم يسمع بعضهم بمولانا إلى اليوم حتى ولم يقرأ له حرفاً أو صفحةً للأسف.
على كل حال نعود إلى ما كنا فيه، فيُقال إنه قُتِل بمُؤامَرة دبَّرها بعد تَلامذة مولانا، ويُقال كان مُتواطئاً معهم فيها ابنه علاء الدين والعياذ بالله، تقول الرواية التي رجَّحتها العلّامة شيمل Schimmel – يُمكِن إعادة بنائها وتركيبها على هذا النحو – كان شمس – قدَّس الله سره – مع مولانا في الحجرة في خلوتهما حتى انتصف الليل، فجاء أحدهم وطرق الباب واستأذن من شمس أنه يُريده في شأن من الشؤون، فخرج! فلما خرج أُخِذ وراء الحجرة ثم طُعِن بالسكين، قُتِل على الفور ورُميت جُثته في بئر، علماً بأنها موجودة إلى اليوم عند مرقد مولانا، كما هي البئر، نفس البئر هذه! رُميت هناك وعلم سُلطان ولد طبعاً في نفس الساعة بالجريمة النكراء، فعمل على إخراج الجُثة، واحتُفِر قبراً سريعاً، مع العلم بأن هذا القبر موجود إلى اليوم، احتُفِر قبراً سريعاً فدُفِن ثم وُضِع عليه الجص ثم وُريَ بالتراب، ولم يعد! وأُفِهم مولانا الرومي أنه خرج أيضاً ربما هارباً أو مُسافِراً أو مُريداً للتغيب ولم يعد! هناك أبيات لمولانا الرومي تُشعِر بأنه ربما بالحدس الباطني أو بالكشف الإلهي كان يعرف أنه قُتِل، كان يذكر أن هذه التربة تربة المعشوق والحبيب المُبلَّلة لا بالدمع فقط بل بالدم، كان يقول هذا، أحس بهذا! أي بأنه قُتِل، عنده أشعار – بعض الأشعار – تُؤكِّد إحساسه الباطني بمقتل شيخه، تقول الدكتورة شيمل Schimmel – رحمها الله – يبدو أن هذه الرواية تأكَّدت بعد الحفريات والدراسات الأخيرة – هذه كانت في الستينيات – التي قام بها العالم محمد أوندر – الدكتور محمد أوندر التركي – مُدير متحف مولانا في قونية، مُدير المتحف! قام بها هناك وفعلاً وجدوا في هذا المكان قبراً كبيراً وفيه بقايا لمقبور، في نفس المكان! وغير معروف أنه قُبِر هناك رجل أو امرأة من أهل مولانا ومن خاصته، لم يكن هذا معروفاً، هذا القبر كان مخفياً، فيبدو أن هذا هو القبر وهذا المكان الذي قُتِل فيه شمس التبريزي.
طبعاً تُحكى بعض الحكايا – الله أعلم – وهي أقرب إلى الخُرافة في مقتله، أنه حين طُعِن بالسكين صرخ صرخة، فأُغميَ على كل مَن كان موجوداً، يُقال كان زُهاء عشرين، أُغميَ عليهم جميعاً، ثم لما استفاقوا لما يجدوه، ووجدوا قطرات دم فقط، واختفى! هذه أقرب إلى الخُرافة، الله أعلم! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۩، فهو ليس عصياً وليس مُستحيلاً على الموت، فالأرجح كما تقول الدكتورة شيمل Schimmel أنه مات مقتولاً، قدَّس الله سره.
لكن ظل مولانا تقريباً سنتين كاملتين – من خمس وأربعين إلى سبع وأربعين – وهو يبحث عنه ويُرسِل الرُسل ويُخطِر ويطلب ويُنشِد الأشعار والغزليات والتأوهات والترجيعات، ولكن ما من مُجيب وما من رجعة، حتى إذا استشعر أو أشعر نفسه اليأس منه – قطع الأمل فيه كما يُقال – شعر بتوحده معه، وذكر هذا شعراً، أنه شعر بأن شمساً في نفسه، في ذاته! طلعت عليه الشمس من الباطن، وفعلاً بدأ حتى عنده الآن المقام يختلف.
هناك في اللُغة الصوفية ما يُعرَف بقوس النزول، يبدأ الإنسان تَلميذاً، ويتوسَّط واصلاً، ثم ينتهي مُرشِداً، يُعرَف هذا عند الصوفية بماذا؟ بقوس النزول، هذا القوس صعد فيه مولانا فعلاً.
في المرحلة الوسيطة الآن يتعرَّف مولانا على رجل صائغ من صاغة قونية، أُمي فعلاً، لا يفك الخط، اسمه صلاح الدين زركوب، رحمة الله عليه رحمة واسعة، صلاح الدين زركوب كان من تَلاميذ السيد برهان الدين مُحقِّق الترمذي، تَلميذ سُلطان العلماء وأستاذ أيضاً مولانا الرومي، كان من تَلاميذه! حين كان مولانا الرومي يتتلمذ عليه كان هو أيضاً يتتلمذ عليه، وشعر باستلطاف وبتعطف وبمحبة نحو مولانا، وفقط هذه العلاقة كانت هكذا، لما تُوفيَ برهان الدين مُحقِّق طبعاً في سنة ستمائة وثماني وثلاثين وحصل ما حصل من نبأ شمس الآن يُقال إنه – ويُقال قبل ذلك، قبل حتى أن تغيب شمس شمس التبريزي – دخل مرة إلى مسجد – جامع – ليُصلي الجُمعة، أي صلاح الدين زركوب الصائغ، وكان على المنبر الشيخ الرومي قدَّس الله سره، وهو يُقرِّب بعض المعارف والحقائق بطريقة عجيبة عميقة، فأخذه حال الرجل، وقام يصرخ أمام الناس وأكب على قدم مولانا يُقبِّلها ويبكي، ثم اتخذه شيخاً بعد ذلك، وجده يُقرِّب حقائق بطريقة عالية جداً جداً، ذكَّرته بشيخه وربما فاق فيها شيخ الاثنين، وأصبح من خاصته.
الغريب أن مولانا اتخذه الآن أخص إخوانه وخلصانه وأحبابه، أي صلاح الدين زركوب، مع أنه أُمي وصائغ، مما أثار أيضاً حسد الحاسدين وبُغض المُبغِضين، كيف هذا؟ هذا إنسان أُمي، لماذا هو؟ لماذا لسنا نحن؟ قال لا، هذا شيخكم، طبعاً طريقة مولانا في الإرشاد ليست كطريقة المشايخ المعروفين في الصوفية، لماذا؟ لأنه لم يكن مُتفرِّغاً، هو عنده أحوال ومُنازَلات ومواجيد وأشياء، لا يستطيع أن يكون مثلهم، إنما يُفرِّغ أصلح مَن يراه مِن تَلاميذه ويجعله شيخاً، هو الذي يقوم بالتسليك، أول هؤلاء الأشياخ هو الشيخ صلاح الدين زركوب، قال لهم هذا شيخكم وإمامكم ومُرشِدكم بأمري أنا، اسمعوا له وأطيعوا، مَن الذي انصاع وخشع وتطامن؟ ابنه سُلطان ولد، وأيضاً طائفة من تَلاميذه، وبعضهم تأبى وعصى، قالوا لا، هذا لا نُريده، وبدأوا طبعاً يُشوِّشون، ومولانا لا يلتفت إليهم، ووطَّد العلاقة معه بأن زوَّج ابنه سُلطان ولد من ابنة صلاح الدين زركوب وهي فاطمة خاتون كما تُدعى أيضاً، فاطمة خاتون! زوَّجه بها حتى تقوى العلاقة.
بعد زُهاء عشر سنوات تُوفيَ صلاح الدين زركوب، مرض مرضاً أشفق عليه مولانا منه جداً، وكان يبكي! فاستأذنه وأن يرضى بأن يلتحق هذا الطائر بالملأ الأعلى، قال له أنا أُريد منك أن ترضى، أعرب عن الرضا لله – عز وجل – بأنك تسمح بأن أنتهي، مولانا قال إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، شيئ صعب هذا! قال له أنا أُحِبك جداً، وكانت وصيته – رحمة الله عليه – ألا يكون هناك أي علامة خاصة في قبره، يُدفَن كما يُدفَن أي إنسان عادي، وألا يُقبَل فيه العزاء، هكذا أوصى! قال العزاء لا يُقبَل في، قال لماذا؟ قال لأنني الآن أتصل وأنا الآن سعيد غير محزون، أنا كنت في دار الحزن والبلاء، الآن الأمر اختلف، بالعكس! إذا لابد من وجود شيئ فليكن الفرح والاحتفال، لا يكون العزاء، العزاء لا يكون في إن شاء الله تعالى، رجل صادق! رحمة الله عليه، فالمُهِم أثَّرت وفاته في مولانا جداً، كان مُصاباً جديداً أُضيف إلى مُصابه في أحبابه.
بعده اكتمل قوس النزول مع مَن؟ مع أخص تَلاميذه بعد الشيخ صلاح الدين المعروف بحسام الدين چلبی، تُكتَب طبعاً كلمة چلبی بالفارسية من خلال هذا الحرف: چ، أي الجيم التي تحتها ثلاث نقاط، وتُلفَظ هذه الـ چ: تش، أي تُلفَظ تشلبى، ليست شلبي وليست جلبي، وإنما تشلبى، اسمه حسام الدين چلبی، رحمة الله عليه، هذا الآن كان أخص تَلاميذ مولانا، كان مُتعلِّماً وكان عالماً مُحقِّقاً أيضاً وكان عارفاً بالله، يُلقِّبه مولانا بجُنيد الزمان وبايزيد العصر، سوف تجدون إذا قرأتم مُقدِّمة المثنوي أو الجُزء الأول أنه يمدحه مدائح عجيبة جداً، كأنه هو أستاذه وشيخه ومُربيه، وكأن مولانا هو التَلميذ، وهذا من الوفاء والتواضع، شيئ عجيب! يندر أن نجد أستاذاً يمدح تَلميذه بهذه الطريقة، كأنه يتحدَّث عن شيخه، وهو يتحدَّث عن تَلميذ من تَلاميذه.
وكان مولانا على طريقته وسُنته في الزُهد – اقتربنا الآن من نهاية سيرة مولانا إن شاء الله تعالى، وسنأتي إلى الجُزء الذي هو أكثر طرافة وظرافة إن شاء الله، أشعاره وقصصه وحكاياه وإشاراته، هذا طبعاً أكثر طرافة بكثير إن شاء الله تعالى، لكن لابد أن نعرف أيضاً وأن نُلِم بطرف من حياته بشكل دقيق وعلمي – كلما جاءه شيئاً من الغيب – أي من فضل الله عز وجل – يُرسِل به إلى حسام چلبی، كل شيئ! كل شيئ يأتيه من الملوك، من السلاطين، من العلماء، ومن غيرهم يُرسِل به، وذات مرة جاءه من أحد الأمراء سبعون ألف درهم سُلطاني، مبلغ هائل جداً جداً! مولانا زاهد، رجل زاهد! غير مُتعلِّق بشيئ من الدنيا، وهو الذي حكى في المثنوي الحكاية المشهورة لدى الصوفية، حكاية مُقترَحة طبعاً! عيسى – عليه السلام – لماذا لم يكن في الحضرة العُليا وأُنزِل إلى السماء الرابعة؟ الصوفية يقولون لأن عيسى حين غاب غاب ومعه إبرة، أي تعلَّق من الدنيا بإبرة، فهذه الإبرة قدحت في فقره، الفقر الحقيقي يكون بألا تتعلَّق بأي شيئ ولو بقشة، يقول الصوفية هذه القصة وذكرها مولانا، الذي يذكر هذا لا يتعلَّق بشيئ فعلاً، قدَّس الله سره، هذا كلام الصوفية طبعاً، هذه حكايات مُؤلَّفة ورمزية، فمولانا أتاه سبعون ألف درهم سُلطاني، فقال تُرسَل إلى حسام الدين چلبی، فكأن ابنه سُلطان ولد امتعض، قال يا أبتِ كلما جاء شيئ يُرسَل إلى حسام الدين، وليس في البيت ثمة شيئ، ليس عندنا أي شيئ، ليس عندنا رغيف خُبز، وهذه سبعون ألف درهم تُرسَل إلى حسام الدين چلبی، قال والله، بالله، تالله – وهو كثيراً ما يحلف بهذه الطريقة، علماً بأن هذه طريقة الأتراك إلى اليوم، لكن في كُتبه وفي رسائله كثيراً ما يقول والله، بالله، تالله -، أُقسِم بجلال الحق – يقول قدَّس الله سره، والله، بالله، تالله، أُقسِم بجلال الحق – لو جاءنا آلاف آلاف أضعاف هذا ولو تعرَّض إلى الهلاك جوعاً ألف ألف عارف وواصل ورجل من أولياء الله لبعثنا به إلى حسام الدين چلبی، عنده مواقف عجيبة وأشياء غير مفهومة، لماذا؟ ما السر فيها؟ لكن طبعاً فيها زُهد رهيب جداً جداً، فيها فناء عن هذه الدنيا، قال لبعثنا به إلى حسام الدين چلبی، فسكت ابنه ولم يتكلَّم، إلى هذه الدرجة كان يُحِب هذا الرجل ويوده، رحمة الله تعالى عليهما.
هذا الرجل له فضل على الدنيا كلها، لماذا؟ لأنه هو الذي جاء في يوم رباني مُستنير وأشار على مولانا بالآتي، فكأنه ألهمه وأوحى عليه، قال له مولانا تَلاميذك وطلّاب الحق والسائرون يقرأون حديقة الحقيقة للسنائي الغزنوي، ويقرأون منطق الطير وكُتب العطّار، فلو أنك كتبت لنا شيئاً نقرأه نحن، أنت شيخنا أيضاً، وأنت شيخ عارف وكبير، لماذا لا تكتب شيئاً؟ فعلى الفور – في الوقت – أخرج له من تلافيف عمامته لفافة، فإذا فيها الثمانية العشر من الأبيات التمهيدية التي افتتح بها بعد المُقدِّمة الجُزء الأول من مثنويه المعنوي المعروفة بحكاية الناي أو قصة الناي، وهي من أروع الشعر في العالم كله، هذه دغدغت أحلام الشعراء، سنذكرها إن شاء الله، وهي الشيئ الوحيد الذي كُتِب من المثنوي المعنوي بخط مولانا قدَّس الله سره، فقط هذه الأبيات الثمانية العشر، فقط هذه هي! الباقي كله كُتِب بخط تَلاميذه وخاصة حسام الدين چلبی، قال له هذه البداية ونكتفي اليوم، الليل مضى، وحديث وجدي ما انقضى، والعمر قد بلغ المدى، فاقنع بذا، هذا فيه مقنع الليلة، نكتفي به، هذه هي البداية، شيئ عجيب! وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۩، فكأنه كُوشِف في سره بما سيطلبه تَلميذه، قال له هذه هي، وفعلاً هذه البداية، وهي أروع بداية، أنا حين كنت صغيراً وقرأت المثنوي أو قرأت في المثنوي في الحقيقة أيامها فعلاً أكثر ما شدني بدايته، حكاية الناي هذه تشد كل مَن يقرأها، شيئ غريب! استهلال غير طبيعي، سنحكيها – إن شاء الله – في إبانها بإذن الله تعالى.
وبعد ذلك كان مولانا يقول هذا الشعر كثيراً، طبعاً ما معنى المثنوي؟ المثنوي هو ضرب من الشعر الفارسي، معروف قبل مولانا طبعاً، الآن إذا قيل ينصرف تقريباً إليه، لا يكاد ينصرف إلا إليه، لكن هذا معروف قبله، كتب فيه العطّار، كتب فيه السنائي، كتب فيه الفردوسي، كتب فيه نظامي، أي نظامي الكنجوي، كتب كل هؤلاء المثنوي، المثنوي هو ضرب من الشعر الفارسي يا إخواني وأخواتي، تتوحَّد فيه قافية العجز والصدر، أما بعد ذلك فالقصيدة خالية من وحدة القافية، تتحرَّر من وحدة القافية! كل بيت له قافية خاصة، تتوحَّد فيها شطراه، لكن يختلف البيت عن الآخر، فتتحرَّر القصيدة من وحدة القافية، هذا يُعرَف بالمثنوي، يُعرَف في الأدب العربي بالنظم المُزدوَج، فنحن عندنا مثل هذا ويُسمونه النظم المُزدوَج، هذا في كل بيت، نفس القافية! لكن روي القصيدة ليس واحداً، روي القصيدة ليس واحداً، فهذا معنى كلمة المثنوي، هذا هو المثنوي!
فبدأ في المثنوي، وفعلاً أتم الجُزء الأول، يُقال في زُهاء سنتين، تقريباً هذا الرقم الدقيق، ثم بعد ذلك توقَّف سنتين، لماذا؟ ماتت زوج حسام الدين چلبی، تُوفيت – رحمة الله عليه – فتعكَّر خاطره وتشوَّش حاله، ولم يجد مولانا لبضاعته سوقاً ولا مُشترياً، فانقبض حاله أيضاً، مما يُنسَب إلى السنائي الغزنوي – قدَّس الله سره – أنه يقول لولا روحك لما كان لي لسان، لولا لسانك لما كان لي روحي أذن، فالكلام أيضاً يحتاج إلى مَن يأخذه ويتلقاه، لكن لكي تكون مُتكلِّماً لابد أن يكون لك أيضاً روح يقظة.
المُهِم بعد ذلك استأنف أيضاً المثنوي مع تَلميذه حسام الدين چلبی، حتى أتم الجُزء السادس منه قبل وفاته، هو لم يظل حتى وفاته تماماً، لا! قبل أن يتوفى توقَّف عند السادس وكأنه وعد بأن يُكمِله لكنه لم يفعل، علماً بأن السادس مقطوع، فيه حكاية لم تكمل أو لم تكتمل، وتوقَّف! طبعاً يُنسَب إليه الجُزء السابع، وهذا غير صحيح، نسبته غير مُسلَّمة، بل لا يكاد يقوم برهان واحد على نسبته إليه، وسنذكر هذا عند الكلام على آثاره – إن شاء الله – ربما في آخر المُحاضَرة، الأجزاء الصحيحة هي ستة أجزاء من المثنوي، بحمد الله – تبارك وتعالى – طبعاً تُرجِم المثنوي المعنوي لمولانا لأول مرة كاملاً إلى العربية، بجهود الأكاديمي والعلّامة المصري الكبير الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة، هو أول واحد يُكمِل الترجمة، طبعاً قبله أستاذه أيضاً العلّامة الكبير الدكتور محمد عبد السلام كفافي، ترجم أول ثلاثة أجزاء، أعتقد أنه طبع أول جُزئين، مطبوع الآن جُزءان لكن هو ترجم ثلاثة، هو طبع جُزئين لكنه لم يُكمِل، توقَّف واخترمته المنية، رحمة الله عليه، كان علّاماً كبيراً، لكنه ترجم النُسخة الإنجليزية، الدكتور شتا يُجوِّد الفارسية، ويُجوِّدها أيضاً الدكتور كفافي، لكن هو ترجم نُسخة نيكلسون Nicholson، أي رينولد نيكلسون Reynold Nicholson، سنعود فيما بعد إلى هذا عند الآثار إن شاء الله، وهكذا اكتمل الجُزء السادس من المثنوي في حياة مولانا وقبل وفاته.
في آخر حياة مولانا – رحمة الله تعالى عليه – أصابته علة، لم يُعرَف لها سبب، مع أن طبيبه كان طبيباً مشهوراً جداً، أحد شرّاح قانون ابن سينا، قانون ابن سينا في الطب! لكنه لم يعرف لها سبباً، ولم تكد تُزايله الحُمى في ليله ونهاره، فخاف الناس عليه، حتى جاء إليه الصدر القونوي، أي صدر الدين القونوي، وهو طبعاً عارف كبير وعلّامة شهير جداً، وهو القائم بعلم الشيخ مُحي الدين بن عربي، وأشهر تَلامذته، هذا الصدر القونوي، وهو من قونية، لماذا؟ لأن كانت هناك علاقة خاصة بينهما، لأن الشيخ الأكبر تزوَّج أم صدر الدين القونوي، كان زوج أمه! وصدر الدين تربى في حجره، كان ربيبه، فقام بعلومه، وهو عالم كبير وله مُؤلَّفات كبيرة جداً، أنا قرأت له قديماً كتاباً في تفسير الفاتحة في مُجلَّد كبير على طريقة العُرفاء، مطبوع هذا التفسير، الصدر القونوي جاء إليه، ورغم اختلاف وجهة كل مُنهما إلا أنه كان يُجِل مولانا ويُحِبه تماماً، ورُغم أنه يُنكِر – أي مولانا – على الشيخ مُحي أحياناً لكن هذا لم يُوحِش بينهما، جاء إليه وبكى وقال أسال الله – تبارك وتعالى – أن يُسبِغ عليك ثوب الصحة والعافية، فإنك روح العالم، قال لا تقل هذا، وقال له شعراً أفهمه فيه أنه مُشتاق إلى أن يلتحق بالملأ الأعلى، لا يُريد البقاء، دخلت امرأته وقالت لو سألت الله فأنا أسأله – تقول هذا لمولانا طبعاً، هذه زوجته – أن تُعمَّر أربعمائة سنة، قال لا تقولي هذا، فرعون ترينني؟! نمروذاً ترينني؟! أمثال هؤلاء عُمِّروا أربعمائة سنة، ما هذا الدعاء؟ وأخبرها أيضاً أنه يود أن يترحَّل، ثم قال شعراً نقله أيضاً عنه ابنه سُلطان ولد، ذكر فيه أن وجهه بدا أصفر، وهو كان أصفر الوجه من شدة الضعف وكثرة الصيام، كان لا يأكل إلا قليلاً، ويصوم كثيراً جداً جداً، ولا يكاد ينام بالليل، يقضي الليل في صلاة، قال تَلميذه سبهسالار Sipehsâlâr – فريدون سبهسالار Ferîdûn Sipehsâlâr الذي تتلمذ له سنوات طويلة – كم من مرة رأيته بعد العشاء يدخل المسجد ليُصلي فيقضي الليل كله في ركعة واحدة! قال مرات كثيرة في حياتي، حتى أنه ذكر مرة قصة مُؤثِّرة، قال في ليلة شتوية باردة – طبعاً شتاء قونية قارس جداً جداً، قونية في الجنوب، في جنوب تركيا! شتاؤها قارس جداً جداً، زمهرير وبرد شديد مُؤذٍ – دخل وكان في السجود، وظل ساجداً يبكي، حتى تجمَّدت وتجلَّدت دموعه على وجنتيه، والتصقت لحيته بالأرض، تجمَّد! الدموع صارت ثلجاً، قال فاضطررنا في الصباح أن نأتي بالماء المُسخَّن لكي نضعه على لحيته حتى نفكها، في سجدة واحدة! قدَّس الله سره، فعلاً هذه سجدة العاشق يا أخي، هذه هي! حين تُفكِّر فيها تجد صعوبة، وطبعاً أنا أعرف أن هذا صعب جداً على أي واحد فينا، كيف؟ كيف تقضي ليلة في سجدة – مثلاً – أو ليلة في قيام؟ طبعاً حين تكون عاشقاً تفعل، ولذلك حتى هؤلاء الأكابر يقولون أكثر ما يُهِمنا – ما هو؟ – طلوع الفجر، عندهم الحزن يأتي حين يطلع الفجر، لا يُريدون هذا، ويقضون الليلة كلها في سجدة أو في ركعة أو في تسبيح أو في تهليل، شيئ غريب جداً! سنشرح هذا – إن شاء الله – من خلال أشعار مولانا، وإن شاء الله سنفهم لماذا وكيف يصل الإنسان إلى هذه الحالة، اللهم أوصلنا كما أوصلتهم وأشهدنا كما أشهدتهم، هذا هو العرفان، هذا هو! هذه هي العبادة، هذا هو التدين، ليس التدين بالكلام والشقاشق كالذي نفعل ونُدمِن والعياذ بالله.
المُهِم كان أصفر ناحلاً ذابلاً، لكن فيه نور إلهي، يقول مُترجِموه لا يستطيع امرؤ أن يُحدِّق في عينيه، فإن له عينين أخّاذتين جذّابتين مُنيرتين، فيهما سر إلهي، لا تستطيع أن تُحدِّق في وجهه، مع أنه ضعيف ونحيل، رحمة الله عليه، كان يقول الجسد لُقمة القبر فاجعلوه نحيفاً، هو سوف يأكلك، فلماذا تذهب سميناً إليه؟ اذهب ضعيفاً، فهذا أحسن لك، الجسد لُقمة القبر! وتنبأ بوفاته قبل أيام وليال، قال الأرض الآن جوعى، وعما قريب ستلتقم لُقمةً دسمةً، ثم يهدأ اضطرابها، فتُوفيَ بعد أيام، عرف أنه لقمة الأرض هذه، الأرض تُريده، يُوجَد اضطراب يحس به ولا يحس به الناس، يحس بأن هناك اضطراباً في الكون فعلاً، قال الأرض الآن جوعى، وعما قريب ستلتقم لُقمةً دسمةً، ثم يهدأ اضطرابها، فكانت وفاته قدَّس الله سره الكريم.
فتُوفيَ – رحمة الله عليه – في سنة ثنتين وسبعين وستمائة، أي في ستمائة وأربع ميلاده وفي ستمائة وثنتين وسبعين وفاته، قدَّس الله سره، أي قريب من سبعين سنة أو أقل من ذلك، عُمِّر ثماني وستين سنة، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
طبعاً ضجت قونية عن آخرها، سُلطانها، أمراؤها، كبراؤها، وصغراؤها، كل الناس! وأصبحوا في مُصاب عظيم، يهودها ومسيحيوها ومُسلِموها خرجوا، خرج اليهود بتوراتهم، والمسيحيون بأناجيلهم، والمُسلِمون بمصاحفهم، الكل يبكي ويقرأ من كتابه، الكل! اليهود والمسيحيون والمُسلِمون، وكانوا يُعظِّمونه جداً ويُحِبونه، من شدة تواضعه وتألهه، وكان يقول بالتواضع المُحمَّدي والفقر الأحمدي – هذا بمعنى الكلام – ننشر ونبسط بساط هذا الدين، سمع به أحد رهبان القسطنطينية الكبار، وطبعاً في تلك الأيام لم تكن القسطنطينية قد فُتِحت، لم تكن حينها مفتوحة، زمن بعيد! سمع هذا الراهب القسطنطيني بهذا الإنسان العظيم فأحب أن يزوره، فجاء إلى هناك، فلما سمع به رهبان وقساوسة قونية خرجوا لاستقباله، فقال أُريد زيارة مولانا، فسُبحان الله اتفق بتقدير الله أن رآه في الشارع عن غير أيضاً ترتيب، فقيل هذا مولانا، فانحنى له الراهب، فلما رفع رأسه وجد مولانا مُنحنياً له، فانحنى له مرة أُخرى ثم رفع رأسه فوجده مُنحنياً، ففعلها ثلاثين مرة، يُقال وفي كل مرة يجد مولانا مُنحنياً له، فضج الرجل وخرج من ثوبه، قال الله أكبر، قال ما هذا التواضع؟ أهذا لمسكين ذليل مثلي؟ مَن أنا؟ هذا معروف، هذا مولانا، هذا يعرفه كل الناس، مَن أنا؟ أنا راهب مسكين، قال له ولماذا لا أتواضع؟ لماذا لا أتواضع؟ ومَن أنا؟ وإذا لم أتواضع فمَن أنا؟ أصلح لمَن؟ وأصلح لماذا؟ فتأثَّر الرجل جداً، وذهب معه وأعلن إسلامه، أسلم! ففرح به تَلاميذ مولانا جداً، هذا راهب قسطنطيني، فقال لهم هذا بالتواضع المُحمَّدي والفقر الأحمدي، هكذا الدين! بالتواضع وبالتألف، ليس بالاستكبار والأستذة والعالمية على الناس، لا! بالتواضع، كُن مُتواضِعاً، طريق الحُب وطريق التذلل، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۩، لذلك كان يُلقِّبه الصدر القونوي بقهرمان الفقر المُحمَّدي، هذا لقبه! القونوي لقَّبه بقهرمان الفقر المُحمَّدي، لفظ قهرمان طبعاً فارسي مُعرَّب، يُقال قَهرمان وقُهرمان، القَهرمان أو القُهرمان هو ماذا؟ هو وكيل الملك وخازنه ومُدبِّر أموره، مُدبِّر دخل وخرج الملك، أي الذي يُدبِّر له أموره يُسمونه القهرمان، فلقَّبه القونوي – رحمة الله عليه – بقهرمان الفقر المُحمَّدي، وسوف نرى كيف كان كلام مولانا في الفقر.
كان شديد التواضع، لذلك أحبه الناس، عشقه الناس! كان مرةً يمشي في شارع فجاء إليه الأطفال، قالوا مولانا مولانا، جاءوا جميعاً وأحاطوا به واكتنفوه، فجعل يُقبِّلهم ويدعو لهم، إلا واحداً منهم قال يا مولانا، أنا في عمل – كان يلعب، يقوم بعمل لعبة – فانتظرني حتى أفرغ لأُحييك، قال له نعم، وبقيَ ينتظره، حتى إذا فرغ الولد جاءه وتقبَّل تحيته وقبَّله ودعا له، شيئ عجيب! فعلاً يُذكِّرك بالتواضع المُحمَّدي، النبي كان كذلك، النبي هو الذي علَّمنا هذا، وكان يفعل هذا مع الصبيان والغلمان في الشوارع، هذا هو التواضع، مُتواضِع للجميع! لتَلاميذه، للمُسلِم، ولغير المُسلِم، مُتواضِع لكل الناس,
يقول أحد تَلاميذه كنا نمشي معه في طريق فرأى كلباً نائماً والطريق ضيقة جداً، فوقف ولم يُرِد أن يُزعِجه، وظل واقفاً بلا حركة حتى قام الكلب أو استفاق ومضى لسبيله فمضى مولانا، ربانية! كان في حال ربانية عجيبة جداً جداً وواسعة، حال واسعة!
مر باثنين يستبان، يقول أحدهما لأخيه لئن قلت لي واحدة لأردن عليك عشرة، قال دونكما نفسي، أي خُذاني أنا وقوما بسبي، لئن قلتما لي ألفاً لا أقول لكما شيئاً، فجعلا يبكيان وتصالحا واعتنقا، الاثنان مُباشَرةً! أصلح بينهما بهذا الموقف، مَن نحن؟ مولانا فعل هذا، مولانا معروف في العلم وفي الحياء، قال لهما دونكما نفسي، لئن قلتما لي ألفاً لا أقول لكما شيئاً، قوما بسبي ألف مرة ولن أتكلَّم، فاصطلحا مُباشَرةً، هكذا تكون التربية، تربية حقيقية، تربية مُحمَّدية مُصطفوية، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
اللهم صل على سيدنا محمد، لما قال له صدر الدين القونوي فإنك روح العالم قال له ما بقيَ إلا أن يتصل النور بالنور، اقتربت محلة العاشق من محلة المعشوق، أفلا تُريد لي؟ ثم قال شعراً عربياً: عُريت لكم عن جرم جسمي لما تعرى عن الخيال، فها أنا اليوم في سرور وأوج أُنس من الوصال، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فبكى الشيخ القونوي وأصحابه، وأنشد حضرة مولانا أيضاً أتعرف أي مليك هو جليس في الباطن؟ أي لي، مَن جليسي في الباطن؟ فلا تنظر إلى وجهي الأصفر – لأنه كان أصفر الوجه ومُذبَلاً، أي ذابلاً -، فإن لي قدماً حديدية، علَّق بهذا! كان يقول تخل عن مركوب البدن يخلق لك الله جناحين ملائكيين، تخل فقط! فكان يقول فإن لي قدماً حديدية.
أيضاً كان من شعره ما كتبه ليُرثى به بعد وفاته، فرثى نفسه قبل أن يموت، وهذه طبعاً ترجمة عربية، لكن طبعاً هذا الرجل عجيب، أنا مُتأكِّد طبعاً أن ترجمة شعره صعبة، مثل كل شعر! أصعب الترجمات هي ترجمة الشعر، لكن كيف يُؤثِّر شعره مع أنه يُترجَم ترجمة – طبعاً أنا أحس أنها ركيكة – ليس فيها لا قافية ولا روي ولا أي شيئ؟ يا ليت مد الله في فُسحة المرحوم العلّامة المصري عبد الوهّاب عزّام وترجم لنا آثار مولانا! عبد الوهاب عزّام وأحمد رامي في نظري وبحسب قراءاتي المُتواضَعة – هما أروع مَن ترجم الشعر، أحمد رامي هو مَن ترجم رُباعيات الخيام، وأنا عندي أكثر من ترجمة، كلام فارغ! أحمد رامي شيئ مُختلِف، نسيج وحده، سُبحان الله يا أخي، خيام العرب فعلاً، ما شاء الله! كأنه هو نفسه خيام ثانٍ، أخذ المعنى فقط وصاغ اللباس أو اللبوس، شيئ عجيب! ترجمة أحمد رامي – رحمة الله عليه – تُغنيها أم كلثوم، وأيضاً عبد الوهّاب عزّام رحمة الله عليه، العلّامة المصري الكبير! عبد الوهّاب عزّام ترجم مقطوعات لمولانا من أروع ما يكون، سأذكر لكم كيف ترجم حكاية الناي، هذه القصة أو الحكاية سنذكرها، وترجم أيضاً تقريباً مُعظَم دواوين محمد إقبال، من أروع ما يكون، ترجمات عجيبة، شعر مُقفى وموزون، شيئ عجيب! والمثنوي يُترجَم بطريقة المثنوي طبعاً، لكن للأسف مَن جاء بعد عزّام وبعد رامي يُترجِمون ترجمة نثرية، لكن أحياناً يُدهِشك ويجذبك ويختلبك المعنى، له خلابة غريبة، المعنى! وهنا روعة الشاعر، أن يكون المعنى عميقاً، فمهما عرَّيت اللبوس يبقى الشيئ أيضاً رائعاً، فكيف به وهو في لباسه الفارسي مثلاً؟ من أروع ما يكون يا إخواني، لذلك فعلاً الفرس مُختلَبون به ومُتيَّمون به، لكن نحن نقرأ فقط الكلام النثري، هذا كلام نثري!
يوم وفاتي عندما يكون تابوتي مُنطلِقًاً، لا تظن أنني مُتألِّمٌ من أجل هذه الدنيا، لا تبكِ عليّ ولا تقُل وا أسفاه وا أسفاه! تقع في حبائل الشيطان حين يأتي منك هذا التأسف، وعندما ترى جنازتي لا تقل: فراقٌ، فراق، فذلك الزمان هو زمانُ الوصال واللقاء عندي، قال عندك فراق لكن عندي، هو سعيد به! وإذا ما أودعتني القبر، فلا تقل وداعًا وداعاً، وذلك لأن القبر سرٌّ لاجتماع الجنان، إذا رأيت النزول فانظر إلى الصعود، وهذا جُزء من فلسفته الروحية! فلماذا يكون الغروب إيذاءً للشمس والقمر؟! ستغرب لكي تُشرِق من جديد، وهذا هو الإنسان! سيغرب لكي تُشرِق شمسه من جديد، وأيّة بذرة دُفنت في الأرض ولم تنمُ؟! فلماذا يكون لديك هذا التشكيك في بذرة الإنسان؟ أنت ترى – قال – في الحالة العادية أن كل بذرة تُوضَع في الأرض تنمو، أليس كذلك؟ نحن أيضاً بذار، وإذا وُضِعنا فلابد وأن ننمو، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ۩، يتراءى لك أنني دُفنت في التراب، إن تحت قدمي هاتين هذه السماوات السبع.
يعرف مقامه عند الله، يعرف ما له عند الله، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وهكذا أُخرِجت جنازته بعد الفجر، ولم تُدفَن إلا عند المغرب – والمكان قريب جداً جداً – من كثرة الناس، وتدخَّلت الشرطة ورجال الأمن في وقتهم، يُبعِدون الناس بالأشياء وبالعصي لكن لا فائدة، كل الناس اجتمعوا! كما قلنا مُسلِمون ويهود ونصارى، ومجوس أيضاً، الكل اجتمع حتى المغرب، وطُلِب من الصدر القونوي – الشيخ صدر الدين القونوي – أن يُصلي الجنازة، فلما أراد أن يُكبِّر شهق شهقة وأُغميَ عليه، فبكى الناس، لم يقدر! ثم قام بعد ذلك وقام بواجبه، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.
نأتي الآن إلى القسم الثاني، قبل أن نشرع فيه – إن شاء الله – نُريد فقط أن نُعرِّف بآثار مولانا على عجل، التركة المعنوية لمولانا! ترك – قدَّس الله سره – تركة معنوية تتمثَّل في المنظوم والمنثور، أما المنظوم فهو زُهاء سبعين ألف بيت من الشعر، ندر أن شاعراً في تاريخ العالمين ترك مثل هذه الثروة، سبعون ألف بيت! فإذا علمنا اقتران مُعظَم أو جُملة هذا الموروث بالجودة والاتقان علمنا أي شاعر هو، شاعر غير طبيعي، لذلك بعضهم يعتبره ليس ربما أعظم شاعر صوفي وإنما أعظم شاعر بشكل عام، بعضهم يقول أعظم شاعر بشكل عام، سبعون ألف بيت! شيئ غريب جداً، المثنوي وحده خمسة وعشرون ألف وستمائة وثنتان وثلاثون بيت بحسب إحصاء رينولد نيكلسون Reynold Nicholson، المثنوي وحده! وهو كما قال نيكلسون Nicholson أكثر من شعر الإلياذة Iliad والأوديسة Odyssey معاً، وضعف ما في الكوميديا الإلهية Divine Comedy، واسع جداً!
أما الغزليات أو ديوانه الكبير – ديوان شمس تبريز المعروف بالديوان الكبير – فهو زُهاء ثلاثة وأربعين ألف بيت من الشعر، طبعاً تقرأ لبعض المُتطفِّلين للأسف وتجد مَن يقولون لك ديوانه من أربعة آلاف بيت، بعضهم يقول المثنوي هذا من ألفين وخمسائة بيت، لم يعرفوا شيئاً ولم يقرأوا شيئاً، كلام فارغ، يكذبون! لم يقرأوا شيئاً، ما هذا؟ معروف! العالم كله يعرف هذا الرجل، سبعون ألف بيت وليس خمسة آلاف أو أربعة آلاف أو ألفين وخمسمائة، ولا أعرف ماذا قالوا غير هذا أيضاً، يكذبون! ينقلون كلاماً لا يفهمونه، فكيف لو قرأوا؟ كيف لو قرأوا المثنوي والديوان الكبير؟ الديوان الكبير للأسف طبعاً لم يُترجَم إلى العربية، لكن رحمة الله على الدكتور شتا، ترجم نحو ثُلث غزليات الديوان الكبير في مُجلَّدين وطُبِعا في مصر بحمد الله، هذه أيضاً يد كبيرة على المكتبة وكسب – كسب حقيقي – للمكتبة الصوفية والمكتبة الأدبية والفنية في العالم العربي وباللُغة العربية، فهذه التركة الشعرية! وهي مُوزَّعة – كما قلت لكم – في المثنوي، وتحدَّثنا عنه على ما أعتقد، اسمه مثنوي معنوي بالفارسية، يُسمونه مثنوي معنوي، هو هذا المثنوي! وفهمنا لماذا يُسمى بالمثنوي، وسأتحدَّث عنه أثناء اقتباسنا منه، إذن المثنوي المعنوي، وأيضاً الديوان الكبير.
أما تركته أيضاً المنثورة فتتمثَّل في كتاب فيه ما فيه، تحدَّثنا عنه سريعاً، مطبوع بترجمة الدكتور الحلبي العاكوب، المجالس السبعة، أيضاً مطبوع – بحمد الله – بترجمة الدكتور العاكوب بارك الله فيه، أيضاً هناك الرُباعيات، لكن هذه تنتمي إلى القسم الأول، أي إلى الشعر، رُباعيات مولانا! مُترجَمة أيضاً بترجمة الدكتور العاكوب، رسائل مولانا، هي منثورة، مجموعة رسائل للأمراء، لتَلاميذه، لإخوانه، لفاطمة خاتون وهي زوجة ابنه، ولابنه أيضاً سُلطان ولد، حين قرأت هذه الرسائل بكيت، لا يُمكِن إلا أن تبكي، شيئ عجيب! ما هذا الوفاء؟ طبعاً هو أرسل لها رسالة على خلفية مُخاصَمة بينها وبين زوجها سُلطان ولد، هي لم تبح بهذه المُخاصَمة، لكن هو بلغه أن بينهما خصاماً، وكان والدها طبعاً – الشيخ صلاح الدين زركوب – قد تُوفيَ من سنين، فكتب كلاماً عجيباً جداً، يُقسِم بالله – يُقسِم الأقسام بالطريقة هذه: والله، بالله، وتالله، يقول لها هذا – ويُشهِد الله – تبارك وتعالى – قائلاً والله، بالله، وتالله لئن حلف لي ألف مرة أنه مظلوم ما صدَّقته، وأنتِ الصادقة عندي، والمولى وعبده – أي هو وابنه – ظالمان مُعتديان حتى ترضي أنتِ يا ابنتي، وهكذا! شيئ غريب، يقول لها للشيخ السيد العارف صلاح الدين والدك دين في رقبتي، لا يقضيه أحد إلا الله، لا يقضيه أحد إلا الله! شيئ عجيب، وفاء غريب، لا إله إلا الله، يُقال من ضمن وصايا شيخه شمس تبريز له – من ضمن وصاياه المُغلَّظة – الوفاء، علَّمه الوفاء، عليك بالوفاء، كُن وفياً لمَن علَّمك حرفاً، كُن وفياً لمَن أحسن إليك، كُن وفياً لمَن أحبك ساعة، وفاء! فعنده وفاء هائل، أنا ما قرأت في حياتي مثل هذا الوفاء إلا أن يكون لنبي، شيئ عجيب جداً، رسالة من صفحتين تقريباً، ويُشهِد الله ويُقسِم ويقول لها لئن لم يأت هو ويسترضيكِ ويعترف بأنه هو الظالم وأنتِ المظلومة والله – يقول لها – لأُسقِطن محبته من قلبي، والله لأمنعنه من أن يُصلي على جنازتي، شيئ غريب! ما هذا؟ ما هذا الإنصاف؟ ما هذا؟ هذا أكثر من إنصاف حقيقةً، كيف يُقال هذا إنصاف؟ هذا أكثر من إنصاف، هذا أكثر من إحسان، قلت ما هذا القلب؟ فعلاً ما هذا البحر؟ ما هذا المُحيط؟ ما هذا؟ رجل عجيب، قدَّس الله سره الكريم، إنسان غير عادي! ويُرسِل لابنه رسالة فيها تهديد ووعيد وتحذير، وهكذا فُض النزاع بينهما.
على كل حال الرسالتان ضمن رسائل مولانا، لم تُترجَم إلى الآن! أنا قرأت الرسالتين في عمل للعلّامة الإيراني الكبير البروفيسور Professor بديع الزمان فوروزانفر Badiozzaman Forouzanfar، كما قلت لكم هذا من أوثق مَن يكتب الآن ومَن كتبوا حتى في آخر سنوات سيرة مولانا، هناك اثنان، أحدهما تركي والآخر إيراني، الإيراني هو هذا، والتركي اسمه گولپینارلی Gölpınarlı، الدكتور گولپینارلی Gölpınarlı كتب دراسات كثيرة عن مولانا وله ترجمات أيضاً من أكثرها تحقيقاً وتدقيقاً، وهو الذي قال شعراً بالتركية معناه الآتي، قال كان مولانا مثل المصباح، مثل السراج! عُبئ بالزيت، وهُيئ له الفتيل، وكان ينتظر الجمرة، النار، الشُعلة! وكان الشعلة هو شمس التبريزي، قال هذا ما حصل بينهما، هذا العلّامة التركي گولپینارلی Gölpınarlı، گولپینارلی Gölpınarlı وفوروزانفر Forouzanfar هما أوثق مَن يكتب سيرة مولانا أو كتبها في القرن العشرين، فذكر الرسالتين، هذه هي الآثار المنثورة لمولانا!
طبعاً نأتي إلى المثنوي، هو رائعة مولانا، والتي عرَّفت به شرقاً وغرباً، وطار لها صيت في العالمين، المثنوي! الآن طبعاً هناك ترجمات لبعض أجزاء منه باللُغة السويدية، باللُغة الألمانية، باللُغة الإنجليزية مُترجَم كاملاً، أذكر أنني رأيت ترجمة أعتقد أنها كاملة في عشرين جُزءاً صغيراً من القطع المُتوسِّط في مكتبة الغازي خسرو بيك بالبوسنة، فأعتقد أن هذه كانت كاملة هذه، تقريباً في عشرين جُزءاً باللُغة البوسنوية، هناك ترجمات لمقاطع منه باللُغة التشيكية، وطبعاً تُرجِم بلُغات أُخرى عالمية كثيرة، مثل اللُغة الإيطالية وغيرها، العالم كله تقريباً عنده اتصال بالمثنوي، ما قصة المثنوي؟ كما قلنا هو مُؤلَّف بطريقة المثنوي، أي الشعر الفارسي، فيه حكايا، فيه مواعظ، فيه تحليلات، ليس فيه تعمق على طريقة الصوفية في شرح الأحوال والمقامات والمُنازَلات والمواجيد، هو خالٍ من هذا، فيه بعض الأشياء القليلة، وقد ذكر – قدَّس الله سره – النقد الذي وُجِّه إليه من الصوفية، قالوا هذا ليس فيه ذكر للمقامات ولأحوال بالطريقة التصنيفية، لأن هو طريقته ليست هكذا، هو ليس على هذه الطريقة يسير، يسير على طريقة مُختلِفة تماماً.
طبعاً حكاياته – أي حكايات المثنوي وهي من أروع ما فيه – جُملتها مائتان وخمس وسبعون حكاية، استطاع العلّامة فوروزانفر Forouzanfar في كتابه مآخذ – أي من أين أخذ، أي مصادر – قصص المثنوي أن يرد مائتين وأربع وستين حكاية منها إلى مصادر سابقة على الرومي، طبعاً الرومي يعرف هذا، كثير منها من حكايات كليلة ودمنة، بعضها من حكايا القرآن الكريم، بعضها أحاديث نبوية، بعضها حكايا الصحابة والتابعين وسير الصالحين الكبار، وبعضها حكايا عن عيسى من الإسرائيليات وعن موسى أيضاً، أشياء كثيرة! بعضها حكايا افتراضية وتخيلية، عنده مُعجَم تخيلي رائع جداً جداً، لكن العلّامة الدكتور كفافي – عبد السلام كفافي – قال في كتابه أدب المُقارَنة يكاد يجمع الدارسون على أنه مست يده ويراعه حكايةً يُحيلها شيئاً مُختلِفاً تماماً، طبعاً لا يأخذها كما هي، بالعكس! يُعيد فيها الحوار تمثيلياً، ويبسطه ويمده ويُشقِّقه ويأتي بأشياء وبمعارف كثيرة جداً جداَ ضمن الحكاية، طبعاً والمثنوي ليس مُؤلَّفاً بطريقة مُرتَّبة منظومة، بالعكس! ليس كذلك، وهذا هو ما أزعج أكثر الدارسين الغربيين منه، علماً بأن في رأسهم جوته Goethe، جوته Goethe لم يكن مُعجَباً بالرومي ولا بالمثنوي، بالعكس! هو ذمه، مع أنه كان مُعجَباً جداً بديوان حافظ الشيرازي وهو الذي ألهمه أن يُؤلِّف كتابه الديوان الغربي الشرقي، حافظ! لكن لم يُعجَب بالرومي، طبعاً ربما لرداءة الترجمة ولقلة ما تُرجِم مع كونه رديئاً، فلم يُعجَب، لم يُعجَب! حتى تعرف الرومي لابد أن تقترب منه أكثر، معروف! فهذا الذي أزعج كثير من الدارسين الغربيين من مولانا، لأنه لا يتحدَّث على نظام، إنما يتحدَّث بطريقة مجالس الأشياخ.
في مجالس الأشياخ والطرقيين وحتى أكثر مجالس الوعظ قد يُفضي الاستشهاد أو اقتباس بيت من الشعر إلى شرح آية، ويُفضي الكلام في لفظة مُعجَمية – مثلاً – إلى الاستشهاد بعشرات الأبيات من الشعر في قضايا قريبة أو بعيدة، وهكذا! ثم يُذكِّر الواعظ نفسه فيعود إلى بدء الحكايا، وهكذا! المثنوي بهذه الطريقة معمول، يذهب بك ويجول ثم يعود إلى الحكاية، وأحياناً تُفضي الحكاية إلى أكثر من حكاية، ما يُسمى في لُغة النثر الأدبي بالحكاية الإطار، توُجَد حكاية ويُوجَد ضمنها أشياء كثيرة، مثل كليلة ودمنة، أحياناً تكون هذه التقانة الفنية موجودة، لكن في النهاية هناك ما يُفيد وما يلذ.
أحد المُستشرِقين الألمان – وهو ريشتر Richter، أي فريدريك ريشتر Friedrich Richter – قال لا، قال أنا لاحظت – وهو طبعاً من الدارسين المُتوسِّعين للمثنوي ولمولانا بعامة – أن هناك وحدة فنية مُتكامِلة، لكن في كل جُزء من أجزاء المثنوي الستة، وعمل دراسة على هذا الشيئ، قد يكون هذا غير بعيد، لأن هذا الرجل فعلاً رجل عبقري، مولانا رجل عبقري جداً، طبعاً بعض المُعاصِرين من الحسدة النقدة قالوا هذا كتاب سفساف، شعره غير رائق، وليس حتى مُتمكِّناً، لكن ليس كل أحد يُمكِن أن يقوم بحق الشهادة والنقد.
يُقال إن سعدي الشيرازي – من أعظم شعراء العالم على الإطلاق، مُصلِح الدين سعدي الشيرازي، أيضاً من مُعاصِري مولانا ويُقال التقى به، ومُتوفى أيضاً في القرن السابع الهجري، رحمة الله عليه – لما قيل له انتخب لنا أعظم قصيدة مما تعرف من الشعر ذهب وأجال خاطره وقدح زناده ثم انتخب قصيدة لمولانا من المثنوي، قال هذا أعظم شعر في التاريخ، سعدي الشيرازي – رحمة الله عليه – قال هذا، صاحب الدواوين المشهورة عالمياً! مثل بوستان، عنده ديوان اسمه بوستان، أي الروضة، وعنده ديوان اسمه گلستان، أي روضة الورد، گل معناها الورد، فــ گلستان هي روضة الورد، هذا مشهور في لُغات العالم كلها! سعدي الشيرازي – رحمة الله عليه – هذا أروع شاعر، عنده المثنوي! الإمام الرومي في مثنويه أعظم شاعر عالمي على الإطلاق.
المُهِم مآخذ حكاياته – كما قلنا – يُمكِن أن تُرَد إلى مصادر سابقة – لكنه يُحيلها إلى شيئ آخر – كما قال نيكلسون Nicholson، لا تمس يده شيئاً إلا فعلاً يُحيله إلى شيئ جديد تماماً، والعجيب قدرته الترميزية، عنده مُعجَم ترميزي مُذهِل، كل شيئ عنده يستحيل إلى رمز، في مُعظَم الأحوال دال وشاهد على حكمة الله ولُطف الله وقدرة الله ورحمة الله، كل شيئ مما يخطر أو لا يخطر على بالك! وسنرى الآن نماذج لهذا الشيئ، هذا شيئ غريب! ولكن الصور المجازية الرمزية عنده ثنائية، أي يُمكِن أن يستخدم الرمز الواحد في المعنى وضده وضد ضده، أحياناً إلى أعداد كبيرة، أي من هذه الثنائيات، فالحمار – أكرمكم الله – مثلاً مُستخدَم عنده، سوف يقول لي أحدكم هل تحدَّث عن الحمار؟ نعم تحدَّث، لكن ليس عن الحمار فقط، فهو لم يترك شيئاً إلا رمَّزه، تحدَّث عن البقول وعن الحمص وعن الحمار وعن الفيل وعن الأسد وعن الفهد وعن الخبّاز وعن القوّال وعن الشيخ وعن النبي وعن إبليس وعن القدّيس، لم يترك شيئاً إلا وتناوله، ما رأيك؟ كل شيئ! كل شيئ مما يخطر ولا يخطر على بالك موجود في المثنوي كرمز، وله رسالة روحية، أي هذا الرمز، شيئ غريب! فالحمار – مثلاً – لاحظته أنه في المثنوي يستخدم مرة مثالاً للمُؤمِن الصبور الذي يتحمَّل كل ما يُلقى عليه من صنوف البلاء، يستخدمه كذلك! وهذا أيضاً ليس بدعاً، حين سُئل الإمام الشعبي بِمَ نلت ما نلت من العلم؟ قال بصبر كصبر الحمار – هذا هو! الحمار مشهور بالصبر – وبكور كبكور الغراب وحرص كحرص الخنزير، إلى آخره! المُهِم أن الحمار أيضاً يُستخدَم عنده علامة على الهذيان والهراء والكلام الفارغ الذي ليس له معنى، هذا الحمار! والحمار أيضاً يُستخدَم رمزاً للعقل، العقل عنده يُرمَز له أحياناً بالحمار، الذي يعلق في الطين ولا يستطيع أن يتحرَّك، أما العشق فهو طائر الهوما، الهوما أو الــ سيمرغ، أي العنقاء! ويُقال الــ هما طبعاً بالفارسية، طائر يعتقد الفرس في الحكايات والأساطير أنه إذا وقع بظله على أحد أسعده، يُصبِح من السعداء إن شاء الله، انتهى! تنقضي همومه، فالعشق هو طائر الهوما، أما العقل فهو الحمار، وهكذا! فالحمار نفسه مرة يأتي رمزاً لشيئ طيب ومرة يأتي رمزاً لشيئ غير طيب، فهذه اسمه الثنائية الترميزية، عنده هذه الثنائية في كل صوره تقريباً أو في مُعظَم صوره، رحمة الله تعالى عليه.
القصص فيها نفس الشيئ طبعاً، في القصص نفس الشيئ! يأتيك بحكاية بسيطة جداً جداً، ثم يجعلك على الرُغم منك تستنبط منها ألطف المعاني وأروع الحقائق، العجيب أنه في المثنوي يُمكِن أن يستخلص دراساً بل عشرات الدارسين للدكتوراة – مثلاً – عدة رسائل دكتوراة عن إلهيات مولانا أو علم الكلام عند مولانا من المثنوي وحده وبطريق الحكي والقص، والعجيب أن أدلته التي يأتي بها تُقنِع المُتوسِّع المُستوعِب وتُقنِع البسيط الساذج بأسلوب بسيط جداً، وهذا شيئ غريب ومُعجِز فعلاً، شيئ مُعجِز! ولذلك ليس من السهل أن يُؤلِّف أحدٌ مثلما ألَّف هذا الرجل.
أعظم لقب وشرف يُمكِن أن يُزجيه الفرس على عمل أدبي أو علمي أو فني هو أن يُوصَف بأنه قرآن، أي كالقرآن، حافظ سمى المثنوي قرآن پهلوي، پهلوي هي اللُغة الفهلوية كما يُسمونها العرب، فهي پهلوية، قرآن پهلوي! وهذا لا يُقال لأي عمل، طبعاً كيف يُسميه قرآناً بالپهلوية؟ يقول كأنه نجح في أن يفتح لنا كنوز معارف ومعاني القرآن، لكن بلُغة مفهومة لنا، هي الفارسية، كأنه فسَّر القرآن! وهو الذي كان يقول كما في المثنوي خُذوا علم القرآن من القرآن، فسِّروا القرآن بالقرآن! هو فسَّره لكن بطريقة ثانية، رحمة الله تعالى عليه.
الآن سأُتحفِكم ببعض الأشياء وهي كثيرة جداً، مثلاً هو – كما ألمعت إليكم – ضد أن يُولَع الإنسان ويُدمِن على تحكيم العقل في كل القضايا، وخاصة قضايا الغيبيات والمواجيد، لا! العقل عنده ميدانه العتيد الذي يعمل فيه وينجح، في غير ذلك يفشل، فيُشبِه الحمار الذي زل في الطين، فيحكي قصة الببغاء والبقّال، هذه القصة في المثنوي، يقول كان لبقّال – طبعاً سنختصر، هو يحكيها شعراً وما إلى ذلك، لكننا سنختصر للحكمة، أي لحكمة القصة – ببغاء جميلة اللون، حسنة الصوت والتقليد، تحكي صوت الإنسان وألفاظه، مُسلية! وتجلب الزبائن، يستلطفونها فيأتون لكي يشتروا، ومن ثم يسترزق هذا البقّال، وفي يوم من الأيام بينما كان هذا البقّال غائباً عاد فإذا بها خرجت من قفصها، أي هذه الببغاء! ويبدو أنها دلقت أو سكبت قوارير العطر، فتبللت هي وتبلل أو ربما مس لباس البقّال شيئ من هذه المدلوقات، فغضب! فأخذها وضربها على رأسها حتى تنتف شعر رأسها في الحكاية، وأصبحت قرعاء، ولم تتكلَّم بعد ذلك حزناً وموجدةً يوماً، يومين، وثلاثة! فقال يا ليت يميني شُلت قبل أن أفعل هذا، وقل الناس الذين يأتون طبعاً، حتى سوقه الآن – كما يُقال – كسدت، فغضب! كيف فعلت هذا؟ فجعل يسترضيها وهي لا ترضى، يستعتبها وهي لا ترضى، وبعد ثلاثة أيام مر درويش في دلق – أي في خرقة، كان من عادة أكثر الدروايش أن يحلقوا شعر رؤوسهم على الصفر – وقد حلق شعر رأسه وأصبح أقرع كالقرعاء – القرع بالمُناسَبة من أمثال مولانا، يتحدَّث عن القرع وعن اليقطين وما إلى ذلك، أيضاً تُوجَد صورة مُزدوَجة عنده – فنطقت الببغاء! أهلاً بك أيها الدرويش، كيف حالك؟ لماذا انت أقرع؟ لعلك دلقت قوارير العطر مثلي فضربك صاحبك على رأسك، يقول مولانا فأضحك قياسها الخلق، ضحك كل مَن في السوق، ثم يلتفت إليك يقول لك فحذاري من القياس على ظواهر الأمور، لا تقس على ظواهر الأمور، لا تكن كهذه الببغاء الحمقاء، هي تظن أن كل مَن هو أقرع ضُرِب على رأسه لأنه دلق قوارير العطر، لا! وإياك أن تغتر بالظواهر، الاغترار بالظواهر هو الذي يسمح بالقياس، لأن للظواهر بواطن، هي معيار التفرقة والامتياز، قال هؤلاء الحمقى الذين لم يُوقِّروا الأنبياء ولم يعرفوا مثابات الأولياء إنما غرتهم الظواهر وقالوا بِمَ امتازوا منا؟ إنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويعتريهم الضعف والنوم مثلنا تماماً، فلماذا هم ولسنا نحن؟ قال هؤلاء حمقى، مثل هذه الببغاء.
قال إياك ألا تُميِّز – هكذا قال هذا بأسلوب عجيب – بين بيضة الحية وبيضة العصور أو الحمامة، في الشكل هما بيضتان تماماً، لكن هذه تلد حية، وهذه تلد عصفوراً، نفس الشيئ بذرة الإنسان، هي بذرة لكن هذا يُصبِح قدّيساً وهذا يُصبِح إبليساً والعياذ بالله، هذا يُصبِح نبياً وهذا يُصبِح أبا جهل، أليس كذلك؟ قال لو سُمِح لنا أن نجري على الظواهر وأن يكون للظواهر في ذاتها معنى فأبو جهل يُساوي محمداً، كلاهما عربي وكلاهما ينطق اللُغة نفسها ومن نفس القبيلة، من نفس المكان! وربما اللون حتى مُتشابِه، لكن أين؟ هذا محمد وهذا أبو جهل، الباطن وليس الظاهر! ليس عربياً ولونه هكذا ولُغته هكذا، ليس هذا كله أبداً، إنما الباطن.
قال النحل يأكل نفس الرحيق، يمتص نفس الرحيق! هذه لا تُعطي إلا الإبر، وهذه تُعطي العسل! قال الماء بنفس الصفاء والنقاء، هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۩، لا تغتر بالظواهر، وعلى هذا النسق يقودني هذا الآن إلى حكاية أُخرى، مقام القياس – والتثريب على القياس في كل الموارد – مُناسِب لذكرها، وهي حكاية الأطروش وعيادة صاحبه المريض، علماً بأن الأطرش هو الأطروش، يُقال أطرش وأطروش، هذا الأطروش جاءه أحد معارفه، قال له أما علمت أن جارك فلاناً وهو من أصفيائك قد اعتل ومرض؟ فقال والله علمت، ولكن قلت في نفسي كيف أزوره؟ وماذا أقول له وأنا أطروش؟ إن تكلَّمت لن يسمعني لضعفه، وإن تكلَّم لن أسمعه لطرشي! ما الفائدة من الزيارة هذه؟ قال ولكن لابد أن تُؤدي حقه، قال فانصاع وقال نعم، لابد أن أذهب وسأؤدي حقه، وأنا سأُقدِّر أنني أدخل عليه وأقول له بصوت مُرتفِع السلام عليكم، وبالحري هو سيقول لي عليكم السلام حتى لو لم أسمعه، أكيد! ثم سأقول له كيف حالك؟ وسيقول الحمد لله، ثم سأقول الحمد لله، ثم سأقول له ماذا تأكل؟ سيقول كذا وكذا، ثم سأقول هنيئاً مريئاً، ثم سأقول له مَن طبيبك؟ سيقول لي فلان، ومن ثم سأقول له يده مُبارَكة، بارك الله فيه، والسلام عليكم، قال هذه زيارة جيدة، وهو يقيس أيضاً على المُعتاد والمأنوس، قال فدخل الأطروش عليه، قال السلام عليكم، فقال وعليكم السلام، قال كيف حالك؟ فقال حالي تعسة جداً، أنا أموت، فقال الحمد لله، الرجل هذا صُدِم! طبعاً المسكين لم يسمع، ظن أنه يقول الحمد لله وكل شيئ مُمتاز، ثم قال له ماذا تأكل؟ فقال سُماً وزقوماً، فقال هنيئاً مريئاً، يا ويلتاه! يا تعساً لك، ثم قال مَن طبيبك؟ فقال عزرائيل، فقال يده مُبارَكة، الحمد لله، ثم خرج! فقال هذا عدوي، ما جاءني إلا لإغاظتي، قال فلا تكن مثل هذا الأطروش.
طبعاً أنا أفهم من كلام مولانا أن لا تزال هناك إشارة أعمق، ما هي؟ قلتها ربما في درس – سُبحان الله – من قريب، لا تكن سرّاقاً للكلام والمعارف، وفعلاً أنا ما عُدت أتذوق هذا، المعارف الإلهية ليس لها وقع، ليس لها طعم، وليس لها ريح ما لم تكن عن موجدة ومُنازَلة، أما أن تكون تقليداً وتحفظاً من الكتب فهذا كلام فارغ فارغ فارغ، ما أقبحنا اليوم! هذا طبيعي جداً، لابد أن تكون عن مُعايشة، فمثل هذا يسرق الكلام، ويظن أن الجواب جواب دائماً، لا! يختلف الجواب، ولكل سؤال جواب ولكل حالة لبوسها، فلا تكن من أصحاب القياس.
أيضاً قريب من القياس ماذا؟ التقليد، هذا تقليد في الحالات! القياس تقليد في الحالات، والتقليد تقليد للأشخاص، وأيضاً هو تقليد في حالات، قصة الصوفي والحمار مشهورة جداً، من قصص المثنوي قصة الصوفي والحمار، وعلى ذكر الحمار – حتى لا يفوتني هذا، فهو لطيف جداً – هناك شيئ من ألطف ما تقرأ لمولانا، يتحدَّث عن بايزيد وهو البسطامي – أي يتحدَّث عن بايزيد البسطامي – قائلاً مر الشيخ يوماً بالسوق، فرأى خربنده، الــ خربنده بالفارسية معناها المكاري، وتعرفون المكاري، أي مَن يكون عنده حمار – مثلاً – ويُكاري عليه، يُوصِّل الناس وما إلى ذلك، وحرفياً معنى خربنده عبد الحمار، مثل الــ Cowboy، هذه اسمها خربنده، بالفارسية معناها عبد الحمار، فماذا قال؟ اسمع، شيئ عجيب، مُتعلِّق بحماره هذا، دُنياه وأُخراه ومعبوده حماره، يقول لك رزقي ولُقمة عيشي ولقمة عيش أولادي حماري، وفعلاً هو عبد للحمار حقيقي للأسف، بعض الناس هكذا! يكون عبداً لا لله بل لحماره، فقال مر الشيخ يوماً بالسوق فرأى خربنده، فقال اللهم أمت حماره حتى يُصبِح خدابنده، خدابنده معناها عبداً لله، دعا بايزيد بهذا، هذه القصة مولانا ألَّفها من عنده، بايزيد لم يقلها، لكن من عنده هو يتخيَّل هذا، أن البسطامي مر بالسوق فرأى خربنده، فقال مُبتهِلاً اللهم أمت حماره حتى يُصبِح خدابنده، خدابنده أي عبد الله، بدل أن يكون عبداً للحمار يصير عبداً لله، ومتى سنصير عبيد الله؟ حين نذبح حميرنا، هذا حماره الشهوة، هذا حماره الشُهرة، هذا حماره المال، هذا حماره الجمال، هذا حماره المنصب، هذا حماره الحيثية، وهكذا! اذبح حمارك حتى تُصبِح خدابنده، من أعجب ما يكون! اللهم أمت حماره حتى يُصبِح خدابنده، فنأتي إلى قصة الصوفي والحمار، اللهم صل على سيدنا محمد، دخل هذا الصوفي الحمار وحيلته من الدنيا حماره، ليس عنده شيئ غيره، جاء إلى المدينة فنزل في خان للصوفية، أي خانقاه، أماكن الصوفية يُسمونها الخوانق، جاء إلى المدينة فنزل في خانقاه للصوفية، فأعطى حماره للخادم وقال له اعتن به، فقال له سأعتني به، فقال له أشياء، فقال له لا تُعلِّمني صنعتي، دار حوار طويل بينه وبين الخادم، يُريد أن يُعلِّمه صنعته، اعتن به واسقه وانتبه إليه وما إلى ذلك، قصة! لأنه مُهتَم به، هو إلهه، أستغفر الله العظيم، حماره هو كل شيئ، شيئ كبير عنده، فالمُهِم تركه عنده ودخل إلى المكان، وهؤلاء الصوفية فقراء مساكين مقطوعون، ليس عندهم شيئ وأضر بهم الجوع، فتآمروا بينهم وقالوا هل يجوز أن نبيع حمار هذا الصوفي؟ وهم صوفية مثله! هل يجوز أن نبيعه ثم نقوم بعد ذلك عمل مجلس سماع ونكون من بعده قوماً صالحين؟ مثل اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ۩، نُريد أن نبيعه! فهل يجوز هذا؟ فبعضهم – ما شاء الله – أخذ مأخذ أو صورة أو دور المُفتي، قال نعم، كم من طلاحٍ وفسادٍ صيَّرته الضرورة صلاحاً! نحن مُضطَرون يا جماعة، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ۩، قوموا ببيعه، فذهبوا وقاموا ببيعه، ثم اشتروا بثمنه طعاماً وشراباً وحلواء، ثم قاموا بعمل مجلس سماع من أحسن ما يكون، مجلس سماع ورقص وذكر للأقوال الإلهية وما إلى ذلك، ومَن كان معهم؟ هذا الصوفي، مبسوط طبعاً! أكل وشرب ورقص معهم حتى – كما قال – انتصف الليل، فلما انتهت القصيدة – لا يزال الطرب يأخذ منهم مأخذه – قام القوّال من جديد وأنشأ يقول ضاع الحمار، راح الحمار يا فتى! قام بتأليف نغمة جديدة من عنده، هذا انبسط وكان أكثرهم حماساً، ظل يقول ضاع الحمار، راح الحمار يا فتى! وطبعاً هذا كان بالفارسية، ظل يقول هذا حتى الصباح، فصلوا الفجر جماعة ثم أخذ كلٌ سبيله، قالوا الوداع وذهب كل واحد في طريقه، ذهب هذا المسكين فراكم حوائجه ونفض الأغبرة عنها والأتربة وأخذها إلى الإسطبل، قال أين الحمار؟ أين حماري يا غلام؟ فقال يا سيدي بيع، فقال ماذا؟ فجُنَّ جنونه، قال بيع! فقال مَن باعه؟ ألم ائتمنك عليه؟ فقال نعم، نعم، أعرف هذا، أعرف هذا! باعه الجماعة الذين عقدت معهم مجلس السماع، فقال كيف؟ بأي حق؟ ولماذا لم تُخبِرني؟ فقال يا سيدي والله – دعني أُكمِل – والله أنا أتيتك عشرات المرات، أُريد أن أُخبِرك، وكلما أردت أن أتكلَّم معك تقول لي ضاع الحمار، راح الحمار يا فتى! فقلت أنت تعرف، فقال لا والله، ما كنت أعرف، وإنما كانوا يقولون قولاً فكنت أقول مثلهم، ألا تعساً للتقليد، وألا ألف لعنة من إبراهيم على الآفلين، ألا ما أتعس التقليد خاصة إذا كان لأمثال هؤلاء الفارغين البطّالين! هؤلاء فارغون يهتمون بالأكل والشرب، هؤلاء ليسوا صوفية حقيقيين، فقال أنا كنت أُقلِّدهم!
وطبعاً القصة فيها موعظة بليغة، لا تُقلِّد أحداً حتى وإن تكلَّم في الشرع أو في العرفان، قد تُقلِّده وتهلك، قد تُقلِّده وتُقدِّم سعادتك ورقبتك وأنت لا تدري، لا تفعل هذا أبداً، اخبر كل شيئ بنفسك، اختبر كل شيئ بنفسك، اغد في تعليم نفسك، اسع إلى تكميل ذاتك، ولا تكن مُقلِّداً.
من أروع أفكار وقصص المثنوي قصة السُلطان الجائر اليهودي، يبدو أنه طبعاً اقتبس فيها وأحال على قصة أصحاب الأخدود والملك الحميري الطاغية، المُهِم يقول هذا السُلطان اليهودي كان أحول، ولا يُريد أنه أحول العين، إنما أحول البصيرة، يرى المُتوحِّد مُتعدِّداً، ويرى أن موسى غير عيسى وعيسى غير موسى، لذلك اضطهد المسيحيين وحرَّقهم، خد لهم الأخاديد! قال وهذا ذكَّرني بقصة التَلميذ الأحول، هنا الروعة! هذا التَلميذ الأحول قال له أستاذه يا بُني قم وائتني بتلك الزجاجة، قال أي الزجاجتين تُريد؟ قال ما ثم إلا واحدة، قال بل هما ثنتان، أحول! كان هذا أحول فعلاً، فقال له إنها واحدة يا بُني، وأضنى الأستاذ المسكين نفسه وهو يُبرهِن له أنها واحدة، ولم يقتنع، لم يبلغ منه مبلغ القناعة، قال له لا، إنهما ثنتان، فقال له ما داما اثنتين فاكسر واحدة وائتني بالثانية، قال له اكسر واحدة وائتني بالثانية، روعة! هذه قصة غير عادية، من هنا فعلاً هذا الرجل اختلب حتى أدمغة الغربيين حين قرأوه، غير طبيعي الإنسان هذا، أنا عندي هذه القصة حقيقة أروع مائة مرة من قصة ليسينغ Lessing الخواتم الثلاثة، دلالتها أعجب بكثير، وبالمُناسَبة هي أكثر إنسانية، سأشرح هذا الآن وأقول كيف، أكثر إنسانية! فذهب وكسر إحدهما، ثم أراد الأُخرى فلم يجدها، انتهى كل شيئ!
ماذا يُريد أن يقول مولانا؟ يُريد أن يقول إنك ترى محمداً يختلف عن عيسى ويختلفان عن موسى من زاوية نظر حولاء، لكن لو نظرت بتحقق لوجدتهما فعلاً كما قال ورقة وكما قال نجاشي الحبشة يأخذون من مشكاة واحدة، كلهم إخوة! والنبي قال الأنبياء إخوة لعلات، فعلاً هم هكذا! أمهاتهم شتى وأبوهم واحد، الشرائع تختلف والدين واحد، والآن إذا كنت أحول وغلبتك العصبية والغضب – وأيضاً هذا من أسرار القصة – فسوف ترى أن الدين ليس على هذا النحو، طبعاً مولانا في أكثر قصه وحكاياته تنزلاً لمقامات البسطاء والسذج يُضطَر أن يترك الرمز – وأروع ما فيه الرمز والترميز – ليحكي لك بشكل مُباشِر حكمة القصة، ويبدأ يُحذِّرك ويُنبِّهك ويُوجِّهك، يقول فاعلم كذا وكذا وكذا، حتى تفهم وحتى لا يختلف الناس في تأويل أيضاً رموزها.
المُهِم، هل مثل هذا يُقال عنه إنه ضيق الصدر ويُكفِّر مَن ليس على طريقته الصوفية كما قال بعض إخواننا المُعاصِرين الآن الذين تعرفونهم للأسف؟ هذا غير صحيح، هو أوسع من هذا بكثير، أوسع مما تتخيَّل، أوسع بكثير! فكأنه يقول إذا نظرت بهذه الزاوية الخطأ وبالعين الحولاء حين تأتي لتُحطِّم شيئاً فأنت تُحطِّم الأصل نفسه، تُحطِّم كل شيئ، ولا يبقى شيئ! كل شيئ ينتهي، إذن لابد أن تقبل بهذه الوحدة، تُوجَد وحدة حقيقية، لكن الحول يُضلِّلك عنها، الغضب أيضاً والهوى يُعميك عن طلب الحقيقة من سبيلها، بالعكس! هو يجعلك مُخرِّباً.
طبعاً روعة هذه القصة التي فاقت بها حكاية الخواتم الثلاثة هذه لليسينغ Lessing الآتي، طبعاً بحسب التراث المسيحي المعروف – وله أصل طبعاً توراتي – الميراث يكون للابن الأكبر، وهو جعل الابن الأكبر يهودياً، وليسينغ Lessing نفسه كان يهودياً، فهذه فيها دس وفيها شرك – أي في القصة – والعياذ بالله، فيها عصبية حتى! وأما مولانا فلم يفعل هذا، بالعكس! جعلهم إخوة، وقال إذا أردت أن تزول المسيحية زال الإسلام نفسه، تبقى المسيحية ويبقى الإسلام وتبقى اليهودية، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، الله لا يُريد هذا، الله يُريد أن يبقى هذا وأن يبقى هذا وأن يبقى هذا، فلا تكن أحول، إذا خرَّبت واحداً فسوف تُخرِّب الكل، سوف ينتهي الكل! وهذا لن ينفع.
حكاية الرجل القزويني الذي ذهب إلى النقّاش وأرد منه أن ينقش على ظهره رسم أسد، قال له أُحِب الأسد، أنا رجل شجاع وأُريد أن يهابني الناس إذا رأوا هذا الأسد على جسمي كما يُهاب الأسد الحقيقي، فقال له على بركة الله، اجلس! النقّاش قال له هذا، نبدأ من أين؟ فقال له ابدأ منه، فبدأ ووخزه بالإبرة، فقال آآآه، ما هذا الذي بدأت به؟ فقال له الذيل، فقال له الذيل ليس مُهِماً، يبقى أسداً من غير ذيل، هل هذا صحيح؟ فقال له هذا صحيح، فقال له لا حاجة لي به، دع الذيل، ثم وخزه فقال آآآه، ما هذا؟ فقال له الأذن، فقال له افترض أنه أطرش، لا يضر! هذا أسد أطرش، أيضاً هو قوي وله هيبة، هل هذا صحيح؟ فقال له هذا صحيح، فقال له دع الأذن، وانظر إلى شيئ ثانٍ، وهكذا! أتى إلى الرجل، فقال آآآه، دع الرجل أيضاً، وكذلك الحال مع البطن، قال له البطن ليست مُهِمة، فرمى النقّاش الإبرة وقال ما هذا؟ لم أر مثل هذا؟ أسد بلا ذيل وبلا بطن! ماذا يبقى من الأسد؟
كأنه يقول لك في هذه الحكاية إذا أردت أن تصل إلى الله لا تقل لا أستطيع هذا، هذا يُعجِبني، هذا لا يُعجِبني، هذا يُوافِقني، وهذا لا يُوافِقني، تكون عبد هواك وتُريد أن تصل إلى الله! لن تصل إلى الله، هذه هي! لن تصل إلى الله، إذا أردت ان تكون أسداً روحياً فلابد وأن تتحمَّل، لابد من مُجاهَدة النفس، لابد أن تنزل على مُراد الحق ولو كان مكروهاً لك، ولو كان صعباً عليك، مثل المُر! لابد وأن تتجرَّعه من أجل الحق، لا إله إلا هو! أما وأنت مُتسلطِن هكذا في مملكة هواك وتُريد أن تصل إلى الله وأن تُصبِح من آساد الله ومن رجال الله فلا! ما هذه القصة؟ قصة غريبة جداً!
ذكَّرتني هذه القصة بقصة يحكيها عن بلديه شيخ زهّاد خراسان إبراهيم بن أدهم قدَّس الله سره، إبراهيم بن أدهم كان من أرومة عريقة في المُلك والسياسة والسُلطان، أبوه كان ملكاً وكذلك أجداده في بلخ هناك، وهو كان أميراً كبيراً، وكان يعيش في قصر، قصر عظيم! طبعاً قصة إسلامه مُختلَف فيها، لماذا كذا وكذا؟ فيها حكايات كثيرة، مولانا جعلها على هذا النحو، من عنده هكذا! أيضاً عبر التخيل، قال كان إبراهيم بن أدهم هذا الطيب الاسم – أي هذا الطيب الذكر – نائماً في قصره ذات ليلة، فسمع قرقعةً وصوتاً فوق سقف القصر، ففتح كوة في السقف وقال ما هذا؟ مَن هناك؟ قالوا إنس أو جان؟ مُستحيل! هذا جان، ما الذي أتى عندنا؟ قال مَن هناك؟ فقالوا نحن نبحث عن شيئ، ننشد شيئاً، قال ماذا تندشون؟ قالوا نبحث عن جمال، جمال تائهة! ربما هناك جمال ضائعة وما إلى ذلك، فقال فوق السقف يُبحَث عن جمل؟ فقالوا له وتُريد أن تصل إلى الله وأنت على سقف هواك وسُلطانك؟ لن تصل، كلام فارغ! لن يُمكِن هذا، لن تصل، فاهتدى! قال هذا هو، في نظره هذا السبب، ذكر القصة بالطريقة هذه، إذن لابد من ماذا؟ لابد من الفقر، يقول مولانا – قدَّس الله سره – على قدر ما يضر الفقر بك أو بصاحبه يكون تعطف الأسخياء والأغنياء، حين يرى شخص غني سخي مَن يكون فقيراً مسكيناً – ليس عنده أي شيئ، شبه عارٍ، جائع، تعبان، ومعه أولاده – يُعطيه الكثير، أليس كذلك؟ فكأنه يقول لك إذا أردت أن يفتح الله لك وعليك وأن يُعطيك فتحقَّق بالفقر، تحقَّق! لابد وأن تتحقَّق في النهاية أنه ليس عندك شيئ، ليس في الأموال فقط، وإنما في كل شيئ، تحقَّق أنك فقير في القوة، في العز، في الجاه، في العلم، في الدين، في الصلاح، في المال، في الحياة، وفي كل شيئ، في كل شيئ أنت فقير! كلما تحقَّقت بهذا الفقر كلما أعطاك الله – تبارك وتعالى – وفتح لك، لكن تحقَّق بالفقر، الفقر طريق قصيرة جداً إلى الله تبارك وتعالى.
الآن – هذا أيضاً من أروع القصص والرموز – يقول مولانا يوسف عليه السلام – يوسف الصدّيق – بعدما اعتلى سدة الحُكم – الوزارة طبعاً – في مصر – جاءه صديق من أصدقاء الصبا، يقول مولانا هذه القصة، وهي قصة طبعاً تخيلية، نفس الشيئ! فتجاذبا أطراف الحديث، وهنئا ببعضهما، ثم قال له يوسف عادة الضيف أنه إذا نزل على مُضيفه جلب له شيئاً يُتحفِه به، فماذا جلبت لنا؟ قال له والله أيها الصدّيق الكريم أنا فكَّرت كثيراً، ولم أُخطر بالي شيئاً إلا وجدت أنك حوزته، أنت – ما شاء الله – شبه ملك، كل شيئ عندك! فقلت في نفسي ماذا أُحضِر لك؟ فلم أر إلا أن أُحضِر لك المرآة، تجتلي فيها حُسنك، لأنه لا مثيل له، جمالك القمري، وحُسنك اليوسفي، تنظر إليه في المرآة.
ماذا تقول هذه القصة يا إخواني؟ بماذا ترجع إلى الله تبارك وتعالى؟ ماذا تُريد أن تُقدِّم إلى الله عز وجل؟ هل تُقدِّم له المال؟ هل تُقدِّم له الجمال؟ هل تُقدِّم العلم لله؟ هل تُقدِّم له السُلطان والقوة؟ ماذا تُقدِّم لله؟ هذه القصة تقول لك قلباً صافياً، صف قلبك حتى يصير مرآة يرى الله ذاته فيها، سوف تقول أستغفر الله، لماذا تقول أستغفر الله؟ النبي يقول هذا يا رجل، النبي يقول هذا! إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، إنما ينظر إلى قلوبكم، في الأثر القدسي الذي أمعن علماؤنا في شرحه – حتى السلفيون منهم كابن تيمية وابن القيم رحمة الله عليهما – ما وسعني سمائي ولا أرضي – وفي رواية سماواتي ولا أرضي – ولكن وسعنى قلب عبدي المُؤمِن، قلبك هذا إذا صُفّيَ حقيقة واحترقت فيه كل بذور وعروق وأصول – امتُلِخت فيه – الشهوات والأهواء والأدناس والأكدار والأقذار أصبح مرآة ربانية ثقيلة، يُرى فيها الله العظيم، لا إله إلا هو! قال عبدي حسنت منظر العباد سنين – العباد ينظرون إلى جسمك، وأنت تُحسِّن دائماً جسمك – فهلا حسَّنت منظري ساعة؟ هذا منظري، أي القلب، القلب! هذا الكنز الإلهي، القلب! فأحسن ما تُقدِّمه لله هو مرآةً صقيلةً وهي قلبك، حتى ينظر فيها الحق، لا إله إلا هو! وينعكس هذا النور على ماذا؟ على السُعداء، اللهم اجعلنا منهم، ولذلك إذا يسَّر الله أناساً لسعيدٍ فهم السعداء.
يقول الشاعر الصوفي الولهان:
إذا سكن الغدير على صفاء وجُنِّب أن يُحرِّكه النسيم.
بدت فيه السّماء بلا مراء كذاك الشّمس تبدو والنّجوم.
كذاك قلوب أرباب التجلّي يُرى في صفوها الله العظيم.
الله أكبر! قال يُرى في صفوها الله العظيم، وهذا معنى قول أبي سُليمان الذي صدَّرنا به المُحاضَرة تقريباً، قلب الصوفي أو قلب العارف قلب خالد، لأنه رأى الله، ومَن رأى الله لا يموت، ليس المقصود هذه القطعة الصنوبرية، لا! وإنما القلب المعنوي الإلهي، فهذه مرآة الحق، انتبه! انظر كيف هي، لا تهتم بنظر الناس والحيثية عند الناس، انتبه إلى مرآة الله تبارك وتعالى.
من كلام مولانا – قدَّس الله سره – العاشق والمعشوق مثل مرآتين تترائيان، أنت تراه وهو يراك، أنت ترى نفسك فيه وهو يرى نفسه فيك، شيئ غريب!
من أكثر الأفكار التي سحرت قلوب الأولياء وسطت بها قضية الحُب المُتبادَل بين العبد والله، علماً بأن القضية ليست سهلة، ليست سهلة أبداً أبداً، وهي قضية قرآنية، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩، وقدَّم حُبه على حُبهم طبعاً، ولولا أنهم بدأهم بحُبهم ما أحبوه ولا عرفوا كيف يُحِبونه، لكنه لطف بنا فأحبنا، فعلَّمنا وأرشدنا كيف نُحِبه، لا إله إلا هو! وليس هذا فحسب، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۩، قال اشتاق إليهم ويشتاقون إلىّ، أذكرهم ويذكروني، وأُخبِر عنهم ويُخبِرون عني، هذا هو! أُخبِر عنهم ويُخبِرون عني، رجال الله تبارك وتعالى، هذا أثَّر على الأولياء كثيراً جداً جداً، مقام عالٍ!
اليوم يا إخواني ماذا لو دُعيَ أهل هذا المسجد أو أهل هذه البلدة أو أهل هذه المحلة إلى ملك عظيم سمح لهم وخلَّى بينهم وبين أن يروه وأن يُواصِلوا ليُنيلهم – يُريد أن يُعطيهم نوالاً، يُريد أن يُعطيهم جوائز – مثلاً؟ والله والله لزحم الناس بعضهم بعضاً ولحطم بعضهم بعضاً ولمات الكثيرون منهم، أليس كذلك؟ هذا هو، الله – عز وجل – يُنادينا في اليوم والليلة خمس مرات، انتبهوا! الله – عز وجل – يُنادينا في اليوم والليلة خمس مرات لندخل عليه، هل نتعجَّل أو نتأجَّل؟ هل نعجل أم نتباطأ ونكسل؟ حين يتعلَّق الإنسان بالله حقاً يُصبِح لا يستطيع التأخر عن الصلاة، مُستحيل! لا يستطيع هذا، لا يستطيع ولا يحتمل، هل تعرف لماذا؟ لأن كل تأخر هو تأخر، ستُؤخَّر من حيث تأخَّرت، أنت تأخَّرت فتأتي مُتأخِّراً وتبقى مُتأخِّراً، ولماذا لا نتقدَّم بين يدي الله فنكون في الصف الأول إن شاء الله تعالى؟ لماذا لا نحرص على هذا؟ لأن لا يُوجَد دين حقيقي، لا يُوجَد وله، لا يُوجَد عشق، لا يُوجَد حُب حقيقي، ولا تُوجَد صلة حقيقية، كله دين فارغ، دين جاف! هذا الذي يُحزِننا على أنفسنا، دين جاف حطب هشيم، كلام فارغ، لا نحرص على هذا، حتى الأدب لا نحرص عليه، كيف نكون بين يدي الله؟ كيف أدبنا مع الله في الصلاة؟ لا يكاد يُوجَد هذا الأدب، قدِّر نفسك – والله العظيم – بين يدي عظيم، والله تكون أكثر أدباً بين يدي عظيم منك بين يدي الله عز وجل، لا تأتي بأي حركة ولا بأي التفاتة أبداً، وتُحاوِل أن تكون مُركِّزاً تماماً مع كل كلمة يقولها، لكن أنت يدي بين الله عز وجل، فأين الأدب؟ أين الحضور؟ أين الإقبال؟ لماذا أنت هكذا؟ لأن لا تُوجَد معرفة بالله عز وجل، لا تُوجَد علاقة، تُوجَد صلاة، لكن لا تُوجَد معرفة، فهذا هو! فكيف إذا ارتقيت إلى درجة أن تكون مرآة للحق؟ لا إله إلا هو! كيف إذا ارتقيت إلى درجة أن تكون مرآة لله تبارك وتعالى؟ اللهم أوصلنا.
فاقد البصرين، هذا الرجل الذي كان يقول أيها الناس ارفقوا بي وتصدَّقوا علىّ وأعطوني فإني فاقد البصرين، قالوا وأما فقدك لبصر باصرتك فهو مرئي محسوس، فما هو البصر الثاني؟ قال صوتي، فإن صوتي أجش خشن وقبيح، قال ليس عندي صوت جميل، والناس يهربون مني، فلما قال هذا صدرت له نغمة كانت في قلوب السامعين من أحلى ما يكون، رأوا في كلامه هذا حلاوة وطلاوة، فرقت قلوبهم وأجزلوا له العطاء، يقول مولانا في الرسالة – رسالة هذه القصة – فتواضع واعترف بضعفك وبتقصيرك وبخطئك، اعترف بسلبياتك! يُسمَح لك بالدخول والنوال، لكن لا تُكابِر.
انظر أيها الأخ وأيتها الأخت مَن إمامك ومَن قدوتك: إبليس أو آدم؟ أنت من نسل إبليس أو من نسل آدم؟ من نسل آدم، لِمَ تتبرأ من أبيك في مسالكك؟ أبوك قال إنه ظلم نفسه، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ۩، اعترف أنه ظالم ولم يُحِل على القدر ولم يُحِل على ربه، أما إبليس فقال ماذا؟ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ۩، فلم يعترف وكابر وأحال على رب الناس، لا إله إلا هو! هل أنت من نسل هذا أو من نسل هذا؟ أنت من أبناء إبليس أو من أبناء آدم؟ تحقَّق بنبوتك لأبيك البر الكريم آدم واعترف، اعترف بضعفك! وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ۩، اعترف وإلا تبقى أعمى البصرين حقاً.
اسمعوا أيضاً هذه الحكاية – تُوجَد حكايات عجيبة جداً – أيضاً، حكاية بطالب العلم الذي أرد أن يبتني له بيتاً فاخراً وفارهاً، ابتنى بيتاً عظيماً جميلاً، فجاءه أستاذه والمشايخ يُهنئونه ويُبارِكون له البيت الجديد، فلاحظ أستاذه – كبير أساتيذه – أنه افتح كوة – نافذة – في الحائط، فقال له ما هذه النافذة؟ عجيب! لماذا فعلت هذه الدائرة في الحائط؟ قال ما فائدتها؟ لماذا هذه؟ قال فتحتها ليدخل منها شعاع الضوء، فأنا أُحِب النور، قال له النور يدخل يدخل، يدخل من الباب، يدخل من السقف أحياناً، ويدخل من النوافذ! لو أنك جعلتها بنية أن تسمع الأذان والتذكير بوقت الصلاة، فعليك أن تنتبه إلى الجهة الأصلية ولا تقع في الثانوي والفرعي.
ماذا يقول؟ يقول للأسف ننسى ونُضيِّع الجهود والأوقات ونُبدِّد الهم والإرادة في ماذا؟ فيما كُفِل لنا، مكفول! سيأتيك هذا، سيأتي سيأتي، لماذا تُضيِّع كل هذا؟ وفي نفس الوقت تُسقِط الهم والشُغل عما ينبغي عليك أن تشتغل به، غلط! قريب من هذا أن همك وهدفك هو الذي يُعطيك حيثيتك عند الله ومقدارك في نظر أهل الله تبارك وتعالى.
سأل أحدهم الواعظ بعدما أخذ في وعظه وأثَّر في الناس، قال له مولانا، طائر حط على شجرة أو على جدار بيت، أيهما يدل عليه: رأسه أو ذيله؟ انظر إلى هذا السؤال، فقال له الواعظ من فوره إن كان رأسه إلى الحاضرة فرأسه يدل عليه، وإن كان رأسه إلى البيداء فذيله يدل عليه، أي أنه حقير! فتكون رأساً إذا كان هدفك هو العمار، وتكون ذيلاً إذا كنت تستهدف الخراب، فاستهدف الروح، ولا تستهدف البدن.
يا خادم الجسم كمْ تشقَى بخِدْمته أتطلُب الربْـحَ فيما فيه خُسران؟
أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلها فَأَنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسـان.
انظر إلى هذه القصة الرمزية العجيبة! عنده شعر – أعتقد من غزلياته وليس من المثنوي – من أروع ما يُسمَع، شيئ عجيب! ما هو؟ يقول – رحمة الله تعالى عليه – ماذا يكون لو ضاعت سلةٌ من بغداد؟ ما بغداد؟ ترمز إلى ماذا؟ ترمز إلى الغنى، إلى الوفرة، إلى الحاضرة العظيمة، وهذه سلة! سلة فيها فاكهة أو فيها حتى مال، سلة ضاعت من بغداد، هل تخرب بغداد؟ مُستحيل! قال ماذا يكون لو ضاعت سلة من بغداد؟ لا يكون شيئ، لا يحدث شيئ! لا يحدث أي شيئ، ثم قال – قدَّس الله سره – ولكن كنز في الخرائب يُحوِّل الخرائب إلى ما هو أعز من بغداد.
ماذا يُحِب أن يقول؟ يقول لك قال الله – تعالى – أنا عند المُنكسِرة قلوبهم من أجلي، حين تُخرَّب وتُخرَّب أحوالك وتُبهدل وتُصاب وتُمتحَن وتفتقر وتُذَل وتُهان – خُرِّبت أمورك كلها – من أجل الله حينئذٍ سنبحث فيك عن الكنز، ما هو الكنز؟ الله عز وجل، الكنز في الخراب! هل رأيتم يوماً كنزاً في عمارة من عشرة طوابق؟ لا، دائماً الكنوز أين تكون؟ في الخرائب، أليس كذلك؟ في الخرائب! ويأتون بأصحاب الطلاسم والعزائم لكي يفكوها ويُخرِجوها من الخربة، أي من الــ Ruine، فهي تُخرَج من الــ Ruine، الخرائب! فقال لك لابد من هذا، هذا هو! لابد وأن تتخرَّب أحوالك من أجل الله، وطبعاً قال رجل يا رسول الله إني لأُحِبك، فقال له استعد للفقر تجفافاً، قال له أتُحِبني؟ سوف تُبهدَل، النبي قال له هذا، انتهى! أشد الناس بلاءً الأنبياء فالأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، إلى آخر الحديث، وهو حديث صحيح، قال النبي – عليه السلام – إن الفقر أسرع إلى مَن يُحِبني من السيل في مُنحدِره، سريع جداً! قال لك أتُحِبني؟ سوف تُخرَّب أحوالك، اصبر إذن، وسيُجازى الصابر، وسيُكافأ صبره بأثمار ربانية شهية، طبعاً في النهاية يُوجَد جزاء كبير جداً جداً، وما بعد الخراب إلا العمار، والله لا يسمح بخراب إلا ويأذن بعده بعمار، إلا خراب الكافر! فخرابه في الدار الآخرة والعياذ بالله، أما المُؤمِن فليس كذلك أبداً، قال الله – تبارك وتعالى – سبقت رحمتي غضبي، ما معنى هذا؟ ما معنى سبقت رحمتي غضبي؟ أي لا يُوجَد غضب إلا وبعده أيضاً رحمة، هذا معنى هذا الكلام، لا يُوجَد غضب إلا وبعده رحمة، لا يُوجَد! فهي أحاطت به، فإذن الكنوز يُبحَث عنها في الخرائب وليس في العمار، فلا تغتر بمَن ترى أن أموره كلها – ما شاء الله – جيدة، الله قال سأملي لهم، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۩ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ۩، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ۩، أليس كذلك؟ هذا هو، هذا من مكر الله الخفي، لا إله إلا هو! فلا تغتر به، لا تغتر بمكر الله – سُبحانه وتعالى – الخفي.
الذين بطلت صلاتهم، قال دخل أربعة يُصلون، يتنفَّلون! أي صلاة نافلة، فدخلوا وشرعوا في الصلاة، فرمق أحدهم المُؤذِّن وقد دخل، فالتفت إليه وقال دخل وقت الأذان؟ فرد عليه أخوه الذي هو إلى جانبه قائلاً بطلت صلاتك، تكلَّمت في الصلاة وهذا لا يجوز، فقال الثالث وأنت أيضاً بطلتك صلاتك، لماذا تُثرِّب على أخيك وتترقَّب له العثرات؟ أما الرابع فقال أنا الحمد لله لم تبطل صلاتي، لم أُنكِر على أي واحد، يقول مولانا وبطلت صلاته.
هذه القصة في مَن؟ في مَن يغفل عن عيوب نفسه ويشتغل بعيوب غيره، حتى الرابع هذا وهو أقلهم طبعاً جُرماً أيضاً اشتغل بعيوب غيره، أنت ما عقلاتك بكونها بطلت أو لم تبطل؟ انتبه إلى صلاتك، لكنه فرح بنفسه وتكلَّم، فبطلت صلاته، قال أما أنا فلم تبطل صلاتي، لأنني لم أُثرِّب على واحد منهم، فقال له الرومي بطلت صلاتك، بطلت صلاتك أيضاً! هذه في مَن؟ في مَن يشتغل بعيوب غيره ويعمى عن عيب نفسه، ستبطل عبادتك، لن تصل إلى الله.
خطر لي اليوم – سُبحان الله – أو بالأحرى الليلة الفائتة شيئ، اركض، اسع، اجهد، انفر، اتعب، وامض على ذلك سنين، لن يُفتَح لك! حتى يكون هو الذي يتأذَّن بأن يفتح لك، والسؤال لماذا لا يُفتَح لي؟ والجواب عندك، لأنه جواب سؤال أنت تعرفه، فقط هذه هي! كل واحد فينا يعرف لماذا، والله الإنسان يعرف سيره وسلوكه، كل واحد فينا يعرف لماذا، المسألة ليست بهذا الشيئ، ارجع إلى نفسك واعرف من أين تُؤتى، من غير مُجامَلة مع نفسك حتى وسوف تصل، وإلا سوف تبقى محجوباً، وأنت الخسران! الله – عز وجل – لا يخسر شيئاً، لا إله إلا هو.
الجمل الضائع، أضاع أحدهم أو أضل أحدهم جمله، فجعل يُولوِل وينوح ويعد بالحلوان – كما يُقال – وبالعطايا لمَن وجده، وجعل الناس طبعاً يُهرَعون إليه، فيكذب بعضهم ويقول هل هو بلا وبر؟ فيقول لا، يأتي أحدهم ويقول هل فيه عمى في عينيه اليُمنى؟ فيقول لا، بعضهم يقول رأيت كذا، كل واحد يذكر صفة، إلى أن يقول نعم هو كذا، وسيَّره أحد النصّابين الأفّاكين، سيَّره حتى عرف أوصاف جمله تماماً، فجعل يدعي أنه فقد جمله، يقول وأنا أيضاً أُريد جملي، فيُقال له ما أوصافه؟ فيقول كذا وكذا وكذا، فيعجب هذا له، هذا وصف جملي، نفس الشيئ! والناس يدلونه، يقولون له نعم رأيناه في محلة كذا أو في مكان كذا، وهذا المسكين يكتفي بماذا؟ لا يريم في مكانه، يبقى فقط يتندس الأخبار، وهذا يقفز من مكان إلى مكان، حتى ألفاه في الصحراء فأخذه وذهب به!
هذا مثل مَن؟ مثل كالذي يقول نعوذ بالله أن يسعد به غيرنا ونشقى به نحن، مثل مَن يدل على الله بالكلام وهو قاعد، ومَن يأخذ هذه ولو بالتقليد في الأول ثم يسعى فيصل، أخذ معلومات وبذل بعض الجُهد فوصل وأخذ الجائزة، لكن أنت بقيت مكانك، هناك مَن يظل يتكلَّم عن الصلاح والولاية والكرامة والذكر والتوبة، وهو ليس له حظ من هذا، يبقى في مكانه، يسمعه ألف واحد فيصلون – والحمد لله – ويسعدون، وهو مُنقطِع محجوب! لماذا؟ مثل هذا الأحمق صاحب الجمل، وهو حقه، أليس كذلك؟ مَن أولى الناس أن يسعد بما يقول بالعلم؟ أليس القائل؟ أحياناً يكون هو آخر مَن يسعد وأول مَن يشقى به، لأن فيه مثل من هذا الرجل.
اجتمع أربعة مرة، وهم فقراء مُملِقون مُترِبون، فآتاهم أحد المُحسِنين ودفع إليهم دُريهمات، قال تقاسموها بينكم كما تشاءون، فقالوا حسناً، نشتري بها ماذا نشتهي، فأما العربي فقال أنا أشتهي العنب، والثاني قال لا، معاذ الله، وهذا كان فارسياً، قال أنا أُريد الــ انگور، فقال لا، الــ انگور لا! فقال الثالث وكان رومياً – أي من الأناضول – نُريد الــ أُزم، أي الــ Üzüm، لا أعرف بالتركي بالضبط كيف تلفَظ، فأما الأخير فقال وهو يوناني أنا أريد الــ ستافيل، فقال لا، الــ ستافيل لا، وجرت بينهم خصومة عظيمة، حتى جاء رجل مُلِم باللُغات، فقال ما شأنكم؟ قال هذا يُريد انگور، هذا يُريد أُزم، هذا يُريد ستافيل، وهذا يُريد عنباً، فقال لا تُوجَد مُشكِلة، أعطوني الدُريهمات، فذهب إلى السوق واشترى بها كلها عنباً، ثم جاء وقال للأول هل تُريد هذا؟ فقال نعم، ثم قال للثاني أهل تريد هذا؟ فقال نعم، ثم قال للثالث هل تُريد هذا؟ فقال نعم، ثم قال للرابع هل تُريد هذا؟ فقال نعم، فإذا بهم جميعاً يُريدون العنب، وكانوا يختصمون!
مولانا يُريد أن يقول كما قال الشاعر الصوفي العربي:
عِبارَاتنا شتَى وحُسْنكَ واحِدٌ وَكُل إِلى ذَاكَ الجمالِ يُشِير.
الله! لكن لو صدقت النية لكُسِر حجاب البيان، بالعكس! لو صدقت النية سنعرف جميعاً أن الطريق واحد وأن الهدف واحد وأن المقصود واحد، بغض النظر عن كسوة البيان المُختلِفة، كلنا نتحدَّث بطريقة مُختلِفة ونتحدَّث بأسلوب مُختلِف، لكن المقصود واحد، المقصود واحد يا إخواني! وهكذا، طبعاً أكبر وحدة في النهاية هي وحدة الله تبارك وتعالى، هو الخالق، المُنشئ من عدم، يقول مولانا بيضة الخلق فيها صفار وبياض وبينهما برزخ لا يبغيان، هذا كفرها وهذا إيمانها وهذا برزخها، فإذا أخذها الحق – سُبحانه – تحت جناح رحمته اختلط صفارها ببياضها وخرج منها نفس حية، فلا صفار ولا بياض ولا برزخ، حقيقة واحدة في النهاية، وهي لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩، انتهى كل شيئ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۩، كلهم سيقولون لا إله إلا الله، اليوم فقط، تحت جناح الرحمن، انتهى كل شيئ، انتهى!
قد تسألني عن عرفان مولانا، وأنا أقول لك روح عرفان مولانا الرومي بشكل عام روح شرعية بحمد الله تبارك وتعالى، وهذا شيئ عظيم جداً! مثلاً في صوفية العصور الوسطى وخاصة في القرون التي حول قرن مولانا كان هناك إشكال كبير لدى المُتصوِّفة، وحتى منهم السنائي ومنهم العطّار أيضاً صاحب منطق الطير، وهو ماذا؟ وهو تبرم العارف إزاء مولاه، يتبرَّم أحياناً، لا يفهم أحياناً كيف يحدث هذا وما الحكمة ولماذا هكذا ولماذا هكذا، هذا لم يظهر في برنامج مولانا العرفاني مُطلَقاً، قط بفضل الله تبارك وتعالى، لماذا؟ سوف نرى هذا من خلال أيضاً بعض المقبوسات وبعض الشروحات إن شاء الله تبارك وتعالى، لم يكن كذلك، كان يرى أن هناك وحدة، كان يفهم العالم – أي مولانا – على أنه عالم يحكي الوحدة الإلهية، لأن هناك خالقاً واحداً في النهاية، فكان ينظر إلى الشر على أنه شيئ نسبي، موقفك أنت هو الذي يُعطي الشيئ صفته وعنوانه، بحسب موقفك أنت!
قال الماء الذي تحوَّل إلى دم وتنغيص على القبطيين هو الذي أنقذ بني إسرائيل، نفس الماء! وعنده قصة عن القبطي والسبطي، تذكَّرناها الآن في هذا الإطار، جاء القبطي إلى السبطي وكان صديقاً حميماً له، قال يا أخي السبطي – أي اليهودي الإسرائيلي – لم أشرب ماءً مُنذ أيام وليال، وقد احترق جوفي، فلو صببت لي كأساً من ماء، قال نعم، على الرحب والسعة، فصب له ماءً قراحاً، فلما صار في يد القبطي استحال دماً عبيطاً، قال قد استحال دماً، قال عجيب! أخذه فاستحال ماءً، فقال هو ماء، فرده فصار دماً، قال يا أخي – هذا السبطي الإسرائيلي المُؤمِن طبعاً والمُوحِّد، من أتباع موسى – القبطي عليك أن تتطهَّر من الظلمة الفرعونية، فإذا نجوت منها وطهَّرت داخلك عاد الماء ماءً، انتهى! هو هذا، الإناء لابد وأن تُطهِّره، فالماء هو الماء، مرة يكون هذا ومرة يكون هذا، بحسب موقفك أنت! هكذا كان ينظر إلى العالم مولانا، ليس شراً مُتمايزاً وخيراً مُتمايزاً، لا! وكان يقول مثلما أنك تموت في كل نفس وتحيا في كل نفس وهكذا يضفر الله نسيج الحياة فهكذا يعمل الله وتعمل يد الله، أنت تأخذ شهيقاً، أي حياة، وتُخرِجه موتاً، أعني الزفير الذي يذهب، أليس كذلك؟ هكذا هو يرى، هذا مع كل شهيق وزفير، سُبحان الله! ولكن هذا الموت وهذه الحياة هي التي تضفر لك حكاية نسيجك، أنت تعيش بهذا، هو هذا! هذه هي الحياة، قال مَن أراد أن يكتب – قديماً لم يكن عندهم ما عندنا، كان عندهم ألواح، مثل ألواح الكتاتيب – لابد أن يمحو المكتوب، يحدث المحو ثم يحدث بعد ذلك الإثبات، مَن أراد أن يزرع لابد أن يقلب – وقبلها أن يحرث طبعاً، يحرث ويقلب – وأن يُثير الأرض، أليس كذلك؟ أو يفعل هذا في أرض غير مزروعة، مَن أراد أن يبني في عامر لابد أن يُخرِّب ويُنظِّف ثم يبني، وعلى قدر المحو يكون الإثبات، وعلى قدر الخراب يكون العمار، وحتى الموت فسَّره بنفس المنطق، خراب في عمارة البدن لكن هو عمارة لعمارة النفس والروح إن شاء الله، هذه خُطة الله في العمل، بهذه الازدواجية، وليس عنده اعتراض، هو ليس عنده اعتراض! رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
الآن نأتي إلى الدعاء، هناك قصة تُرجِمت في وقت مُبكِّر جداً إلى الألمانية ثم إلى الإنجليزية بعد ذلك، وهذه القصة تركت ظلالاً قويةً جداً في الفكر الغربي، تأثَّر بها الغربيون كثيراً، وهي قصة العابد الذي كان يقضي ليله في الدعاء، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله! فعرض له إبليس لعنة الله عليه، وقال له أنت أيها الملحاح الصفيق، كم لك تقول يا الله، يا الله! كم ذا تقول يا الله، يا الله! هل رأيت لبيك؟ هل سمعت لبيك؟ كله يا الله، يا الله، فاترك هذا الإلحاح أيها الملحاح الصفيق، فكأن الرجل خامره اليأس ربما وقال هذا صحيح، أقول يا الله، يا الله، وأبكي وما إلى ذلك، ولا أرى إجابة، فاستنام إليها وترك الدعاء، تركه! توقَّف عن قوله، انقطع عن يا الله، يا الله! أخذته سنة من النوم فطاف له في منامه طيف الخضر عليه السلام، قال له يا عبد الله لِمَ تركت يا الله، يا الله؟ قال يا سيدي يا أبا العباس لم أر لبيك واحدة، مائة ألف مرة يا الله، ولا لبيك واحدة، فتركتها! قال هذا إلقاء العدو لعنة الله عليه، استزلك! قال أنا مُرسَل لكي أقول لك يقول لك الحق – لا إله إلا هو – مع كل يا الله منك كنت تُقرِّبنا إليك – الله يقول له هذا – وتجذبنا إليك، مع كل يا الله منك كنت تُطلِق قدميك، سيصيران إلى جناحين وأنت لا تدري، لكنك تحتاج إلى الصبر، لكل شيئ أجل مسمى، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ۩، ومع كل يا الله كان منا لبيك إليك، يا الله منك هي لبيك منا، هذه الحُرقة وهذا الالتياع وهذه اللوعة والألم هي جوابنا لك، أكثر الناس محرومون منها، والله العظيم! أنا أقول لك أحياناً أنت تدعو وخير لك ألا تدعو، هل تعرف لماذا؟ تدعو وأنت مُتبرِّم من الدعاء، والله العظيم! تدعو بسرعة، لا تفهم ما تقول وتقول ما لا تعنيه، أنت تدعو حتى بما لا تعنيه ولا تُريده، والله! هي جُمل تتحفظها، تقولها هكذا وينتهي الأمر، لا تشعر بأنك فعلاً مُنجذَب حقيقي، كأنك قش أو ذرى حديد إزاء مغناطيس قوي جاذب، لا تشعر بهذا الشيئ، لا تشعر بالحلاوة ولا تشعر بهذه الحُرقة وباللوعة وبالألم، لا تسفح الدموع، لا تشعر! فما هذا الدعاء؟ لابد أن يكون الدعاء مصحوباً بالإلحاح وبالحُرقة وباللوعة وبالشوق، أكبر تلبية! يقول مولانا ألم تلحظ أنك إذا جاءك سائل صبيح الوجه – شاب جميل يسألك – تترد للحظة في أن تُعطيه كسرة خبز لكي تتأمَّل مُحياه للحظة؟ تُحِب أن تُطيل معه الحديث، أليس كذلك؟ وإن جاءتك عجوز مُولية، قبيحة، هرمة – والعياذ بالله -، درداء – أي ليس لها أسنان -، سرعان ما تصرفها بدُريهمات، لا تُعطيها كسرة خبز، تقول لها خُذي حتى دنانير ومع السلامة! كأنه يقول لنا هكذا قال مُعلِّمكم وسُلطانكم – صلى الله عليه وسلم – حين قال يقول الله – تبارك وتعالى – اصرفوه وأعطوه فإني لا أُحِب سماع صوته، حين يقول يا الله يقول أعطوه، مع السلامة! وأما الآخر فيقول عنه أجِّلوا أو أخِّروا عطية عبدي فإني أُحِب أن أسمع تضرعه، يظل يتضرَّع ويسألني، الله قال أنا أُحِب الشيئ هذا، انظر كيف قال لك مولانا هذا، ضرب لك مثلاً عليه بالعجوز هذه وبالشاب الصبوح، فهذه القصة – قصة يا الله – أثَّرت في الغربيين كثيراً جداً جداً، حكيتها قبل سنوات على المنبر.
تُوجَد قصة أُخرى في نظري ليست أقل روعةً منها، قصة موسى عليه السلام، أيضاً من مُعجَم مولانا التخيلي، تخيَّلها! قال قال الله يا عبدي يا موسى، يا كليمي، إذا أردت أن ألبيك فادعني بفم لم تعصني به، فقال أنى لي هذا الفم؟ لا أقدر، أنا يا رب لا أشهد لنفسي بأنني لم أعصك بفمي في كلمة، ليس عندي هذا، قال له إذن فادعني بفم طاهر لم تعصني به، فقال له كيف يا رب؟ قال له بفم غيرك، انتهت القصة.
الله أكبر يا أخي، ما هذا؟ أنا مُتأكِّد الغربيون لم يعرفوا هذه القصة، وإلا كانت ستُهزهم مثل القصة الأولى وأكثر، هل تعرفون كيف؟ لا يزال الشرح غير واضح، كيف بفم غيرك؟ أحسن إلى غيرك، خالق الناس بأحسن خُلق، ابذل لهم النوال، أعطهم من علمك، من جاهك، من حُبك، من سعة صدرك، من رحمتك، من… من… ومن… حتى تُطلِق ألسنتهم بالدعاء لك، اللسان الذي يدعو لك لسان طاهر، ليس فيه غرض ولا مرض، يدعو لغيره! وهذا لم يُعص به الله، هذا معنى الحكاية، ما هذا يا أخي؟ ما الكلام هذا؟ كلام عجيب يا أخي، والله كلام عجيب، قدَّس الله سره الكريم، نسأل الله أن يجمعنا به في مُستقَر رحمته، قال له هكذا! إذن فادعني – قال – بفم غيرك، كيف أدعوك بفم غيري؟ أطلق ألسنتهم بالدعاء لك، هل تُريد عرفاناً وتصوفاً أحسن من هذا؟ هذا هو، بالمُعامَلة! نحن جميعاً نتكلَّم ولا نفقه ما نقول، نقول الدين المُعامَلة وليس عندنا مُعامَلة من الأصل، هذه المُعامَلة، هذا الدعاء، ربما تكون هذه أرقى مرتبة من مراتب الدعاء، لذلك حتى ورد في الآثار والأخبار النبوية أن دعاء المُسلِم لأخيه بظهر الغيب مُستجاب، طبعاً مُستجاب! حين أدعو لك يكون هذا مُستجاباً، حين أدعو لنفسي يختلف الأمر، الله أعلم! مشكوك ومُردَّد، لأن فيه هوى وفيه غرض، أرأيت؟ تعرف أن الإنسان غريب، وكذلك حتى حين تدعو حتى بالعلم، مَن قال لك إنك تُريد العلم الذي يصلك بالله؟ أنت تُريد العلم الذي يُعطيك منبراً، تُريد العلم الذي يُعطيك أستاذية، وتُريد العلم الذي يُعطيك لقباً، كلام فارغ!
خطر لي قبل أيام يا إخواني شيئ، ما الذي يحصل؟ يحصل أننا نأتي الكريم، لا إله إلا هو! نأتي مُحيط الجود المُطلَق في مُطلَقيته، ونعود خائبين، نعود ظمئ! هل تعرفون لماذا؟ لأنه – تبارك وتعالى – لا يُعطي إلا مَن سأله، أما مَن سأل نفسه فالله لا يُعطيه، سل نفسك وأعط نفسك، كيف هذا إذن وأنا أسأله؟ لا، هو يعلم أنك تأتي لا لتأتي وتستعطي لا لتُعطى، إنما تأتي لكي تنتهب وتستلب، لكي تسرق وتهرب، تذهب وتقول له أعطني وسأتركك يا رب، ولماذا ستتركني؟ أين ستذهب إذن؟ أعن الله مُنصرَف؟ أتترك الله؟ لماذا تتركه؟ تقول له أنت أعطني فقط العلم وسأتركك، سأذهب إليهم به، سأرجع إليهم به، سأرفع رأسي بينهم به، اخس عليك! لن يُعيطك، لا لن يُعطيك، أعطني الصلاح والنور يا رب، أعطني القدرة على كذا وكذا، لماذا؟ لكي يُرى في وجهي، لكي يروني، ولكي يُعظِّموني، إذن أنت تسأل نفسك، أنت تعبد نفسك، أنت تسأل نفسك! مَن يسأل الغني لابد وأن يكون فقيراً حقيقياً، الفقير لا يعبد نفسه.
قال مولانا شمس التبريزي – أستاذ مولانا قدَّس الله سرهما – مَن عبد نفسه كفر بربه، ومَن عبد ربه كفر بنفسه، والله مُمتاز الكلام هذا! على قدر كفرك بنفسك تكون عبداً لله، وعلى قدر إيمانك بنفسك كمعبود وكصنم – تدور حول ذاتك – تكون كافراً بالله، ولك أن تتخيَّل هذا! أنت تدور حول نفسك، لا تذهب لكي تدعو، تذهب لكي تنتهب، تخطف الخطفة وتعود، لا! لن تُعطى، لن تُعطى وستبقى محروماً وإن ظننت أنك موهوب، أنت محروم، ليس عندك شيئ بالمُناسَبة وأنت لا تحس بهذا، لا تحس به! وذكِّروني فيما بالخمس الإشارات العجيبة، لأن هناك إشارة لها علاقة بهذا المعنى وهي من أعجب ما تكون، فأنت لا تحس بهذا ولا تشعر به، ليس عندك شعور بهذا الشيئ.
اللهم صل على سيدنا محمد، حكاية الدعاء قلناها، سنجتزئ بأشياء ويُمكِن أن نعقد مُحاضَرة أُخرى، فالموضوع لا يزال طويلاً، ونحن لأننا لا نزال في البداية، (ملحوظة) طُلِب من الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أن يعقد مُحاضَرة ثانية، فقال فضيلته سنعمل مُحاضَرة أُخرى.
أختم بهذه القصة إن شاء الله، وستكون رائعة، وهي قصة النعامة، النعامة بالفارسية اسمها الــ شترمرغ، الــ مرغ معناها الطير بالفارسية، الــ سيمرغ العنقاء، الــ شترمرغ النعامة، فهذه شترمرغ! والــ مرغ معناها الطائر والــ شتر معناها الجمل، أي الجمل الطائر، لأنها فعلاً تُشبِه الجمل وتطير، على أساس أنها طائر من الطيور، فاسمها بالفارسية الــ شترمرغ، علماً بأن هذه لُغة مُركَّبة مثل الألمانية، هي شبيهة جداً بالألمانية، شبيهة جداً الفارسية بالألمانية، تُشبِهها في كلمات كثيرة جداً جداً، المُهِم ستون في المائة من كلماتها عربية، أي عربية الأصل، ستون في المائة! يضحك أبو ياسين، عنده لطائف كثيرة تتعلَّق بالزعاطيط وما إلى ذلك، المُهِم هذه شترمرغ، فمولانا يسخر في مثنويه وفي أعماله من الــ خاجا، مَن الــ خاجا هذا؟ هذا السيد العطّال البطّال، الذي يدّعي أنه شيئ وهو ليس بشيئ، صفر على الشمال! يسخر منه، يُشبِّهه الــ شترمرغ، أي بالنعامة، بالجمل الطائر، يقول له قل لي أيها الــ خاجا، أيها السيد النبيل، تصلح لماذا أنت؟ تنفع في ماذا؟ أنت ماذا؟ ومَن أنت؟ يا ليت كل واحد فينا يسأل نفسه هذا السؤال، يقول أنا مَن؟ خُلِقت لماذا؟ أصلح لماذا؟ وأُقدِّم ماذا؟ هناك أُناس يعيشون على هامش الحياة أو يرضون بأشياء محقورة من الأهداف والأشياء، لا ينفع هذا، فقل لي مَن أعظم هدف؟ مَن أعظم هدف؟ رب العالمين، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ۩، كل هدف ليس هو الله كلام فارغ، والله كله سخف، الله! اجعل هدفك باستمرار الله، كل أهدافك الثانوية والعرضية والجُزئية – كلها – ينبغي أن تكون موصولة بهذا الهدف العظيم، حين تطلب ما تطلب وترغب فيما ترغب وتترك ما تترك وتأخذ ما تأخذ وتُعطي ما تُعطي يكون هدفك الله دائماً، هذا هو! هذا الهدف، غيره كلام فارغ، كله كلام فارغ، كله فناء، كله آكل ومأكول، وفانٍ وضائع!
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً على غير ليلى فهو دمع مُضيع.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۩، المُهِم قال له قل لي مَن أنت؟ تصلح لماذا؟ تنفع في ماذا؟ قال إن قلنا لك يا سيد، يا شترمرغ تعال، تعال واحمل، احمل هذا الحمل، تحمَّل مسئوليتك، خُذ دورك، فإنك تقول لنا لا، إنما أنا طائر، أنا مرغ، أنا طائر! كيف أفعل هذا؟ وهل الطائر يحمل ويُحمَّل عليه؟ تعتل، تتذرَّع! وإن قلنا لك أوصل رسالة، طر بهذه الرسالة يا حمام الزاجل، فإنك تقول لا، إنما أنا جمل، هل رأيتم جملاً يطير؟ إلى كم ذا تختلق الأعذار!
الله، ما هذا الجمال؟ ما هذا؟ هذا الكلام ترجمة نثرية عربية لشعر موزون، هذا مثل أي واحد فينا، كيف؟ طبعاً هذا يُمكِن أن نشرحه بألف طريقة ومن غير مُبالَغة، تأتي إلى أحدهم مرة وتقول له يا فلان لماذا كذا وكذا؟ فيقول لك لأنني طين وماء يا أخي، تقول له اصبر، فيقول لك كيف أصبر وأنا طين وماء؟ أنا طين وماء! لماذا يقول أنا طين وماء؟ لكي يُبرِّر ماذا؟ سفهه وبذاءته وعدم صبره وجنونه الغضبي أو غضبه الجنوني مثلاً، يقول لك أنا طين وماء، تقول له يا فلان لماذا فعلت هذا؟ فيقول لك لأنني طين وماء يا أخي، رأيت هذه الفتاة ولم أصبر لها، قال إنه يُصلي ويزني أيضاً، يُصلي ويرتكب الفحشاء، ثم يقول إنه من رجال الله، والله بئس الصلاة وبئس المسجد الخاص بك، أي المكان الذي تسجد فيه، وبئس الطريق، وبئس المسلك يا مسكين، يا أعمى ما عرفت الله لحظة، لحظة ما عرفت الله! لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن، النبي قال هذا، لا يُوجَد إيمان، أين إيمانك؟ قال إذا زنى العبد نُزِع الإيمان – النبي يقول هذا في حديث ابن عباس – من قلبه، أُخرِج من كل كيانه! فجُعِل على رأسه كالظُلة، فإن تاب ونزع عاد إليه، وإلا لن يعود، يقول إنه يُصلي ويحفظ ويُمكِن أن يُدرِّس لنا أيضاً، يُعطينا دروساً وهو يفعل كذا وكذا، ما هذا؟ ثم يعتل، يقول لك لأنني طين وماء يا أخي، فُتِنت! لست قادراً، أنا ضعيف، أنا إنسان ضعيف، تقول له يا أخي اذهب واشتغل، اصرف على زوجتك وأولادك، فيقول لك والله يا أخي لا أعرف، الواحد يخاف على نفسه من الفتنة، وبعد ذلك بصراحة – لا أعرف – أنا غير قادر على ترك القرآن والصلاة وقيام الليل، صار الآن – ما شاء الله – شيئاً آخر بعد أن قال إنه طين وماء، يخلق الأعذار! كما قال مولانا الكفار في عمل الدنيا مُختارون وفي عمل الآخرة جبريون، والأنبياء في عمل الدنيا جبريون وفي عمل الآخرة مُختارون، قال هذا ما يحدث، بالنسبة للنبي لا يهتم بأهداف الدنيا وحُطام الدنيا، هو يشعر أنه لا إرادة له فيها ولا توجه له وأنه مسلوب التوجه إلى الدنيا، فيظن نفسه جبري، يقول لك أنا لا علاقة لي بهذا، لكن في عمل الآخرة والعبادة والاتصال بالله يعتبر أنه تحمَّل مسئوليته، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ۩، فيعمل ليل نهار، هذا المُؤمِن الذي فيه شبه من النبي، أما الكافر أو الــ شترمرغ هذا الذي يتعلَّل مرة بهذا ومرة بذاك إن قلت له اعبد يقول لو شاء يا أخي لهداني، يا أخي – والله – الأمر بيده.
أُراني كالآلات وهو مُحرِّكي أنا قلم والأقدار أصابع.
هو هكذا! لو أراد لهداني، أما في شأن الدنيا – في شأن أن يفوز بألف أو بمائة يورو – فإنه يفعل المُستحيلات ويستنفذ كل الحيل والمُمكِنات لكي يفوز بها، صار أكبر مُختار الآن، أكبر مُختار! أكبر اختياري، فهو مرة اختياري ومرة جبري، إلى كم ذا يا شترمرغ – يا نعامة، يا جمل، يا طائر – تختلق الأعذار! هذا هو، هذا الإنسان، فيُمكِن أن تشرح هذا – كما قلت لك – على ألف نحو ونحو في كل شيئ، تُوجَد ازدواجية في علاقتك مع الله، مع الناس، أي مع الخلق، مع نفسك، الدينية، الدنيوية، مع زوجك، مع صديقك، ومع أولادك، كل شيئ فيه هذه الازدواجية التي يُصاب بها مَن؟ البُعداء عن الله، الخدّاعون لأنفسهم، الذين: وَغَرَّهُمْ فِي دِينهمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، أما المُؤمِن المُتوحِّد بنور الحق وبفضل نور الله – عز وجل – فهو ليس جملاً طائراً، هو طائر وحسب، هو العنقاء – إن شاء الله تعالى – أو شيئ كهذا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.
(ملحوظة) عُرِضت على الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم عدة أسئلة، للإجابة عنها في هذا الدرس وفي الدرس الذي وعد به فضيلته في المرة القادمة إن شاء الله تعالى، ويُمكِن بلورتها على النحو الآتي:
– كيف يُمكِن أن يُصبِح العبد ربانياً؟
– أين نجد كُتب مولانا بالعربية؟ علماً بأن أحدهم رغب في عقد حلقة كاملة للتعرف على جميع أعمال مولانا ومن ثم لتحقيق مزيد من الاستفادة.
– كيف يُقال إن آنا ماري شيمل Annemarie Schimmel عاشت مع مولانا أربعين سنة؟
– هل كان لمولانا مواقف سياسية وخاصة ضد ظلّام عصره؟
بدأ الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم في الإجابة بشكل سريع قائلاً اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، طبعاً بالنسبة يا أخي الفاضل للدكتورة شيمل Schimmel – رحمة الله عليها – واضح طبعاً أنها تُوفيت قبل بضع سنوات، فهي من أهل القرن العشرين، ومن ثم لم تعش معه بدنياً، وإنما عاشت معه كتَلميذة روحية مثل إقبال، أنا ذكرت محمد إقبال رحمة الله عليه، محمد إقبال تُوفيَ تقريباً في ألف وتسعمائة وثماني وثلاثين ميلادياً، ومثل بديع الزمان النورسي، ومثل أي واحد، نحن الآن يُمكِن أن نُصبِح من تَلاميذه أيضاً إن شاء الله، تُوجَد علاقة روحية بيننا وبينه إن شاء الله تعالى، هذا لا يعني أننا تَلاميذ له شخصياً، لا! وإنما المسألة معنوية، كما قال ابن القيم مرة وقال شيخنا أبو إسماعيل الهروي الأنصاري، وبينهم زُهاء مائتي سنة، هذا معروف وهو كثير جداً جداً، معروف! وهو – إن شاء الله – ليس بالشيئ الكبير.
بالنسبة للكتب التي بالعربية سأُوضِّحها كالتالي، بالنسبة للمجالس السبعة وفيه ما فيه وربُاعيات مولانا هذه الثلاثة مطبوعة في دار الفكر – دمشق، وكلها من ترجمة العالم الدكتور عيسى العاكوب بارك الله فيه، الحلبي كما قلنا، أستاذ كبير وإنسان مُتفنِّن حقيقة في الترجمة، الآن بالنسبة للمثنوي كاملاً بأجزائه الستة مطبوع في مصر بحمد الله، من ترجمة الدكتور العلّامة المرحوم إبراهيم الدسوقي شتا، طبع هذا الكتاب المجلس الأعلى للثقافة في مصر – صدر في إطار المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر – طبعة رخيصة ومُمتازة، من ست مُجلَّدات! أحضر لي إياها أبو محمد – عصام بارك الله فيه وجزاه الله عني خير الجزاء – من مصر، مطبوعة! أيضاً مُختارات من ديوان شمس التبريزي أو الديوان الكبير، ترجمة الدكتور شتا في مُجلَّدين، أيضاً – نفس الشيئ – طبعها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، مطبوعة وأيضاً بسعر رخيص في مُتناول الجميع، ماذا بقيَ من كُتبه المطبوعة؟ اللهم صل على سيدنا محمد، هذا هو أعتقد، المثنوي، مُختارات شمس، (ملحوظة) سأل أحد الحضور عن الرسائل، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، الرسائل غير مطبوعة بالعربية للأسف، يبدو أن هذه الوحيدة التي لم تُطبَع، تقريباً تراثه بشكل عام مُتوفِّر، لكن بقيَ أن يُترجَم بقية الديوان الكبير، كبير جداً جداً هو! في ثلاثة وأربعين ألف بيت، فهذا هو الموجود.
بالنسبة للدراسات التي أُجريت عنه تُوجَد طبعاً دراسات، ليست كثيرة جداً، لكن إلى حد ما مقبولة.
(ملحوظة) رداً على السؤال المُتعلِّق بمواقف مولانا السياسية ضد ظلّام عصره قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، لم يُعرَف له مواقف سياسية ضد الظلّام، لماذا؟ لأن حسبما ألمعنا بطريقة سريعة ووجيزة سلاطين عصره وأمراؤهم كانوا على قدر مُعيَّن من الصلاح بحمد الله تعالى، كانوا طلّاب علم، كانوا يحترمون الأولياء والعلماء، وكانوا أُناساً طيبين، بالعكس! هو كان معروفاً – قدَّس الله سره – بأن له علاقات مع كل طبقات المُجتمَع، حتى مع السلاطين، مع الأمراء، مع الكبراء، مع التجار، ومع الوزراء، لكن أكثر خواصه وتَلامذته ومَن يلوذ به مِن الفقراء والمساكين، حتى ليم وعُوتِب عليه في ذلك، قيل له لماذا؟ أنت لا تعبأ بالملوك، فلماذا؟ كان أحياناً يُوصَد بابه أمام الملوك، جاءه مرة السُلطان علاء الدين نفسه والوزير پروانه، وپروانه وزير كبير جداً ومشهور، جاءاه فدخل في غرفة وقال لهم لن اخرج إليهما، انظروهما! فجعلا ينتظران وينتظران حتى ملا ثم ذهبا، هكذا كان يفعل أحياناً، لا يخرج لهم، لكنه مُتواضِع مع الفقراء والناس الضعاف المساكين، فقيل له في ذلك فقال إن كان مُريدي صالحين فأنا مُريدٌ لهم، وإن كانوا غير ذلك فأنا أُسلِّكهم، لا يهمني هذا غني أو فقير، قال لا، بالعكس! وإذا كان هذا مُريداً وهو فقير وضعيف لكنه إنسان صالح فأنا سأنقلب مُريداً له، انظر إلى هذا التواضع العجيب جداً! وإن كان هذا إنساناً فقيراً ويريد أن يسلك ويريد معرفة الله فلماذا أقطعه؟ فهذا هو إن شاء الله.
(ملحوظة) سُئل الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم عن بداية المثنوي التي عنده، فقال إنها موجودة وهي لعبد الوهّاب عزّام، وسيتحدَّث عنها في الدرس القادم إن شاء الله، ثم طلب فضيلته من مُدير الجلسة ألا ينسى الإشارات الخمس العجيبة، ووعد بأنه سيتلو – إن شاء الله – ما يختص بترجمة عبد الوهّاب عزّام – رحمة الله عليه – في الدرس القادم، ثم قال طبعاً قصة الناي سنحكيها للإخوة بشكل بسيط جداً، ما هي؟
قصة الناي، الناي طبعاً من أقدم الآلات الموسيقية المعروفة تقريباً في مُختلَف قارات العالم، عرفه اليونان، عرفه العرب، عرفه الفرس، عرفه الروم، وعرفه الأتراك، معروف الناي هذا! يبدأ هو بقصة الناي الذي يشكو ما شفه من الوجد وما برَّح به من الحنين، حتى أبكى الناس، وحرَّك قلوبهم بحنينه وبكائه ونواحه، فعلاً الناي دائماً فيه بُحة وفيه صخب، أليس كذلك؟ تشعر بأن فيه نواح، هكذا في عزف الناي باستمرار، سُبحان الله! لماذا؟ ما السبب؟ لماذا؟ السبب أن النوى رمت به وأبعدته عن موطنه الأصلي، القصاب! فهو قصبة أُخِذت من قصابها، القصاب هو مُجتمَع القصب،هذه يُسمونها القصباء، فهو أُخِذ من قصبائه، من أهله، من وطنه! فمُنذ تلك اللحظة وهو ينوح بسبب هذا الفراق وهذا البُعاد، ويئن ويحن لكي يعود إلى أصله، كما قال مولانا – قدَّس الله سره – أيضاً في شعره كنا في الفلك في جوار الملك، وها قد هبطنا هنا، فلماذا لا نعود إلى أصلنا وموطننا؟ فالإنسان في النهاية فعلاً يحن إلى أصله، هذا هو!
أنا مُتأكِّد الآن – مثلاً – مُحاضَرة مثل هذه أي إنسان – أي إنسان حتى لو لم يكن مُسلِماً – تقع منه وقعاً كبيراً، هناك بعض الأشياء، هناك بعض الأشعار، وهناك بعض الكلمات، تُحرِّك فيه اوتار غير عادية، ويشعر بشعور رباني غير طبيعي، لماذا؟ وطبعاً شاعر مثل هذا الصوفي مُسلِم سُني، لماذا يُحرِّك الناس هنا في أوروبا وأمريكا ويعمل زوبعة كبيرة؟ لأن الإنسان في النهاية يبقى إنساناً، فيه من روح الله، وحقيقته وجوهره أنه كائن عُلوي، ينتمي إلى الأزل، ليس إلى هنا، ما عبَّر عنه مولانا بطريقة بالغة العبقرية في قصة عيسى وحماره، قال إذا بلغت محلة عيسى فلا تسأل عن الحمار، عيسى كان يركب الحمار، والحمار يذهب إلى الإسطبل، إذا بلغت محلة عيسى فلا تسأل عن الإسطبل، يقصد أن يقول ماذا في النهاية؟ أنت يُمكِن أن تكون عيسى ويكون موطنك في السماء العلوية، ويُمكِن أن يرضى الأبعد – ولا أقول ترضى أنت والعياذ بالله – أن يكون حماراً وموطنه الإسطبل، فاختر لنفسك! الإسطبل أو العرش؟ العرش أو الحُش – أي بيت الخلاء -؟ اختر لك واحدة من الثنتين، وللأسف مولانا كان دارياً كما ندري جميعاً أن كثيراً من الناس أو كثيرين من الناس يغفلون عن هذه الحقيقة ويُعيرون عينهم التي ينبغي أن تنظر إلى القدس لكي تكون أكلة للزاغ والغربان والعياذ بالله، كالجيف! تكون جيفة حتى مأكولة، وشبَّهها بقصة الرجل الذي دخل على رجل حكيم وجعل يستغيث، قال ما هناك؟ قال الصيّادون يصطادون الحمير، فقال اربَعْ على ظلعك، وخفِّف من خوفك، فإنما أنت عيسى، ولست حماراً في الإسطبل، أنت عيسى هنا وبلغت، فلماذا تخاف؟ هو يظن نفسه حماراً، غافل هذا! كل واحد فينا فيه عيسا، يقول مولانا هذا! كل واحد فينا في الداخل فيه عيسا، لكن أيضاً فيه الحمار أو البغل الذي يُمكِن أن يُركَب، فاختر! الإسطبل أو السماء؟ انتبه!
فهذه قصة الناي باختصار، لذلك هو ينوح ويشكو، يقول عبد الوهّاب عزّام في ترجمته – رحمة الله عليه – اسـتمع للناي غنى وحكى، شـفّه الوجد وهدراً فشكا، مُذ نأى الغاب – ابتعد الغاب، وهو القصباء، جماعة القصب، الغاب هو القصبا – وكان الوطنا، هذه الألف يُسمونها للإطلاق طبعاً، وكان الوطنا! الألف هذه للإطلاق، هذا شعر! أي يقول الناي الغاب هذا كان وطني، مُذ نأى الغاب وكان الوطنا، ملأ الناس أنيني شجنا، قال حرَّكت الناس كلهم وأبكيتهم، الناي يقول كلهم يبكون علىّ، وطبعاً أروع ما في قصة الناي ما هو؟ التشبيه المغفول عنه بالنسبة لبعض الشرّاح، ما هو؟ مَن هو ناي الله؟ الإنسان، نحن ناي الله، نحن! تخيَّل، والعجيب أن الناي متى يُغني ويحن ويئن؟ إذا كان فارغاً، وأنت لابد أن تكون فارغاً أيضاً، لكن لابد أن تكون فارغاً من ماذا؟ من الشهوات، من الأهواء، ومن كظة البطن أيضاً، لا ينبغي أن تكون إنساناً يهتم بالأكل والشرب والنوم أبداً، ولا ينبغي أن تكون إنسان شهوات، كان مولانا يُسمي الغُلمة – وهي الشهوة الجنسية – حيض الرجال، مثل مَن يُفكِّر على مدار الأربع والعشرين ساعة في الجنس والنسوان، هذه يُسميها حيض الرجال، من أخطر ما يقطع الإنسان عن الله، فاقتصر على القدر المناسِب لك بالحلال الصرف، وإلا سوف تذهب وتضيع.
المُهِم يقول أين صدرٌ من فراق مُزّقا، كي أبث الوجد فيـه حرقا؟ انظر إلى هذه الترجمة الجميلة، عزّام لو كان ترجم كل المثنوي – رحمة الله عليه – لكان هذا أفضل، مَن تُشرِّده النوى من أصله، يبتغـي الرُجعى لمغنى وصله، يقول مَن تُشرِّده النوى من أصله، كما شُرِّد هذا الناي المسكين، يبتغي الرُجعى لمغنى وصله، كل ناد قد رآني ناديا، كل قـوم تخذوني صاحبا، فعلاً الكل يعزف عليه وما إلى ذلك ويُغني على ليلاه، ظـن كلٌ أنني خير سمير، ليس يدري أي سر في الضمير، إن سري في أنين قد ظهر، غيـر أن الأذن كلت والبصر، الله! هذا عزّام رحمة الله عليه، والله هو لا يقل روعة، أي الثاني هذا، لكن للأسف ليس عندنا عزّام آخر وليس عندنا رامي آخر، والله هذا المُحزِن! (ملحوظة) سُئل الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أهما من الشعراء؟ فقال إنهما من الشعراء والأدباء الكبار، رحمة الله عليهما.
(ملحوظة) رغب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم في أن يختم بقصة الإشارات الخمس، لكن أحد الحضور أراد أن يُلقي مُداخَلته، فسمح له فضيلته بهذا، ودارت مُداخَلته حول سؤالين أجاب فضيلته عنهما، الأول تعلَّق بتراث مولانا وعلاقته بالمولوية، فهو يُريد أن يعرف أكانت هذه الرقصة مدخولة عليه أم ليست بمدخولة، والسؤال الثاني تعلَّق بالتشكيك في أقواله وفي عقائده، مُشيراً إلى أن ما سمعه الآن يختلف عما وصل إليه سابقاً، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لذلك لا تُقلِّد، هذه إحدى وصاياه لنا، لا تُقلِّد! لا تسمع إلى أي أحد، طبعاً – أنا أقول لك صادقاً – حدث معي نفس الشيئ، أنا قرأت نفس الشيئ، تشكيكات فيه وأنه وحدوي وليس مُوحِّداً وأنه كذا وكذا، لكن هذا لا يهمني، يجب أن أقرأ بنفسي وأن أفهم بنفسي وأن أُناقِش نفسي، وبعد ذلك سأصل الحقيقة أيضاً بنفسي، هذا أصبح مذهبي، الله – عز وجل – سيُحاسِب كلاً منا بما يعتقده هو، لا بما يعتقده غيره، وبما يُدرِكه هو، لا بمدارك غيره، أليس كذلك؟ ولذلك أنت تخاف من بعضهم، قد يقول لك أحدهم يا أخي هل أنت مثل الشيخ – مثلاً الرومي؟ هل أنت مثل الشيخ ابن عربي؟ فقل له لست مثلهما ولا قريباً منهما، ولكن الله سيُحاسِبني أيضاً بعقيدتي أنا، وهذا ما أراه، فأنا أيضاً أحتاط لديني.
على كل حال بالنسبة للرقص طبعاً ليس مدخولاً، بالعكس! هو كان يرقص، هو كان أيضاً موسيقياً، تعلَّم الموسيقى وكان يعزف، وسنتكلَّم في الدرس القادم عن مكانة الموسيقى عنده والجانب الإلهي فيها كما يراه هو، رحمة الله تعالى عليه، وبالنسبة لرقصة المولوية يُمكِن أن يكون فيها بعض التقنيات المُحدَثة، لكن فيها رمزية عجيبة جداً، وأنت حين تراها تتأثَّر بها، هذا ليس رقصاً عادياً، ليس كرقص الصوفية العربية وهذا الاستهبال، لا! رقص غريب جداً جداً، يبدأ هو بماذا؟ كيف يبدأ طبعاً؟ يبدأ بمَن يُسمونهم هنا بالألمانية Tanz der Derwische، أي بهؤلاء الدراويش الرقّاصون أو الدراوشة الرقّاصون، أي الدوّارون أو الراقصون، وهم يبدأون في البداية طبعاً وقد لبسوا أرديةً سوداء على هذه التنورة واللباس الأبيض مع القبعة الطويلة، أي اللبادة هذه، فيها رموز طبعاً، ثلاثة رموز واضحة، ثلاثة رموز! بالنسبة للرداء الأسود هذا هو كناية عن القبر، رمز للقبر! وبالنسبة لهذا الأبيض هو الكفن، وبالنسبة لهذه اللبادة هي شاهد القبر، وفعلاً شواهد قبور الأتراك مثل هذه وخاصة المشايخ، هذا هو! الآن يبدأون في البداية بثلاث دورات أمام الشيخ ويُحيونه، بعد ذلك يخلعون هذه الأردية السوداء، ويبدأ الرقص والدوران فيه على محور الراقص على الرجل اليمين، ثم يتنامى ويُسرِع ويبقى بهذه الطريقة، ويكون موزوناً بشكل غريب، ولا يعتريهم لا دوار ولا دوخ ولا أي شيئ، إذا خرج بعضهم عن الخُطة فيكتفي شيخ الحلقة بمس فقط ردائه مسة خفيفة، فيُعيده أو يُخرِجه، فينتبه! ثم مع آخر إيقاع موسيقي يتم الوقوف بشكل فجائي، ثم يتلوه دعاء مُؤثِّر طويل، هذه هي باختصار طريقة الرقصة، أي المولوية، الآن الثلاث دورات هذه أمام الشيخ لها رمزية، الأولى رمز إلى الوصال بالعلم، والثانية رمز إلى الاتصال بالرؤية، والثالثة رمز إلى الاتصال ذاته، أي هي المقامات الثلاثة، وهي الشريعة والطريقة والحقيقة، أو الإسلام والإيمان والإحسان، أو علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، هذه هي! هذه الثلاث دورات، فيها سر وفيها شيئ عجيب، المُهِم هذا ما كان بالنسبة لهذه النُقطة.
بالنسبة لعقيدة مولانا – قدَّس الله سره – وإجماع الناس عليه لا يُوجَد إجماع، أنا أقول لك لا يُوجَد إجماع على أحد، لا على أبي حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد ولا الغزّالي ولا ابن تيمية ولا أي إنسان، وأتحدى! أتحدى أن يأتي إلىّ واحد بإمام في الإسلام عليه إجماع، أتحدى! البخاري هناك أُناس كفروه وهم مُعاصِرون له، البخاري – رحمة الله عليه – إلى الآن في كتب الرجال هناك أقوال بتكفيره، ابن أبي حاتم لا يروي عن البخاري، قال هذا مُجرَّح عندي، أنا لا أرتضيه، لا يروي عنه أي حديث، البخاري! عند مَن؟ عند ابن أبي حاتم صاحب الجرح والتعديل، ماذا تُريد؟ الإمام مالك كفَّروه، لا يُوجَد إمام على الإطلاق عليه إجماع، الشيخ ابن عربي – مثلاً – يُعرَف عند الصوفية ومَن يتولاه بأنه الشيخ الأكبر، وعند آخرين يُعرَف بإنه الشيخ الأكفر، ولك أن تتخيَّل هذا، نعم! بعضهم جعله قدّيساً وبعضهم أبى إلا أن يكون إبليساً، لا يُوجَد إجماع، وكذلك الرومي قدَّس الله سره، بالعكس! أنا أقول لك إن الله قال وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ۩، هذه من الفتنة، حتى الأنبياء كذلك، هل هناك نبي بُعِث وأجمعت الناس عليه؟ مُستحيل، هلك فيه ناس أو هلك فيه قوم ونجا به آخرون، مُستحيل غير هذا، كل نبي يُبعَث يكون مظهراً لجمال الله وجلاله، أليس كذلك؟ لرفعه وخفضه، لقهره ولُطفه، أليس كذلك؟ وحتى القرآن مثل هذا، هل القرآن عليه إجماع؟ لا، القرآن نفسه قال لك أنا لم أنزل لكي يكون علىّ إجماع، بالعكس! نزلت لكي أُفرِّق وأُميِّز، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ۩، الله أكبر، هذا هو!
يقول مولانا نفسه – قدَّس الله سره – مثله كمثل عصا موسى، لموسى هي ماذا؟ تأييد ومُعجِزة وطمأنينة، ولغيره تنين – والعياذ بالله – مُرعِب، ينقلب مُباشَرةً! هو هذا، له وجهان، الحق له وجهان، فبالنسبة للإجماع لا يُوجَد عليه إجماع طبعاً، لا يُوجَد إجماع! ولا يُوجَد إجماع على أي واحد، وائتوا لنا بأي واحد عليه إجماع، هذا غير موجود، غير موجود مَن عليه إجماع إطلاقاً.
هل تُكلِّم في عقيدته؟ نعم، تكلَّم بعضهم في عقيدته، بالذات من جهة حيثية وحدة الوجود، اتُهِم بأنه Pantheist وليس Monist، أي اتُهِم بأنه وحدوي وليس مُوحِّداً، أنا وعدت – إن شاء الله – بعقد مُحاضَرة عن هذا، لأن أعتقد ولا مرة إلى الآن عقدة مُحاضَرة لكي أُفهِم فيها إخواني والناس وحدة الوجود ولكي نستعرض فيها بدقة ما هي وحدة الوجود بالضبط، لأنها أنواع وليست وحدة واحدة، أنواع وأنواع، ومنها تفاريق وما إلى ذلك، مسألة مُعقَّدة جداً جداً، منها الجانب الفلسفي ومنها الجانب الذوقي أيضاً، شيئ مُختلِف! مفهوم الوجود نفسه عند الصوفية يختلف عن المفهوم الموجود عند الفلاسفة بالكامل، فالقضية مُعقَّدة! ولذلك أنا – مثلاً – أعجبني شيئاً في دائرة المعارف الإسلامية الخاصة بالمُستشرِقين، هذه فيها ألمان وفرنسيون وهولنديون وغيرهم، المُستشرِق ريتر Ritter – على ما أعتقد – قال ومَن يقرأ المثنوي بتعمق يصعب أن ينسب الرومي إلى وحدة الوجود، وهذا صحيح! هل تعرف لماذا؟ لأن الرومي – وآنا ماري شيمل Annemarie Schimmel أيضاً فهمت الشيئ هذا – يتحدَّث بشكل واضح عن خلّاقية الله وكيف خلق الكون كله من العدم، لا يُوجَد وحدوي يقول لك الكون مخلوق من العدم، الرومي في مئات المواضع يُؤكِّد قدرة الله وبداعته في الخلق من عدم، بل هناك ما هو أكثر من ذلك، يذهب مع آخر السُنة الأشاعرة إلى آخر المدى، ويذهب مع ابن حزم الظاهري – رحمة الله عليه – أيضاً حين يُؤكِّد نظرية الخلق المُستمِر، وسوف نقول ما هي في الدرس القادم إن شاء الله، يُؤكِّد أن الله كما يُقيم هذا الكون كله في لحظة – كله قائم في لحظة – يُفنيه كله في لحظة، ثم يُعيد خلقه – في أقل طبعاً من لحظة، فاللحظة هنا ليست بمعنى الــ Second، هذه اسمها الخلق المُستمِر، أين وحدة الوجود عنده؟ أين وحدة الوجود؟ غير موجودة، لا تُوجَد هذه، تُوجَد بينونة هنا، تُوجَد بينونة حقيقية عنده، لكن هو يتكلَّم عن نوع من الوصال ونوع من الاتحاد بالنور الأزلي بطريقة عشقية ووجدانية ومُنازَلتية تختلف تماماً عما نعرفه، علماً بأن عنده تصريحات واضحة، بماذا؟ بإدانة وتهجين الحلول، ضد الحلول! إذن هو ليس حلولياً – بحمد الله – وليس وحدوياً، لكن هذا يحتاج إلى مُحاضَرة، وكما قلنا نُريد أن نُشبِع فيها القول في أطراف المسألة، ما الوحدة؟ ما الوحدة الفلسفية؟ ما الوحدة الصوفية؟ وما كذا وكذا؟ قصة طويلة! أي ما سهل فعلاً نسبته إلى ابن عربي – لأنه أقرب إلى تلك الوحدة – لا يسهل أبداً نسبته إلى مولانا، مُستحيل! عنده أشياء يُصرِّح فيها بهذا، فعلى كل حال هذا المُستشرِق كان مُنصِفاً، وقال لك يصعب أن تنسبه إلى الوحدة، كيف هذا؟ هو يتحدَّث عن الخلق المُستمِر، يتحدَّث عن خلق من عدم، عن خلق من لا شيئ، من لج العدم! يتحدَّث عن خلق من لج العدم، ثم تقول لي وحدة وجود، وحدة ماذا؟ لا يُمكِن، هذا صعب، لكنه عميق، أي الرومي، لكي تفهمه لابد أن تتعمَّق.
علماً بأنه ذكر في مُقدِّمة المثنوي – إن شئتم في الدرس القادم يُمكِن أن أقرأها لكم – أيضاً أنه لا يفهم هذا المثنوي ولا يحوز شرف فك أسراره إلا مَن كان ضليعاً في جانبين، أولاً لابد أن يكون عندك فهم في العلوم الظاهرية والعلوم العقلية، علماً بأنه كان مُتكلِّماً كبيراً وكان يفهم القضايا الفلسفية وما إلى ذلك، حتى أن مولانا أبا الحسن الندوي – قدَّس الله سره – كان من مُحِبيه طبعاً، والمُجلَّد الأول من كتابه الماتع رجال الفكر والدعوة في الإسلام آخر فصل فيه كان عن مولانا جلال الدين الرومي، إمام من أئمة الكلام، بل مُؤسِّس علم كلام جديد، اعتبره مُؤسِّساً لعلم كلام جديد، تعاطف معه الندوي كثيراً جداً جداً، اعتبره أحسن من علم الكلام القديم، ما رأيك؟ فهو إنسان عنده توسع في هذه المسائل لكن بعمق، وثانياً لابد أن يكون عندك هذه المُنازَلات الإلهية والأذواق والتجربة الروحية، إذا لم يكن عندك هذا وتعشه فلن تقدر على أن تفهم الكلا هذا، هل تعرف لماذا؟ لأن فعلاً كما اشتُهِر عند السادة العُرفاء والصالحين كلما اتسع المعنى ضاقت العبارة، هذا صحيح! كلما اتسع المعنى صارت العبارة أضيق، لا تقدر على التعبير، صعب! فكيف حين يكون المعنى معنىً غيبياً وأحياناً لا يكون له أمثال حتى حسية؟ كيف ستُعبِّر عن هذا؟ بأي طريقة وبأي لُغة ستُعبِّر عنه؟ ستُصبِح المسألة صعبة وعصية جداً جداً، فيُصبِح الكلام حين يُقال اشتباهياً والتباسياً، فلابد في البداية أن تُحسِّن الظن، ثم تتعمَّق بعد ذلك وتسترشد بالله تبارك وتعالى، ومع حُسن النية يظهر لك وجه الكلام إن شاء الله، بالحُسن والتطهير الباطني بإذن الله، وإلا مع سوء النية يُمكِن أن تدين كل صالح وتهلك بذلك، علماً بأن الوقيعة في أولياء الله عملية ليست سهلة.
الآن سأقول لكم – إن شاء الله – الإشارات الخمس العجيبة، وأنا – الحمد لله – جد سعيد – بفضل الله – وأعتبرها من بركات مولانا الرومي قدَّس الله سره، وأسأل الله أن يجمعنا به وأن يُشفِّعه فينا إن شاء الله.
الإشارة العجيبة الأولى يا إخواني كالتالي، كنت جالساً أُطالِع ما يتعلَّق بمولانا وأكتب أشياء طبعاً، فتحت التلفزيون Television على قناة الرسالة، ربما فتحت في البداية قناة اقرأ فلم أجد فيها شيئاً ففتحت قناة الرسالة، فوجدت الأفاضل الدكتور سلمان العودة – حفظه الله – والدكتور عصام البشير السوداني والدكتور عائض القرني – بارك الله فيهم – معاً، هؤلاء العلماء الأفاضل كانوا جالسين، عملوا شيئاً مثل الأمسية الأدبية في الكويت، أدركتهم في آخرها، تقريباً في آخر أربع أو خمس دقائق منها، فإذا بالدكتور البشير – بارك الله فيه – يطلب إليهم أن يختموا هذه الجلسة، وطبعاً كان يبدو أن محور الحديث عن الكويت وأهل الكويت وكرمهم، أي الموضوع لم يكن موضوعاً روحياً وما إلى ذلك، طبعاً أنا شعرت بالبون الشاسع، كالذي كان في السماء وخُسِف به في سابع أرض، فقلت في نفسي للحظة يا قوم أين أنتم من الشعر – السحر الحلال – هذا؟ أين أنتم من هذا المُحيط؟ تتكلَّمون عن كذا وكذا، ما هذا؟ هذا كله كلام فارغ، أين أنتم؟ سُبحان الله حين طلب منهم في نفس اللحظة الدكتور البشير أن يختموا ابتدأ الدكتور العودة – الدكتور سلمان العودة بارك الله فيه، إنسان فاضل ورجل طيب، وهو واعٍ ومُتفتِّح فعلاً – فقال أنا – والله – في الحقيقة أُحِب أن أبدأكم ببيتين من الشعر، لا أتحقق من نسبتهما لكن أظن أنهما لشاعر يُدعى جلال الدين الرومي، الله أكبر! فشعرت كأن روح مولانا حاضرة إذن، فرضت نفسها علىّ وعليهم، كأنه يقول لي لا تحزن، أو كأن ربنا يقول لي لا تحزن، أنت تُريده وسنُفرِضه عليهم، الله أكبر! استغربت وأصابتني قشعريرة، الله أكبر! أنا قلت أقول في نفسي أين أنتم منهم؟ وهو حاضر عندهم، وقال بيتين فقط، اثنين لا ثالث لهما، قالهما ومضى إلى الحديث عن قصيدة لكويتية مُعاصِرة، تتحدَّث عن آلامها وإصابتها بالسرطان، ولم يُعقِّب ولم يُعقِّب أحد، كأنه فقط ظهر هكذا، قال أنا موجود واختفى، مثلما ظهر الخضر في القرآن مرة واختفى، الخضر ظهر فقط في كتاب الله مرة واحدة، ظهر مرة في نصف القرآن – في الجُزء الخامس عشر – واختفى، هذه طريقة أولياء الله، شيئ غريب! لكن إذا حضروا يكون لهم حضور مهيب ومُؤثِّر، واسمع البيتين، رائعان جداً جداً! أتدري لماذا يُصبِح الديك صائحاً، يُتلو لحن النوح فـي غـسة الفجر؟ يقول لقـد مضت من الدهر ليلةٌ، وها أنت لم تشعر بذاك ولم تدر، قال أنت لا تدري بنفسك، هذا ما وعدتكم به، لا تدري! أنت محجوب ولا تدري، أنت محروم ولا تدري، كيف يُمكِن أن تُطرِب الأطروش؟ كيف يُمكِن أن تُوجِد الممرور – المُصاب بالمرارة أو بالصفراء – حلاوة السكر والعسل؟ مُستحيل، كيف يُمكِن أن تُحدِّث رافضياً عن خصال عمر ومناقب أبي بكر الصدّيق؟ مُستحيل، لا تُوجَد فائدة! المُصاب بمرض في ذائقته صعب أن تتعامل معه، فهذا ليس شاعراً فقط، فحسبك من ذنب عقابه فيه، كانت هذه أول إشارة، قلت شيئ عجيب، واعتبرت بها، قلت لعله أول إذن، أن أكون مأذوناً بالحديث عن مولانا، حتى لا أكون مُتطفِّلاً فضولياً.
الإشارة الثانية كانت عجيبة جداً، كيف؟هيأت نفسي للحديث عن مولانا، وكنت سجَّلت في رمضان حلقات – طبعاً لم أحضر هذه الحلقات، كنت مشغولاً في رمضان – من الجزيرة الوثائقية عن عواصم الأناضول، ولا تزال تُبَث إلى اليوم، في كل أسبوع حلقة، فقلت إن شاء الله ستكون هناك حلقة عن قونية، أكيد! لأنني أُحِب أن أرى بعيني أيضاً ضريح مولانا والمكان الذي فيه وهذه الجنة الأرضية إن شاء الله، ولم يكن عندي وقت، ليس عندي وقت لكي أذهب وأبحث، عندي مئات الأفلام المُسجَّلة، مئات! مئات السيديهات – CDs – وما إلى ذلك، فكيف سأُدوِّر وأبحث؟ هذا يحتاج إلى وقت وليس عندي وقت، سُبحان الله! أنا سجَّلت هذا باليوم وبالساعة، عند صلاة العشاء تقريباً قبل يومين – عند صلاة العشاء تقريباً قبل ليلتين بالحري – جلست وفتحت الجزيرة الوثائقية، في الساعة السادسة تبدأ البث الجديد كل يوم، وتقوم بالإعادة كل يوم من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة، الإعادة هذه لأربع ساعات في اليوم، وهذا لمَن يُحِب أن يُتابِعها، من الساعة السادسة إلى الساعة العاشرة كل ما يُبَث هو جديد، بعد ذلك كله إعادات، والبث الجديد يُعاد في ثاني يوم من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة، أربع ساعات! المُهِم في الساعة السادسة تبدأ البث الجديد، وفعلاً العشاء كان قد أُذِّن له، بالضبط! فتحت فوجدت عواصم الأناضول، تركت القلم وقلت يا رب بيني وبينك إن جعلت آية أُخرى فهذا سيُفرِحني، إن كانت عن قونية فهذا عجب يا رب، نظرت فإذا بالحلقة عن عواصم الأناضول، وتحديداً عن قونية، لأول مرة يتحدَّثون عنها، فقلت لزوجتي تعالي، والموسيقى هي موسيقى المولويين، كل الحلقة كانت مُؤثِّرة جداً، وحكوا عن مولانا وكيف حفظ الإسلام وكيف كان نور تلك البلاد وملاذ المُسلِمين في تلك الفترة العصيبة، وتحدَّثوا عن الرومي وجماعته وطريقته، فقلت هذه الإشارة الثانية، لا إله إلا الله!
أين الإشارة الثالثة؟ أُريد أن أقول الإشارات بالترتيب، اللهم صل على سيدنا محمد، سوف ترون – سُبحان الله – أن هناك واحدة من أعجب ما يكون، إشارة عجيبة، لا إله إلا الله! الثالثة عجيبة جداً، هذه كانت يوم الجُمعة، أمس! أنا قلت لعل هذه أعجبها لكن جاء ما هو أعجب منها، أمس بعد أن صليت الفجر – بفضل الله تبارك وتعالى – هيأت نفسي للخُطبة، فقلت أتحدَّث عن ماذا؟ قلت أتحدَّث عن وجوب اتخاذ المُؤمِن لنفسه دورة روحية، بعض الناس يأخذ دورة في الكمبيوتر Computer أو في اللُغة، فلماذا لا نعمل لأنفسنا – إذا عندنا اهتمام حقيقي بالله – دورة روحية؟ دورة! ينقطع الإنسان بطريقة مُعيَّنة فيها للعبادة، وقلت طبعاً الناس عندها أعمال وعندها دراسات، فلا يقدرون على أن ينقطعوا فعلاً بطريقة العابدين، العابد ينقطع فعلاً في خلوة وما إلى ذلك، فيُمكِن أن أُحدِّثهم عن فضل الأربعينية هذه، لكن ليس بطريقة الخلوة الكاملة، وإنما – مثلاً قلت – إنسان يتخذ على نفسه عهداً أو يقطع على نفسه عهداً بأنه – مثلاً – يعتكف معنوياً لله – عز وجل – أربعين يوماً وليلةً، بحيث يُصلي الصلوات الخمس في أوقاتها مهما استطاع، لو وُجِدَت ظروف عمل سيكون هذا شيئاً ثانياً، لكن لابد أن يُصلي الصلوات الخمس في أوقاتها مهما استطاع، هذا أولاً، ثانياً لا يغتاب، لا ينم، لا يكذب، لا ينظر إلى ما حرَّم الله، فعلاً يصوم عن الذنوب كلها مهما استطاع، إلى آخره، إلى آخره! المُهِم لأربعين يوماً وليلةً، وأنا مُتأكِّد وأضمن هذا لكل واحد – إن شاء الله – لو فعل هذا بنية صادقة وصدق توجه سيُفتَح عليه، سيُصبِح إنساناً آخر، قطعاً لن تخرج كما دخلت، أنا أضمن لك هذا، وبعد ذلك استحضرت في ذهني بعض ما يؤنس ويُستأنس به للتدليل على سر الأربعين هذه، فمثلاً وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۩، عيسى – عليه السلام – قبل أن يُنبأ على الجبل مكث أربعين ليلة مُتواصِلة وصام وابتهل فأُوتيَ النبوة، بعد ذلك – مثلاً – عندنا حديث ابن ماجة والترمذي، قال – صلى الله عليه وسلم – مَن صلى في مسجد جماعة قومه أربعين ليلة لا تفوته العشاء كُتِب له براءة من النار، فلماذا النبي قال أربعين؟ روى الطبراني كما أذكر – هذا كل من حافظتي بفضل الله، قرأت هذا أيام الصبا – أن رجلاً قال لسيدنا عمر قد كنت في الرباط، فقال له كم ربطت؟ فقال له كذا وثلاثين، فقال له هلا جعلتها أربعين؟ أي قال له لماذا لم تُكمِل الأربعين؟ فعمر كان مُتفطِناً لسر الأربعين، علماء الحديث يقولون المُحدِّث لا يُولَد إلا في أربعين، الصوفية يقولون لا يصل السالك ولا ينضج – بمعنى يصير فعلاً رجلاً كاملاً – إلا في أربعين، ربنا قال حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۩، إلى آخر الآية! فهذه تتكرَّر كثيراً، المُهِم نزلت إلى مكتبتي، فتحت الكمبيوتر Computer وقلت أُريد أن أفتح برنامج الشاملة، برنامج مُمتاز والبحث فيه سهل، سأبحث وأكتب (أربعون، أربعين، أربعون يوماً، أربعين يوماً، أربعون ليلة، أربعين ليلة) فلعلي أصل إلى بعض النصوص والأحاديث التي غابت عني أو لا أعرفها، ودائماً أستخدم الشاملة، فهي سلسة ومُمتازة جداً جداً، فتحت البرنامج فخرج لي شيئ صغير جداً جداً جداً يقول لي اذكر مساق البيانات Data، فلم أفهم، ما هذا؟ كيف هذا؟ لماذا لا يشتغل؟ أغلقته ثم عملت Newstart للكمبيوتر Computer وقلت هناك مُشكِلة، لكنني وجدت نفس الشيئ، فقلت سأُعطيه مساقاً من عندي، وأنا لا أعرف الأشياء هذه، عملت له مساقاً مُعيَّناً وما إلى ذلك فاشتغل البرنامج، أعطيته كلمة (أربعون) فخرجت نتائج، حين أردت أن أقرأها وجدت الشاشة سمراء، الشاشة التي يُقرأ فيها سمراء! وهي بيضاء طبعاً، لم أقرأ شيئاً، جعلت أضرب عليها وأضغظ على بعض الأزرة لكن لا فائدة، كرَّرت المسألة – لا أعرف كم بالتحديد – عشرات المرات، شيئ حيَّرني! بعد ذلك قلت لعل الله لا يُريد لي أن أتحدَّث في موضوع الأربعين على الأقل اليوم، لا أدري لماذا، كلها فتوحات ربانية وأنت لا تعرف، الله عنده حكمة، سأتحدَّث إذن بما قدَّر الله، تركت الموضوع، ثم – سُبحان الله – خرجت لكي أرى سيارتي وما إلى ذلك ففُوجئت، وحين أكون في البيت أحياناً لا أخرج بل لا أرى الشارع حتى أحياناً، أظل جالساً مع الكتاب وأنسى نفسي، وجدت العالم كله ثلوج، والسيارة كانت مُمتلئة بالثلج، والوضع كان مُخيفاً جداً، لم يكن حتى كوضع فيينا العادي، كان مُخيفاً تماماً! واتضح أن عجل سيارتي الذي يُوجَد على جهة اليمين قد نفَّس بالكامل، بالكامل! وكانت هناك مُشكِلة به وكان معطوباً أصلاً، فقلت السياقة في هذه الظروف مُغامَرة غير مأمونة العواقب، وإلقاء بالنفس في التهلكة، فاستأذنت واتصلت بأخي أبي أنس وقلت له حدث كذا وكذا، فقال لي يا شيخ ابق في مكانك وما إلى ذلك، تركت هذا وذهبت مُباشَرةً إلى موضوع مولانا، أخذت كتاب العلّامة الإيراني فوروزانفر Forouzanfar، فتحته لكي أقرأ فيه وبعض دقائق وجدت: وسُئل مولانا عن الأربعين، شيئ عجيب يا أخي! ابنه استأذنه أن يختلي أربعين فنهاه، قال لا، وليس هذا من شأننا وما إلى ذلك، أعطاه فتوى طويلة، بعد ذلك في الهامش مذكور أن شمساً – شيخه قدَّس الله سره – قال هذه الأربعون ليست لنا، هذه يدرج عليها مَن انتفع بالشرع الموسوي، هؤلاء لم ينتفعوا بمحمد، معاذ الله! إنما لم يعرفوا كيف ينتفعون بمحمد، وحصل لهم نفع يسير بموسى، فتابعوه، وأما نحن فلا، فلنا طريقة أُخرى، قلت هذه هي، هذه إشارة، قلت لا إله إلا الله، شيئ عجيب! هل هو الذي خرَّب البرنامج أو روحه أو كانت هذه بطريقة الله وما إلى ذلك؟ شيئ غير مفهوم، أول مرة يخرب معي البرنامج، قبل أيام كنت أشتغل عليه بشكل عادي، قال لا تُوجَد أربعون ولا تُوجَد أدلة فاسكت، لا تتحدَّث عني ثم تُخالِفني، أنت تهيء نفسك لكي تتحدَّث عني لكنك تُريد أن تُخالِفني اليوم في الخُطبة، فامتنعت عن الخُطبة وعن الأربعين كلها، حين قرأت هذا حدثت لي حالة عجيبة جداً، قلت لا إله إلا الله، والله شيئ غير طبيعي، فكانت هذه الإشارة الثالثة.
بقيت الرابعة والخامسة، وأنا صار عندي مثل طمأنينة، وهي تتم بثلاث، قلت هذه ثلاث إشارات، فماذا تُريد أكثر من هذا؟ جاءت الرابعة وهي أعجب الجميع، زوجتي لم تكد تُصدِّق، جلسنا ساعة نتبادل الحديث، كيف؟ كيف هذا؟ لا إله إلا الله، فعلاً شيئ عجيب، ما هي؟ هذا القلم، هذا هو! هل ترونه؟ هذا القلم كتبت به كل هذا، زُهاء ثمانين صفحة بهذا الخط المُكتنِز، كل هذا كتبته بقلم واحد، طبعاً هذا القلم لا يكتب حتى خمسين صفحة، هل ترونه؟ ها أنا أحضرته معي، إن شاء الله يبقى هذا إلى ما شاء الله، كل هذا كتبته بهذا القلم، وهذا القلم كانت عملت فيه الأسنان قليلاً، كان مُتهشِّماً في النهاية، وأنا أكتب اعتراني أيضاً شيئ، المُهِم فتأثَّرت وضغطت عليه، وإذا به يتكسَّر، وحده تكسَّر! لما تكسَّر رميته، عادي! ثم تابعت، بعد ذلك قلت في نفسي هو تكسَّر وأنا سأرميه سأرميه، لماذا؟ لأن أكيد لم يبق فيه إلا القليل، هذا انتهى! كتبت به الكثير جداً، وحانت مني التفاتة فإذا بالقلم – والله الذي لا إله إلا هو – لم ينقص منه شيئ، ها هو! ها هو القلم، لم ينقص منه شيئ، جعلت أنظر فيه، أضع عليه الضوء، مُستحيل! وبالمُناسَبة الأقلام تكون مُعبأة إلى حد مُعيَّن، لكن انظروا إلى هذا، هذا مُعبأ تقريباً حتى الثمالة، ثمانون صفحة كُتِبت به كاملةً، لم ينقص منه شيئ، وكانت هذه أعجب إشارة، كتبت أقول هل أُريد أن يُقال لي إنه – قُدِّس سره – خالد كما قال الداراني أم هل أُريد أن أفهم أنك في البداية – أي كأن الله يقول الله لي أنت في البداية وهذا الدليل، فكل ما قرأت وفهمت هو في العتبة الأولى من عالم هذا الرجل الكبير – أم ماذا؟ الله أعلم، وطبعاً لم أتخل – وكيف؟ – عن مُتابَعة الكتابة بهذا المُبارَك، ولكنه صار يخدشني فعلاً ويخمشني ويخزني، فهل أُريد أن يُقال لي أيضاً طريق الحق – سُبحانه – ليست ناعمة رضية ومُعبَّدة، بل هي ملآى بصنوف البلاء والمُنغِّصات والعوائق؟ كتبت هذا للتو، ولما عُدت إلى مُتابَعة الكتابة بعد دقيقة وجدتني مُباشَرةً إزاء جُملة الحمّال وارتفاع أجره بارتفاع ثقل حمله، كأنه يقول لي فعلاً سيكون هناك بلاء وما إلى ذلكن لكن سيعظم الأجر، لكن هذا شيئ عجيب جداً، لِمَ انكسر؟ لماذا تكسَّر وتهشَّش؟ نعم عملت فيه الأسنان لكن أنا فعلت شيئاً بسيطاً، فتهشَّش، لكن هذا حدث حتى أراه، ولم أره في البداية، بعد ذلك انتبهت، فلم أكد أُصدِّق.
جاءني إبليس اللعين بعد ذلك، أنا شككت – لا أكذبكم – في هذا، بالذات لأنني لا أُحِب أن أخدع نفسي فضلاً عن أخدع الناس، كأن أُكلِّمكم عن شيئ مثل كرامة ثم يتضح بعد ذلك أنه ليس بشيئ، لا أُحِب هذا أبداً بفضل الله عز وجل، أُحِب أن أستوثق تماماً، فجاءني وقال لي لعله القلم الآخر، أنا أمامي اثنان وبنفس الهيئة، فقلت نعم والله، هذا صحيح، لماذا لا أكون بادلت بينهما؟ رُغم أن الآخر لم أكتب به، هو عصي على الكتابة، ويكتب بخط باهت، لكن هذا يكتب بخط سلس وغامق، بعد ذلك قلت لعله يكون الآخر ولذا سأختبر الأمر، لن أقول هذه الإشارة، فهي ليست إشارة إذن، هكذا شككت! بعد ذلك – سُبحان الله – جاءني شيئ وقال لي أين هذا؟ هل أنت أهبل؟ أهبلت؟ هذا هو المُهشَّش، من يوم بدأت به وهو أصلاً مُهشَّش، أولادي يعضونه بأسنانهم، ولذلك تكسَّر وحده، ذاك رجعت له فوجدت أنه غير مُهشَّش، قوي، صُلب، لا يتهشَّش ولا يتكسَّر، إذن هو هذا الأول، هذا الذي بدأت به من أكثر من أسبوع، بدأت به مُهشَّشاً وكل الكتابة به وهو الذي انكسر في يدي، فقلت لا إله إلا الله، إذن هذه آية، شيئ غريب!
وبالمُناسَبة تابعت به بعد ذلك، ربما كتبت عشرين صفحة أو خمس عشرة صفحة وأيضاً لم ينقص، أسأل الله ألا ينقص أبداً، وسيبقى قلمي طيلة عمري بإذن الله تعالى، هذه آية من آيات الله، شيئ عجيب! وها أنا أحضرته معي.
آخر آية كانت خامسة، الله وتر يُحِب الوتر، فقلت لنفسي هذه رابعة، فهل ستكون هناك خامسة أيضاً؟ شيئ عجيب هذا، اليوم المُحاضَرة، ما القصة؟ حين لبست هذا الجاكيت Jacket قلت هل هذا يُناسِب مولانا؟ وبالمُناسَبة – سُبحان الله – لم أعرف أنني سألبسه، اختارته زوجتي، وهو يُناسِب جداً، هذا اللون مُناسِب، فيه اللون أصفر واللون أخضر، والله العظيم لم اختره أنا، زوجتي اختارته، بعد ذلك كأنني امتعضت، قلت ما هذا؟ أصفر وأخضر! فقلت هل هذا يُناسِب مولانا؟ وكنت قبلها بزُهاء ساعة مشغولاً بأي عطر سأتعطَّر اليوم في جلسة مولانا هذه، قلت لا أُريد أي عطر باريسي، أُريد عطر مشايخ، عندي أعطار مشايخ كثيرة بفضل الله، لكن بأي عطر؟ خطر لي أن أتعطَّر من عطر في زجاجة صغيرة، أبي كان يتعطَّر منه وأنا أُحِبه كثيراً فعلاً، أُحِب هذا الشذى، لكن أين يُمكِن أن أجد هذه الزجاجة؟ عندي ما يقرب من مائتي زجاجة عطر، أين يُمكِن أن أجدها وهي زجاجة صغيرة؟ والله العظيم وقفت أمام المرأة وقلت هل يُناسِب هذا مولانا ودسست يدي وإذا بالزجاجة التي أُريدها، اقشعر بدني! قلت يا فلانة تعالي، هذه الخامسة! قالت لي عجيب، فقلت لها هذا شيئ غير طبيعي، كنت أبحث عنها لأكثر من ساعة في خيالي، وكنت أقول أين يُمكِن أجدها؟ فقلت لن أبحث، لأن من الصعب أن أجدها، أين أجد هذه في بيت كبير والأشياء فوق بعضها فيه؟ مُستحيل، فسألت هل يُناسِب هذا مولانا؟ ودسست يدي – وضعت يدي لكي أرى الأشياء التي عندي – وإذا بالزجاجة التي أُريدها، فقلت لا إله إلا الله، هذه ما أُريد، هذه هي! كأنه يقول لي يُناسِب يُناسِب يُناسِب، نُريد هذا ونُريد هذه الرائحة، لا إله إلا الله، فهذه هي، بالنوايا! الإنسان حين يحدث له هذا يرى أشياء فعلاً غريبة، ولذلك أنا قلت لزوجتي – زوجتي تأثَّرت جداً – انظري يا فلانة، أعتقد أولياء الله وأهل الله هؤلاء الذين نتحدَّث عنهم ونتبرَّك بهم ونُذكِّر الناس بهم ونُذكِّر أنفسنا بهم فعلاً لا يحتاجون لا إلى مُحاضَرات علمية ولا فلسفية ولا قياس ولا رسم ولا نصب أدلة ولا قال فلان وقال علان، كلام فارغ!
يقول مولانا – قدَّس الله سره – إن أمة محمد لا تحتاج – أمة محمد وليس الناس، نحن! نحن لا نحتاج فعلاً، والله هذا صحيح طبعاً – إلى برهان على نبوة نبيهم وكونه رسولاً من عند الله، لأنهم بمُجرَّد أن يسمعوه ويسمعوا قوله يعلمون أنه رسول الله، هناك مُناسَبة بين ذائقتهم وضميرهم وبين هذا النبي، هل يحتاج الطفل حين تُلقمه أمه ثديها ليرتضعه أن يقول لها يا أماه ائتني ببرهان أن هذا الحليب يرويني ويشبعني؟ البرهان فيه، في الطفل نفسه! ما هو برهانه؟ عطشه، كذلك عطشك الروحي أنت، وحين تسمع ماذا يقول الله وماذا يقول الرسول تقول هذا هو، هذا هو! هذا ما أُريد، هذا هو! ولكن البرهان فيك.
ولذلك قد يقول لي أحدكم وماذا عن المُعجِزة؟ قال مولانا – هذا من عند كلامنا الجديد – أما المُعجِزة فلا تُقنِع، المُعجِزة تقهر، ولا يقتنع إلا صاحب الذائقة السليمة والضمير الصاحي، الذي حين يسمع يقول لك هو هذا، مثل عبد الله بن سلّام، أليس كذلك؟ كان رئيس علماء اليهود، هل تظنون أنه اقتنع بأن محمداً نبياً من عند الله لأنه ناقشه؟ لا، لم يكن الأمر على هذا النحو أبداً، أبداً! قال قالوا قدم محمد، فهُرِع الناس وكنت فيمَن هُرِع، فرأيته – صلى الله عليه وسلم – على ناقته القصواء، نظر إلى الناس وقال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام، قال نظرت إليه فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذّاب فأسلمت، مُباشَرةً أسلم! هذا هو الدين، هذا هو، لكن غيره – وهم أقل منه علماً، أي طواغيت بني إسرائيل اليهود – جاءوا – نفس الشيئ – لما علموا أن شيخهم وابن شيخهم وعالمهم وابن عالمهم وحبرهم وابن حبرهم وأفضلهم وابن أفضلهم أسلم قالوا لا، هو شرنا وابن شرنا و… و… و… فتركوه ولم يُسلِموا، وهم أجهل وهو أعلم، لماذا؟ المسألة ليست على هذا النحو، فلذلك هؤلاء لا يحتاجون إلى أدلة علمية ولا فلسفية ولا إلى نصب قياسات ومُقدِّمات ونتائج، لا! كل هذا كلام فارغ، والله العظيم! ولا يحتاجون إلى أحاديث عن إعجاز القرآن وإعجاز السُنة والإعجاز العلمي وإعجازات سوف تأتي، هذا لا يحتاجونه! أمة محمد لا تحتاج هذا، ولذلك هم أوقاتهم فعلاً مشغولة بشيئ آخر ومعمورة بشيئ آخر، أي والله! الذي طالع الشمس نفسها هل يحتاج مَن يُدلِّل له على خروج الشمس وطلوعها؟ لا أحتاج إلى أن تُدلِّل لي على هذا، أنا أراها الآن، قال المُتنبي في طَلعَةِ البَدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ، ماذا تُريد؟ أنا الآن أعيش في ضوئها، فكيف تُبرهِن لي أنها طالعة؟ لا أُريد هذا، لا أحتاج إليه! ولذلك هذا معنى العرفان، حين قال له عرفت فالزم، لأنه قال له أصبحت كأني أرى عرش ربي بارزاً، قال له عرفت فالزم، هو هذا! وهذا حق اليقين، وهذا معنى أن تكون فعلاً مُكاشَفاً وأن تكون من أولياء الله.
اللهم أسألك أن تجعلنا من خاصة أوليائك ومن عبادك الصالحين وصدّيقك المُقرَّبين. اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سُبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْعَصْرِ ۩ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۩ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ۩، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
– قال أحد الحضور جزاك الله خيراً يا شيخ، فقال فضيلته جميعاً إن شاء الله.
أضف تعليق