إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.
ثم أما بعد/
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ *
آمين، اللهم آمين. صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.
إخواني وأخواتي/
كما قيل الفضائل لا تتجزأ، على أنه يُمكن أن يُقال أيضا ويصدق بالقدر نفسه الفضائل تتشابك. الفضائل لا تتجزأ، والفضائل أيضا تتشابك، بمعنى أنه يندر أن تجد فضيلة من الفضائل، إلا وهي تُنفذ إلى جُملة فضائل أخرى، على حد ما قال أحد أسلافنا الصالحين – رضي الله عنهم وأرضاهم – إذا وجدت أو رأيت عند رجل حسنة، فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت عند رجل سيئة، فاعلم أن لها عنده أخوات. إذن هذا القائل الكريم، كان مُتفطنا لهذه الحقيقة التي قد يغفل عنها بعض الناس أو كثير من الناس! أن الفضائل تتشابك.
بعد هذه المُقدمة الوجيزة للغاية، سأطرح سؤال المقام؛ لو سُئلت أخي المسلم أو أختي المسلمة، إذا خُيّرتَ أو خُيّرتِ، في العيش في بلد من البلاد، بين أمة من الأمم، على أن يكون مدار الاختيار فضيلة واحدة أو خصيصة أو ميزة واحدة، فأي المزايا والخصائص والفضائل، ستكون هي رهانك؟ من جهتي أجيب بأنها ميزة الثقة. لن أتحدث عن الإيمان، هناك مُجتمعات مؤمنين ومسلمين، وهي مُجتمعات بالغة الرداءة في أمور كثيرة جدا.
واقع المسلمين يؤكد هذا، على حد ما قال أحد المؤرخين، حين استخدم اصطلاح الاقتراع بالأرجل، أي الهجرة! الاقتراع بالأرجل يؤكد أن الدول الإسلامية، مُعظمها على الأقل، ليست مما يُهاجر إليه، بل يُهاجر منها! على أنها دول إسلامية، والجماهير مسلمة، والناس مسلمون! هذا والله بلاء، هذا والله الذي لا إله إلا هو بلاء عظيم جدا جدا، وكفى به بلاء! أن المسلمين والمؤمنين يُصادقون ويُوافقون على هذه الحقيقة! أنهم كذلك. في نهاية المطاف أنا لا أتحدث عنكم، أتحدث عني وعنكم وعنهم وعنهن، عنا! كجماعات من المسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات. نُقر ونعترف، بكل خنوع وخضوع وتواضع، ومن غير لجاجة، أنه لا يُعاش بيننا، نحن نفر من بعضنا البعض، نفر إلى الآخرين.
المقاييس ما هي؟ المال؟ قد تكون هناك بلاد غنية جدا مثلا، أو فيها إمكانية راجحة لتوفير المال والاغتناء السريع، لكن الأمن غير موجود، الأمن غير موجودة! لا، لا يُغامر المرء، خاصة إذا كان مُعيلا، لديه زوجة أولاده، لا يُغامر بحياته وحياتهم، في بلد كهذه. على كل حال، حتى لا نُطيل التفصيل، الذي اختاره، والذي يبدو أن الكل يدور عليه، دون أن يعي به أيضا أو يعيه؛ الثقة.
المُجتمعات التي يرتفع فيها مؤشر الثقة هي الأفضل للعيش فيها. ستُسارعون إلى السؤال؛ الثقة بأي معنى؟ بالمعنى العام المعروف المُتردد في وسائل التواصل وفي وسائل الإعلام؛ الثقة السياسية، الثقة المُجتمعية خصوصا، الثقة بالمعنى العام. المُجتمعات والدول والأمم التي يرتفع فيها مؤشر الثقة هي الأفضل للعيش فيها. والعيش فيها يُبرهن بذاته على أن هذا الخيار كان هو الخيار الأفضل والأذكى والأصوب؛ لأن الذي يعيش هناك يرتاح.
مُجتمعات مبنية على الثقة، مؤشر الثقة ومُعدل الثقة فيها مُرتفع وباذخ، لا يُظلم فيها الإنسان. من المُستحيل أن يأتيك رجل أمن أو رجل مباحث أو استخبارات ليعتقلك في ليلة مُظلمة، ثم تقبع في أقبية السجون إلى ما شاء الله، مُستحيل! كيف تكون مُجتمعات ثقة؟ أين؟
الثقة، أيها الإخوة، ليست مُجرد ثقافة. بعض الناس يطيب له أن يُقارب الموضوعات ثقافيا فقط! تُسمى المُقاربة الثقافوية! يُعلي فقط من شأن الثقافة. لا، الثقة لا تكون ثقة حقيقية، وخاصة على المُستوى السياسي والمُستوى المُجتمعي، إلا إذا كانت إلى جانب كونها ثقافية – ثقافة مُجتمع، يتنفسها المُجتمع – مؤسساتية أيضا، ثقة مُهيكلة مبنية! لا يستطيع، لا يستطيع أكبر رأس في هذه البلد، التي تتميز بالثقة السياسية والمُجتمعية، أن يفعل هذا؛ لأن الإعلام سيفضحه، الصحافة الحرة تفضحه، المُحامون النزهاء سيفضحونه، القُضاة المُستقلون سيفضحونه، وبالعامية يشرشحونه. هذه هي المُجتمعات الغنية حقا بالقيم الفاضلة.
للأسف الشديد قرأت، أيها الإخوة، الآتي عن مُجتمع، عن دولة عربية! لن أسمي؛ حتى لا أجرح أحدا، وبعد ذلك الجرح في الكف كما يقولون، كلنا ذلك العربي وذلك المسلم، لا يوجد فرق! للأسف الشديد، أيها الإخوة، نسبة الثقة في هذا المُجتمع فقط ستة عشر في المئة، ال Antitrustأو اللاثقة أربعة وثمانون في المئة. في حين أن أكثر المُجتمعات الأوروبية ارتفاعا لمؤشر الثقة فيها الدنمارك؛ ثمانون في المئة. هذه السنة ثمانون في المئة، قبل خمسين سنة الدنمارك خمسون في المئة، ارتفعت، عجيب! نحن، المُجتمعات العربية والإسلامية، تتدنى، تنحدر. وهذه ظاهرة مُزعجة ومُقلقة! الذي لا ينزعج ولا يقلق، عليه أن يُعيد النظر وأن يُغلغله كثيرا. لا بد أن ننزعج، لا بد أن نقلق، لا بد أن نحزن ونغضب من هذه الحالة.
أنا مُتأكد دون أن يكون لدي دراسة أو إحصاءات، أننا قبل خمسين سنة، كنا أكثر ثقة وموثوقية! بلا شك الناس كانوا أكثر نزاهة، كانوا أكثر أمانة، على جميع الصعد، الجرائم كانت أقل. انظر الآن إلى الوضع، ما شاء الله عليه! الوضع عجيب وغريب جدا في هذه المُجتمعات العربية المسلمة! مع ارتفاع منسوب التدين، هناك صحوات إسلامية تتوالى ومظاهر تدين كثيرة! ما الذي يحصل إذن؟ ما الحقيقة؟ لماذا لا نُواجه الحقائق كما هي؟ ثمانون في المئة في الدنمارك، وفي هذا المُجتمع العربي – وغير غريب عن إخوته من المُجتمعات الأخرى، بعضه من بعض قريب – ستة عشر في المئة، مُقابل ثمانين في المئة!
مَن يعيش مثلنا هنا في أوروبا، يرى هذه الظواهر في كل شارع تقريبا، في كل مكان؛ الفلاحون في أوقات الجزاز والحصاد، يضعون محاصيلهم أمام بيوتهم! العسل والبيض والقرع والزهور وأنواع الأوراد وأشياء كثيرة، ويضع الواحد منهم التسعيرة على ورقة مكتوبة بخط اليد، ويضع حصالة! يضع حصالة فيها الفلوس. يقول الواحد منهم بعد ذلك في لقاءات تُجرى مع بعضهم لم يحدث، لم يتفق إلى الآن، أنني سُرقت. وإن حدث هذا، فقد يكون من الأجانب الذين ليس لديهم هذه الثقافة في الثقة. ثقافة الثقة وتعزيز الثقة، للأسف الشديد! هذه ظاهرة عادية موجودة هنا، فعلا مُجتمعات فيها منسوب عال جدا من الثقة، منسوب عال جدا من الثقة بالمُقارنة مع المُجتمعات الأخرى.
على كل حال، لن أدخل في تعريف الثقة، هناك فيض من التعريفات. وهذه الموضوعة؛ موضوعة الثقة، تتداولها وتتعاورها علوم كثيرة، طبعا أهمها وبدرجة أولية علم الاجتماع، وعلم الاجتماع السياسي أيضا، وعلم الاجتماع الثقافي والأنثروبولوجيا الثقافية. تداولتها الفلسفة مؤخرا، في أواخر العقد التاسع من القرن العشرين، في ألف وتسعمائة وثماني وثمانين، مع دراسة لفيلسوفة اسمها آنيت باير Annette Baier، بعنوان الثقة واللاثقة Trust and Antitrust، في ألف وتسعمائة وثماني وثمانين! وبعد ذلك صار لدينا دراسات فلسفية عديدة، وكتابات مُتعددة، حول هذه الموضوعة، وتحليل هذه الموضوعة من جوانب شتى.
على كل حال، المُجتمعات البشرية من حيث الأساس، لا يُمكن أن تنشأ ولا يُمكن أن تمتد وتستمر، إلا على أساس متين من الثقة. والثقة تتغلغل في حياتنا، أيها الإخوة والأخوات، بشكل لا نتصوره، أكثر مما نظن! ربما يكون أحد أحسن التعبيرات والطرق في التعبير عن هذه الغلغلة العجيبة، ما ذكره أحد فلاسفة الثقة، الذين درسوا هذه الموضوعة! قال أنا الآن – يتحدث عن رحله إلى هولندا، الأراضي الواطئة – في هولندا، وأزعم أن يقيني بكوني في هولندا يدين إلى وجوه كثيرة جدا جدا من الثقة، تتعلق بالآخرين. طبعا وكلامه صحيح مئة في المئة.
أولا ما الذي أدراه أن هناك بلدا اسمه هولندا؟ الآخرون يقولون، وهو يثق، ليس لديهم مصلحة أن يتواطأوا على الكذب وأن يؤلفوا وجودا وأن يخترعوا وجودا لبلد اسمه هولندا. الآخرون قالوا هذا، وهو يُصدق هذا. الكُتب والمراجع تذكر هذا، وهو يُصدق هذا. ثقة! أيضا حين حجز، أيها الإخوة، هذه الرحلة، هو وثق بالجهة التي حجز عبرها، لم يخدوعه، لم يأخذوا نقوده، وبعد ذلك سيذهبون به إلى جزر الواق الواق، سيذهبون به إلى هولندا. خطوط الطيران التي استقلها، عنده ثقة فيها أيضا. المُرشدون الذين أرشدوه وما إلى ذلك، وثق فيهم. كل هذه الأشياء، تتعلق بالثقة. والأمر نفسه، حين نزل في البلد هناك.
في نهاية المطاف، الثقة مُتغلغلة في حياتنا إلى حدود غير مُتصورة، ولذلك تعاملنا مع المُدرسين، حتى مع المُربين في رياض الأطفال، مع المُدرسين في المدارس والمُدرسات، وفي الجامعات مع الأطباء والصيادلة، والمؤسسات البحثية والعلمية والتصنيعية، التي تقف وراءهم ووراء أدويتهم ووراء علومهم ونتائجهم ودراساتهما، كل هذا يقوم على الثقة. لا يُمكنك أن تبدأ من الصفر في كل شيء. لو أردت أن تبدأ من الصفر في كل شيء، فلن تُنجز أي شي، ستُشل في مكانك!
طبعا لماذا أذكر هذا؟ فربما الذي أوحى إلي بموضوع خُطبة اليوم حالة اللاثقة المُنتشرة نسبيا، لكن بدرجة أعلى منها، مما هي في الظروف العادية، في الآونة الأخيرة، بسبب كورونا ولقاحات كورونا. هناك حالة من عدم الثقة، لدى قطاعات لا يُستهان بها من الشعوب، حتى في الغرب. هي حالة من عدم الثقة في الحكومات، في الساسة، في المُشرعين، في وسائل الإعلام، في الأطباء، في الباحثين العلميين، في أشياء كثيرة! وربما أكثر المُتهمين هم الساسة. هذا ملموس، ولذلك هذا يُعيد إلينا ماذا؟ يُعيد إلينا سؤال الثقة، سؤال الثقة ومتى تهتز هذه الثقة ومتى تتوثق وما العوامل، ونحن كمُجتمعات مُستنزفة الثقة للأسف الشديد كما قلت مُستوانا من الثقة مُتدن جدا.
مما يُحزن المرء أنك حين تذهب إلى جوجل Google – المُستشار الأكبر للبشرية اليوم، المُستشار رقم واحد – وتكتب الثقة، من بين عشر نتائج، أو مئة نتيجة – إن شئتم -، أكثر من تسعين في المئة؛ الثقة بالنفس، الثقة بالنفس، ال Self-Trust. لا نتحدث عن هذا، ليس هذا المُهم. وانظر، لذلك على فكرة هذا مؤشر خطير، أنا أحزنني. أي حتى العقلية العربية، النزوع العربي، التوجه العربي، في هذه المسائل الخطيرة، أناني أيضا، يُريد الثقة بالنفس.
على فكرة، اعمل أي مقطع؛ كيف تُعظم ثقة بنفسك؟ كيف تجعلهم يهابونك، يحترمونك؟ ملايين يحضرونه! ويا سلام! ما شاء الله! نُريد أن نُصبح آلهة، أن نُصبح زعامات وقيادات، لدينا وهم وهوس التحكم والأستذة على الناس. ما هذا؟ لماذا يهابونني؟ لماذا يحترمونني؟ أهم شيء أن أكون مُحترما، هذا الذي يهمني، ويهمني بقدر ما أكون واثقا من نفسي – هذا يهمني – أن أكون محل ثقة الآخرين، وربما هذا يهمني بقدر أكبر؛ لأنني إذا كنت واثقا من نفسي، قد أكون مُتغطرسا، ليس واثقا، قد أكون مُستكبرا، قد أكون مُتعجرفا، وتختلط عندي هذه المعاني السيئة الرديئة بماذا؟ بالثقة بالنفس. هي ليست ثقة بالنفس، هي عجرفة وتعويض وانتفاج وانتفاخ، وربما علة نفسية، وربما حتى علة عقلية! بارانويا Paranoia وأوهام اضطهادية وأنني المُخلِّص المُنتظَر أو نبي آخر الزمان والكل يكرهني. لا نعرف! ليس هذا المُهم بدرجة أولى! الأهم منه، أيها الإخوة، ما ذكرت.
ولذلك ألسنة الخلق أقلام الحق. عيّر نفسك، زن نفسك، على الأقل بما يقول الأقربون الأدنون من الأصحاب والمعارف والجيران والزوجة والأولاد عنك. هنا تستطيع أن تطمئن على نفسك. لا أجعلك ضحية لتعريف وتقييم مَن لا يعرفك. مَن جهل شيئا، عاداه! لكن على الأقل هناك الأقربون الأدنون.
حين جاء رجل يشهد في قضية أمام الفاروق عمر – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -، ماذا حصل؟ عمر لا يعرفه، هل هو عدل أو غير عدل؟ قال له ائتني بمَن يعرفك. لكي أقبل شهادتك في القضية، ائتني بمَن يعرفك. فأوتيَ برجل، فقال أتعرفه؟ قال نعم يا أمير المؤمنين، حق المعرفة. قال أنت جاره الأدنى الذي يعرف مُخرجه ومُدخله؟ قال لا، لست من جيرانه الأدنين. قال إذن كنت رفيقه في السفر الذي تُعرف به مكارم الأخلاق؟ في السفر، حيث المخاطر والشدة ونفاذ الزاد وقطّاع الطرق، تُعرف شهامة الرجل وإيثاره وتضحيته بنفسه من أجل الآخرين، وهكذا! قال لا، لم أرافقه في سفر. لم أرافقه! قال فلعلك عاملته بالدينار والدرهم، الذي يُعرف به ورع الرجال؟
نعرف الأمانة والدين ليس بطول اللحية وليس بالبكاء وليس بالصف الأول بصراحة، نعرف الأمانة والدين والرجولة بالدينار والدرهم، بالدينار والدرهم! قال لا. عجيب! انظر إلى عمر، عمر! هذا عمر! ليس درويشا عمر هذا، وليس أهبل! ليس رجلا ظاهريا حرفيا، يقيسك باللحية؛ نعم، لحية طويلة، أنت مُمتاز، نقبل شهادتك. تُصلي في الصف الأول، نقبل شهادتك. لا، عمر رجل واقعي، فيلسوف حياة، خبر الحياة وعجمها، حلوها ومُرها، يعرفها ويعرف الناس، ولا يُخدع، وهو القائل لست بالخب، ولكن الخب لا يخدعني. رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه. ومَن مثل عمر؟ ومَن مثل عمر؟ رضوان الله عليه.
قال لا. قال فلعلك رأيته جالسا في المسجد، يتلو كلام الله، يُحرّك رأسه، يخفضه طورا، ويرفعه طورا؟ قال نعم. قال فما عرفته. قال لا. ليس هكذا يُعرف الناس. قال له ليس هكذا يُعرف الناس.
وطبعا لا يُعرف الناس، ولا أعرفني ولا أعرف نفسي، عبر ظن نفسي بنفسي، عبر تقديري لنفسي؛ لأننا ستكون تحت تأثير ظاهرة معروفة الآن في العلم، أي في علم الاجتماع تقريبا، بظاهرة ووبيجون Wobegon، Lake Wobegon effect، ظاهرة أو تأثير بحيرة ووبيجون Wobegon، مأخوذة من رواية إنجليزية مُعاصرة، قبل ثلاثين سنة. هذه – أي ووبيجون Wobegon – مُجتمع صغير، العجيب أن كل أهله لديهم اعتقاد راسخ أنهم فوق المُتوسط في الذكاء والمهارة والحذاقة وحتى في حس الفكاهة والدعابة! ولذلك يستخدم الآن علماء السوشيال سيكولوجي Social psychology، أي علم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، تأثير بحيرة ووبيجون Wobegon للتعبير عن الناس الذين يُقيّمون أنفسهم بأنهم فوق المُعدل المُتوسط. الشيء المُحزن لنا – يقول لنا علماء النفس وعلماء الاجتماع – مُعظم البشر كذلك. نحن جميعا تقريبا أو مُعظمنا كذلك! ماذا؟ نُقيم أنفسنا فوق المُتوسط. أنا أفضل من غيري في الذكاء واللوذعية والشطارة والأمانة والديانة والوطنية والإخلاص والصدق أفضل من غيري، فوق المُتوسط. وربما غير صحيح بالمرة! ولذلك الرجل الحكيم – وكم أحب الحكمة والتكلم في الحكمة والتفنن في الحكمة! -، الرجل الحكيم الذي لا يُريد أن يعيش ويموت مخدوعا، موهوما، مُشتبها، مُلتبسا، يطلب التعيير، التعيير القريب من الموضوعي.
لذلك قضايا الإيمان وما يتعلق بها لا تخضع للأوهام والظنون الذاتية، وإنما لا بد كما قال المُصطفى الأبر – صلوات ربي وتسليماته عليه – من دلائل. قال انتبه. قال له يا حارثة، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ أريد مؤشرات، أريد دلائل، أريد علائم، أين العلائم؟ هل لديك علائم على إيمانك، على هذه الدعوى العرفانية؛ أنك ذلك المؤمن العارف الواصل؟ أرني هذا. قال له النبي! نريد علائم.
القرآن علّمنا هذه الطريقة؛ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا *…هناك أوصاف مُعينة، أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا *. هناك دلائل! موجودة فيك – إن شاء الله -؟ أهلا وسهلا. غير موجودة؟ ربما تكون – آسف – موهوما، ربما تكون مُغترا. نعوذ بالله من الغُرور، نعوذ بالله أن نغتر بأنفسنا أو أن يغرنا بالله الغَرور – لعنة الله عليه، أي الشيطان -، فنظن أنفسنا فوق ما هي عليه، كما تفعل الأمة الآن!
يا إخواني، كلما فكرت في هذا الموضوع المُحير المُزعج كما قلت والمُحزن، وجدت الآتي؛ صدقوني حتى حين تكون الثقة مؤسسة – ولا بد أن تؤسس، لا بد أن تمأسس، لكن هذا حتى حين تُهيكل وتمأسس وتُبنين، أي الثقة – لا فائدة كاملة، ستجدون أيضا في أنزه المُجتمعات وفي أفضل المُجتمعات، مَن يثبت عليه الفساد والتلصص والمحسوبية وأكل المال بالباطل، وأن يكون مُرتشيا وأن…وأن…موجود، موجود! ولذلك إذن في نهاية المطاف هناك جانب آخر.
طبعا هذا الذي له علاقة بخُطبتنا اليوم؛ خُطبة منبرية جُمعية. قد يقول لي أحدهم هل أنت أتيت لكي تُعطينا مُحاضرة اجتماعية أم خُطبة دينية فيها جانب على الأقل تقوائي هدائي وعظي؟ لا، خُطبة دينية، الأساس! لأن هذا منبر، لكل مقام مقال. إذن ما علاقة هذا بالدين؟ نعم، هنا هذا هو السؤال، له علاقة وأي علاقة والله! له علاقة وأي علاقة!
مهما كانت كما قلت لكم الثقة مُبنينة ممأسسة، مهما كانت وسائل الرصد والمُتابعة والرقابة والمُحاسبة والمُعاقبة مُمتازة ومشحوذة ورهيفة ومصقولة، لا إله إلا الله! الإنسان هو الإنسان. ومَن تحيل، احتال. يستطيع أن يحتال على أعظم وأقوى وأكفأ المؤسسات والوسائل، وأن يأتي ما يريده أو بعض ما يريده من وجوه الفساد، الإنسان هو الإنسان. وكل شيء أحكمه الإنسان، يستطيع أن يُفسده الإنسان ويحتال عليه الإنسان.
إذن يبقى السؤال؛ ما هي – ولو نظريا طبعا، ويصدق عمليا، أي ربما واحد في الألف. اللهم اجعلنا من ذلك الواحد من الألف. ولو نظريا، وله مصاديق بلا شك نادرة جدا – أعظم الضمانات – أعظم الضمانات، أي أقوى الرقباء -؟ أقوى الرقباء الضمير. ضميرك الشخصي الفردي. ليس الأجهزة، وليس المؤسسات، وليس الكاميرات Cameras، لا، الضمير، الضمير! مَن كان له من قلبه واعظ، كان عليه من الله حافظ.
لكن هذا الجواب وعظي وتقليدي جدا، لا يفيدنا كثيرا. الذي يُفيدنا هو ما سيلي الآن، وهو؛ حتى هذا الضمير، لا نستطيع أن نضع الثقة كلها فيه. طبعا الما بعد حداثيون يقولون لك الضمير بنية اجتماعية. غير صحيح، إلى حد ما صحيح، لكن غير صحيح بالمُطلق. إذن إذا لم يكن بنية اجتماعية، وكان نتاجا للتربية الفردية، للإيمان الفردي، للورع الفردي، فكيف يُمكن أن يفسد؟ لماذا لا تضع الثقة الكاملة فيه؟ طبعا لا أضع، حين أرى امرأة تقتل زوجها قبل سنة في بلد عربي كريم، تقتله بطريقة بشعة الفاجرة مع عشيقها! والمُبرر لا علينا منه على كل حال، ولكنها تتورع عن تقطيعه! لم تُقطعه. قالت لا، أنا لا أقطعه. لماذا يا أمة الله الفاجرة؟ قالت العشرة. هناك عشرة، عيب. ما شاء الله على العشرة وعلى العيب. حين قتلتيه، أعدمتيه الحياة، لم يكن هنا – ماذا؟ ليس حكاية عيب – جريمة وقتل يُوجب الخلود في نار جهنم؟
حين أرى سيدة أيضا تخطف رجلا من زوجته وأولاده، وتُدمر حياتهم، ويُطلق زوجته الأولى، ثم تأخذه، يُنجب منها ولدين، وبعد أربع سنوات يُطلقها. طبعا هذه في التلفزيون Television وفي اليوتيوب Youtube، هن يُعربن بذلك، نحن لا نبحث عن أسرار الناس ولا نُحب أسرار الناس، لكن هي تقول هذا عن نفسها. وبعد أربع سنوات يُطلقها، ثم يعود إلى زوجته الأولى وأولاده الذين حُرموا أبوته ورعايته أربع سنوات مُتواصلة، لم يسأل عنهم! قالت ومع ذلك الشهادة لله أنه يُعطي النفقة، يبعث لي ولأولادي الاثنين النفقة، ولكن لا يأتي، لا نراه، هل يحل له هذا؟ هل يجوز هذا يا مولانا؟ مولانا؟ ما شاء الله، تبارك الله!
أنا مثل هذه الظواهر تزلزلني، أقسم بالله. أشعر برعب، لا أستطيع أن أعبر عنه، ولكن أعود إلى نفسي وأقول الحمد لله، أنا لم أفعل، أنا لم أفعل هذا. فأطمئن قليلا؛ لأنني أخشى أن أكون ذلك الأعمى، مثل هذه العمياء. أخشى أن أكون أعمى، وأنا لا أدري! أخشى أن أكون من أهل النار، الذين يُسارعون في سبيل جهنم، وأنا لا أدري! حين أرى مثل هؤلاء البشر.
أعرف رجلا أكل حقوق أناس جهارا نهارا، باب النصب والاحتيال والمُخادعة – والعياذ بالله -، مئات الألوف أكلها على هؤلاء الضحايا، ولا يطرف له جفن. وحين يُقال له يا أخي اتق الله، حقوقهم وحقوق أبنائهم، فلان يقول عنك كذا. يقول اتقوا الله، وإلا سأدعو عليهم. أنا رأيت هذا وسمعته بأذني رأسي. عجيب! سيدعو عليهم، النصاب المُخادع الذي يأكل ويشرب ويركب ويتبذخ – حياة رافهة عالية بأموال الناس، كلها أموال الناس، حقوق الناس – يقول اتقوا الله في، وإلا سأدعو عليكم. هذا الذي يُرعبني، هذا الذي يجعلني – أيها الإخوة وقد فعلت هذا عبر سنوات، وأجدني مدفوعا باستمرار أن أفعله – أعيد مُساءلة تديننا اليوم! لدي ولديكم، لا أقول شعور أبدا! مُتابعة، مُلاحظة، مُراقبة، لظاهرة من أخطر ما يكون، مصاديقها بالألوف، مصاديقها بعضهم رجال الدين نفسهم!
تجده في مقاطعه التي لا تنتهي يسب، وفقط هي تدور على سب الآخرين والحُكم على الآخرين واقتطاع كلام الآخرين وتنقص الآخرين، وبالأسماء وبالصور وبالمقاطع، أي أنه لا يقول رجال دين كما أفعل، لا، بالأسماء؛ هيان بن بيان، سعدان بن سلحان، سلحان بن عثمان. بالاسم! ويأتي، فإذا رد عليه أحدهم بكلمة، قال اتق الله، اتق الله واعدل وأنصف. ما شاء الله رأينا العدالة عندك! تعلمنا الإنصاف منك! ما هذا العمى يا إخواني؟ أقسم بالله هذا شيء مُخيف، هذا يزلزلني.
لكي أكون صادقا معكم – وقلتها من قبل – أحيانا صرت أشعر أن الحياة بغيضة، والله العظيم. لم أعد أحب أن أستمر. أقول حين يأتي الموت يا أهلا وألف مرحب به، بالله العظيم. لا أتوجس منه. لم أعد أرى هذا الجمال في الحياة. الجمال في الحياة بالصدق، بالعفة، بالأمانة، بالإنصاف، بالعدل. نحن مؤمنون، مبنى الإيمان هو الصدق. أصلا معنى آمن صدَّق. مبنى الإيمان هو الصدق، وليس الصدق في الألفاظ، هذه رتبة مُتواضعة من رتب الصدق. أول الصدق ما كان في القصود والنوايا، في القصود والنيات! أن تكون صادقا في قصدك ونيتك وفي الكلمة. هذا ما تعلمناه، أيها الإخوة، من ساداتنا العارفين بالله، من رسول الله والصحابة والتابعين وأئمة الدين والعارفين الذين تلوا، اللهم اسلكنا في نظام مَن عرفك. عرف وتحقّق وطبّق ولم يُنظّر ويعظ فقط! يظن أن الإيمان قضية تنظير ومواعظ وكلام مُرسل وشعر وقصص، لا، تطبيق وتحقق حقيقي. تعلمنا منهم أنك حين تريد أن تفوه بالكلمة – كلمة وليس شهادة، ليس شهادة وحُكما على الناس، كلمة، كلمة هكذا في مجلس -، عليك أن تقف طويلا، وتسأل نفسك أكثر من مرة؛ ماذا أريد بها؟ هل هذه الكلمة لله حقا وصدقا، صرفة لله، أم فيها حظ النفس؟ إن كان فيها حظ النفس، فلا، لا أتكلم، أسكت، أفضل لي! مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت.
المؤمن مبنى أمره على الصدق. إن تكلم، صدق. ولذلك المؤمن عادل ومُنصف ومُتواضع وصادق يا إخواني ولا يكذب ومُقر ومُعترف، حتى على نفسه. حين يُخطئ هو، يتعرف. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ *، حتى على أبي وأمي، وعلى نفسي، حتى على نفسي! ليس من أجل نفسي أبدّل المبادئ والحقائق، وألبس الحق بالباطل والباطل بالحق، وأترك الناس في عمياء، لا، أبدا، أبدا! آخر شيء نفسي.
الحق أول شيء، وأبدى من كل شيء. وليس باسم الحق، أهتك الحق، لا! من دعا وأراد أن يدعو إلى حق، فليدع بحق، ولوجه الحق، لا إله إلا هو! وحاسب نيتك قبل أن تحاسب أي شيء آخر. تعلم هذا جيدا. إن لم تفعل هذا، فما حظك من الإيمان؟ ما حظك من الإيمان؟ ما نصيبك من الإيمان؟ تضحك على مَن؟ كيف تُقابل الله غدا يوم القيامة؟ ماذا تقول له؟ تقول له كنت أمثل، كنت أريد أن أستكثر من الإعجابات، من المُشاركات، من المُشاهدات، من الفلوس، من حب الناس؟ من ماذا؟ كيف تواجه ربك، لا إله إلا هو؟
ولذلك نتحدث عن الثقة. لا يُمكن، لا يُمكن أن أتصور عاملا يقوم مقام عامل الإيمان الحق في توفير الثقة من جميع جوانبها. الثقة بجوانب لم تخطر على بال كبار فلاسفة الثقة هنا في الغرب الأوروبي، ولا يعرفونها أصلا، وأنا مُتأكد سيكونون مصدومين، إذا سمعوا به. مُمكن هذا وموجود؟ نعم موجود، وهناك بشر، وإن كانوا قلة، كما قلنا واحد في الألف، مُمكن! ويحكمون على أنفسهم وعلى غيرهم بهذه المقاييس والمعايير الراقية.
هذه فائدة الإيمان، هكذا تحلو الحياة وتجمل بالإيمان، وإلا تُصبح قبيحة وشنيعة وبشعة بالإيمان؛ الإيمان المقلوب رأسا على عقب، الملبوس – أيها الإخوة – ظهرا لبطن، كالفرو مقلوبا، كالفرو مقلوبا في تشبيه الإمام علي – عليه السلام وكرّم الله وجهه -، تُصبح الحياة بشعة، بشعة! لأننا أتينا إلى أقدس وأجمل ما فيها، إلى الضمانة الحقيقية، وبشعناها، هتكناها، ابتذلناها، زيفناها.
ولذلك لدينا هاته التي قتلت زوجها ولم تُقطعه، عجيب! عجيب الضمير العجيب الذي عندها! وتلك التي دمرت عائلة، ثم تسأل عن حظ زوجها من الإثم؛ ألا يأثم؟ وعلى فكرة هي ذكرت أنها طلقته من زوجته بالسحر! أتت السحرة والكفرة – والعياذ بالله -؛ لكي تطلقه، ونجحت. وهي لم تسأل نفسها ما حظها من الإثم؟ أبدا، أبدا! تسأل مولانا الشيخ على التلفزيون Television ألا يأثم زوجي، أي حين يقصر في حقي وحق أولاده؟ أنا التي خطفته بالسحر من زوجته أربع سنوات، وكنت فرحة جدا جدا أنه قطعهم تماما. الله أكبر، ما شاء الله على الضمير، ما شاء الله على الإيمان، ما شاء الله على مولاتنا الشيخة التي تسأل عن الإثم والبر، ما شاء الله، تبارك الله.
على فكرة لها ليس أمثالا ومثيلات، ملايين، ملايين الأمثال والمثيلات. يكاد يُصبح هذا نمطا في حياتنا، يكاد يُصبح هذا نمطا! لكن كما قلت لكم لمسنا هذا حتى فيمَن يدّعون أنهم من رجال الدين وعلماء الدين، يفعلون هذا. ولا نُريد أن نأتي بأمثلة، فقط أنت ادخل وانظر، الأمثلة لا تنتهي، لا تنتهي! لا يُعامِل الناس بما يُحب أن يُعامَل به إطلاقا! هو فقط يستخدم ويستدعي القيم الدينية، فقط لتعلية شأنه والدفاع عن نفسه! لكن لا يستعملها في الحكم على الآخرين، غريب جدا!
يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن أحب أن يُدخَل الجنة، ويُزحزَح عن النار، فلا تأتينه منيته، وإلا وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وليأت إلى الناس مثل الذي يُحب أن يؤتى إليه. النبي يقول هذه طريق الجنة. طريق الجنة العدل والإنصاف.
الإيمان كما قلت لكم هو صدق وتصديق، ومبناه على الصدق. الله مؤمن، الله مُصدّق، لا إله إلا هو. من أسماء الله المؤمن، أليس كذلك؟ المؤمن! لأنه إذا وعدك، لم يُخلف. إذا عاهدك، إذا عاهدك، لم يُخلف، لا إله إلا هو! لذلك هو مؤمن. المؤمنون، الذين تحققوا بالإيمان، هُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ *. مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ *، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ *؛ لأن الله مؤمن، لا إله إلا هو! مؤمن. تحققت بالإيمان، وهو وعد أن مَن آتاه مؤمنا مُتحققا بالإيمان، أنه لا يُظلم وله الأمان. ولذلك الله مؤمن، لا إله إلا هو!
والله مؤمن مُصدّق. إن تصدق الله، يصدّقك الله. نعم، وهو فعل. النبي يقول له إن تصدق الله، يصدّقك الله. وصدّقه الله في نفس العشية، في حديث شداد بن الهاد، أهو هو؟ أهو هو؟ صدق الله، فصدّقه الله. الله يُصدّق أنبياءه ورسله، بما يُقيم لهم من الدلائل وينصب من المعاجز والآيات، التي تشهد بأنهم صدقوا فيما أخبروا عنه. لذلك هو مؤمن، لا إله إلا هو! وهذا بعض معاني المؤمن، لا إله إلا هو! هل تساءلنا عن هذا الخُلق؟
والنبي مؤمن. المُنافقون؛ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ *. هُوَ أُذُنٌ ۚ * قِمَع، فقط يسمع كلام الناس، ينغش بكلام الناس! ويُريدون أنفسهم، هو قِمَع لأمثالهم! رد الله تبارك وتعالى عنه وذب عن عرضه فقال قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ *.
أنا مؤمن، إذن أنا صادق، لا أكذبك. حين أتبسم في وجهك، أفعلها بصدق. حين أقول لك أحبك في الله، أفعلها من كل قلبي. ولن أقولها، لن أفعلها، ما لم أكن صادقا فيها، أبدا! لأنني سأكون كذابا وملقا ومُداهنا ومُنافقا نفعيا، وقد أكون خسيسا. إن من شر الناس – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام – يوم القيامة الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. يضحك لهؤلاء ويسب هؤلاء، فإذا أتى أولئك، ضحك في وجوههم وسب أولئك. المُنافق! ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. المؤمن ليس موجهنا كما تقول العامة، يقولون لك موجهن. سمعتها وأنا صغير، عند العامة يُقال الموجهن. نعم، هناك أناس موجهنون! هؤلاء لا وجاهة لهم، لا وجاهة لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، سُبحان الله! حتى ليس لديهم كما يُقال هيبة.
بعض الناس تجد له هيبة، من أين هذه الهيبة؟ والله والله هذه الهيبة – أقسم بالله – لا تؤتى لا بالطول ولا بالعرض ولا بالعضلات، أبدا! وقد يكون صغيرا، مئة وخمسين سم. كنّاس، أعرف أحد أولياء الله، كان كنّاسا زبّالا، والله له من الهيبة ما ليس للملوك، أقسم بالله! تمكث أشهرا طويلة، تُحاول أن تأتيه، فقط لكي تُصافحه وتُقبل يده، وأنت مُتردد، الله أكبر! وكل الناس يُقرون بهذا. عجيب يا أيها الزبّال الصالح! لأنه كان من أولياء الله. له هيبة غير طبيعية! يكنس شوارعنا، ولا نستطيع أن نقترب منه؛ إجلالا له، الله أكبر! الله أكبر! وفي المُقابل كما قال الحسن البِصري ملوك وأمراء – أي وشيء كبيرة -، وأغنياء متمولون، قال لا تغتروا بهم، وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم المراكب، أبى الله إلا أن يذل مَن عصاه. أي يركبهم من الذل والهون، ما لا يخفى على ناظر. الناس تراهم حقراء، تحتقرهم، لا يكبرون في أعين الناظرين. وهذا زبّال يكبر؛ لأنه ليس موجهنا، ليس مُنافقا، هذا رجل مؤمن.
الإيمان شيء خطير يا إخواني. الإيمان ليس دعوى، ليس كلام، ليس نظرية، ليس خُطبة، ليس قصيدة شعر، ليس رسالة واتساب WhatsApp! شيء خطير جدا، فلسفة حياة. روح الحياة هو الإيمان.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن كان له وجهان، كان له يوم القيامة لسانان من نار. لسانان من نار جهنم! كما كان لك – البعيد الأبعد – في الدنيا وجهان، تأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
رأيت مرة عالما مشهورا في قومه وجماعته، يُذكر أمامه عالم آخر، ونحن في حضرة عالم ثالث فاضل. فذُكر هذا العالم الغائب، فقال نعم، هو له شذوذات وما إلى ذلك. أنا اقشعر بدني، قلت له يا دكتور اتق الله، لا يُقال هذا في عالم غير موجود، قل له اجتهادات، قد نُخالفها فيها، لكن لا تقل له شذوذات، وتهتك عرضه. قال أنا لا أقصد. قلت هذا هو. وهذا العالم لم يكن حاضرا، لكن كرهت هذا الموقف من رجل ينتمي إلى العلم. تُمارس الوجهنة والكذب!
وقدّر الله بعد سنة، أو أقل بقليل، أو أزيد بقليل، أن جمعني الله بهذا العالم الذي ذببت عن عرضه، وكان في المجلس الذي اتهمه بالشذوذات. والله كان أكثر الناس خضوعا وبخوعا، أي عيب أن أحكي الكلام هذا، هكذا بين يديه؛ أستاذنا، مولانا، شيخنا، علّامتنا. يقول له! قلت ما شاء الله، وقبل سنة شذوذات! لا يوجد صدق.
تعرفون، إخواني وأخواتي، هذه الطريقة – والعياذ بالله – ماذا تُسمى باللسان الشرعي؟ الخبث، اسمها الخبث. هذا خبيث، هذا السلوك الخبيث، هذا السلوك خبيث. ما هو الخبث؟ أن تتكلم بما لا تعتقد به في قلبك، أي شيء من النفاق، اسمه الخبث، عكس الصدق. الصدق لا يعرف إلا وجها واحدا ولسانا واحدا، لا إله إلا الله! الصادق لا يستطيع كما قلت لكم أن يفتعل ابتسامة، لا يستطيع! ابتسامة مُضيفات الطيران هذه لا يعرفها، لا يقدر! الابتسامة التي تتجعد لها ماذا؟ جوانب العينين. الابتسامة الكاذبة هذه معروفة. لا يستطيع! إذا ضحك، يضحك من قلبه وبصدق. إذا مدح، إذا عبر، يُعبر من قلبه وبصدق. ولا يُراعي إلا الله. المؤمن ليس بوقح طبعا، ولا يبده الناس بما يكرهون، النبي لم يكن كذلك، بالعكس! لا يُواجه الناس بما يكرهون، ولا يُحب كما قلت لكم لا الشتم ولا الشماتة أبدا، من ألطف الناس وأحسن الناس معشرا، لكنه صادق إذا عبر.
المؤمن إذا انتقد أحدا، أيها الإخوة، ينتقده بالقسط الشرعي، وبطريقة لو كان المُنتقَد موجودا، ما خالف طريقته، هل نفعل هذا؟ انتبه! حين تنتقد مثلا شخصية كبيرة؛ سياسيا، سلطانا، عالما، أي شيء كبير، هل تنتقده في غيبته كما لو كان حاضرا؟ افعل هذا حين يكون غائبا؛ تكلم عنه، كما لو كان حاضرا. انتقد؛ لأنك لا تنتقد الشخص، تنتقد ماذا؟ الرأي. تكلم عن نقدك لرأيه موقفه، كما لو كان حاضرا، وبنفس الوجل والاحترام. هذا هو الصدق، عكسه اسمه الخبث. عكسه اسمه ماذا؟ الخبث.
أمدح عبد الله؛ من أجل أن يُقارضني مدحا بمدح! أنا خبيث. لا، لا بد أن أمدح عبد الله؛ لأنه يستحق المدح في هذه الساعة، في هذا الموقف، ولوجه الله. ليس تملقا، ولا دهانا، وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا *. ولا أريد ولا أفرح أن يُقارضني مدحا بمدح، على عادة الموجهنين، لا، أفعل هذا لله.
ولذلك ثمة أناس أنت لا تحترم كلامهم، تعرف لماذا؟ لأنك لم تحترم من قبل صمتهم. هناك صمت محقور. ستقول لي عجيب! هذا يفعله كثيرون من الناس. لن أقول المُعظم، لكن أنتم ابحثوا وحققوا. كثيرون من الناس! كثيرون من الناس، مهما أحسنت، ومهما استقمت، ومهما أنجزت، ومهما جودت، يصمتون. حتى إذا لاح منك خطأ – ومَن منا معصوم؟ كلنا ذلكم الرجل -، أو ما يُظن خطأ، تكلموا وطوّلوا! لا نحترم كلامكم، وليس جديرا بالاحترام؛ لأن صمتكم كان خبيثا باللسان الشرعي، صمتكم كان خبيثا! كان صمت ماذا؟ نفاسة وحسد وغيرة، أليس كذلك؟ وعدم إنصاف. سكتم! أنتم لم تُعجبوا بالإنجاز ولا بالعطاء ولا بالتجويد، بل غاظكم، لذلك صمتم. أما حين لاحت فرصة أن تتكلموا، تكلمتم وبلسان مبر سليط طويل؛ انتقاما للحق، وإحقاقا للحق، وتمييزا للحق من الباطل والزُباد من الخاثر، و… كذب، نفاق كله هذا، أقسم بالله كله كذب، كلام غير مُحترم! قولهم حين قالوا لا أحترمه؛ لأنني لم أحترم صمتهم حين صمتوا. لماذا صمت هناك أيها الخبيث؟ خبث، هذا اسمه خبث.
ولذلك في حديث أم المؤمنين زينب يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم، إذا كثر الخبث. هذا هو الخبث. الخبث عكس الصدق تماما! تُريدون تعريفا جامعا مانعا ينطبق على كل الموارد؟ الخبث هو عكس الصدق. ليس فقط الفواحش، الفواحش أخباث بلا شك، لكن ليست الفواحش فقط، والفواحش لا تكون فواحش إلا لأنها ماذا؟ لأنها خبث – والعياذ بالله -.
الذي يتلصص على ما ليس له، خبيث. الذي يلغ فيما ليس له، خبيث. الذي يأكل، ولو درهما واحدا، مما ليس له، خبيث. هذا خبث! الذي يتغول ما ليس له، ولو كان كسرا من درهم، كسرا من يورو، خبيث. المؤمن لا يكون خبيثا. المؤمن طيب؛ طيب النيات والقصود، طيب اللسان، طيب السريرة، طيب الظاهرة، طيب المظهر، طيب الانفعال، طيب رد الفعل، طيب المطعم، طيب المشرب والملبس والمركب. أبدا لا تتطرق الشُبهة إلى رزقه وأكله وشُربه.
الفُضيل بن عياض – رضي الله تعالى عنه وأرضاه – يرى ابنه مرة يغسل درهما وينقيه بالماء الحار؛ لكي يجلوه مما علق به من أشياء؛ لأنهم كانوا يزنون الدراهم. تعرفون ماذا قال له؟ قال له يا بُني، ما تفعله خيرٌ من حجتين وعشرين عُمرة. الورع في الأموال والحقوق! درهم يبقى درهما، ليس أكثر، حتى بواحد من ألف من الدرهم. قال له ما تفعله خيرٌ من حجتين وعشرين عُمرة. يا أصحاب الإيمان وأصحاب هل هناك إثم على زوجي أم لا يُوجد إثم؟ لعبتم بالإيمان، قلبتموه رأسا على عقب! هذا هو الإيمان.
حين سُئل سفيان الثوري؛ يا إمام، حدّثني عن فضيلة الصلاة في الصف الأول. وسُفيان يعرف السائل! قال له يا أخي، انظر ماذا تُدخل جوفك؛ حلال أو حرام أو مال مُشتبه؟ ثم لا تُبال، وإن صليت في الصف الأخير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا. اغفر لنا جدنا وهزلنا، خطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.
عباد الله/
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.
(14/1/2022)
أضف تعليق