إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
من الإسلام إلى النصرانية بحثاً عن التسامح والمحبة
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ۩ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ۩ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ۩ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ۩ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
يسوء المرء ويُزعِجه أن تُنسَب المظالم والجهالات إلى دينٍ روحه وجوهره العدل والرحمة والإنصاف والمحبة، في الآونة الأخيرة اعتدنا على أن نسمع لبعضِ الذين تحوَّلوا عن الإسلام إلى أديان أُخرى وخاصة النصرانية، اعتدنا على سماعهم يرفعون عقائرهم بأن الذي جرهم ولزهم إلى هذا التحول هو ما لمسوه في الديانة المسيحية من رحمة ومن محبة ومن صفحٍ وغفران لم يجدوا له شبيهاً ولا ضريعاً ولا ضريباً في دين الإسلام كتاباً وسُنةً وواقعاً وتاريخاً فهو دين الفظاظة والقسوة والعنف والسيف، وهو دينٌ باريءٌ من التسامح وخلوٌ من الرحمة ومُجرَّدٌ من المحبة، وقد خطر لي أن الجهل بذاته مُجرَّداً عن شفاعةِ أسبابٍ أُخر هو وقاحة، والجهل لا يُعادِل الوقاحة، فقد يكونُ عالمٌ وقحاً وقد يكونُ دارٍ ودارس وقحاً، ولكن كل جاهل لابد أن يكون وقحاً، الدارس قد يكون وقد لا يكون، وقد يكون مُنصِفاً، أما الجاهل فلابد أن يكون وقحاً، فلا جهل بغير وقاحة، الجهل بذاته وقاحة، هذه هى طبيعته، فالجاهل إذا جاء ليُعنّوِن لموضوع أو لشخص لابد أن ينتقص من قدره لأنه يجهل قدره وهذه وقاحة، غير مُتعمَّدة نعم ولكنها وقاحة، فالجهلة يدأبون على تسمية الأكابر بعناوين الأصاغر لأنهم جهلة وعذرهم الذي يكون في وقاحتهم هذه هو جهلهم، ولكن هذه وقاحة ما بعدها وقاحة، وأكثر ما نُقيمه من عذر لهؤلاء أنهم جهلة، ولاريب أن هناك مِن بينهم مَن لا يجهل على الأقل طرفاً من الحقائق المُقرَّرة ولكنه يتغافل ويتعامى ويتجنّى، قال الله فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ۩ من أمثال هؤلاء، أما هؤلاء الصغار المساكين الذين يزعمون أنهم تحوّلوا من دينٍ إلى دين وارتدوا عن ملةٍ إلى ملة بزعم أنهم بحثوا ونقَّروا ونقَّبوا ودرسوا وفتَّشوا وانتهوا إلى ما قرَّرت لكم على سبيل الفذلكة، فهو دينٌ عنيف في مُقابِل دين مُحِب لهم مسلكٌ فيه من الصغار بقدر ما فيه من الجرأة، جرأة الجه ، وبنا أن نسأل أو نتساءل: عن أي إسلامٍ يتحدَّثون؟ هل يتحدَّثون عن إسلام النص أو إسلام التاريخ أو إسلام الواقع؟ وفي المرات الثلاث هم واغلون في الخطأ وعريقون في الجهالة، فهم واغلون في خطئهم وعريقون في جهالاتهم!
إن تناولنا الإسلام نصاً لا أحسبُ أن الإنجيل يستطيع أن يُجاريه بعدد الآي والفِقر التي تحثُ على الرحمة والمحبة والصفح والسلام وسائر المعاني المُنبثِقة من هذه الحقول الدلالية المُتقارِبة، وقلنا غير مرة : يكفي القرآن العظيم والكتاب الكريم والذكر الحكيم أن سوره عدا التوبة مبدوءة بـ بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، ففي بداية كل سورة بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ۩، وأول سوره في ترتيب المُصحف تبدأ بعد البسملة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، وفي تضاعيف هذا الكتاب الأجل الأقدس نجدُ نحو قوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ ۩، وهنا الربُ يتحدَّث عن نفسه ويتحدَّث عن رحمته التي وسعت كل شيئ، وعلى لسان الأملاك المُطهَّرين المُقرَّبين البرءاء من الكذب والتزييف والإفك والجهالات قال أنهم قالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، فنجدُ أن الرحمانية هى العنوان الذي يُفسِّر انبثاق هذا الوجود وتدبيره لأن الرحمن على عرشه استوى، قال الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۩، فهذا الوجود فيض رحمانيته – لا إله إلا هو – وبالتالي اتساقه واستقراره واضطراده على سّنن وسُنن الله تتغيَّر ولا تحيد مُقتضى رحمانيته، فهيمنته على هذا الكون تُترجِم رحمته، وفي الحديث الصحيح “إن الله – تبارك وتعالى – كتب كتاباً قبل خلق الدنيا بخمسين ألف سنة ، فهو عنده تحت العرش: إن رحمتي تغلب غضبي”، قال الله نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا – يُنبيء سبحانه وتعالى وتبارك في عليائه وجل مجده عن صفةٍ ذاتية بقوله أَنِّي أَنَا ۩، فهذا وصف ذاته وليس وصف فعله، وشتان بين وصف الذات ووصف الفعل، شتان بين وصف الذاتِ الأقدس وبين وصف الفعل – الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ۩، وهذا من وصف أفعاله وليس من وصف ذاته، فذاته رحمة لا إله إلا هو، ومن هنا نجد في أنحاء ومطاوي هذا الكلام الأجل الأقدس ما افتتحنا به صدر هذه الخُطبة أو جعلناه صدرها وهو أعظم افتتاح في سماء المُفاتَحة، وموضوعنا هذا موضوع مُفاتَحة ومُناقَدة ومُناقَشة بالحساب وتضويء وتنوير لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ۩.
قال الله قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ۩، وبهذا الإسراف ينضوي الشركُ والقتلُ والفواحشُ أجمع والخبائثُ كلها ما كبر منها وما صغر وما جل وما حقر، وقال أيضاً نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩، ولذلك قال في الذين أسرفوا قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا – ما نوّهنا بذكره وما تركنا التنويه به من الذنوب وهى كثيرةٌ جداً، والإنسان خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون – إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩، إذن مرة أُخرى يُشير إلى وصف ذاته!
يتحدَّث هؤلاء البُله الذين لا يستحيون للأسف بعكس هذا، وواضح أن مسلماً له شيئٌ من إلمام بهذه الآيات، فواضح أنه قرأها مرة أو مرات وكر عليها مرةً أو أكثر من مرة، الله – تبارك وتعالى – لم يجعل رحمته وقفاً على المعصومين المُحسِنين الذين لم يتقذَّروا بمُقارَفة ذنب أو باجتراح خطيئة، كلا إنها تسعُ كل المُوحِّدين الذين لم يعندوا ولم يستنكفوا ولم يستكبروا عن الإقرار المبدئي بالحقائق الكونية الكُلية ورأس رؤوسها لا إله إلا الله ومن ثم محمدٌ رسول الله فهو الذي علَّم التوحيد الحق وهو الذي دلّ على الله أحسن دلالة وأتمها وأكملها وهو الذي أعاد الاعتبار إلى الألوهية والربوبية بتقرير الواحدية والآحادية، وهكذا وبإذن الله إلى أن يطوي الله بساط هذه الأمة، قال النبي “إني لا أخشى على أمتي الشرك بعدي”، فنحن سدنة التوحيد ونحن الدُعاة إلى تمحيض الله – تبارك وتعالى – ما ينبغي لجلال قدسه ولكريم مقامه من التفريد ومن إفراده بالوحدانية والعبودية والربوبية والإلهية – لا إله إلا هو – وبتصريف الأمور على الوجه الذي يحكي حكمته ورحمته، نحن وحدنا مَن يفعل هذا ومَن يُوقِن بهذا ومَن يعيش ويموت على هذا، ونسأل الله أن نُبعَث على هذا.
هذه هى الحقائق، فرحمة الله تسع هؤلاء جميعاً، أما الذين عندوا واستنكفوا واستكبروا من بابِ المصروعية للعصبيات والولاء للأقوام والأهل والكبار المتبوعين أو تقديماً للمصالح والنُهز والفُرص فهؤلاء بعيدون من رحمة الله، ولم يرحم مَن لم يطلب رحمته ومَن عند واستكبر واستنكف وضلّل عباد الله ومِنهم مَن ساء العباد الخسف وصنوف العذاب ليُضِلهم عن سبيل الله ويتخذها هزواً؟
لسنا نجد في كتاب الله لدى التأمل العميق والتحقيق الدقيق أن الكافر عنوانٌ ووصفٌ لمَن ليس بمسلم، هذا غير صحيح وإن ظن بعض مَن لم يُحصِّل علم هذا البابِ كما يُقال في أدبيات تراثنا أن كل مَن ليس بمسلم فهو كافر، هذا غير صحيح، فالقرآن ملآن من أوله إلى آخره ما بين الدفتين بالأدلة اللائحة والبراهين الواضحة على أنه لا يُسمّى ولا يُنعَتُ كافراً، فلا يُنعَت بالكفرِ إلا مَن وضح له الإيمانُ بدليله فكفر به، فالكفر لا يتحدَّد إلا بإزاء قضية يُؤمَن بها، إنها قضية الإيمان وقضية التوحيد والرسالة الحقة، هذا هو الكفر، أما مَن لم يبلغه ولم يدر ولم يسمع أو سمع على نحوٍ مُشوَّه ونحوٍ منكوس معكوس فلا يُقال هذا كافر، وإلا هو كافر بماذا؟ هو لم تُعرَض عليه قضية الإيمان حتى يُقال كافر، وأدري أن بعض الوعاظ وبعض الخُطباء يقول غير ذلك، فشيئٌ مِن مُصيبة الإسلام وشطرٌ وجانبٌ مِن مُصيبة الإسلام في هذا العصر أن الكل صار ينبعق في الحديثِ عن الإسلام سواء أحسن أو لم يُحسِن وسواء درى أو لم يدر، وإلى هؤلاء الإشارةُ في الحديث المشهور عن زمانٍ يأتي كثيرُ خطباؤه، قليلٌ فقهاؤه.
فكل مَن اعتلى منبراً أو ظهر على شاشة يظن أنه يستطيع أن يُترجِم عن معاني الإسلام ومقاصده وأهدافه ويستدل على ذلك وهو ليس هناك، هو ليس من أهل هذا الشأن في قبيلٍ ولا دبير ولا شمال ولا يمين، فأمثال هؤلاء يُغبِّشون صورة الإسلام، هؤلاء يسوءون وتسوء بهم سُمعة الإسلام في العالمين من حيث يظنون أنهم يُريدون الإحسان، فلا كثَّر الله من أمثال هذا الإحسان الذي يُسيء إلى دين الله الخاتم وإلى شريعته السمحة النظيفة الطهور المُبارَكة القدس البارة، هؤلاء يقطعون بكفرِ كل مَن لم يستعلن بالتوحيد ويقطعون على غيب الله أن مآله جهنم خالداً مُخلَّداً فيها أبداً فتقشعر جلودُ غير المسلمين من هذه القسوة ومن حرص رب المسلمين على أن يُدخِل مُعظم عباده في جهنم لأن مُعظم سُكان البسيطة اليوم ليسوا مسلمين، فنحن مليار ونصف في أكثر تقدير وبالتالي نحن لسنا حتى نصف العالم بل أقل من ثلث العالم تقريباً!
قرأتُ لحُجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي – وإذا ذُكِر الغزالي ذُكِرت الإمامة في الفقه وأصوله وفي العقيدة وأصولها، علماً بأن أبي حامد مُتكلِّمٌ تماماً كما هو فقيه، فهو عالم اعتقاد من الدرجة أولى أو من الطبقة أولى، أي من علماء الطبقة الأولى بل عزّ نظيره في كل مصرٍ وعصر – مرة أنه كتب واثقاً مُطمئناً يقول “الذي أدين الله به أن مُعظم خلق الله – تبارك وتعالى – يدخلون في رحمته”، فكيف يقول شيخ الإسلام هذ؟ هذا عالم وليس فقيهاً أو خطيباً، وهو ليس فقيه فضائيات ولا كاتب مقالات في مجلات ولا يُقيم حضارات في مُنتديات فيُلقي الكلام رسلاً على عواهنه دون تحقيق ودون تدقيق، قال الله وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ۩، فهل فكَّرتم في هذا التركيب العجيب؟ الله لم يقل يكفر بالله وإنما قال يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ ۩، فالكفر لا يتحدَّد إلا إزاء قضية، وهى قضية الإيمان، فلابد أن يُعرَض الإيمان لائحاً بأدلته الساطعة المُنوَّرة ثم يُكفَر به بعد ذلك، فمثل هؤلاء يبوءون بغضبٍ من الله في الدنيا والآخرة، هؤلاء فقط وليس مُعظم العالمين، لكن نحن نستسهل ونقول “كل مَن ليس بمسلم فهو كافر وهو إلى جهنم”، وهذا الذي جعل بعض الناس أو الكثيرين منهم يشمأزون من ديننا لأننا ما أحسنا العرض، فما أعدلها من قضية وما أفشلهم من مُحامين ومدارء!
مدرءٌ فاشل ومُحامٍ خائب وقضيةٌ ناجحة لكن تحتاجُ مَن يتوفَّرعلى درسها بحيثياتها بإخلاصٍ وصدق، فيصل سواد الليل ببياض النهار عبر عقود من السنين مُستلهِماً ربه ومُسترشِده ومُستعينه – سبحانه وتعالى – لكي يُفتَح عليه فيما اختلف فيه العالمون بالحق وهو خير الفاتحين.
صح عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قبل موته بثلاثة أيام – علماً بأن الحديثٌ في صحيح مسلم – يقول “لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسِن الظن بالله تعالى”، فهذا من آخر وصاياه عليه الصلاة وأفضل السلام، وهو سبحانه عند ظن عبده به!
اللهم إنا نُشهِدك أننا حسنو الظنون بك، طامعون في مغفرتك، مُقبِلون على رفدك وعطائك، مُستنزِلين رحماتك وأغواثك فأغثنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
قال عبد الله بن مسعود “أبشِروا وأمِّلوا فوالله ليغفرن الله مغفرةً لا تخطرُ على قلب بشر”.
الأحاديث القاضية بأن مَن مات على لا إله إلا الله مُخلِصاً بها قلبه مُتواتِرة على أنه من أهل النجاة يوم القيامة، وقال ذلك كثيرون من علماء الإسلام وفي المُقدَّمة شيخ مشائخ المسلمين الإمام مُحي الدين النووي – قدَّس الله سره الكريم – في المجموع شرح المُهذب حيث قال “تواترت الأحاديث – وهو تواترٌ معنوي طبعاً وليس لفظياً – بهذا المعنى على تقرير هذه الجُملة: كل مَن مات وهو يعتقد أن لا إله إلا الله دخل الجنة”، فاجعلنا اللهم من أهل لا إله الله.
هذه رحمةٌ واسعة ورحمةٌ سابغة، قال النبي “لا يهلك على الله إلا هالك”، فماذا نُريد من دين جعل الغاية من بعثة النبي الخاتم أن يرحم به العالمين؟ قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ وجعله فيما يصطنع من أسلوب ومن طريقة في تبليغ الحق الذي أُلهِمه وأُوحيَ إليه يصدر عن رحمة لا عن فظاظة ولا عن قسوة ولا عن غِلظة، قال الله فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۩، وأنزل عليه وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۩ لأنه رحمة، فهل يُعقَل أن نُحيل صورة النبي الرؤوف الرحيم الذي فاز بلقبين من أسماء الله تبارك وتعالى – بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩ – إلى نبيٍ قتّال وإلى نبيٍ يعتسف وإلى نبيٍ لا يُنصِف وإلى نبيٍ يُسارِع إلى الذبح والسلخ بإسم السُنةِ والأحاديث التي تؤتفَك عليه في حين أن الله يقول إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩؟ فيا ويلنا من تهوكنا ومن جسارتنا ومن عدم احتكامنا إلى النص القاطع من كتاب الله تبارك وتعالى، فلا يعنينا أن يكون هذا بإسم السُنة أو بإسم غيرها، فرقٌ كبير بين نصوص لا يُدرى ما هى ولا يُدرى كيف زُبِّرت وحُبِّرَت وبين نصٍ قطعي بلا مثنوية حيث تطابقت الأمة من عند آخرها على اعتقاد قطعيته في ثبوته وإن اختلفت في دلالاته، فكيف يُمكِن أن نُسوي بين هذا وهذا؟ هذا من الخطل والخطأ المنهجي، فهذا خطأ منهجي لا يُمكِن لأحد أن يقع في مثله، إن الصدقية أو الموثوقية المرجعية لكتاب الله ليست تُضارِعها صدقيةٌ أُخرى، لا لسُنة ولا لغيرها، ويجب أن ننتبه إلى هذا لأنها هى الصدقية المُطلَقة المُتفرِّدة، وقد تكفَّل الله – تبارك وتعالى – بحفظها.
أما رحمته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالناس من حوله، مسلمهم وكافرهم بل وبالعجماوات فكانت عجيبة، فمما تواتر عنه أنه قال في كل ذي كبدٍ رطبة، وهذا يعرفه القاصي والداني، فالصغير فينا يعرفه قبل الكبير لأننا دُرِّسناه ورُوّيناه حين كنا في المدارس في الصفوف الأولى الابتدائية، فوالله رُوّينا وعُلِّمنا هذا في المناهج الدينية التقليدية، قال النبي “في كل ذات كبدٍ رطبة أجرٌ”، وقال أيضاً “ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسانٌ أو حيوانٌ أو بهيمةٌ أو طير إلا كان له به صدقة”، وفي رواية عند مسلم “إلى يوم القيامة”، فما هذا؟!
الوقت يضيق والأحاديث كثيرة ومعلومة لديكم لذا لا نُطوِّل بذكرها لأنها كثيرةٌ جداً، ولكن هناك حديث أبي موسى وهو حديثٌ حسن – حسنٌ لغيره – أخرجه الحاكم في المُستدرَك والطبراني وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب يقول فيه أبو موسى:قال عليه الصلاة وأفضل السلام “لن تُؤمِنوا حتى تراحموا”، الإيمان لا ينفصل عن الرحمة، فمَن وجدتموه قاسياً فظاً غليظاً ليس يرحم فاعلموا أنه غير مرحوم، فالله لا يضع رحمته عليه، وليعلم هو هذا جيداً قبلنا، فعلينا أن ننتبه إلى أن ليست الفظاظة من الإسلام وليست القسوة من الإيمان، ولذا قال النبي “لن تُؤمِنوا حتى تراحموا”، قال أبو موسى “فقلنا يا رسول الله كلنا رحيم”، فقال “ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة، رحمة العامة”، وكرَّرها مرتين، أي أن ترحم العامة، وفي حديث أنس “رحمة الناس كافة”، وأبو داود والإمام أحمد من قبلُ يُخرِّجان هذا في سُننه وهذا في مُسنّده “اللهم إني أشهد أن العباد كلهم إخوة”، فالنبي قال العباد كلهم ولم يقل المسلمين بل قال العباد كلهم، قال الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ ۩ وفي الحديث الشريف “الخلقُ عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله”، قال الله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، قال أبو هريرة وغيره ” أي أنفع الناس للناس”، نحن أنفع الناس للناس، فلسنا الأكثر شحاذة من الناس ومن الأمم، ولذلك الآن لسنا خير الناس، فنحن نشحذ لقمتنا ونشحذ نقدنا في شكل قروض كارثية ملعونة ونشحذ ما نلبس وما نركب وما نطير عليه وما نمتطيه في البر والبحر والجو، ونشحذ الأمن والسلام وكل شيئ، فالأمة الآن غدت لا تُحسِن شيئاً وتدّعي أنها تُترجِم عن الإسلام وتُحامي عن حماه، بأي منطق يُقال هذا؟ أين منطق البرهان؟ كيف نُنترجِم هذا الإسلام للعالمين؟ لكن نحن أصبحنا فتنة – والعياذ بالله – للعالمين بهذا القعود المُخزي وبهذا الانحطاط المُذِل وبهذه السلبية والعجز والجمود الذي ران علينا من قرون وليس في القرن الأخير فقط للأسف الشديد، والإسلام من هذا براء، فالإسلام الذي أخرج خير أمة أُخرِجَت للناس لا أظن أنه يُجامِع الإسلام الذي تتكلَّم بإسمه الأمة اليوم، يبدو أنهما إسلامان مُتباعِدان وتصوران مُختلِفان للإسلام.
النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – رحمته مُقرَّرة ومعروفة، فهو كان رحمة بأصحابه وبأمته، وهذا ينقلنا إلى درس التاريخ، لذا علينا أن ننتبه إلى أننا إن دخلنا في درس التاريخ من الصعب جداً أن يُجارينا أحد في مضمار وخاصة النصارى ولنكن واضحين، وطبعاً نحن ليس لدينا تاريخ طويل مُشترَك مع الهنادكة – مثلاً – أو البوذيين أو الكونفوشيوسيين ولكن لدينا تاريخ مُشترَك عبر الصليبيات وما تلا الصليبيات، وقبل ذلك حتى من الحروب الأولى مع بيزنطة أو دولة الروم الشرقية، فهذا تاريخ مُشترَك طويل ومُمتَد إلى اليوم في أعقاب الاستعمار والتخلص من الاستعمار، فلا تزال إسرائيل بنت الاستعمار جاثمة على صدور العرب والمسلمين والفلسطينيين إلى اليوم وإلى الساعة، ولذلك لا يُمكِن أن يُجارونا في مضمار، لنكن واضحين ولنقل أنهم لا يُمكِن أن يُجارونا في هذا المضمار، وهذه الكلمات لا أقولها لهم بل أقولها لهؤلاء المُرتَدين الذين يتحدَّثون عن المحبة والسلام المفقودين في الإسلام وقد وجدوهما زعموا في النصرانية، فهل هذا في نصرانية التاريخ الآن؟ مُستحيل، إذن أنتم لم تفقدوا المحبة والرحمة والعفو والتسامح في النص الإلهي، هل فهل قدتموه في التاريخ ووجدتموه هناك في سياقٍ آخر؟ سوف نرى!
حدَّثتكم غير مرة عن الكتاب الفذ الذي أنا أنصح كل مسلم ومسلمة باقتنائه ومُدارَسته بتمعّن والذي يقع في زُهاء خمسمائة صفحة، فالكتاب يُمكِن أن يُقال عنه أنه وثيقةٌ مُمتَدة تستند إلى مئات الحوادث المُوثَّقة بلغاتٍ أوروبية كثيرة وبعضها شرقي أيضاً، هذا الكتاب للكاتب النابغة السيد السير توماس آرنولد Sir Thomas Arnold – طيَّب الله ثراه – وهو الدعوة إلى الإسلام The preaching of Islam، والكتاب تُرجِم إلى العربية وتُرجِم إلى لغات أُخرى، فهو فذٌ في بابه ووثيقة عبر خمسمائة صفحة تستند إلى مئات الوثائق والمصادر العلمية المُحترَمة الرصينة التي تُثبِت أن الإسلام انتشر برحمته وبقوة قيمه الذاتية وبتعبير أو على حد تعبير السير توماس آرنولد Thomas Arnold انتشر لأن كان طابعه الهدوء والمُسالَمة، ومن أجمل ما أثره آرنولد Arnold في كتابه الفذ هذا ما ذكره أحد المُؤرِّخين وقد كان شاهد عيان ومن ثم كان يروي القصة وهو كالتالي:
نشبت حربٌ بين السُلطان الأعظم العثماني وبين القائد المجري الشهير بل الأشهر هنيادي فجاء هذا المُؤرِّخ وهو شاهد عيان وراوي القصة والحكاية إلى هنيادي يسأله: أيها القائد المُظفَّر ماذا كنت تصنع لو انتصرت في هذه الحرب وظفرت؟ فقال “كنت سأؤسِّس للمِلة المسيحية الكاثوليكية الرومانية، وكنت سأطبع هذه البلاد التي أغلب عليها وأظهر عليها بهذا الميسم أو بهذا الطابع، فلا دين إلا الكاثوليكية”، ولم يقل حتى لا دين إلا المسيحية في تعدّدها المُذهِل وإنما قال لا دين إلا الكاثوليكية الرومانية فقط، فهذا هو ما كان سيفعله وما كان سيتقرَّب إلى يسوع أو إلى السيد المسيح به، ثم جاء شاهد العيان المُؤرِّخ إلى السُلطان الأعظم بذكاء وسأله:أيها السُلطان المُبجَّل ماذا كنت صانعاً لو أنك ظفرت وظهرت؟ فأجاب السُلطان المُبجَّل – رحمه الله تعالى ورضيَ عنه – قائلاً “كنت سأبني – وهو لا يدري جواب هنيادي ويبدو أنه سُئل من قبله أصلاً، لكن كلٌ يصدر عن منطقه ويصدر عن مزاجه المِلي والعقدي وعن تفكيره العلمي الذي أورثه إياه رجال الدين وعلماء النصوص – إلى جانب كل مسجدٍ كنيسة – اقشعر بدني – وأترك للرعايا مُطلَق الحرية أن يعبدوا ما شاءوا كيف شاءوا في أيهما شاءوا، فمَن أحب أن يتعبَّد في الكنيسة فليفعل، ومَن أحب أن يتعبَّد في المسجد فليفعل”، وهكذا صارت خُطة المسلمين!
فولتير Voltaire بنى رسالته الأشهر “رسالةٌ في التسامح” على الواقعة المُروِّعة الأليمة لمصرع جان كالاس Jean Calas، فجان كالاس Jean Calas كان فرداً مسيحياً مُتحوِّلاً إلى المذهب المُعارِض البروتستانتي، فلم يكن كاثوليكياً كسائر سُكان تولوز Toulouse في فرنسا وسائر سُكان فرنسا في العموم، علماً بأن إلى اليوم الأغلبية كاثوليكية وليست بروتستانتية هناك، المُهِم أنه تحوَّل إلى المذهب البروتستانتي ،وكان له ابن قويٌ شديد أيّد يُعاني من مرضٍ نفسي – نوع من الاكتئاب أو الفُصام أو ما شابه – انتهى به إلى أن ينحر نفسه، فشنق نفسه ولُفِّقَت التُهمة للأب وللخادمة ولولدين آخرين وللزوجة ولشابٍ ضيف نزل عليهم بأنهم جميعاً تآمروا على شنقه، وما مِن دليلٍ واحد على هذا، ثم نُفِّذ حُكم الإعدام في الأب ونُفيَ الشابان وأُخِذت الأم والبنت وجُعلتا في سجن، فهذه كارثة من الكوارث التي يحكيها فرنسوا فولتير Francois Voltaire بتفصيلٍ مُؤلِم يعتصر القلب، حيث قضى سبعة من القُضاة أو ثمانية بوجوب إعدام جان كالاس Calas الأب، وكان شيخاً سبعينياً وكان يُعاني من مرض الخرع، فكان مخروعاً في ركبه، إذن كيف شنق شاباً قوياً؟ فضلاً عن أنه لم يُسجَّل جرحٌ واحد أو كدمةٌ أو خدشٌ على نحو من أنحاء جمسه، إذن كيف تم شنقه؟ واضح أنه هو الذي شنق نفسه، المُهِم هو أنه بعد أن فرغ فولتير Voltaire وأطال النفس في النكير وتهجين هذا المذهب المُتعصِّب المُزري بالمسيحية وروحها انتقل بعد ذلك ليُعيِّر قومه فقال لهم “علينا أن نخرج قليلاً من دائرتنا هذه – كأنه يقول الدائرة الوبيئة الوبيلة – لننظر إلى بلاد السُلطان الأعظم”، وعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن الدهر قُلّب والأيام دول، فكيف انقلبت الأمور؟
كيف صار المسلمون الآن يُعيِّرون أنفسهم بالتسامح المعيش الذي ينعمُ في ظله عشرات بل مئات المِلل والنِحل واللغات؟ وكما قلت مرة في بريطانيا وحدها وتحديداً في لندن يُوجَد أكثر من ثلاثمائة وأربعين لغة، فهناك أديان ولغات كثيرة وكلها تعيش في تسامح، ونحن كنا هكذا تماماً بل وأحسن من هذا المُستوى، فكنا على أرفع من هذا المُستوى.
قال فولتير Voltaire “حين نخرج إلى بلاد السُلطان الأعظم نجد أنه يعيش في إسطنبول العاصمة زُهاء مائتي ألف يوناني في سلام ونعيم موفورين وادعين، أما في سائر الجُزر وسائر البلاد الخاضعة لسُلطة السُلطان فالمُفتي بنفسه هو الذي يُسمي البطريرك الكاثوليكي، علماً بأنه قد سُمِح للاتين أيضاً أن يكون لهم بطريرك، والسُلطان نفسه هو الذي يُسمي أساقفة هؤلاء اللاتين في بعض الجُزر اليونانية”، ثم قال فولتير Voltaire “وإلى أولئكم – أي المسيحيين على اختلاف نِحلهم وطوائفهم وذكر منها شيئاً يسيراً – يعيش اليهود والزرادشتيون والبراهمانيون ومِلل أخرى كثيرة ولم تُسجِّل الحوليات التركية نشوب نزاعٍ أو عدوانٍ بسببٍ ديني بين هاته الطوائف والمِلل والنِحل”، فهو يُعيِّرهم بمُستوى التسامح وحُرية الاعتقاد والتديّن التي ينعم بها مُواطنو السلطنة العثمانية في ظل السُلطان الأعظم العثماني رحمه الله تعالى، فهذا هو التاريخ!
جوستاف لوبون Gustave Le Bon في كتابه العظيم الشهير حضارة العرب يتحدَّث طويلاً في صحائف من نور عن مماجد بل مباذخ الفتح الإسلامي الرحيم، فهو فتح ولكن رحيم ومُتسامِح وكريم ومُحضِّر ومُمدين حقيقةً كما قال إتش جي ويلز H.G. Wells في المعالم Outline، أي معالم التاريخ الإنسانية، حيث قال “أينما كان الإسلام يحل كانت المدنية لا تسير بل تركض ركضاً”، فهذه هى رسالتنا وهذا الذي أورثناه للعالم يوم كنا في رأس العالم ومُقدَّم الركب، وهذه ليست كلمات مشائخ أو مُؤرِّخين عرب وإنما كلمات لكبار القوم هنا وكبار عباقرة التاريخ والدرس التاريخي في الغرب، المُهِم أنه وبعد هذه الصحائف عقَّب قائلاً “وفي الحق أن تاريخ العالم على طوله لم يعرف فاتحين مُتسامِحين راحمين – أي رحماء – كالعرب، وهذا شيئ عجيب ومُدهِش ومُحيِّر”، لكن هل ننسى وصايا الرسول؟ هل ننسى وصايا أبي بكر وعمر إلى الفاتحين؟ قال النبي “لا تغلوا ولا تغذوا ولا تُمثِّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأةً ولا تعقروا نخلة – عقر النخلة إذا قطع رأسها – ولا تقطعوا شجرة مُثمِرة ولا تذبحوا بقرةً أو شاةً أو بهيمةً – من بهائم الأنعام – إلا لمأكلة”، فما هذه الحرب؟ واليوم شهد القرن العشرون المُتصرِّم الحرب الشاملة التي لا تُبقي ولا تذر والتي أبادت مائتي ألف في درسدن Dresden بألمانيا بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانسحب النازي، أتت على مائتي ألف بضرب واحدة على يد المُحرِّر الأمريكي الأبيض فألقت بقنبلتين ذريتين كتجربة وكترهيب وإرعاب للاتحاد السوفيتي – المُعسكَر الشرقي – حتى يلزم حده وذلك على اُناس كانوا قد استسلموا قبل ليلتين في هيروشيما وناجازاكي، والضحية أكثر من مائتي ألف في دقائق بسبب هذه الحرب الشاملة، فهذه الحرب الشاملة ليست على الجيش وعلى مَن يُشارِك في الحرب وإنما على كل الناس، على الحضارة والمدنية والتاريخ وعلى ما يدب وما يسكن، وهذا شيئ غريب، ثم يتبجَّحون علينا بدروس التسامح، فأين تاريخكم من تاريخنا؟ لا يستطيع أحد في هذا المضمار أن يُجارينا، فليستيقظ جيداً وليقرأ تماماً وليتمعّن!
هناك خلافات في تاريخنا وقعت بين النصارى وبين المسلمين، وخلافات بين اليهود وبين المسلمين، وخلافات بين المسلمين وبين المسلمين شيعةً وسُنة، وذهب ضحيتها عشرات أو مئات في أكثر تقدير عبر القرون – عبر أربعة عشر قرناً – ومع ذلك هم يُضخِّمونها، لكن كم ذهب ضحايا الحرب الدينية المذهبية هنا في أوروبا في ثلاثة قرون فقط بين الكاثوليك والبروتستانت؟ أربعون في المائة من سُكان أوروبا أُبيدوا، أي أن نصف السُكان ذهبوا ضحية هذه الحروب!
في ألف وخمسمائة واثنين وسبعين في ليلة عيد القديس بارتيليمي Barthelemy – سانت بَرثُولَماوُس Saint Bartholomew هو أحد حواريي المسيح، السانت بتلاموس بَرثُولَماوُس Saint Bartholomew فهو واحد من الحواريين الاثني عشر – أصدر ملك فرنسا شارل التاسع Charles IX أمراً بقتل الخوارج – فهم عندهم خوارج وهم البروتستانت – وقال “هؤلاء خوارج مُرتَدون ومن ثم اقتلوهم”، وبدأ الذبح في باريس، فمات في باريس ثلاثة آلاف إنسان في سويعات قليلة، فكانت تُبقَر بطون الحوامل وتُؤخَذ الأجنة ويُضرَب بها عُرض الحائط فتنفجر الرؤوس، وهكذا ذبحوا الناس ولم يرحموا أحداً، فمات ثلاثة آلاف إنسان في باريس وحدها ثم سرت العدوى في سائر المُدن الفرنسية فسقط بين ستة آلاف إلى ثمانية آلاف في نفس الوقت، فهذا تاريخ مُخزٍ، لكن ماذا كان موقف البابا الأعظم والحبر الأعظم جريجوري الثالث عشر Gregory XIII؟ هل أدان جريجوري الثالث عشر Gregory XIII أم سكت؟ يا ليته سكت، قام وأمر بإيقاد نيران الفرح وقرع الأجراس على اعتبار أن هذا يوم عيد ويوم فرحة ثم أمر الرسام الشهير فازاري Vasari أن يُخلِّد الحدث السعيد في لوحات جدارية في الفاتيكان Vatican وقال له “ارسم مذبحة سانت – Saint أو Sankt – بارتيليمي Barthelemy وخلِّدها”، وأمر بأن تُسَك مسكوكات – عملة – تُخلِّد الحدث وعليها صورة البابا جريجوري الثالث عشر Gregory XIII وإلى جانبه رجل سيّاف يقطع رأساً بسيفه، وتحت على المسكوكة جُملة من كلمتين “قُتِلَ الخوارج”، أي المُرتَدون The Apostates.
هذا هو، فمتى حدث شيئٌ قريب من هذا في تاريخنا كله؟ قط لم يحدث بحمد الله – تبارك وتعالى – أبداً.
كيف انتشرت النصرانية في هذه الربوع الخوالي منها قبلُ؟ كيف انتشرت – مثلاً – في روسيا؟
في أول القرن الحادي عشر الميلادي – ألف وخمسة عشر – بدأ التعميد وبالجُملة، فكان يُعمَّد أهل البلاد وقُرى ودوقيات – دوقية – بالجُملة في النهر، فيخرجون – نحو خمسة آلاف أو أربعة آلاف – ويتعمَّدون كلهم مرة واحدة، ومَن أبى القتل مُباشَرةً أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف على يد جمعية إخوان السيف Brothers of Sword، فحتى الإسم – أي إخوان السيف Brothers of Sword – كان مُخيفاً، فإخوان السيف وُجِدوا لإدخال الناس بالسيف في المسيحية، ومَن أبى يكون مصيره القتل مُباشَرةً، وكان يترأسهم القديس – Saint أو Sankt – فلاديمير Vladimir، فمَن هو فلاديمير Vladimir؟!
فلاديمير Vladimir هو رجلٌ يُضرَب المثل به في الشهوانية والوحشية، كان لديه ثلاثة آلاف وخمسمائة امرأة، وبعضهم يقول في حولياتهم “هذه مُبالَغة، ففي الحقيقة كان أقل من هذا، حيث كان لديه خمسمائة امرأة”، أي أنهم يعترفون أنه كان يدور على خمسمائة امرأة، فهو زير نساء شهوان، والمثل أيضاً به مضروبٌ في الشيطانية وفي الوحشية، ومع ذلك الكنيسة الأرثوذكسية عمَّدته بل طوَّبته قديساً – Saint أو Sankt – لأنهم قالوا أنه أدخل الناس في دين يسوع وأن يسوع سوف يتكفَّل بمغفرة ذنوبه، وهكذا لا يُوجَد – ما شاء الله – مُشكِلة.
اقرأوا The preaching of Islam واقرأوا هذا التاريخ، اقرأوا تاريخ أوروبا في العصور الوسيطة للمُؤرِّخ الحُجة الثقة فيشر Fisher وهو صاحب تاريخ أوروبا الحديثة في مُجلَّدين، فهذا التاريخ كتبه فشير Fisher ولم يكتبه مُؤرِّخ شرقي أو عربي حاقد أو مُستغرِب مسلم، بل كتبوه هم بوثائقهم.
الملك كونت Count في الدنمارك كيف أدخل رعاياه ومواطنيه الخاضعين في مُمتلكاته وأراضيه في المسيحية؟!
أدخلهم بقوة السيف والإرهاب.
شارلمان Charlemagne كيف أدخل السكسون في ديانته؟!
أدخلهم عبر حروب امتدت ثلاثاً وثلاثين سنة شهدت مِن المجازر والبشاعات والوحشية ما تقشعر منه صحائف التاريخ، فلم يجد السكسكون المساكين بُداً في النهاية إلا أن يدخلوا في المسيحية، فالذبح كان مُستمِراً عبر ثلاث وثلاثين سنة!
فهذه هى تواريخهم، وهذا مذكور تواريخ كتبهم الموثوقة، فلا أحد يُكذِّب هذا ولا يُشكِّك فيه لأن هذه حقائق ثابتة.
النرويج وخاصة جنوب النرويج – القسم الجنوب من النرويج – كيف دخلوا في المسيحية؟!
دخلوا بالشيئ نفسه، عن طريق القتل والتشريد والنفي والتقطيع من خلاف لكل مَن يأبى.
لكن نحن دين يقول لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩، تأتي امرأةٌ مسيحية إلى عمر بن الخطاب تسأله المعونة بعد أن قصَّرت معها المادة، فيستعبر عمر ويتأثَّر فتسيل عبراته ويأمر لها مُباشَرةً برفدٍ، فلابد أن تُعطى هذه ما يسد خلتها، ثم يعرض عليها الإسلام وهى من الرعية، فيقول لها: يا أمة الله ألا تدخلين الدين؟ فقالت “كلا، أنا راضية بما عليه”، فقال “أنتِ وما رضيتي”، ثم ابتهل إلى الله كالمُستغفِر، فكأنه أحس أن عرضه الإسلام عليها من موقع سُلطته كخليفة بمُجرَّد العرض من المُمكِن أن يُشكِّل شُبهة إكراه، فقال “اللهم إني وتعلم لم أُرِد أن أُكرِهها إنما بغيتها الخير”، أي لا تُؤاخذني يا رب في هذا، فمن المُمكِن أنه كان خطأ أنني كخليفة أعرض الإسلام عليها فقد تخاف هذه المسكينة وتجفل، ولكن الحمد لله هى لم تُسلِم، فاللهم لا تُؤاخِذني بهذا.
فما هذا يا أخي؟ ما هذا الضمير؟ ما هذه الحُرية؟ هذه حُرية التدين والاعتقاد والتفكير والتعبير، مع العلم أنها حُرية غير مسبوقة في التاريخ بالمُطلَق.
كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus جرت العادة على تصويره إنساناً مِن شقين، شقٌ يحمل السيف – كأنه فارس مغوار – ويلبس الزرد، وشقٌ آخر يلبس الرداء الأسود الكهنوتي ويحمل الصليب”، فهذا هو كولومبوس Columbus،واسألوا التاريخ واسألوا اللاتين واسألوا أمريكا الجنوبية ماذا فُعِل بالآزتك Aztec والمايا Maya والإنكا Inca؟ اسألوا لاس كاساس Las Casas الذي طُبِع كتابه في ست مُجلَّدات بالفرنسية قبل بضع سنين فقط لأول مرة “تاريخ الهند” عن الفظائع المُخيفة التي جرت في أمريكا اللاتينية طبعاً ونواحيها في ست مُجلَّدات، وهى فظائع ليس من السهل أن تقرأها، ويكتب تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov في فتح أمريكا The Conquest of America قائلاً عن مسألة الآخر “ومر جماعةٌ من النصارى أو المسيحيين يوماً على هندية تُرضِع طفلها، ولما كان الكلب – أي كلبهم – جائعاً فقد عمدوا مُباشَرةً دون تأثم إلى ابنها فانتزعوه من أحضانها ومن على ثديها وألقوا به إلى الكلب المُفترِس الذي أخذ ينهشه على بصر أمه”، فهل هذه هى المسيحية وهذه هى الرحمة؟!
اُحِب لهؤلاء الإخوة – هدانا الله وإياهم – الذين يزعمون أنهم ارتدوا عن الإسلام لأن الإسلام لا يعرف الرحمة ولا يعرف التسامح أن يقرأوا فقط، ولذلك قلت لكم قبل سنين وعتب علىّ بعض المُتعجِّلين “اقرأوا، المطلوب هو أن تقرأوا، واقرأوا كل شيئ، اقرأوا للسماء وللأرض، اقرأوا للأنبياء ولأعداء الأنبياء، اقرأوا لماركس Marx ونيتشه Nietzsche وللينين Lenin وستالين Stalin، اقرأوا لكل أحد على الإطلاق، وحين تقرأون ستضح الرؤية ويضح النهج والسببيل وستُصحِّح القراءة بعضها بعضاً، فلا نخاف على أنفسنا من القراءة”، فلست من الذين يظنون أن الحقيقة تقف بحيالها، هذا غير صحيح، فكل أهل الأديان يعتقدون أن المطلوب هو الحقيقة، وأنا أقول لكم أن الحقيقة تقف دائماً وتأتي دائماً بعد المعرفة، فالعلمانيون لا يُؤمِنون بالحقيقة ولكنهم يُقدِّسون المعرفة، والمُتدينون لا يخضعون للمعرفة ولكنهم يُؤمِنون بالحقيقة، وهذا خطأ وهذا خطأ، فأنا ظني ومنهج حياتي وفكري أن الحقيقة لا تأتي إلا بعد المعرفة، إذن لابد من المعرفة أولاً، وإذا تحدَّثنا عن المعرفة تحدَّثنا عن التوثيق والصدقية والمنهجية العلمية الصارمة المُحترَمة والموضوعية في البحث والدرس، ثم تأتي بعد ذلك الحقيقة لتُتوِّج خياراتنا القلقة ولتحسم موضوع الخيار، فأهلاً وسهلاً بعد المعرفة وليس قبل المعرفة، وبهذا المعنى لن نكون مُتدينيين تقليديين أوعلمانيين مُقلِّدين، فنحن لسنا من هؤلاء ولا من هؤلاء.
إذن هذا وضع مُخيف جداً، فكيف تم تنصير هؤلاء؟!
عدد الذين قُتِلوا مُختلَف فيه جداً، فهم يُحِبون أن يُقنِعوا العالم أنه لا يتجاوز بضعة ملايين، وبعضهم يتوسَّط ويقول “من ثلاثين إلى مائة”، لكن بتقدير لاس كاساس Las Casas أنهم مليار، حيث قال “أُقدِّرهم ليس بأقل من ألف مليونتمت إبادتهم بالكامل”، فالذين أُبيدوا هم أكثر سُكان المعمورة وكانوا مُتواجِدين في تلكم الأسقاع وكانوا في مُنتهى السلام – علماً بأن لي خُطبة قديمة عن هذا الموضوع – ومع ذلك تمت إبادتهم، ولكن بإسم ماذا تم هذا؟!
بإسم أقنوم كان ثنائياً هذه المرة زليس ثلاثياً، بإسم أقنوم ثنائي أو ثنائي الأقنوم وهو الكنيسة أو الكتاب المُقدَّس والحضارة، وكل أقنوم من هذين الأقنومين في هذا الثنائي كان كافياً لتبرير المذابح والمسالخ!
إليزابيث الأولى الأولى Elizabeth I أول كنيسة دشَّنتها للرقيق – للاسترقاق ولسرقة الشعوب وسرقة الأبدان وسرقة الناس وسرقة هذا الكيان الحر للإنسان – سمتها يسوع Jesus، فالكنيسة إسمها يسوع، وكان يُسرَق الناس ويُستعبَدون بإسم يسوع، ورحمة الله على أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
يا حامِلَ الآلامِ عَن هَذا الوَرى كَثُرَت عَلَيهِ بِاِسمِكَ الآلامُ
سفينة إليزابيث Elizabeth كان شريكها فيها وفي ريعها جون هوبكنز Johns Hopkins القرصان الأكبر، وهو أكبر قرصان – Pirate – وسارق للبشر والإمكانات، فجون هوبكنز Johns Hopkins كان شريكاً لإليزابيث Elizabeth الأولى في يسوع، وأصبحت يسوع أسطولاً من مائة وتسعين سفينة، حمولتها في المرة الواحدة – هذه هى حرب الاسترقاق، وهذا الفصل أشد سواداً من السواد نفسه في تاريخ هؤلاء – زُهاء نصف مليون من الرقيق، بالضبط أربعمائة وواحد وسبعين ألف في المرة الواحدة، والآن يتكلَّمون عن الإسلام.
ولما دشَّنوا أول سفينة على بركة يسوع إن شاء الله لكي تمخر عُباب الماء وتسرق البشر لتستعبدهم وتستنزفهم طلبوا من رجال الدين المُستنَد الشرعي، فإذا بالآيات تترا سريعة عاجلة من فصول كثيرة وخاصة من العهد القديم بأن الرقيق مُباح لا شيئ فيه، لكن ائتوني بآية واحدة من كتاب الله – القرآن الكريم – تأمر بالاسترقاق، أنا أتحدى أنكم لن تجدوا هذه الآية – والله العظيم – لأنها غير موجودة أصلاً، علماً بأنه لا يعلم هذاأكثر المسلمين للأسف وخاصة من الذين يرتدون عن الإسلام ويعتبرون أنفسهم عباقرة الدرس والبحث المُقارَن، فلن تجدوا آية واحدة تأمر بالاسترقاق ولكن ستجدون عشرات الآي تحث على وتحفز على وتأمر على الإعتاق وليس على الاسترقاق، ولذلك يتساءل المرء: إذن هذا الكتاب الأجل كان له خُطة وكان من وراء ظواهره خُطة مُعيَّنة، فما هى هذه الخُطة إذن؟!
الخُطة هى تحرير الأرقاء وتحرير الرقيق والقضاء على الرق بتجفيف المنبع وتضييق المُدخَل وتوسيع المُخرَج، فلا يُوجَد آية واحدة طبعاً تأمر بالاسترقاق، ولكن يُوجَد عشرات الآيات التي تتحدَّث عن كفّارة العتق وتُنادي بالعتق والعتق والعتق، ومُعظمهما على الإطلاق تتحدَّث عن رقاب غير مُقيِّدة إياها بوصف الإيمان، أي تُنادي بعتق أي رقبة، سواء كانت رقبة مسلم أو غير مسلم، فهى تأمر بتحرير البشر كلهم سواء كانوا مُسلِمين أو غير مُسلِمين، ثم تأمر بترك البشر بعد ذلك لخيارهم.
ابن كمال باشا – إمام الحنفية في عصره – سُئل مرةً في مسألة أثارت لغطاً بين فقهاء الأحناف حيث وُجِدَ طفل صغير تنازع فيه رجلان، أحدهما يزعم أنه ابنه والآخر يزعم أنه عبده أو رقيق ورثه عن أبيه، لكن الذي يزعم أنه عبده مسلم، والذي يزعم أنه ابنه مسيحي، فقال “يُقضى به للمسيحي” أي لغير المسلم، لكن كيف هذا؟ قال “لأن الحرية مُقدَّمة”، فالحرية مُقدَّمة حتى على الدين، فالإنسان ينبغي أن يعيش حُراً ثم اترك بعد ذلك خياره الديني لحُريته، ليدرس الأديان وليختر بعد ذلك دينه، ثم أن هذا الطفل كان صغيراً حقيقةً، والرأي الراجح في نظري وهو رأي الشوافع فلا يُحكَم بإسلام حقيقي لصبي لأن هذا سيكون إسلاماً تبعياً، لكن لكي يُسلِم حقيقةً بحيث بعد ذلك يُسمى مُرتَداً إذا ارتَد لابد أن يستعلن بهذا الإسلام بعد البلوغ حين يرشد ويكتمل عقله.
فما هذا الدين؟ هل هذا دين أم فلسفة تحرير؟ هذا هو الدين العظيم يا أخي، هذا ديننا وهذا شرفنا وهذا فخرنا، فنسأل الله أن يُفقِّهنا فيه وأن يفتح علينا وأن يفتح عيون بصائرنا وأبصارنا لنزود عنه ونُحبِّب فيه أنباءنا وبناتنا وناشئتنا وإخواننا وجيراننا ومَن أحببنا له الخير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الإخوة:
وقد أدركنا الوقت فلا حيلة إسلام الواقع نُرجئه – إن شاء الله – أو نُرجيء الحديث فيه إلى مُناسَبةٍ أخرى، فقد تركنا النص وفرغنا من التاريخ فلنأت الآن إلى الواقع: كيف يُترجِم مسلمو اليوم والحركات والأحزاب والجماعات والجمعيات والعامة والخاصة من العلماء والدُعاة والفقهاء والخُطباء عن الإسلام؟ هل يُترجِمون إسلام الرحمة فعلاً وهو إسلام التسامح وإسلام المحبة – أي الإسلام الواسع كما أراده الله – أم أنهم يُترجِمون إسلاماً آخراً؟
هذه هى النُقطة أو هذه هى المسألة التي أثارت تشويشاً وقلقاً في تصوّر هؤلاء المساكين الذين تركوا الإسلام وعافوه ورغبوا عنه إلى غيره ربما مُتأُثِّرين بالواقع وبغِلظة بعض المسلمين وبعض العلماء وبعض الدُعاة وبعض الجمعيات وبعض الاتجاهات، ولكن سنرى نصيب هؤلاء من تصوير الإسلام الحق ومدى قُربهم أو بُعدهم عن الإسلام الجوهر كما أراده الله وكما أنزله وكما فهمته الأمة عبر القرون.
(2/4/2010)
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan
أضف تعليق