إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
لم يبق بيننا – إن شاء اللهُ تعالى – وبين الشهر الكريم إلا أيامٌ وليال معدودات، ونسأل الله – تبارك وتعالى – في هذه الساعة المُبارَكة من هذا اليوم الأغر الأزهر بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا ومنّه وفضله أن يُبلِّغنا الشهر الكريم وأن يجعلنا فيه من المبرورين الفائزين المُفلِحين برحمته إنه أرحم الراحمين.
أيها الإخوة الأفاضل والأخوات الفاضلات:
سألتني ابنتي قبل يومين أي يا أبتي ما سر الفرحة التي نستقبلُ بها الشهر الكريم؟!
فتاةٌ صغيرة صامت الشهر لسنتين ماضيتين وشقَّ عليها كما يشق على أمثالها ولكنها تجدُ من المشاعر والعواطف الجيّاشة – عواطف التعشّق والتلهّف – ما يجده كل مسلم وكل مسلمة حول العالم، كما قلنا غير مرة مِن ما لا يفهمه أو يصعب جداً أن يفهمه غير المسلم، فهناك حرمانٌ وسعادة، حرمانٌ وبهجة، حرمانٌ وفرحة، فرحة قبل أن يأتي وفرحة إبانه وحزنٌ وحسرةٌ بعد أن يُدبِر ويتولّى، وهذا من باب هضم وتمثّل الأضداد، فهناك نظرية فلسفية لأحد الحكماء الإسلاميين يرى فيها أن الشخص يكون أكثر اكتمالاً وأعظم نُضجاً إذا كان قادراً على هضم أضداد ومُتقابِلات أكثر في شخصيته، فبلا شك هذه هى الشخصية المُركَّبة، وهذه الشخصية المُركَّبة تأتي في مُقابِل الشخصية الساذجة البسيطة الواحدية، فإذا كان غنياً يُمكِن أن يُعطي لأنه غني وكريم، فهنا ليس فيها أضداد، فهذا شيئ طبيعي، وإذا لم يحصل هذا فهذا من ألأم عباد الله، هذا مُنحَط عن رُتبة الإنسان، فأن يكون غنياً ولا يُعطي هذا البعيد فهذا يعني ربما الحيوان أفضل منه، ولكن أن يكون فقيراً ويُعطي يُعَد أمراً عجيباً، هذا هضمٌ وتمثّل للأضداد، كرمٌ وعطاء وندى وبذل مع الفقر ما يُعَد شيئاً غريباً، أن يكون جميلاً أو تكون جميلة ويعف ولا يُغويه جماله إنه جمعٌ بين الأضداد، أن يكون مُسلَّطاً – حاكماً قوياً – ويصفح ويعفو ويسمح جمعٌ بين الأضداد، إذن تمثّل الأضداد وهضم أكبر كمية من الأضداد هو عنوان النُضج والاكتمال الإنساني، والشاعر صفي الدين الحِلِّي – الشاعر المشهور – لاحظ هذا المعنى قبل أن يُنظِّر له الفيلسوف الكبير، نظَّر له بعد ذلك بزُهاء خمسة قرون ولكن الشاعر فهم هذا، وصدق مَن سمّى الشاعر شاعراً لأنه يشعر – وهو أشعر منا – ويتحسَّس للأشياء داخلياً بطريقة أعمق مِما يفعله الناس العاديون، الإنسان العادي إذا رأى طيراً جميلاً ينظر إليه من منظار تغذوي – كيف يُمكِن أن ألتقطه لكي آكله وأذوق لحمه؟! – أما الشاعر فإنه ينظر إليه نظرة شاعرية ثم يُكرِمه بقصيدة تُخلِّده، ومن هنا سُمّيَ الشاعرُ شاعراً، فالشاعر صفي الدين الحِلِّي يقول في الإمام عليّ كرَّم الله وجهه:
جمعت في ذاتك الأضداد ولذا عزّت لك الأنداد
قال” ليس لك ضريب، ليس لك شبيه لأنك جامع بين الأضداد، أنت حاكم – أمير المُؤمِنين – وحكيم، حاكم وصفوح، حاكم ومُتسامِح”، فيسبه أحدهم من الخوارج وهو على منبره وبين شيعته وجمهوره فيُراد قتله فيقول:
لماذا؟!
قتل ماذا؟!
إنما هو سبٌ بسب أو عفوٌ عن ذنب، وقد عفوت عنه.
شيئ غريب، فهو أمير المُؤمِنين بل وإمبراطور ومع ذلك يُسَب على منبره فيقول ” أكثر شيئ أفعله هو أن أسبه كما سبَّني”، فلم يُنظِّر لها فقهياً، علماً بأن حتى هنا الآن في الدول الديمقراطية المُتقدِّمة سبّ الرئيس يُعتبَر جريمة يُعاقَب عليها أحياناً بالسجن لمُدة لا بأس لها، ولكن عليّ رفض وقال ” أنا واحد من الناس مثلي مثلهم وإن كُنت مُبتلىً بأمرهم، إنما هو سبٌ بسب أو عفوٌ عن ذنب، وقد عفوت”، فأن تكون حاكماً مُسلَّطاً قوياً قِدراً وصفوحاً مُتسامِحاً عفواً كريماً جمعٌ بين الأضداد،
وكان فقيراً فقير اختيار لا فقر اضطرار ولكنه كان كريماً جداً كالريح المُرسَلة يتمثَّل رسوله ونبيه في ذلك، وهذا جمعٌ بين الأضداد، وإلى آخر هذا الجمع.
فهنا نحن نجمع بين الأضداد دون أن نشعر، نفرح بالحرمان، نسعد بالحرمان، نحن مُبتهِجون جداً بمقدم رمضان فعلاً، أكثر ما يُرهِبنا ويُخيفنا أن تأتي أحدنا منيته قبل أن يشهد الشهر، لو كان في سابق علم الله أنها تأتي بعد أن نشهد الشهر فليكن ذلك والحمد لله فنخرج – إن شاء الله – طاهرين مُطهَّرين – بإذن الله تعالى – لأن رمضان المُطهِّر والمُكفِّر أيضاً، ولكن قبل الشهر بلية، إنها بلية فلا نحسد مسلماً مات قبل الشهر، لا نحسده ولكن نرجو له واسع رحمة الله – تبارك وتعالى -، فهذا جمعٌ بين الأضداد وهو عنوان نُضج واكتمال في الشخصية المسلمة حتى في أطفالنا، في أولادنا، في بناتنا الصغار والصغيرات، فهم مُهيَّأون للكمال، بدأوا يخبرون ويعيشون هذا الكمال، ولذلك حريٌ بنا أن نقف هنا وقفةً ناظرة ومُتأمِّلة لنُفكِّك هذه المسألة:
ما سر سعادتنا برمضان؟!
نحن الآن وصَّفنا وقلنا “سعادة بالحرمان”، ولكن ما سر ذلك؟!
كيف يتم ذلك؟!
فلابد أن نُفكِّك هذا، ومثل هذا السؤال لابد دائماً أن نُوسِع هامشاً غير ضيِّق للصنع الإلهي، للإنعام الإلهي، للطف الإلهي، بمعنى أنك حين تبخع – فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩ – وتخشع وتخضع لأمر الله لا تنتظر البؤس والقنوط والإحباط بل انتظر البهجة والفرحة والسعادة – قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ۩ بلا شك، فهذا شأنٌ إلهي لا يُمكِن أن يُفكَّك وأن يُعلَّل ويُحلَّل بعقلية مادية ترشيدية أوبمنطق عقلاني، ولكن هذا صنع إلهي، شأنٌ إلهي لا شأن لنا به، فهذا كان الأمر الأول، أما الأمر الثاني فمن بعد ذلك أو من وراء ذلك نُريد أن نختبر تفكيك هذه المسألة بمنطق نفهمه، بمنطق يخصنا نحن، والنبي أشار إلى هذا السر بطريقة عميقة جداً، وسوف ترون الآن من خلال الشرح أنه كان ربما من الصعب أو من البعيد على كثير من علمائنا أن يفهموا هذا الفهم، ونحن لم نكن لنفهمه إلا ربما في ضوء معارف جديدة ومعارف أُخرى فتح أعيننا عليها بعض كبار الدارسين والعلماء حول العالم في مباحث السعادة – Happiness -، فهم يبحثون عن السعادة:
ما سر السعادة؟!
ما علة السعادة؟!
ما أسباب السعادة؟!
ما مُناقِضات ومُقابِلات السعادة؟!
النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه – يقول ” وللصائم فرحتان ” أي أنه ربط بين الصوم والفرح، نعم النبي يقول هذا وهذا الشيئ واضح، فنعم هناك فرحة وهناك بهجة عجيبة في هذه الأمة، والأمة الآن على موعد مع عيد حقيقي، ليس عيد الفطر وإنما عيد الصيام، عيد الشهر، وأنا لا أتحدَّث عن عيد الفوازير وعن عيد المُسلسَلات وعن عيد الكلام الفارغ، فهذا كلام فارغ وهذا يُفسِد فرحتنا الربانية ويُفسِد وينتقِص ويتغوَّل حظنا وقسمنا من السعادة المقسومة لنا للأسف، صدِّقوني هؤلاء يظلمون أنفسهم، مَن أراد السعادة فليطلبها في ذكر الله، فليطلبها بطاعة الله، فليطلبها بالاستثمار في كيانه الباطن بتكميل نفسه وروحه – هذه السعادة الحقيقية -، وليس بالجلوس على المقاهي بعد صلاة المغرب أو التراويح والجلوس أمام التلفاز بالساعات الطوال ليل نهار كأنه شهر مُسلسَلات، ولكن للأسف هذا ما يفعله الجهل وعدم الوعي بالأهداف الحقيقية وبجوهر الموضوع ومعناه وهو الصيام هنا، فالموضوع هو الصيام أو الصوم،إذن للصائم فرحتان – كما أخبر الرسول -على أن الفرحةٌ الأولى عند فطره، فليست الفرحة في العيد فقط، بل أن كل يوم هناك فرحة، فيفرح المسلم، علماً بأن النبي هنا يُعطينا بكل تبسيط – بكل تبسيط وتسهيل – أعظم نظرية في السعادة، فما رأيكم؟!
الآن لو سألت المُختَصين من علماء النفس ما هى المُعادَلة الأكثر مقبولية بين الدارسين والعلماء للسعادة وهى المُسمّاة بمُعادَلة السعادة عاطفياً Happiness Emotional Equation ؟!
سيقول لك أن هذه المُعادَلة تقول” السعادة تُساوي أن تُريد ما تملك مقسوماً على أن تملك ما تُريد”، فبالإنجليزية هم يقولون هكذا ، هذه المُعادَلة – Equation -تُساوي – أي الـ Happiness Equation – أن تُريد ما تملك -Wanting what you have – مقسومة على أن تملك ما تُريد Having what you want”، فما معنى الكلام هذا؟!
هذا الكلام مُقتبَس أيضاً ومُؤسَّس في نظري على عبارة للروائي العظيم والذي يُقال أنه مات مسلماً – رحمة الله تعالى عليه – ليو تولستوي Leo Tolstoy فالآن بدأت تبرز بعض الدراسات عنه كالوثائق الخطيرة التي أبرزتها باحثة ألمانية كبيرة أبرزت لتُبرهِن بها على هذا، علماً بأن ليو تولستوي Leo Tolstoy – الأديب العالمي – لا يُقارَن به دوستويفسكي Dostoevsky وفقاً لما قاله بعض كبار النُقّاد – نُقّاد الأدب في العالم – فهم قالوا “هو أعظم من دوستويفسكي Dostoevsky “.
ليو تولستوي Leo Tolstoy كان بينه وبين الإمام محمد عبده مُراسَلات مشهورة ومعروفة، وله كتاب صغير إسمه حكم النبي محمد تحَّدث فيه عن رسول الله أعجب حديثه وأنصفه، فالرجل يُقال مات مسلماً وغير بعيد أن يكون مات مسلماً – رحمة الله تعالى عليه – علماً بأنه صاحب الحرب والسلام وآنا كارنينا Anna Karenina، فهو رجل مُذهِل مُخيف، وتولستوي Tolstoy هو الذي قال مرةً” ليست السعادة أن تملك كل ما تُريد”، وهذا صحيح وانظروا إلى الأمراء والوزراء والملوك والأغنياء، انظروا إلى مَن انتحر منهم أو من أبنائهم، فلماذا ينتحرون ؟!
كل شيئ يُريدونه يُحصِّلونه – أي شيئ -، فقط إشارة هكذا يُحضَر لهم منه عشرة نماذج، عشرون إنموذجاً، فماذا تُريدون إذن؟!
ليس عندهم سيارة واحدة عندهم، بل هناك خمسون أوستون سيارة من ذلك الطراز الذي يُقدَّر بمليون ومليون ونصف يورور، ثم بعد ذلك لا شيئ، فهم ليسوا سعداء، إنهم تعساء وقانطون ويائسون بائسون المساكين، وتولستوي Tolstoy فهم هذا فقال ” هذا ليس ضرورياً أبداً، فليست السعادة أن تملك ما تُريد، ولكن السعادة أن تُريد ما تملك” ، أن تُريد ما تملك أي أن ترغب في ما تملك.
وكنت أقول دائماً – وقلت هذا على المنبر غير مرة – أننا نحتاج إلى قدر غير عادي، غير مأنوس وغير مألوف من الحكمة حتى نُقدِّر قيمة ما أنعم الله به علينا، ما نعَّمنا الله به، فليس سهلاً وليس عادياً أن تكون لديك زوجة صالحة – انتبه – فلا تقل لي “أشعر بالضيق والملل منها” لتبحث عن زوجة ثانية، لا تفعل هذا لأنه ليس عادياً أن تكون لديك زوجة عفيفة صالحة وولود، رُزِقت منها الولد، هذا ليس عادياً، وانظر إلى الذين شقوا بزوجاتهم، وكذلك ليس عادياً يا أختي أن يكون لديكِ زوج مُلتزِم ومُؤمِن وتقي وعفيف ومسؤول فيتحمَّل مسئوليته إزاء زوجه وأولاده، هذا ليس عادياً، هذا أمر استثنائي في هذا الزمان بالذات – زمان اللا مسئولية، زمان الشهوات المُنفلِتة -، ليس عادياً أن تكون شخصاً مُلتزِماً تعرف طريق الله – تبارك وتعالى – وتُؤدّي فرض الله وتمشي ومعك خُطة – أنت تمشي في الحياة ومعك خُطة – تعرف بها أين ينبغي أن أقف، أين ينبغي أن أستريح، أين ينبغي أن آخذ وفي أي وجهة، هذا ليس عادياً – والله العظيم ليس عادياً -، هذه نعمة من أعظم النعم علينا، ليس عادياً أن نكون هنا الآن في المسجد وأن نستمع إلى هذا الحديث، هذا ليس عادياً فكثيرون الآن في المقاهي أو في العمل يرتزقون فيقول أحدهم “العمل عبادة” ، ولكن العبادة أصبحت لغواً، فنعم العمل عبادة، ولكن العبادة ما هى إذن؟!
لابد أن نُجيب عن هذا السؤال، إذا كان العمل عبادة فالعبادة ماذا صارت؟!
صارت لغواً وفراغاً ولذلك هو يتركها ويضحك على نفسه، فليس عادياً أن تكون من المُجمِّعين في يوم جُمعة لأن هذا فضل كبير، ليس عادياً أن تكون بصحتك فلم تأت على عربة مُدوّلَبة – كما يقولون – وإنما أتيت على ساقين، ليس عادياً هذا ومن ثم عليك أن تنتبه، ليس عادياً أن تُبصِرني وأن أُبصِرك، هذا ليس عادياً – وهكذا – ولكنك تحتاج إلى قدر غير عادي من الحكمة لكي تفهم ما أنت فيه من نعمة!
ومُعظَم الناس بل كل الناس الذين ليسوا سعداء ليسوا كذلك من أجل أنهم لا يملكون، بالعكس عندهم الكثير الذي ملَّكهم الله إياه، ولكنهم غير سعداء أو تعساء لسببين، السبب الأول أنهم لا يشعرون بقيمة ما عندهم، فعلاً لا يشعرون، بل بالعكس أحياناً يكفرونه – والعياذ بالله -، بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ۩، فهو ناقم وساخط لأن الله أعطاه هذه الزوجة، عجيب الأمر لأن هذه الزوجة مليون مَن يتمناها يا مسكين – أي يتمنى مثلها – فلماذا هو ساخط عليها؟!
ساخط لأن الله أعطاه خمسة من الأولاد يحتاجون إلى رزق وإلى تعب، ولكن كيف تسخط على خمسة وغيرك يتمنى نصف ولد يا حبيبي لأن ليس عنده لا ولد ولا فلد؟!
فلماذا أنت ساخط؟!
أتكفر بنعمة الله؟!
حقٌ أن تكون تعيساً وأن تكون بائساً فمثلك لا يعرف ما هى السعادة أصلاً، أنت أُعطيت السعادة وأنت بدَّلتها وأحلتها كُفراً وبُؤساً – والعياذ بالله -، أما السبب الثاني يتعلَّق بما يُعرَف بالمُقارِنات المُتنقِّلة – Shifting Comparisons – علماً بأن المُقارِنات المُتنقِّلة هذه تعاسة، تُولِّد التعاسة، فكيف هذا؟!
فأنا أُقارِن بين حالي وحال غيري وحين أُقارِن أرى أن هذا الذي حظيت به بعد أن قارنته بما لدى غيري أصبح صغيراً جداً، فما عنده أكبر بكثير وما عندي حقير، ومن ثم أحقره، ولذلك النبي أراد أن نكون واعين بهذه المسألة – وهذه الأشياء الآن في علم النفس الاقتصادي تُدرَّس كنظرية كبيرة وهى نظرية أو مفهوم أو مبدأ المُقارَنات المُتنقِّلة Shifting Comparisons ولكن النبي أعطانا هذه النظرية بكل سهولة أيضاً – فقال “انظروا إلى مَن تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقكم فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم”، فالنبي يعرف هذا جيداً، فهناك مَن ينظر إلى زوجته ثم ينظر إلى غيرها فيرى زوجته خَيْتَعُورة، يراها من أبشع النساء وأسوأهن، ويندب حظه، على الرغم من أنه هو المفروض الذي يُندَب عليه، لأنه ميت، فهو غير عاقل، يفتح التلفزيون Television على الأفلام وعلى الكلام الفارغ ويُقارِن، فلماذا تُقارِن ؟!
لماذا تفتن نفسك؟!
فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ۩
فيبدأ يُطالِع وينظر إلى وجوه النساء وجمال النساء، ما هذا؟!
أأحمق أنت؟!
أطفل أنت ؟!
أمُراهِق أنت؟!
ما الذي تفعله في نفسك يا مسكين، يا كافر بنعمة الله؟!
ثم بعد ذلك يحتقر زوجه ويقول” لا، ليست هيفاء، ليست غيداء خمصاء، ليست مثل هؤلاء” بعد أن نثرت له ذوات بطنها، أبعد ذوات بطنها الآن تحقرها؟!
والنبي قال “كل مِن يفعل هذا بالمُقارَنات هذه فإنه يكفر بنعمة الله عليه ويحتقر ويزدري نعمة الله عليه، أي يستحيل كافراً بالنعمة”، فلا تفعل هذا، إن ما لديك من زوجة وأولاد وجمال وصحة ومال وعلم وقوة وإلى آخره غيرك يدعو الله صباح مساء أن يحظى بعُشر معشاره، فلماذا أنت تكفر به؟!
ولذلك – أيها الإخوة – ليست السعادة أن نحصل على ما نُريد فهناك مَن حصلوا وهم ليسوا سعداء وإنما السعادة أن نُريد ما حصلنا عليه.
الحمد لله عندي زوجة، فعلىّ أن أتفكَّر طويلاً في مزايا زوجتي وأقول الحمد لله نعمة جزيلة، موهبة عظيمة من الله أن كتب الله لي هذه الزوجة البارة الولود الطيبة المُلتزِمة العفيفة الشريفة، نعمة كبيرة أن الله وأنا في الخامسة والأربعين أو في الخمسين أو في السبعين جعلني عفياً فلا زلت مُمتَّعاً بصحتي، أُبصِر وأسمع وأمشي على قدمين، والله من أعظم النعم ، نعمة كبيرة جداً جداً جداً، نعمة أن لدي معدة تهضم الطعام وفم يلوكه ولسان يُحرِّكه، هذه نعمة ، وأنا مُمتَّع بحواسي، فهذه نعمة كبيرة والحمد لله، نعمة أن لدي ما أكفي به نفسي وأهلي وولدي، نعم ليس لدي في الكونتو Conto نصف مليون ولا حتى أقل من هذا ولكن – الحمد لله – لا أمد يدي، لا أشحذ، هذه نعمة كبيرة فماذا تُريد أكثر من ذلك؟!
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ۩، فكل هذا يحدث لحكمة إلهية – انتبهوا -، هذه حكمة الله، فالله يُعطي المليم ويُعطي المليار والأمر عنده سواء، فإذا أعطى مليماً كما لو كان يُعطي ملياراً، لماذا؟!
لأن خزائنه لا تنفذ، وهو يُنفِق بـ (كُنْ فَيَكُونُ ۩)، فلا يُوجَد في إطار مُحدِّد لأن الله هو الأوسع، هو المُطلَق، على عكسك أنت الآن لو جئت تقيس المسافة بين نُقطتين، فهذه المسافة ليست مُطلَقة بالنسبة إليك، مفعولها النفسي ليس مُطلَقاً، هذا مُستحيل فهذه ليست قضية موضوعية حتى هندسياً، كيف؟!
بحسب الإطار – أي الـ Rahmen، الـ Framework -، فإذا كان هاتان النُقطتان مجموعتان ضمن إطار مساحة – مثلاً نفترض – مائة سنتيمتر مُربَّع سترى أن مسافة اثنين سم (cm) بينهما بعيدة تماماً، ولكن لو جعلنا الإطار ألف متر مُربَّع ستُصبِح هذه المسافة معدومة، أما لو جعلنا الإطار مليون ستُصبِح ولا شيئ، فإذن كل شيئ حجمه وحجم التفاوت بينه وبين غيره لا يتبع ذاته وإنما يتبع الإطار الذي يحويه، فإذن عطاء الله – تبارك وتعالى – حين يُعطي هذا ويُعطي هذا كيف يُمكِن مُقايسته بالنسبة لله. إن جاز التعبير؟!
كيف يُمكِن إدراك التفاوت؟!
لا يُوجَد تفاوت، يُوجَد قابليات فقط، فأنت هذا ما تستحقه، وهذا ما يستحقه، الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍخَلْقَهُ ۩، وهذه الآية نظرية فلسفية مُعقَّدة جداً وهذا تبسيطها، فكلمة خَلْقَهُ ۩ غير كلمة خلق كل شيئ، يقول الله أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ۩ ويقول أيضاً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ۩، ومن هنا انتبهوا فالعلة هى من ألقاب الله من الفاعل، فالله لا يُوجَد له حد يحده ولا يُوجَد إطار حاكم على فعله وعطائه، ولذلك يُصبِح المليم مثل المليار، هذا عند الله نفس الشيئ، وذلك ستقول لي: إذا كان المليم مثل المليارعند الله فلماذا لا يُعطيني ملياراً؟!
هنا دخلنا في موضوع حكمته، فلا تعترض فهذه حكمته، هذه إرادتك ورغبتك، وتلك حكمته وهى غالبة فهو الذي يُدبِّر كونه. لا إله إلا هو.
إذن السعادة أن نُريد ما نملك، أن نُريد ما حصلنا عليه، نُفكِّر فيه طويلاً لنكُن حكماء ومن ثم سوف نرى أننا مُنعَّمون ومُمتَّعون بأشياء كثيرة جداً وذلك إذا أردنا أن نُقايس – ولابد فلنُقايس – بمَن هم دوننا، وهو ما قاله النبي ” حتى لا نزدري نعمة الله”.
الشاعر الذي كان يلعن بني مروان – عبد الملك أبوهم طبعاً وهشام والوليد وسليمان، أي ظلمة بني أُمية – بعد أن أدال الله منهم وانتهت دولة المروانيين وجاءت دولة بني العباس فرأى الناس الظلم الجديد ماذا قال؟!
قال:
يَاليتَ جورُ بَنِي مَروانَ دامَ لنا ولَيتَ عَدلُ بَني العبّاسِ في النارِ
فبالمُقارَنة سوف ترى أنك في نعمة!
رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَمّا صِرتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَليه
الصوم تجربةٌ أكثر من رائعة تجعلنا نخبر ولا نُخبَر عن – إنما نخبر بأنفسنا – هذا المعنى، فتُمسِك عن الطعام والشراب والشهوات سحابة النهار وبعد ذلك أنت ترى الماء البارد نعمةً دونها كل النعم، تراه يترقرق هكذا أمامك أو في الدعايات حتى ويسيل لُعابك، وحين ينطق المُؤذِّن ” الله أكبر ” أو يُضرَب مدفع الإفطار فعلاً تشرب أنت بامتنان ، تُسمّي الله وتحمد الله بامتنان حقيقي مِن حُشاشة قلبك ونفسك على هذه النعمة – نعمة الماء البارد – فالآن فهمتها – انتبه – لأنك جرَّبت أن تُعلِّق تعاطيها، نوع من التعليق وليس حرماناً مُؤبَّداً، فهو حرمان سحابة النهار فقط، وكذلك الطعام والشراب وكذلك الأهل وسائر المُباحات، لذا الآن بدأت تفهم قيمتها، فالله يقول لك “عُد إلى الحقيقة، عُد إلى الصراط، احمد الله تبارك وتعالى”، ولذلك فعلاً “للصائم فرحتان” على أن الفرحةٌ الأولى عند فطره فنحن حين نُفطِر نفرح طبعاً لأننا بدأنا نُدرِك قيمة ما عندنا والآن نحن نُريد ما عندنا، نحن نُريده لأننا قانعون به، مُكتَفون به، حامدو الله ونشكره عليه – تبارك وتعالى – ، فهذا هو، وهذه هى السعادة كما يفهمها علماء السعادة ” أن تُريد ما تملك مقسوماً على أن تملك ما تُريد”، ولكن قد يقول لي أحدهم:أنا شخص زاهد على طريقة الصوفية والعُرفاء، كل ما عندي أُريده، كل شيئ الله قسمه وأعطاني إياه الحمد لله، الحمد والشكر له، ولا أُريد شيئاً فما عندي يكفيني، فا معنى هذا وفقاً لهذا المنظور؟!
معنى أنه يُريد كل ما يمتلكه أن هذا يُساوي عشرة، كما أنه لا يريد شيئاً لأن ما لديه يكفي فهذا يُساوي صفراً، إذن بقسمة عشرة على صفر سيُصبِح الناتج صفراً، وهذا هو السعيد الـ Complete,Perfect، فهو سعيد بنسبة مائة في المائة.
وواحد ثانٍ يقول: لا والله، أنا لست من هؤلاء الجماعة، فبالنسبة لأن أُريد ما أملك لدي عشرة أشياء، وأنا راضٍ عن ثمانية منها، فماذا عني؟!
إذن ثمانية في البسط، وفي المقام كم؟!
قال:أُريد أربعة أشياء أُخرى، لو الله يُعطيني كذا وكذا وكذا سيكون جيداً والحمد لله، فأنا هذه الأشياء أسعى إلى تحصيلها.
إذن الثمانية تُقسَم على الأربعة سيكون الناتج اثنان، وهذا يدل على أنه سعيد، هذاPositive.
وقد يقول ثالث العكس:لدي عشرة وأنا راضٍ عن أربعة، وأُريد عشرة أشياء أُخرى.
إذن الأربعة تُقسَم على العشرة سيكون الناتج بالكسر، ومن ثم فهذا مسكين فهو أربعة أعشار سعيد، أي أقل من نصف سعيد هذا.
وهناك أُناس على العكس تماماً، فتجد أحدهم لا يرضى عن شيئ رغم أن عنده أشياء كثيرة، بل عنده الدنيا بحذافيرها!
الشاعر لاحظ أن مُعظَم الناس – لا أدري في أي بيئة عاش وهو شاعر عربي مسلم – كانوا يعيشون في بيئة تسخّط، في بيئة جهل بحكمة الله والرضا بقدره، فقال:
كلُّ مَن لاقيتُ يَشكو دهرَه ليتَ شِعري هذه الدنيا لمَنْ؟
ولا واحد راضٍ، الكل زعلان ومُتسخِّط، فقال: عجيب، والدنيا هذه مُقسَّمة على مَن إذن؟!
قال: فا أنت عندك وأنت عندك والجميع عنده، فلماذا لا يرضى أحد؟!
فأين ذهبت الدنيا إذن وهى مُقسَّمة عليكم ؟!
كلُّ مَن لاقيتُ يَشكو دهرَه ليتَ شِعري هذه الدنيا لمَنْ؟
بعض الناس عنده في البسط صفر لأنه غير راضٍ عن شيئ، وفي المقام لا نهاية، يطلب مليون شيئ، يطلب مائة ألف شيئ، إذن هذا تعيس مائة ألف ضعف التعاسة
الـ Standard ، وفي النهاية لا جرم أن ينتحر، فعادي مُمكِن أن ينتحر هذا، أحياناً يكون هذا مليارديراً كبيراً ولا يرضى عن شيئ عنده ويطلب شيئاً واحداً وهذا الشيئ له اعتبار وقيمة، شيئ واحد فقط فهو لا يُريد مالاً لأن عنده، ولا يُريد سيارات ولا نساء، فهذا كله عنده ، يطلب شيئاً واحداً وهو المحبة، المحبة الصادقة – الـ Intime يعني – من الناس، من أصدقائه، وليس الاستغلال والطمع في ماله، وإنما المحبة، فهو لا يجدها لا من زوجة، لا من ولد، لا من صديق، لا من عامل عنده، لا يجدها بسبب أن الجميع يستغله، الجميع يُحِب نقوده ولا يُحِبه هو، فينتهي المسكين بالانتحار أو بمُستشفى الأمراض النفسية والعقلية أو بالبُؤس، يعيش بائساً ويموت مُحطَّماً مُتداعي الشخصية، لأنه لا يجد هذه المحبة الصادقة،ولذلك الحكماء قالوا” ليس كل ما يُعدّ ويُقاس يُعتبَر”، مثل السيارات ومثل البيوت ومثل النقود ومثل الملابس، فكل هذه الأشياء تُعدَ، ولكن ليس كل ما يُعدَ ويُقاس يُعتبَر، والمقصود بكلمة يُعتبَر أي أن له قيمة واعتبار، فهذا يُعدَ ويُقاس – أي To be counted – وهذاك يُعتبَر Count له قيمة، له اعتبار، ولكن ليس كل ما له قيمة واعتبار يُعدّ ويُقاس، فهل السعادة تُعدّ وتُقاس؟!
لأ ، لا يُمكِن وإلا قل لي كيف تعدّ السعادة؟!
لا يُمكِن!
هل الوفاء، الأمانة، الرضا، السكينة، الراحة، القناعة، العفة تُعتبَر أشياء تُعدَ وتُقاس؟!
كل هذه الأشياء لا تُعدّ ولا تُقاس وهى أجمل ما في الحياة، وهى أعظم ما في الحياة، وهى أهم ما في الحياة.
انتبهوا فسيأتي على كلِ منا لحظة – قد تكون لحظة الموت – سيفهم أنه قضى عمره في تفضيل الاختيارات الفاشلة، فكم ستكون حسرته إذن؟!
مثال هذا – لا جعل الله أحداً منكم أو منكن مثالاً له أو مصداقاً له – أو مثله مثل الرجل الذي استقل سيارته قاصداً بلداً ينأى عنه ألفي كيلو متر – مثلاً – وبعد أن بلغ – علماً بأنه قضى يومين كاملين في قيادة السيارة دون راحة المسكين – وجد أن أن هذا البلد هو البلد المُقابِل تماماً للبلد الذي يُريده، في الجهة المُقابِلة تماماً، فكم ستكون حسرته وغضبه وتسخطه؟!
كبيراً جداً، على الرغم من أنه ضيَّع يومين، ولكن استدراك هذا سيُكلِّفه يومين آخرين أو أربعة أيام بحسب الطريق، فهذه خسارة – نعم خسارة – ولكن كيف بالذي ضيَّع عمره كله ؟!
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ ۩
الله أكبر، فمُعظَم مَن ترون من الناس هكذا يلهثون ويقضون حياتهم، وانتبهوا فأرجو ألا تفهموا حديثي هذا على أنه حديث علمي وفلسفي وتأمّلي، فهذا حديثي أنا وحديثك أنتَ وحديثك أنتِ، حديث كل واحد فينا، قضية كل واحد فينا – والله العظيم -، حياة كل واحد فينا – يا إخواني – ولكن ربما نحن لم نتعلَّم أن نُفكِّر بتأمّل وبعمق في مسائل حياتنا وهذه كارثة، هذه كارثة كُبرى، نأتي في مثل هذه المُناسَبة الكريمة فقط لنستدعي نصوصاً وقال الله وقال الرسول، لأ ليس هذا، ينبغي أن نُفكِّر بعمق وبالذات في ديننا، في الدين، في عباداتنا، لابد أن نُفكِّر بعمق أصيل، عمق حقيقي، فكثيرون – يقضون أعمارهم لاهثين، يعدون، يركضون وراء سراب الشهوة، المُتعة، السُلطة، التملّك، وفي النهاية سوف يرى حقيقةً لا وهماً أنه سراب، تبخَّر كل شيئ، ضيَّعت حياتك يا مسكين، راحت عليك، خدعوك وخدعت نفسك، قضى حياته وهو يجمع المال، المال فقط، ضحّى سعادته، سكينته، سعادة مَن حوله، ضحّى آخرته، ضحّى بالقُرب من الله، ضحّى برضوان الله، ضحّى بعباداته، ضحّى بذاته، خسر نفسه، فالله يقول عنه”خسر نفسه وأهله”، فهؤلاء هم الخاسرون حقاً، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، لم يخسر أربعة أيام في قيادة سيارة، وإنما خسر ذاته لأنه هكذا أُفهِم أو أراد أن يفهم أن الحياة ما هى إلا تجميع للمال ، مَن لديه مال أكثر يُعتبَر، مثل الحمقى في بلادنا وما أكثر الحمقى في العالم وليس في بلادنا فقط الذين يقولون ” معك ديناراً تساوى ديناراً، معك عشرة تساوى عشرة “، لا والله، أثمِتم وكذبتم، هذا الكلام باطل، هذا كلام الناس الذين لم يفهموا لا الدين ولا الدنيا، لا الإنسان ولا الحياة، قالوا”معك درهماً تساوى درهماً، معك عشرة تساوى عشرة، ليس معك شيئاً لا تُساوي شيئاً”، وهذا غير صحيح، فقد يكون معه مليار دينار ولا يُساوي شيئاً، وقد لا يكون معه أي شيئ ولكنه يُساوي كل شيئ – بإذن الله – عند نفسه وعند مَن يُقدِّر وعند رب العالمين، والنبي علَّمنا أن ربّ مُهين لنفسه وهو لها عند الله مُكرِم، وربّ مُكرِم لنفسه – يعتقد أنه شيئاً – وهو لها عند الله مُهين”
انتبهوا فهذا انقلاب في الموازين، لأن هذه مفاهيم جاهلة، مفاهيم أهوائية.
هذا الغرب استبحر في الشهوات وفي المُتع وفي اللذائذ وخاصة بعض الطبقات الخاصة منه من الذين يملكون، ومع ذلك – شيئ لا يُصدَّق – تقرأ عنهم وترى الحمق مُجسَّداً في شكل ملياردير، في شكل صحفي، في شكل غني، في شكل Businessman، في شكل فنان كبير، الحمق مُجسَّداً في هذا الشخص، فقد يدفع سبعين ألف دولار ليأخذ فلاشة، زجاجة صغيرة ثلاثة أرباع لتر من خمر مُعتَّق يُقال أنه من الخمر الذي دفنه وعتَّقه توماس جيفرسون Thomas Jefferson في بيته واكتشفه أحد الناس ولكنه لا يُريد أن يدلهم على المكان، وبدأ يُباع هذا الخمر، أقل فلاشة تُباع بستين ألف دولار ومع ذلك يأخذونه، ولكن أحد الصحفيين الواقعيين لم يخدع نفسه قال “جرَّبته ووجدته أسوأ خمر”، جرَّبه في تجربة علمية طبعاً وهو معصوب الأعين، وكل مَن جرَّبوه قالوا أنه أسوأ نوع من الخمر، ويُقال عنه “هو مغشوش والقصة كلها كذب”، ومع ذلك تجده قد يدفع ستين ألف دولار في سبعمائة وخمسين ملي من هذا الخمر، وهذا كلام فارغ طبعاً لأن هؤلاء المساكين إلى الآن لم يفهموا أن السعادة ليست في الشهوات، ليست في الأكل، ليست في الشرب، ليست في الجنس، ليست في السُلطة كأن تكون ملكاً ورئيساً ورئيس حزب، ليست في هذه الأشياء، السعادة في شيئ آخر مُختلِف تماماً، وهذه هى حكمة الصوم وإلا لماذا يصوم الفقير إذن؟!
علَّمنا المشائخ طبعاً بكل بساطة وحُسن نية وسذاجة أننا نحن نصوم حتى يشعر – علماً بأنهم يقولون يحس وليس يشعر وهذا خطأ، هذا ليس إحساس وإنما شعور لأنه داخلي أما الإحساس فيكون ظاهراً على عكس الشعور الباطني وهذا خطأ مُتداول – الغنيُ بألم الفقير، ولكن قد يظهر ولد صغير يقول له للشيخ هذا:
مولانا – فتح الله عليكم – ولماذا يصوم الفقير إذن؟!
إذا هذه الحكمة فلماذا يصوم الفقير الغلبان وهو طول حياته جائع والألم يمضه؟!
بين جوع الغني الواجد وجوع الفقير الفاقد أمرٌ واحدٌ مُشترَك، على الأقل في البداية نقترح نحن، نفترض، نُجادِل أن هذا الأمر الواحد المُشترَك هو التالي:
يُريد الله – تبارك وتعالى – أن نفهم وأن نعي وأن نُدرِك أن هناك مصادر وتجارب أُخرى لالتقاط المُتعة والسعادة والبهجة وراء تعاطي الطعام والشراب والجنس والشهوات، هناك مصادر أُخرى للبهجة، للسكينة، للراحة، للطمأنينة، وهى المصادر الحقيقة، وهو ما سنكتشف بعد ذلك إذا صومنا على الوجه الذي أراده الله وليس الصوم الذي يصومه أغلب المسلمين، فما أكثر المُمسِكين وما أقل الصائمين، والآن ربما على الأقل مليار مسلم يُمسِكون عن الطعام، الشراب، الدخان، النسوان في النهارفقط ، ولكنه هو كما هو فيخرج رمضان وهو كما هو، وهذا شيئ غريب لأن مثل هذا لم يصم، والنبي حذَّرنا من التورّط في هذا الخطأ، أي خطأ عدّ الإنسان الإمساك والكف صوماً، فقال ليس الإمساك وحده هو الصوم، الصوم يتضمَّن هذا بطبيعة الحال زائد المعاني الجوهرية للصوم التي إن ضيَّعتها ضيَّعت الصوم وحظيت بالتعب، فقال – عليه السلام – “ربّ صائمٍ ليس له من صومه إلا الجوعُ والعطشُ”، ولم يقل لنا السبب ولكن واضح أن هذا الصائم هو الذي فهم الصوم على أنه صرف ومحض امتناع عن الطعام والشراب والشهوات فقط، وهذا خطأ فهل الله – عز وجل – يُريد أن يُعذِّبنا؟!
هل هذا الصوم نوع من التعذيب لنا، نوع من إشقائنا؟!
في آيات الصوم يقول الله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ۩، فالله يقول “أنتم في عسر، أنتم في شقاء، أنتم في إحباط ، وإذا صومتم ستعرفون لماذا”، ولكنه قال أيضاً” وأنا سأدلكم على ما فيه يسركم، سأجعل حياكم مُيسَّرة سلسة تشتغل جيداً، وستكونون سُعداء وادعين تنعمون بالسكينة والاستقرار والطمأنينة، هذا درس الصوم”، كيف يا رب؟!
هو هذا، وإذا لم نفهم هذا حظينا بتعب الصوم وضيَّعنا جوهره تماماً كالطفل الصغير الذي يسأل أباه لأول مرة عن القمر فيأخذ إصبعه ويقول له “انظر ذاك القمر” فيظل الطفل ينظر إلى إصبع والده، ولكننا لا نُريد الإصبع يا أخي، أين إصبع الصوم؟!
وأين قمر الصوم؟!
قمره جوهره ومعناه الذي نحن بصدد الكشف عن شيئ من جوانبه ومطاويه، وإصبع الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والنساء، هذا هو، فلا تنظر إلى الإصبع، ولكن الطفل يبقى ينظر إلى الإصبع، يقول “هذا مُدوَّر” ، يقول” ليس مُدوَّرا، هذا مُستطيل إسطواني”، والنبي قال هذا عندما قال لا تكون من الذين حظهم أن يجوعوا ويعطشوا، عليك أن تصوم جيداً، ولكن سيقول لي أحدهم:
إذن هل المعنى هو صوم الجوارح عن المعاصي؟!
نعم هذه خُطوة مُتقدِّمة ولكنها ليست الخُطوة النهائية وهى الخُطوة التي عبَّر عنها الشاعر بقوله:
إذَا لَم يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
علماً بأن بعضهم قال تصاممٌ ولم يقل تَصَاوُنٌ فلا بأس!
فَحَظِّي إِذَنْ مِنْ صَومِيَ الجُوعُ وَ الظَّما فَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَومِي فَمَا صُمْتُ
هذه خُطوة مُتقدِّمة وجميلة، عليك أن تضبط لسانك وتضبط سائر جوارحك، هذه خُطوة مُتقدِّمة حقيقةً ومُمتازة، ويبقى الصوم أيضاً مُكتنِزاً ومُكثِّفاً لجواهر أُخرى، دُرر أخرى، فهذه دُرة مُمتازة فعلاً، أن تكون سيد شهواتك، سيد حواسك، سيد أعضائك، وعليكن أن تنتبهوا إلى أن ليست الشهوة فقط هى شهوة النساء والأكل والشرب، فهناك شهوة الكلام، لعنة الله عليها من شهوة وتباً لها من شهوة، بعض الناس يُضحّي بشهوة الطعام والشراب ولا يُضحّي بشهوة اللسان، فأقصِر من لسانك يا رجل، كله مكتوب ومُستطَر ومزبور، تكلَّم بالذكر، تكلَّم بالخير، بالعلم، بالفكر، أو اصمت، كما قال النبي “فليقل خيراً أو ليصمت”، والصوم يُعلِّمك هذا، ولذلك في الشرائع الإلهية السابقة كان هناك ضرب من ضروب الصوم هو الصوم عن عن الكلام، فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ۩، إي أنها قالت “أنا صائمة عن الكلام”، والصوم هذا نحتاجه، وطبعاً نحن نُمارِسه نسبياً في صومنا هذا المُتكامِل – النُسخة الجاعمة للصوم – بالغض عن ما حرَّم الله وبقصر اللسان على ما يُرضي الله، فالصائم لا ينطق إلا بالذكر، إلا بالتسبيح، إلا بالخير، أمرٌ بالمعروف، نهيٌ عن المنكر، وما عدا ذلك يسكت، يخاف على صومه.
أما هنا فيلهثون وراء الشهوات ووراء الملذات، لا يصلون من حمقهم للأسف الشديد إلى درجة يُدرِكون معها أن هناك سُبلاً أخرى للسعادة غير الشهوات، فهناك مَن أكل وشرب وجرَّب كل الأنبذة وكل الخمور وكل أنواع البيرة ومع ذلك لم يصل إلى السعادة بعد، ولذلك بدأ بكل حماقة الآن يشتري أنواعاً من هذه الخمور – Wines – بمائة ألف وبمائتين ألف لعلها تُسعِده!
في تجربة طبعاً تُبرِز هذه السخافة حين أتوا بنوع بخس من الخمر وضعوا عليه سعراً غالياً، فقالوا” هذه الزجاجة – مثلاً – بخمسمائة دولار”، ثم ذاقها بعض هؤلاء، وأجروا عليهم بعض ذلك فحوصات داخلية عصبية حقيقية، وفعلاً سجَّلت نوعاً من الرضا ونوعاً من التقدير الحقيقي لهذه الأشياء البخسة، لأنه قيل لهم أنهاغالية، أي أن الإنسان يخدع نفسه، وهى في الحقيقة ليس فيها ما يُسِر ولا ما يُفرِح، إذن هناك ضروب أُخرى للسعادة علينا أن نبحث عنها.
ولكن للأسف أنا أُلاحِظ كثير من المسلمين – من رجال المسلمين بالذات – يعيشون ويموتون – وطبعاً الآخرون أكثر منا بكثير للأسف فهم مُستهلَكون، ولكن نحن مسلمون وينبغي أن يكون وضعنا مُختلِف – وهمهم كله في شهوة الجنس، صدِّقوني نحن أكثر ناس نتكلَّم عن العفة وعن الشرف وفي نفس الوقت أكثر ناس يُشكِّل هذا لدينا هوساً حقيقياً، النُكات عندنا والطرائف التي بنقولها ثلاثة أرباعها جنسية وهذا معروف، لأن لدينا رغبة غير عادية لتناول هذه الموضوعات والعيش بها، ووهم هذه الأشياء مُستمِر لدينا، ويكبر الإنسان ويشيخ – يُصبِح في السبعين أو الثمانين من عمره – وهو يُفكِّر في هذه الأشياء، ويرتكب أحياناً حماقات وجرائم فظيعة، فلماذا تفعل هذايا أخي؟!
وكيف أنت مُتدين؟!
وكيف أنت مسلم؟!
هو مسلم هكذا بالتقليد، ليس مسلماً بالتجربة وبالخبرة وبالعمق، ولذلك حديثه عن دينه حديث سخيف، حين يتحدَّث حتى عن الصلاة وعن الصوم تجد أن حديثه سخيفاً جداً ومُسطَّحاً، تجده حديثاً طفولياً على الرغم من أن المطلوب من ابن خمسين وستين سنة إذا تحدَّث عن الصلاة وعن الصوم أن يتحدَّث حديث الفلاسفة، حديث أُناس مُجرِّبين، حديث إنسان صام ثلاثين رمضاناً، أربعين رمضاناً، فكيف تتحدَّث بهذه الطريقة عن الصوم؟!
ما هذا يا أخي؟!
لأنه لم يُجرِّب، فهذا كله كلام فارغ، مُجرَّد طقوسيات ومن ثم هناك فرق بين الدين الطقوسي والدين الجوهري، الدين المعنوي، فالدين الطقوسي نوع من الطقس، والطقس معناه أنه سيد في ذاته دون حتى أن تفهمه، مثل تعويذة – Mantra – مُعيَّنة، فهذه هى الطقوس، ولذلك مُعظَم الطقوس حول العالم تحتوي على كلمات وعلى تعبيرات وجُمل غير مفهومة للذي يُؤدّي الطقس،وأحياناً تكون أصلاً ليس لها معنى، كلام فارغ مثل حتى بوش برتبوش، أي كلام فارغ فهى نوع من الوهم والخُرافة أيضاً، ولكن الإسلام لا يُوجَد فيه طقوس بهذا المعنى أبداً، وأنا أتحدى أن تأتي لي بشيئ في الصلاة طقوسي، والله لا يُوجَد فيها شيئ واحد طقوسي بهذا التفسير للطقس، فما رأيكم؟!
كلها معقولة، حتى بدءاً من النداء إليها، فكان من المُمكِن أن يكون دقة جرس ولكن هذا أمر اعتباطي – دق الجرس أو ضرب على الخشب هذا أمر اعتباطي بلا شك -كاعتباطية كل الاعتباطيات في الحياة، وكان من المُمكِن أن يكون إيقاد نار وهذه المُقترَحات قُدِّمت لرسول الله – نُوقِد ناراً – وهذا أمر اعتباطي – سميولوجي اعتباطي، وهذامعروف في علم العلامات – ،هذه كلها اعتباطيات، ولكن الأذان بدءاً من” الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله” إلى “حي على الصلاة، حي على الفلاح” ثم إلى نهاية الأذان لا يُوجَد فيه أي اعتباطية، فأين الاعتباط هنا؟!
كلمات كلها تختزن معاني عظيمة جداً جداً جداً وتُذكِّر بجوهر الصلاة وبحقيقة الصلاة وبمقصود الشارع من الصلاة، حتى في النداء إليها أمر معقول فهو يُخاطِب العقل والوعي والإدراك، وليس أمراً طقوسياً، والصوم أيضاً ليس طقوسياً، ولكن إذا حوَّلناه إلى طقوسيات وصومنا بمُجرَّد الامتناع وأهدرنا جوهر الصوم فعلاً نحن نكون ما عبدناه، وإنما أدّينا طقوساً ما، طقوساً مُعيَّنة كأهل الأيان الأُخرى الفاشلة، ولكن الإسلام يختلف فهو مُتميِّز هنا لو فهمناه!
حول العالم مليار جائع، للأسف نصيب المسلمين منهم نصيب كبير – نصيب الأسد – فالأمم المسلمة كثيرٌ منهم جوعى، والعجيب أنه يُقابِل هؤلاء المليار مليار مُتخَم مُصاب بالسُمنة، بالضبط مليار إزاء مليار، ومن ثم بعض العلماء قال:
هذا تعالق أو ترابط حقيقي موجود، فعلاً إحصائياً ولكنه ليس بسيطاً بل شديد التركيب، فكيف حصل هذا فلابد أن نبحث؟!
الإمام عليّ له كلمة يقول فيها”ما جاع فقيرٌ إلا بما أُتخِمَ به غني”، لأن الله خلق الأرض ودحاها ومهدها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، ففي اليوم الذي تسمح فيه القدرة بإبراز ستة مليار من البشر تسمح ذات القدرة بإبراز رزق ستة مليار، فإذا جاء مليار وأخذ رزق مليارين سيضيع رزق مليار، وهذا هو معنى أن عندنا مليار جائع ، علماً بأن يُوجَد منهم خمسون مليون في أمريكا وحدها، ولكن مُعظَمهم في دول العالم الثالث، والأعجب من هذا أنه في العالم سبعةٌ وعشرون مليون عبد، لأن هناك عبودية ليست عبودية مجازية أوعبودية وظيفة فهناك بشر يُسرَقون ويُكرَهون على أنفسهم، يعملون سبعة أيام الأسبوع وأحياناً بمُعدَّل أكثر من عشرين ساعة في اليوم – المساكين – عملاً غير مأجور- غير مدفوع – وبالكاد يُعطَون ما يُمسِك الرمق، أحد البروفيسورات – Professors – الكبار – أستاذ كبير – درس هذه المسألة صُدِم وقال “حول العبودية – العبودية المجازية – وجدت مئات آلاف الدراسات، حول هذا النوع – وهو العبودية الحقيقية – وجدت فقط ثلاث دراسات”، إذن يُوجَد تواطؤ على السكوت عن هذه الجريمة الكونية رغم أن عدد هؤلاء يصل إلى سبعة وعشرين مليون عبد، المُهِم أن العبرة وفقاً الحساب البسيط هى أن تحرير هؤلاء ورد حريتهم المسلوبة إليهم بحيث تكون حرية مُستدامة يُكلِّف أقل من أحد عشر مليار، عشرة مليار وثمانمائة مليون دولا فقط، يعني أقل مما يُنفِقه الشعب الأمريكي على الشيبس Chips أو على البلو جينز Blue Jeans ، علماً بأنه يُنفِق أحد عشر مليار على البلو جينز Blue Jeans ، وكذلك على الشيبس Chips وأمثال الشيبس Chips نفس الشيئ أي أحد عشر مليار، ومع ذلك تحريرهم يُكلِّف أقل من هذا،وهذا أذكرني بشيئ عجيب، فما هو؟!
هو أنني قلت ” لوددت أن علماءنا حول العالم الإسلامي اغتنموا هذه الفرصة – في مثل هذه الخُطبة مثلاً والخُطبة القادمة وفي كل خُطبة – وناشدوا المسلمين والمسلمات من جماعاتهم أن يدخر المسلم عن كل يوم وجبة طعام، ثمن وجبة طعام له ولأهله فنحن صوّام، أو منا – مثلاً – مَن يصوم من عائلته خمسة أفراد والباقي صغار، ومن هنا ندخر هذه القيمة التي تُعَد ثمناً لهذه الوجبة التي لا نأكلها”، ولكن هناك اُناس بخلاء فقد يقول أحدهم” لأ، كثير هذا” على الرغم من أنه صائم ولو كان في غير أيام الصيام لدفعها في الطعام، فعليك أن تُتاجِر مع الله في الشهر هذا – التطوّع فيه فريضة والحسنة بسبعين ضعفاً –، ولكن إذا صعُبَ هذا فلتدخر وجبة عن كل ثلاثة أيام، ومع ذلك سيرفض ويقول مرة أُخرى” كثير جداً “، إذن فلتكن عن عشرة أيام يا حبيبي، ومع ذلك سيرفض قائلاً ” لأ، هذا كثير”، إذن ماذاعن شهر؟!
هنا سيقول:
مُمكِن، ولكن هل هذه صدقة الفطر؟!
هى هذه، هذه هى صدقة الفطر، فصدقة الفطر هى بمقدار وجبة – بمقدار وجبة واحدة – كأنها لفتٌ إلى هذه المسألة وكأن الله يقول لنا: أنتم تصومون وتُوفِّرون ثمن وجبة عن كل يوم، فهل يُمكِن لكم أن ينقدح في عقولكم أن تدخروا أثمان هذه الوجبات، أي أثمان ثلاثين وجبة عائلية – Family Size – وذلك بحساب ثمنها ثم أخذه في نهاية الشهر وتسليمه لإدارة مسجدك هنا أو في إندونيسيا أو في مصر أو في فلسطين أو في أي مكان في العالم، فصدقة الفطر حتى الفقير يدفعها، كلأنها ضريبة على الرأس، ولكن مَن هو الفقير؟!
الفقير هو الذي يبيت وعنده عشاء ليلته، فإذا كان عنده العشاء وجبت عليه صدقة الفطر، وهذا عجيب، فمَن الذي سيتلقاها إذن؟!
هو سيتلقاها لأنه فقير، سيتلقاها ولكن علىيه أن يعطيها، وهذا عجيب فكيف يجب أن يعطيها ثم يحق له بعد ذلك أن يتلقاها؟!
هذا لفت نظر إلهي لنا لكي يقول الله لنا: ألم أقل لكم أن كلاً منكم عنده مِن النعم ما ينبغي أن يُثمِّنه وأن يقدره حق قدره وأن يشكرني عليه؟!
أنت عندك لأن يُوجَد من هو أسوأ منك حالاً، فهناك مَن يبيت جائعاً وليس عنده عشاء ليلته، ومن ثم عليك أن تُفكِّر في هؤلاء، يُوجَد في العالم سبعةٌ وعشرون مليون عبد يعيشون العبودية الحقيقية، يرصفون في الأغلال، فلماذا لا نجعل من هذا الصوم تظاهرة حقيقية لخدمة الإنسانية، لرفع عذابات البشرية ونرسم بل نُترجِم للعالمين عن درس ولا أروع، فلن يروا أروع من هذا الدرس، وهو أن الأمة المسلمة وأكثرها فقراء ومُعدَمون تبرَّعت بكذا وكذا – مثلاً – مليار من أجل رفع عذابات المُستعبَدين وخصاصة الجائعين حول العالم مسلمين وغير مسلمين؟!
الله أكبر، أي أن الصوم سوف يُصبِح ثورة حقيقية وسوف يثبت ويتبرّهَن أن الصوم ليس قوةً خطيرة وقوةً يُحسَب لها ألف حساب على مُستوى الفرد بل على مُستوى العالم، وهذا يُذكِّرنا شئنا أم أبينا بالدرس الذي لقَّنه للعالم المُستكبِر المهاتما غاندي Mahatma Gandhi بالصوم، ولكن ليس بهذا الصوم الشرعي، بل بصوم الامتناع والكف، فبريطانيا المُستعمِرة إدارياً كانت تعتمد في اقتصادها اعتماداً كبيراً على المُستهِلك الهندي، وطبعاً الهند كان فيها صناعات نسيج مُمتازة ولكنها دُمِّرَت بالكامل لحساب صناعات مانشستر Manchester، فقال لهم المهاتما غاندي Mahatma Gandhi ” لا نُريد أن نلبس منسوجات مانشستر Manchester، سنلبس الخيش، وأنا شخصياً سأعيش نصف عارٍ وسأستر عورتي بمغزلي الذي أغزل به صوف معزاي”، وهذه هى قضية المعزاية والصوف – وفعل هذا وألهم الناس – والمغزل، قال “هم يحتكرون الملح – Salt Salz, – ومن هنا سنأكل الطعام بلا ملح”، وبعد ذلك قال “سنستخرجه من البحر بأنفسنا”، ثم مشوا على أرجلهم آلاف الكيلومترات وهو يتصدَّر المسيرة ، وهذا شيئ غريب، فأذهلهم وحيَّرهم، كسر رأس بريطانيا العُظمى، فقال الشاعر العربي القروي الشهير سليم خوري:
لَقد صامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمَ مِلْيون مُسْلِمِ؟
مَن الأمة التي جاعت؟!
بريطانيا.
جوَّع الدولة العُظمى عندما جاع هو، لأنه استخدم جوعه سلاحاً، أدَّبهم فحرَّر قومه ونفسه!
لَقد صامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمَ مِلْيون مُسْلِمِ؟
قال” وأنتم تصومون صوماً طقوسياً، ولا تعرفون ماذا تفعلون بهذا، فقط تحضرون مُسلسَلات وأفلام مثل باب الحارة خمسة وباب الحارة عشرةوهكذا ، هذا هو فقط ما يُشغِلكم في رمضان”، علماً بأن هذا الكلام – والله – كالضرب، كالصفع على أوجهنا .
لَقد صامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمَ مِلْيون مُسْلِمِ؟
عِلْجاً أي كافراً !
فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمَ مِلْيون مُسْلِمِ؟
تَجَشَّمَ عَن أَوْطانِهِ صَوْمَ عامِدٍ فَجَشَّمَ أَوْطانَ العِدَى صَوْمَ مُرْغَمِ
المقصود بكلمة تَجَشَّمَ هنا هو المهاتما غاندي Mahatma Gandhi.
قال “هم بعد ذلك صاموا رغم أنفهم وهم مُضطَرون، أما هو فصام اختياراً، وبصومه الاختياري الذي تجشَّمه استطاع أن يُصوِّمهم – عن البريطان، الإنجليز – اضطراراً وليس اختياراً كما صام هو”، إذن الصوم يُمكِن أن يُشكِّل ثورة حقيقية في مفاهيمنا، في قيمنا الفردية، في قيمنا الاجتماعية، في رسالتنا الدينية التبشيرية على مُستوى العالم لو فهمناه حقاً وفلّسفناه هذه الفلسفة وحوَّلناه لثقافة نتلقَّاها ونُلقِّنها لأبنائنا مع حليب الأمهات .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المُستغفِرين!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الإخوة:
كان أحد العلماء المُجاهِدين له مواقف صُلبة جداً من السُلطة الظالمة فلم تلن له قناة ولم يتخوَّنه عزمٌ، والسبب أنه ادخر لنفسه جراباً من تمر – عالم عربي في القرن العشرين المُنصرِم – فسألوه:
ماذا تفعل بهذا؟!
قال “يكفيني سنة، عن كل يوم أو لكل يوم تمرة أو تمرتان، وبعد ذلك لا يستطيع أحد أن يُساوِم على رأيي وعلى لساني وعلى كلمتي”
ما هذه العظمة؟!
من أين تعلَّم هذا؟!
ما هذا الفيلسوف العجيب؟!
هو فيلسوف إرادة، وتعلَّم هذا من مدرسة الصوم، من مدرسة رمضان تعلَّم هذا، قطعاً هذا حين كان ابن سبع أو ثماني سنوات كان يُكابِد الصوم ويصوم ربما ثلث الشهر أو ربع الشهر أو خُمس الشهر، والله بعض أولادنا اليوم – بعض أولادنا – ثماني سنوات ويصوم الشهر كله – شيئ عجيب ومُدهِش أُقسِم بالله – ويُهزَل ويُشفَق عليه ولكن يصوم، ولكن هذا طفلٌ ناجح، هذا الطفل مُعجِزة – طبعاً الطفل في اللغة العربية تُطلَق على الذكر والأُنثى، فلا يُقال ” طفل وطفلة ” فطفلٌ تعني الذكر والأُنثى -، لأن الطفل ذكراً كان أم أُنثى إذا رأى والديه وإخوته الكبار وأخواته يصومون ويصمن وبدأ يتدرَّب هو على الصوم سيكون كائناً لا يُقهَر، لأن هذا إنسان جبّار، ومن ثم هذا الإنسان في الحياة أو في الدراسة سيكون شخصاً ناجحاً ، وفي العمل سيكون ناجحاً ، في الـ Business سيكون ناجحاً ، وفي كل شيئ سينجح، والدليل على هذا تجربة مشهورة جداً – وكلكم أعتقد تابعتموها في التلفاز، في البرامج العلمية أو قرأتم عنها في كتب علم النفس والتربية -أُجريت في ستانفورد Stanford بأمريكا – جامعة ستانفورد Stanford ، فقبل أقل من عشرين سنة أتوا بمجموعة من الأطفال – مجموعة واحدة مُتناظِرة في السن وفي كل شيئ ،- وبعد ذلك قالوا لهم “مَن يُريد يستطيع أن يأخذ الآن قطعة من هذه الحلوى، ولكن مَن يصبر ريثما يخرج الذي يُجري التجربة قليلاً – ربما نصف ساعة أو عشر دقائق أو سبع دقائق – ويعود سيحظى بثنتين – بقطعتين -، والخيار لكم “، بعضهم اختار أن يأخذ – ثلثا الأطفال – فهذا الإغراء والإغواء – يسمونه الإغواء – لم يقدروا على تحمله، وهو أغواه منظر الحلوى، ومن ثم ثلثا الأطفال – خمس وسبعون في المائة – أخذوا قطعة واحدة، والثلث المُتبقي صبر – عنده عزيمة أن يصبر – ريثما عاد المُختبِر فكُفئوا بقطعتين!
بعد أربع عشرة سنة من ستانفورد Stanford أيضاً جاء عالم نفس هناك وكان مُتابِعاً للتجربة مُنذ البداية ولاحظ الفروق على هاتين الطائفتين من الأطفال – على الثلثين وعلى الثلث الصبور Patient – فوجد الفروق مُذهِلة:
الفئة التي صبرت أي ثلث الأطفال الذين صبروا وحظوا بقطعتين من الحلوى سجَّلوا في السات Cat – وهو امتحان الكفاءة المدرسية علماً بأن هذا الامتحان تصطنعه مُعظَم الجامعات في أمريكا والكليات فهو كامتحان القبول – درجة مُمتازة لأنهم تحصَّلوا على مائتين وخمسين نُقطة – تقريباً النهاية الكاملة – ومن ثم استطاع كلٌ منهم – أيٌ منهم – أن يدخل ويتخيَّر الكُلية التي يُريد لأنه مُؤهَّل لها، وهذا هو أول شيئ في النتيجة التي كانت صاعقة للعلماء، ولكن قد يستغرب أحدهم ويقول: إلى هذه الدرجة ؟!
نعم، إلى هذه الدرجة نعم، هذا هو، هذا شاب اليوم وعماد الغد كان طفلاً صبوراً بالأمس، فكيف بالطفل المسلم الذي يصوم ثلاثين يوماً أو عشرين يوماً أو خمسة أيام أو ثلاثة أيام؟!
سوف يكون شيئاً رهيباً ما لم نغتل نفسيته وقدراته بأساليب تربوية أُخرى فاشلة، فهذا إذا وُضِعَ على السكة السليمة سيكون كائناً عظيماً كما كانت أمتنا في يوم من الأيام أمة عظيمة لا تُقهَر، فالجيش المسلم في المراحل الأولى من تاريخه كان جيشاً مُعجِزاً فعلاً واجترح المُعجِزات بالفتوحات الخاصة به لأن لم يكن عنده مُشكِلة تموين، ليس عنده مُشكِلة إمدادات بالغذاء ولا بغيره، فهو لا يُريد هذا الإمداد، قكانوا يخرجون لمسافة ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف أوخمسة آلاف كيلومتر بالتمر، أي عن كل يوم تمرة – لكل يوم تمرة واحدة – وهذا شيئ رهيب، فكان جيشاً عجيباً، هذا هو جيش الصوّام، هذا جيش رمضان، هذا جيش محمد، فلم يكن جيش خروعاً، أما نابليون Napoleon والإسكندر Alexander أيضاً كانت أكبر مشاكله في الإمداد والتموين، وهذه المشاكل كانت موجودة عبر التاريخ إلا عند الجيش المسلم- وهذا معروف – فكان هو الاستثناء من بين كل الجيوش لأن لم يكن لديه مُشكِلة في الإمدادات والتموين، فهو لا يُريد إلا التمر، يكفيه فقط التمر، يأخذ تمرة عن كل يوم ويبقى يُقاتِل عشر ساعات مُتواصِلة، فكان جيشاً جبّاراً وكانت أمة جبّارة، أمة عظيمة، ولكنها خُصيَت اليوم لأن أُريد لها أن تكون أمة مُفرَغة، لا روح فيها، لا معنى، لا رسالة، لا قيمة، لا ثقة بالنفس، لا ثقة حتى بدينها، فُرِّغَت هذه الأمة، ومن هنا عليها أن تستعيد ثقتها بنفسها عبر استعادتها ثقتها بدينها، بشريعتها، بكتابها، بمحمدها، بصومها، بمحرابها، ببيتها وكعبتها، وسوف حقاً تكون أمة عظيمة بإذن الله تبارك وتعالى.
العالم ميشيل Michel يقول “وجدت هؤلاء الشباب الآن – أطفال الأمس شباب اليوم – يُركِّزون في كل المسائل ليس على مَوْطِئ القدم، ليس على الحاضر، وإنما دائماً على المُستقبَل”، والصوم يُعلِّمنا هذا أيضاً، وذاك النبي يقول “والصوم نصفُ الصبر” وقال في حديث ابن خزيمة” وهو شهرُ – عن رمضان – الصبر”، فمَن أراد أن يتعلَّم الصبر ومُغالَبة النفس والتحكّم في الأهواء والشهوات فليتعلَّم ماذا؟!
حكمة الصوم، ليستقطر حكمة الصوم، معنى الصوم، جوهر الصوم، وسوف يكون سيد نفسه وغرائزه.
الجمادات كما النباتات محكومة بقانون الطبيعة، الحيوان مشدودٌ إلى غرائزه، ولكن وحده الإنسان هو الذي يستطيع أن يتخطّى قانون الطبيعة ويسلك خلاق الغريزة، فأن تكون إنساناً امتيازٌ عظيم عليك ألا تُضيِّعه، والدين يُترجِم هذا الامتياز إلى براهين ومصاديق حقيقية عبر عبادة مثل عبادة الصوم إن فهمناها جيداً.
وأخيراً أُشير إلى معنى لعلي أشرت إليه في السنوات الخوالي ولكن هو معنى تحذيري وفي نفس الوقت أسأل الله أن ينفعنا به:
الصلوات ميزان اليوم، صلاة الجمعة ميزان الأسبوع، رمضان ميزان السنة.
قال – عليه السلام – في الحديث المُخرَّج في الصحيحين” الصلوات الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهن ما اجتُنِبَت الكبائرُ”، فما معنى هذا؟!
الصلوات الخمس – قال – مُكفِّرات لما بينهن، لأنها ميزان اليوم ، فتقوم بعمل جرد حسابي بحسب الصلوات، فالميزان الـ Matrix والمقياس هو الصلوات، وهناك أيضاً الأسبوع فالجُمعة لها ميزانها وهى صلاة الجُمعة، ولكن مَن ضيَّع الصلوات الخمس هل تُفيده الجُمعة؟!
لن تُفيده أبداً إلا قليلاً.
مَن ضيَّع الجُمع والصلوات هل يُفيده رمضان؟!
صعب.
فقد تجد أحدهم لا يُصلي ولكنه يصوم ومن ثم لن يستفيد من الصيام كثيراً ولكن يجب أن يصوم أيضاً على الرغم من أنه لن يستفيد.
الفائدة الحقيقية بحيث يتبرّهَن أن الصوم ميزان العام – بإذن الله تعالى – كما الصلوات ميزان اليوم والجُمعة ميزان الأسبوع هى أن تصوم صوم الجوهر، صوم المعنى، وتكون مُؤدّياً لفرائض الله، لخمسه ولجُمعاته – بإذن الله تبارك وتعالى -، وسوف يُثمِر الصوم أثماره التي تبقى معك على مدر العام – بإذن الله تعالى – إلى رمضان الآخر، فهى مدد كالساعة – الساعة الميكانيكية وليست ال ديجيتال Digital – أو كالمُنبِّه -Wecker – الميكانيكي الذي تملأه بيدك هكذا ويبقى تعمل على الأقل لمدى أربعاً وعشرين ساعة، وهكذا الصوم أيضاً يُعبّئنا ويشحننا، شُحنة في مدى شهر – بإذن الله تعالى – تبقى معنا لسنة كاملة على مدى اثني عشر شهراً.
ولكن قد يقول لي أحدهم “والله لا أشعر بهذا الأمر فأنا بعد رمضان أرجع أسوأ مِما كنت عليه”، فأقول له ” أنت ما صومت”، تماماً كالذي يُصلي وبعد الصلاة يفعل كل ما يحلو له فأقول له” أنت ما صليت، أنت أتيت طقوساً، أجريت طقوساً مُعيَّنة، تعويذات مُعيَّنة لم تنفعك شيئاً”، ولكن مَن صلى حقاً، مَن جمَّع حقاً، مَن صام حقاً يستقم أمره في مدى يومه وفي مدى اسبوعه وعامه – بإذن الله تعالى – على ما يُحِبه الله ويرضاه.
أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا من عباده المُنتخَبين ومن صفوته المُقرَّبين وأن يُيسِّيرنا إلى التي هى أتقى وأزكى وأوقى وأبهى وأسنى وأجمل. اللهم آمين.
اللهم إنا نسألك أن تُهِل هلال الشهر المُبارَك علينا باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام والظفر والعز والتمكين لأمة حبيبك محمداً – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، اللهم اجعلنا فيه بقدرتك وإسعادك من المرحومين المقبولين ومن المُفلِحين الظافرين برحمتك يا أرحم الراحمين، أبلغناه وأنلنا فيه شرف ليلة القدر ووفِّر لنا فيها الجزاء والأجر برحمتك مولانا وإلهنا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالخيرات يا مُجيب الدعوات يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩
اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من أفضاله يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(6/8/2010)
أضف تعليق