إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وَأمينهُ على وحيه وَنجيبهُ من عبادهِ، اللهم صل وسلِّم وبارك عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ۩ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ۩ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ۩ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ۩ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ۩ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ۩ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ۩ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ ۩ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۩ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ۩ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ۩ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۩ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ۩ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ۩ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ۩ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ۩ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ۩ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ۩ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ۩ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ۩ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩
آمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الكريمات:
يروي الصاحب الجليل أبو ذر الغفاري – رضيَ الله عنه وأرضاه – عن رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وأصحابه ومَن والاه – فيما يرويه عن رب العزة – تبارك وتعالى – أنه قال – لا إله إلا هو، سُبحانه – يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّماً، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا مَن هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا مَن أطعمته، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا مَن كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته – أي لبيته وأجبته وحقَّقت له مُراده – ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر – لا إله إلا الله -، يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أُوفيكم إياها، فمَن وجد خيراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
صدق الله العظيم، أشهد بالله أن هذا من كلام الله، هذا حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد والإمام مُسلِم والإمام الترمذي والإمام ابن ماجة والطبراني والبيهقي وأبو نُعيم وغيرهم، كان أبو ذر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، واستقبل الناس هكذا وجعل يُحدِّثهم، لمكانة هذا الحديث وخطره وعِظمه، حديث عظيم، فيه أبواب من معرفة الله – سُبحانه وتعالى -، تعريفات إلهية جليلة، يتعرَّف الله – تبارك وتعالى في عليائه – بواسطته إلينا، يتعرَّف إلينا بهذه التعريفات لو أننا عرفناه، لا إله إلا هو!
ولذلك قال الإمام النووي – رحمة الله تعالى عليه ورضيَ عنه – روينا بالإسناد إلى الإمام الجليل أبي عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله ورضيَ عنه – أنه قال ليس لأهل الشام أشرف من هذا الحديث، أشرف شيئ في رواية أهل الشام هذا الحديث، لأن هذا الحديث مُسلسَل بالدمشقيين، الذين رووه هم علماء ومُحدِّثون من أهل دمشق، كلهم دمشقيون، فهو أشرف شيئ لأهل الشام هذا الحديث، حديث يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي.
عشر جُمل عجيبة، كل جُملة فاذة جامعة ومانعة لو وعيناها ولو عملنا بها، طرائق في التعرف إليه، في الدلالة عليه – سُبحانه وتعالى -، وقد قال الإمام الحُسين – عليه السلام، الشهيد رضيَ الله عنه وأرضاه – قد تعرَّف إلينا في كل شيئ، حتى لا نجهله في شيئ، الله أكبر! قال قد تعرَّف إلينا في كل شيئ، حتى لا نجهله في شيئ، ومن هنا قال السادة العارفون لله طرائق بعدد أنفس الخلائق أو بعدد أنفاس الخلائق، وهو غير بعيد، كل شيئ يدل على الله، كل شيئ يدل على الله!
تَأَمَّلْ سُـطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَلِكِ الأَعْلَىٰ إِلَيكَ رَسَـائِلُ.
وَقَدْ خَطَّ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ.
قال أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ، الوجود الحق هو الله – تبارك وتعالى -، وجودنا وجود مُفاض ومُضاف وظلي وزائل ومنقوص ومُهدَّد من كل أنحائه وجوانبه، عزنا كذلك، علمنا كذلك، قوتنا كذلك، غنانا كذلك، كل شيئ فينا وبنا كذلك، إنه مُهدَّد، إنه ضعيف، إنه زائل، إنه ظل، إنه أشبه بالوهم، لكن الله – تبارك وتعالى -، وما لله فهو الحق وهو الثابت وهو الباطل.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أصدق بيت قالته العرب قول لبيد، أي بيت لبيد:
ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائِلُ.
قال – عليه الصلاة وأفضل السلام، روحي وأرواح العالمين له الفداء – إلا نعيم الجنة، استدرك على الشاعر، وقال إلا نعيم الجنة، صحيح! لأنه من عند الله، هو جزاء الله – تبارك وتعالى – للمُحسِنين من عباده، أحسن الله بي وبكم، وأحسن إلىّ وإليكم، والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين، وجعلنا من المُحسِنين، اللهم آمين.
إذن تعرَّف إلينا في كل شيئ، حتى لا نجهله في شيئ، ويقول الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – أول الدين معرفته، إذا لم تعرف الله فأنت ليس لك نصيب من الدين، أول الدين معرفته!
يا إخواني ويا أخواتي:
كما قلت لكم في الخُطبة الماضية ليست معرفة الله أن تعرف أنه موجود، حتى الكافر يعرف، حتى مُشرِكو قريش يعرفون ذلك، كثير من الكفار والملاحدة يعرفون ذلك، موجود! قوة عظيمة وكبيرة جداً، موجودة، خلقت وأبدعت ورزقت ودبَّرت، هذا ليس كافياً، لابد أن تعرف معرفة المُوقِنين، لابد أن تعرف معرفة الصادقين، لابد أن تعرف معرفة العارفين بالله، وأبواب هذه المعرفة وطرائقها – كما قد سمعتم – كثيرة جداً جداً جداً، لا يعلمها إلا الله، لكنها تنحصر في الجُملة تحت ثلاثة عنوانات، أي عناوين، تنحصر تحت ثلاثة عنوانات، العنوان الأول معرفته – سُبحانه وتعالى – عبر آياته الكريمة كما قلنا في الخُطبة السالفة، العنوان الثاني معرفته – سُبحانه وتعالى – عبر خلقه، عبر الآيات الكونية، كما قلنا تَأَمَّلْ سُـطُورَ الْكَائِنَاتِ، وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ۩، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، النظر في ملكوت السماوات والأرض باب وسيع جداً للدلالة وللتعرف على الله – سُبحانه وتعالى -، لتعميق المعرفة بالله – سُبحانه وتعالى -، وجِماع أو جُمّاع ذلك ما هو؟ الباب الثالث أو العنوان الثالث، وهو يجمع ما في البابين أو العنوانين، معرفة أسمائه وصفاته، إذا تعمَّقنا معرفة الله – سُبحانه وتعالى – عبر أسمائه وصفاته فقد اجتمعت لنا المعرفة المقدورة لبني الإنسان، المعرفة المقدورة لبني الإنسان اجتمعت لنا من أطرافها، يأخذ كل منا بحسب ما فتح الله – تبارك وتعالى – عليه، فلماذا؟ لأن هذا الوجود كله وهذا الخلق كله مظهر ومجلىً أو مظاهر ومجالي لأسماء الله وصفاته، لا إله إلا هو!
ولنعد حتى لا نُطوِّل بالمُقدِّمات، لنعد إلى جُمل من هذا الحديث، لن نستطيع أن نشرحه، لن نستطيع! كل جُملة تحتاج إلى دروس وإلى خُطب وإلى مُحاضَرات، هذا الحديث يُوشِك أن يكون جامعاً، أي حديث يا عبادي، حديث أبي ذر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، هذا الحديث القدسي الجليل، لكن أيضاً جُمّاع هذا الحديث الكريم ماذا؟ دعوة إلى تعظيم الثقة بالله، دعوة إلى جعل التوكل كل التوكل فقط على الله، دعوة إلى الاعتزاز بالله، دعوة إلى إخلاص العمل وتمحيضه لله – تبارك وتعالى -، هذه هي، دعوة! إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، دعوة إلى الاعتزاز بالله، إلى الاغتناء بالله، إلى الاستنصار، إلى اللجأ إلى الله، إلى العيش، إلى السعادة، إلى الفرح، إلى الرضوان بالله، فقط بالله – سُبحانه وتعالى -.
مَن كان سعادته بشيئ غير الله فهو أحمق، وهو مغبون، وهو يُخادِع نفسه، والله الذي لا إله إلا هو! قال أبو الدردراء – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ما من أحد – أي حاشا الأنبياء والمعصومين المُرسَلين – إلا وفي عقله نقص عن حلمه وعلمه، ما معنى في عقله نقص عن حلمه وعلمه؟ أي أنه يدّعي بلسان العلم، يدّعى دعاوى كثيرة، لكن عقله دونها، عقله أقل من علمه، ولو كان الإنسان عقله كعلمه لاختلف شأنه، لو كنت أنا أو كنتم أنتم أو كان أي واحد منا يعقل ما يقول ويعقل ما يسمع ويصدر في مصادره وموارده كلها عن ماذا؟ عن ما يقول وعن ما يعلم، لكان من أعقل الناس، لكنه يعلم شيئاً، ويتصرَّف بمُقتضى شيئ آخر، لأن في عقله شيئاً، لأن في عقله نقصاً، ما من أحد إلا وفي عقله نقص عن حلمه وعلمه، لِمَ يا صاحب رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ قال لأنه ما من أحد تأتيه زيادة في الدنيا – زيادة في عرض وفي حطام من الدنيا – إلا ظل فرحاً مسروراً، يفرح المسكين! أتاه عشرة آلاف يورو بشكل زائد مثلاً، يفرح كثيراً جداً، قال والليل والنهار يدأبان فيه، يُفنيانه كل يوم، ينقصان عمره، وهو لا يحزن لذلك، إذن هو أحمق، عقله ناقص.
قال أبو الدرداء وما يُفيد مال زائد والعمر ينقص؟! تتركه لمَن يا مسكين؟ لمَن؟ تخزنه لمَن؟ تكنزه لمَن؟ فعظِّم عقلك، وعمِّق فكرك، وغلغِل نظرك، وامهد لنفسك، فكأنه قد دُعيت من قريب قريب وأنت لا تدري، وأنت غير مُتأهِّب ولا مُستعِد، لم تأخذ الأهبة، هذا معنى نقص العقل هنا.
قيل له مرة يا صاحب رسول الله لِمَ لا تشعر؟ أي لِمَ لا تقول الشعر؟ والشعر من الشعور، يشعر – هذا معروف – من الشعور، ويشعر أيضاً يقول الشعر، لأن الشعر عن الشعور، والشاعر ما يمتاز من الناس إلا بأن له شعوراً زائداً عن عامة الناس، لِمَ لا تشعر؟ فقال قد قلت فاسمعوا:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا مَا أَرَادَا.
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا.
قال هذا هو، ماذا فائدتي؟ ماذا مالي؟ تأمَّلوا بالله، وهذا باب أيضاً من أبواب المعرفة بالله والاستدلال على الله، ما هو؟ وهو باب مُتفرِّع من الأسماء والصفات، التأمل والتعمق في أفعال الله، الله الذي أعز هذا بعد ذل، هذا فعل من أفعال الله، أليس كذلك؟ وأذل هذا بعد عز، وأغنى هذا بعد افتقار، وأفقر هذا بعد وجد وغنى، وهكذا وهكذا، أفعال! لابد أن نتأمَّل كثيراً في أفعال الله.
تُحكى قصة عن طبيب في سوريا – في بلاد الشام -، هذا الطبيب قبل خمسين سنة كان الوحيد في البلدة – في دمشق هو الوحيد – الذي يعمل إخصائياً في طب النساء والتوليد، وكان الرجل مُتغطرِساً، لا يرجو لله وقاراً، وليس في قلبه ذرة من رحمة ولا من شفقة على المعدمين والمعوزين والمساكين، إذا دُعيَ إلى حالة يشترط دائماً شرطين، السيارة أمام بيته ودينار من ذهب، ليرة ذهبية! لابد من هذا، أو تموت، فلتمت، إنسان دنيوي جشع طمّاع، حتى بنى فيلا كما يُقال، بنى بيتاً عظيماً، لا يُوجَد في المكان كله مثله، ولما أراد أن يعيش في هذا البيت ما عاش فيه إلا بُرهة يسيرة، وأصابه الله بالشلل، أقعده، حتى برمت به زوجته وأبناؤه، فأنزلوه إلى البدروم، إلى البدروم! انظروا، فائدتي ومالي، يجمع ولا يتقي الله ولا يرحم ولا يُعطي ولا يمهد لنفسه.
وبعد ذلك لم يكن أحد يُعنى بنظافته ولا بتنظيفه فنتن – والعياذ بالله -، أنتن وخرجت له ريحة، فألقت به زوجته وأبناؤه في مكان بعيد بعيد عن الفيلا، بعيد جداً! كالكلاب – أكرمكم الله -، هذا هو المصير، قصة! لابد أن نتأمَّل في أمثال هذه القصص.
حدَّثونا عن رجل كان يمتلك الملايين، الملايين! وله قصور، لا أُريد أن أقول أين حتى لا أُحدِّد، المُهِم له قصور كبيرة، وهذا الرجل لا يزال حياً إلى الآن، حدَّثني أخ مِمَن يتصدَّق عليه، قال هذا الرجل افتقر في ليلة والله، حتى صار مُفتاقاً إلى بعض الأصدقاء وبعض مَن لا يعرفه أن يدفعوا له ما يأكل به وما يدفع به أجرة السكن، قال وأنا من الذين يتصدَّقون عليه بحمد الله، قلت لا إله إلا الله، دوام الحال من المُحال، البقاء لله، الله هو الباقي، كله يفنى، مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۩.
لعلكم سمعتم بقصة المُعتمِد بن عبّاد، الملك العظيم الإشبيلي، من ملوك الطوائف، وقصته مع الرُميكية، اعتماد الرُميكية زوجته، قصة حُب مشهورة جداً في التاريخ، والعز والبذخ والرفه الذي كانوا فيه، هو وزوجته وأبناؤه، وأبناؤه ملوك، الرشيد والمأمون والرضي وغيرهم، أبناؤه ملوك، هو ملك وأبناؤه ملوك، رفه وبذخ وعز ودنيا وشرب وخمر وفسق وشعر وأشياء عجيبة.
هذا الرجل تعرَّف إلى هذه، وكانت غسّالة من جواريه، ركب النهر يوماً مع شاعره ابن عمّار، فقال له يا ابن عمّار أجِز، أي أكمِل البيت، إجازة! قال له يا ابن عمّار أجِز، صنع الريح من الماء زرد، فأطال ابن عمّار الفكرة، فإذا بغسّالة من الغسّالات – من الخدم أو من الخادمات – تُكمِل وتُجيز، فتقول أي درع لقتال لو جمد، فنظر فإذا وجه حسن جداً، وإذا هي من جواريه، فاستخلصها لنفسه، وأعتقها وتزوَّجها.
وفي يوم من الأيام كأنها حنت إلى ماضيها، رأت النساء الفقيرات من ذوات الحاجة والعوز، رأتهن يمشين في الطين، يطأن ويخوضن في الطين، في طين الأرض! فقالت له أيها الملك الجليل أشتهي أمشي في الطين، فماذا فعل؟ أتى بالطيب – بالطيب وقد سُحِق سحقاً – فذريَ في ساحة القصر حتى عمها، أي الطيب، ثم أوتيَ بالمناخل، أي بالغرابيل، ووُضِع عليها أخلاط الطيب وماء الورد، ثم عُجِن بالأيدي حتى صار كالطين، فخاضته هي وبناتها وجواريها، الله أكبر! ما هذا البذخ؟! طين من طيب، من مسك وكافور وزعفران!
وبعد ذلك في يوم من الأيام غاضبها، وصدق رسول الله، فقالت له والله ما رأيت منك خيراً قط، قال لها ولا يوم الطين؟ فاستحيت واعتذرت، مصداق قول رسول الله لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط، وصدق رسول الله، قال ولا يوم الطين يا اعتماد؟ فاستحيت.
على كل حال هذا الرجل كان منه مُغاضَبة للنصارى، وللأسف كان ملوك الطوائف – ومنهم المُعتمِد بن عبّاد هذا – يُعطون الجزية للنصارى، ليسوا يأخذونها وإنما يُعطونها، حتى يكف عنهم النصارى، بسبب فُرقتهم، كالهون والذل الذي نحن فيه اليوم، نحن اليوم لا نُعطي الجزية، نُعطي رقاب إخواننا في العراق وفي فلسطين، نُعطي دماء المُسلِمين، نسكت عن الدنية، نسكت عن العار والذل، حتى يسكت عنا الأمريكان والصهاينة، أسوأ من حال ملوك الطوائف أو مثلهم – والعياذ بالله -، كلاهما حال شريرة.
على كل حال فغاضبهم فأعلنوا عليه الحرب، فاستغاث بيوسف بن تاشفين، الملك المغربي، فأغاثه وكانت وقعة الزلاقة المشهورة، ثم إن ابن تاشفين عزم على أن يُقيل هؤلاء الملوك الأقزام، أي ملوك الطوائف، وأن يُوحِّد البلد، وفعلاً وأتت النوبة على المُعتمِد بن عبّاد، وسيق الرجل من قصره، بعد أن قُتِل أحد أبنائه أمام عينيه، قُتِل وهم لم يستطع أن يدفع عن نفسه، أتاه القدر، وسيق الرجل من الرفاه والنعيم والبذخ والدنيا الطويلة العريضة من هذا المُلك لكن الزائل والوحي التصرم، سيق إلى سجن في أغمات، بلدة يُقال لها أغمات، وماذا كان حاله بعد ذلك؟
بناته – بناته اللاتي خوضن مع أمهن الرُميكية في الطين، لكن طين ماذا؟ طين المسك والكافور والزعفران والورد – يغزلن للناس ليقوتن أنفسهن، يعملن بالغزل، حتى أنهن غزلن لأهل بيت صاحب شُرطة أبيهن بالأمس، الذي كان رئيس الشُرطة بالأمس لأبيهن، غزلن لأهل بيته، بنات المُعتمِد بن عبّاد، وعليهن أطمار بالية.
أتينه ذات غداة في صباح عيد، ليُسلِّمن عليه، فرآهن المسكين وحاله حال يرثي لها الشفيق والرفيق وربما أيضاً العدو، رآهن في أطمار بالية، أقدامهن حافية، والنعمة عنهن عافية كما يُقال، قد حيَّر البلاء والجُهد بصرهن ونظرهن وغيَّر من حالهن، فبكى بُكاءً مُراً، وقال قصيدة تُفتِّت الأكباد، ذكرها صاحب نفح الطيب، قصيدة مشهورة جداً في الأدب العربي، قال:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا.
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرا.
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً أَبصارُهُنَّ حَسيراتٍ مَكاسيرا.
يصف بناته، يقول حَسيراتٍ مَكاسيرا، ثم يقول:
أفطرتَ في العيدِ لا عادت مساءتُهُ فـكان فـطرُك لـلأكباد تفطيرا.
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا.
الله أكبر، ما أحسن هذا الختام! جرَّب المُلك، كان ملكاً، ورأيتم طرفاً من نعيمه، وهو الآن في السجن، على خُبز وزيت يُفطِر يوم عيد، وبناته في الأطمار، في أطمار كأنها الكسوف، وهن البدور، قال مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ، لا ينبغي على ملك أن يُسَر بمُلكه، لا ينبغي على غني أن يُسَر بغناه، كلا! الثقة فقط بما في يدي الله، لا ثقة في الدنيا، لا ثقة بعلمك، لا بصحتك، لا بعقلك، لا بأصدقائك، لا بأهلك، لا بزوجك، ولا بأي شيئ.
ولذلك حقيقة الإيمان وحقيقة اليقين أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يدك، هكذا! هذا هو اليقين، أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، في لحظة نُقطة دم لو تجمَّدت في دماغك لن تعرف مَن أنت، لن تعرف حتى ابنك.
بعض الناس وهو طبيب كبير جاءه ابنه، قال له يا أبتِ، قال مَن أنت؟ قال ابنك، قال لا أعرفك، تجمَّدت قطرة دم في دماغ هذا الرجل، اختل عقله بالكامل، في لحظة! مَن أنت؟ تقول أنا وأنا، مَن أنت؟ الإنسان لا شيئ، لا شيئ! في كل لحظة يزول عنه كل ما أولاه الله أو بعض ما أولاه الله، ولا يستطيع الإنس والجن أجمعون أن يردوا إليه هذا الشيئ الزائل، فاتق الله.
فالزمْ يديْك بحبلِ اللهِ مُعتصِماً فإنَّهُ الركنُ إنْ خانَتْك أركانُ.
اجعل ثقتك دائماً بالله.
أيها الإخوة:
قلت لكم في الخُطبة الماضية – ولم أُكمِل – السفر فيه عظات وفيه عبر، وهو باب من أبواب التعرف إلى الله – تبارك وتعالى -، قد تنزل بلدة بعيدة، نائية، فسيحة، وسيعة مديدة، وكثيرة المرافق، فتفقد فيها محفظة نقودك، ولا تعرف فيها أحداً، ولا يتعرَّف فيها إليك أحدٌ، ولم تُدبِّر بعد مسألة المسكن، وعضك الجوع بنابه، في يوم شديد القيظ والهجير، أو في يوم شديد الزمهرير والبرد، ما هذا الضياع؟ ما هذا التيه؟ ما هذه الوحشة؟ وبعد ذلك لنفترض أنه قد لاح لك رجل مِمَن تعتقد مودته ويعتقد مودتك، تصدق في محبته ويصدق في محبتك، من أهل هذه البلدة، ومن مياسيرها، كيف تكون فرحتك؟ تفرح جداً، انتهت همومك، ذهبت ساعات الحزن والخوف والضياع والتيه، فأنت غداً ساعة الموت أو في قبرك وحدك أو يوم الحساب وحدك برأسك أوحش منك وأخوف منك في هذا المقام، وأجوع منك وأظمأ منك في هذا المقام في مثل هذه الحالة التي صوَّرت، فامهد لنفسك، ووثِّق علاقتك بالله – تبارك وتعالى -، كُن صادقاً مع الله في السر والعلن، كما قال احد العارفين لا تكن ولي الله في العلانية وعدوه في السر.
أمس كنت أقول لأحد المُسلِمين الآتي، قلت له هل يسرك أو يُرضيك أن تُدعى بين الناس الكذّاب أو المُنافِق أو ثقيل الدم – البليد الثقيل – أو المُرائي أو المغرور أو المُعجَب أو الحقير أو النذل أو الخسيس؟ قال كلا، أعوذ بالله، قلت طبعاً لا يُمكِن أن يسرك هذا، الإنسان لو كان يُدعى هكذا – تعال يا كذّاب، ماذا فعلت يا كذّاب؟ ذهب الكذّاب، أتى الكذّاب، راح الكذّاب – يسود عليه عيشه، يكره حياته، يتمنى أن لو تسيخ به الأرض، فلماذا ترضى ربما – والعياذ بالله – أن يكون لك مثل هذا القلب في الملأ الأعلى؟ ترضى أن تكون عند الناس الصادق الصالح الولي المُمتاز، لكنك لا تُنادى عند الله ولا في الملأ الأعلى إلا بحقيقتك، دائماً إذ تحدَّثوا عنك يتحدَّثون عنك بحقيقتك، الصالح الولي أو الكاذب المُنافِق، هكذا في الملأ الأعلى! فاجعل وكدك واجتهادك أن يكون لك عنوان وأن يكون لك تعريف وأن يكون لك وصف وأن يكون لك نعت سمي جميل حفي كريم في الملأ الأعلى، ولا عليك من الناس، ليذهب الناس إلى حيث ألقت كما يُقال، لا عليك من الناس كل الناس، المُهِم ما عند الله.
هل يُفيد – مثلاً – إنساناً دعياً أن يكون معه مُجلَّد كبير – جلَّده هنا بخمسين شيلينغ – كتب عليه اسمه – قال هذا من تأليف الأستاذ الكبير العلّامة فلان الفلاني، وكتب اسمه – ثم جاء يُدلِّس على الناس ويُدجِّل أن هذا من تأليفه، وصدَّقه كل الناس، لكنه في واقع الأمر وفي حقيقة الأمر ليس له من هذا الكتاب شيئ؟ لماذا الكذب إذن على أنفسنا؟ ولماذا الكذب على الناس؟ المُهِم هو ما عند الله، المُهِم الحقيقة.
هل يُفيد أن تُفهِم الناس أن هذه القطعة النُحاسية ذهب؟ هم فهموا ذلك، أنت تقول هي من ذهب، لكنها في الواقع نُحاس، وعند الاختبار ستبرز نُحاساً، ولن يُفيدك قناعة كل الناس غروراً بك وتصديقاً لتدجيلك أنها من ذهب، أليس كذلك؟ هكذا الحال مع الله، هكذا الحال عند الحساب، هكذا الحال ساعة الموت، هكذا الحال غداً، فلا تكن ولي الله في العلانية وعدوه في السر يا عبد الله.
لِمَ لا نعتمد على الله؟ لِمَ لا نتوجَّه بكل مطالبنا إلى الله؟ لِمَ لا نتعوَّد الطلب منه وحده؟ وحده! لِمَ لا نقطع رجاءنا من الخلق ونطلب من الله وحده؟ قال الكليم موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا رب إني لتعرض لي الحاجة صغيرة أستحقرها وأستحي منك أن أسألك هذه الحاجة، قال كلا يا موسى، لا تسل غيري، وسلني حتى ملح طعامك وعلف حمارك، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – سلوا الله حوائجكم، حتى تسألوه شَسع أو شِسع نعلكم إذا انقطع، حتى إذا انقطع شِسع النعل اسأل الله أن يُعوِّضك خيراً، أن يُيسِّر لك شِسعاً غيره، علِّم نفسك الطلب من الله.
أستغرب لبعض الناس، تُناكِده زوجته فيشكوها إلى العالمين، لماذا؟ لن تستفيد إلا الشماتة، سيجعلونك درساً في دروس إخوانهم، وأحظى الناس أو أحق الناس بالرثاء والشفقة مَن جعله الله بين الناس عظةً وموعظةً وعبرةً في الناس، يقولون لك في بعض المُسلِمين يُوجَد مُسلِم يا أخي من شأنه مع زوجته كذا وكذا، وهم يقصدونك، يا مسكين صرت درساً وصرت عبرةً، لماذا؟ اطلب من الله، قل يا رب أصلِح لي زوجتي، يا رب أصلِحها، قُم بالأسحار وادعه عن معرفة، لا عن لسان، لا تدعه هكذا والقلب والعقل في عالم آخر، لا! ادعه حقاً واعلم أن المُلك كله بيديه، لا يُوجَد حائل، لا يُوجَد حجاب، لا يُوجَد وزير، ولا يُوجَد بوّاب، مُباشَرةً اقصد إليه – تبارك وتعالى -، يُعطِك ويُجزِل لك، هكذا!
يقول حمّاد بن سلمة – رضيَ الله عنه وأرضاه – كان في جواري امرأة أرملة على أيتام، أي تقوم على أيتام، فسمعتها في يوم مطير بارد في الليل تصيح وتقول يا رفيق ارفق بنا، قد جاع الأطفال على ما يبدو، وأصابهم البرد والزمهرير القر، يا رفيق ارفق بنا، قال فانتظرت حتى انقطع الماء، أي احتبس، وأخذت دنانير عشرة، وجعلتها في صرة، ثم تركت عليها الباب، قالت مَن؟ حمّاد؟ عرفت، كأنها حين قالت يا رفيق ارفق بنا كانت تقصد أن تُسمِع جارها العالم الصالح والإمام الجليل، فأدركت أنه سيستجيب، قالت مَن؟ حمّاد؟ قلت نعم، كيف الحال؟ قالت الحمد لله، بخير وعافية، قد احتبس المطر ودفئ الأطفال، قال وإذا بُبنية صغيرة لها يعلو صوتها وتقول لا نُريد يا حمّاد أن تكون بيننا وبين الله، ثم أقبلت على أمها مُغضَبة تقول قد علمت أنك حين رفعت صوتك بالسر – أفشيت حالنا، أننا مُحتاجون، أننا جوعى، أننا مقرورون، أخذنا البرد – أن الله – تبارك وتعالى – يرفق بنا على يد مخلوق، أذلنا هكذا، الله أكبر! ما هذه البنت العارفة؟ هي تعلم أن الله سيرفق سيرفق، لكن إن طلبته مُباشَرةً رفق بك من غير واسطة، لم يُلجئك إلى أحد، بل ألجأ الناس إليك أحياناً، ورأوا الفضل والمنّة لك، لا لهم، لكن هكذا حين رفعت الصوت قليلاً حدث إشراك في النية، وهذا ليس إشراكاً كبيراً، إنما هو إشراك صغير، هذا إشراك في النية، طلبت من الله ومن حمّاد، أو عيَّنت لله السبيل، تطلب من الله على يد حمّاد، لا يجوز! هكذا فلنتعلَّم الدرس، نظرة واحدة من الله تكفي، نظرة! الله لا يُضيِّع مَن استحسبه واستكفاه.
تعرفون حاتم الأصم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، لن نتحدَّث عن حاتم، الحديث عنه طويل وحفيل، سأله رجل يوماً – وكان من أهل التوكل، أي حاتم هذا – مَن الذي يرزقك؟ قال هو، قال يُلقي عليك الخُبز من السماء؟ يهزأ به! قال لو لم تكن له الأرض لألقى علىّ الخُبز من السماء، حتى الأرض له، يقول له مسكين أنت وجاهل، هو عارف بالله، وهذا يستهزئ بالعارف، أي كيف يرزقك؟ يُلقي عليك الخُبز من السماء؟ فنبَّهه أن الأرض أيضاً لله، لماذا من السماء؟ الأرض لله، يرزقني من الأرض، وهكذا أفحمه.
قال يوماً لأهله أُريد أن أحج غداً – أنطلق إلى حج بيت الله الحرام -، فبكوا وأعولوا وناحوا، كيف؟ لمَن تتركنا؟ هو فقير زاهد ومُعسِر، ويسوق الله الخير اليسير على يديه، فإذا ما ذهب أدركوا بأنهم قد قُطِع بهم، لا يُوجَد توكل حقيقي، قالوا إلى مَن تتركنا؟ أعولوا وتناوحوا وبكوا، فقامت بُنية له، وقالت لا، دعوه، فليذهب لأداء فرض الله – تبارك وتعالى -، فما عرفناه إلا طعّاماً، والرزاق هو الله ذو القوة المتين، أفحمتهم بحُجتها، فناموا، وانطلق هو فسافر، وأصبحوا جوعى، فجعلوا يُوبِّخونها، أنتِ وأنتِ، أنتِ وأنتِ، فقالت اللهم لا تُخجِلني بينهم، قالت اللهم لا تُخجِلني – أخجَله وخجَّله، لا تُخجِلني أو لا تُخجِّلني – بينهم، فمر بهم وقت الظهيرة أمير البلد، وهو لا يعرف أن هذا البيت بيت حاتم الأصم، ولي الله الشهير، أدركه العطش فاستسقاهم، فمدوا له كوزاً فيه ماء مُبرَّد، فأراد أن يُكافئهم بعد أن سأل بيت مَن هذا؟ قالوا بيت حاتم الأصم، فخلع منطقة له من ذهب، فألقى بها في البيت، وقال لجُنده وشُرطته مَن كان يُحِبني فليفعل مثل فعلي، فخلعوا جميعاً مناطقهم المُذهبة والفضية، وألقوا بها، اغتنوا مُباشَرةً، وأبوهم في طريقه إلى الحج، وجعلت البُنية تبكي، سألتها أمها لِمَ تبكين يا بُنية وقد أغنانا الله؟ قالت يا أماه أبكي لأن هذا مخلوق نظر إلينا، فأغنانا، والمعنى فكيف برب العالمين؟ هذا مخلوق، مخلوق! فكيف برب العالمين الذي عطَّفه علينا وسخَّره لنا لو نظر إلينا؟ يُغنينا في الدنيا والآخرة.
أراد هارون الرشيد ذات عام أن يحج بيت الله، وكان كثير الحج، فمر بالكوفة، فهُرِع الناس إليه، وكان فيمَن هُرِع بُهلول، بُهلول بن سعيد، الرجل الولي والدرويش صاحب الحكمة، فخرج بُهلول، فلما رأى الرشيد قال يا هارون، الرشيد غضب وقال مَن هذا؟ قالوا هذا بُهلول، فسكت، يعرفه! من العقلاء المجانين، لكن هو من أولياء الله، قالوا بُهلول، فسكت، ثم قال ماذا تُريد يا بُهلول؟ قال يا هارون رُوّينا بالإسناد عن قدامة بن عبد الله – صاحب رسول الله – أنه قال – أنت تذهب لتحج فانتبه، هذه نصيحة مني، رجل صالح، قال رُوّينا، وهذا هو الصحيح، أحسن من رَوَينا، قال رُوّينا بالإسناد عن قدامة بن عبد الله، وهو صاحب رسول الله، أنه قال الآتي – رأيت رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، النبي كان واحداً من المُسلِمين، لم يُضرَب لأجل أن يُفسَح له المكان.
أسوأ منظر رأيته هذا العام في الحج هذا المنظر، الشُرطة والكوماندوز Commandos تأخذ مكاناً وسيعاً لحقير، لا أدري مَن هو، كلهم حقراء، كل أمثال هؤلاء حقراء، أحد الصالحين رأى رجلاً هكذا في الحج يُفسَح له ويُوسَّع له، وعرفه ثم نسيه، بعد سنين قال رأيت – والله الذي لا إله إلا هو – رجل بشاطئ الفرات يتكفَّف الناس، أي يشحذ، فقلت مَن أنت؟ قال أنا فلان، قلت أنت فلان؟ أنت الذي رأيتك في الحج سنة كذا؟ يبدو أنه أمير مشهور، قال نعم، قلت ما الذي صيَّرك إلى ما أرى؟ ويحك! قال تكبَّرت في موضع يتواضع فيه الناس لرب العالمين، فوضعني الله في موضع يترفَّع فيه الناس.
هذا أحقر ما رأيت والله، حتى أنني لم أستطع بعد ذلك أن أرى هذا المنظر، كنت دائماً أغض بصري، لا أستطيع أن أنظر إليه، يُفسِد عليك حتى خشوعك، فقال له انتبه يا هارون إذا حججت، حُج مثل سيد العالمين، مثل سيد الأولين والآخرين، النبي جاء هكذا ورمى لا طرد ولا ضرب ولا إليك إليك، لم يقل أحد من الصحابة وسِّعوا لرسول الله أبداً، مثله مثل المُسلِمين، رمى وانطلق، صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه إلى يوم الدي، حتى يرضى عنا رب العالمين، هكذا!
وتواضعك يا هارون خيرٌ من تكبرك، فاتق الله، فبكى الرشيد، قال أحسنت يا بُهلول، زِدنا، قال يا هارون اعلم أن مَن أتاه الله مالاً وجمالاً وسُلطاناً فواسى في ماله وعف في جماله وعدل في سُلطانه كُتِب في ديوان الأبرار، قال أحسنت، أحسنت، أحسنت يا بُهلول، وأمر له بجائزة، قال لا، قال لا حاجة لي بها، ردها على مَن ظلمته بها، أنت ظالم، تأكل أموال الناس بالباطل، وأنا أعرف هذا، ردها على مَن أخذتها منه بالباطل، قال لا حاجة لي بها، ردها على مَن ظلمته بها، فخجَّله، قال فنُجري عليك رزقاً يقوم بك، أي جراية شهرية، هذا مُرتَّب شهري من الدولة، فابتسم وأشار هكذا بالسبابة إلى السماء، فنظر الناس ونظر الرشيد، قال يا هارون أنت وأنا عياله، فمُحال أن يذكرك وينساني، قال مُحال أن يذكرك وينساني.
إن الوقوفَ على الأبوابِ حرمانُ والعجزُ أن يرجوَ الإنسانَ إنسانُ.
متَى تؤمِّل مخلوقاً وتقصـدُه إن كان عندكَ بالرحمنِ إيمــانُ؟!
هذا هو الحرمان، أن تقف بأبواب المخلوقين، أن تُعلِّق قلبك بالمخلوقين، اجعل علاقتك وثقتك وإيمانك ورجاءك وطلبك وتوجهك بالله ولله وفي الله.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يدلنا عليه دلالة العارفين، وأن يقودنا إليه قود الصالحين والصادقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، اللهم صل وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اجعلنا من الذين إذا أحسنوا إذا هم يستبشرون، وإذا أذنبوا إذا هم يستغفرون، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اجعلنا صالحين مُصلِحين، صادقين مُصدَّقين، اللهم اجعلنا من أوليائك الصالحين ومن عبادك المُتقين، اللهم افتح علينا فتوح العارفين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، وعيناً دامعةً، نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع، ونعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن تهدينا وتهدي بنا، وأن تُصلِحنا وتُصلِح بنا يا رب العالمين، اللهم إذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقِر عيوننا من عبادتك يا رب العالمين، اللهم تول أمرنا، واجبر كسرنا، وبلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك بالدعاء والضراعة أن تنصر الإسلام وأن تُعِز بفضلك المُسلِمين، اللهم انصر إخواننا المُجاهِدين في فلسطين وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصرهم على مَن عاداهم، اللهم وحِّد شمل المُسلِمين، اللهم أصلِح ذات بين المُسلِمين يا رب العالمين، واجمعهم على كلمة سواء، على أتقى قلب رجل واحد منهم، اللهم أعِزهم وأعِز بهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم زِدهم ولا تنقصهم يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(28/2/2003)
أضف تعليق