إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ۩ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ۩ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ۩ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ۩ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ۩ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ۩ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ۩ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لو قيل لأحدنا إن فلاناً من الناس لرجلٍ يعرفه يتناول غداءه الآن في القاهرة على أنه سيتناول طعام العشاء – مثلاً – معنا الليلة هنا في فيينا، هل ترون ذا يُثير شيئاً من الدهشة أو العجب؟ كلا، بالنسبةِ إلينا هذا أكثر من طبيعي،ولكن لو قيل هذا القيل ذاته وعينه لأحدٍ من الناس قبل ثلاثمائة سنة أو قبل مائتي سنة أو قبل عهد الطيران فضلاً عن أن يكون قبل ألف سنة لقال مُعجِزة أو خُرافة أو تخريف، أليس كذلك؟ إذن ما الذي حدث؟ ما الذي يُمكِن أن يُستفاد من ضرب هذا المثل السهل والمُلاحَظ والبسيط؟ ينبغي أن يُستل منه التلفت إلى المرونة والحركية والنسبية في تعاريف الخارق والمُعجِز، إذن المُعجِزة أو الخارقة ليست أمراً يُؤخَذ بإطلاق وعلى إطلاقه، هذا شيئٌ مُتحرِّك نسبي، فما يُعَد مُعجِزاً بالأمس يُعَد اليوم شيئاً طبيعياً ويُنظَر إليه على أنه شيئٌ طبيعي، وهذه المُقارَبة للمُعجِزة والخارقة في ظني مُهِمةٌ جداً لحل بعض الإشكالات التي تُثار حول المعاجز النبوية وحول المعاجز التي أجراها الله – تبارك وتعالى – وقضى بها على أيدي أنبيائه ورسله، صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين.
المعاجز التي كانت بالأمس مثاراتٍ وأسباباً وبواعث للإيمان والتصديق عند مَن هدى الله قلبه للحق ونوَّر بصيرته بصدق هى ذاتها أو ذواتها صارت تُشكِّل في عصرنا هذا بل في مُجمَل العصر الحديث تقريباً وخاصة في فترة التنوير في أوروبا وإلى اليوم مثاراتٍ للارتياب والتشغيب والاشتباه والتشكيك، فصارت تُرفَض الأديان ويُكذَّب الأنبياء والمُرسَلون، لأجل ماذا؟ لأجل أنهم يزعمون أو يُزعَم لهم أنهم أتوا بمعاجز، والمعاجز تخرق القانون الطبيعي وتنتهك حرمته، فالمعاجز تنتهك حرمة القوانين الحاكمة في الكون وفي العالم وفي الطبيعة، وهذه القوانين ثبت بالقطع واليقين أنها مُضطرِدة دائمية شاملة كُلية ولا تتخلَّف ولا تُعلَّق – لا يُمكِن أن تُعلَّق – أيضاً، والمُعجِزة ربما في لاهوت المعاجز والخوارق في أبسط تفسيراتها هى نوعٌ من التعليق الوقتي لعمل القانون الطبيعي حتى تمر المُعجِزة، كما في سفر يوشع غلام موسى عليهما السلام، وقال الربُ للشمس يا شمسُ قفي في جبعون ويا قمر في أيالون، فوقفت الشمش وثبت القمر حتى انتقمت الأمة من أعدائها، إنها مُعجِزة أو خارقة توقف الشمس ليوشع بن نون Yusha – يوشع غلام أو تلميذ موسى – حتى انتصر على أعدائه، وقالوا هذا كلام فارغ لأن الشمس لا تتوقف، الشمس أصلاً لا تدور ولا تلف حول الأرض، الشمس ثابتة في مصامها والأرض هى التي تدور حولها، فالقضية كلها تخريف وتهريف.
باروخ سبينوزا Baruch Spinoza الفيلسوف العقلاني الشهير صاحب رسالة في اللاهوت والسياسة والذي اتُهِمَ – كما ذكرنا في خُطبة سابقة – بالزندقة ولُعِنَ أربع مرات وحُرِمَ من الكنيس أو السنهدرين اليهودي آثر ألا يُكذِّب هذه المُعجِزة على أنه لا يقبل البتة القول بتخلَّف أو تعليق أو تعلّق القوانين الطبيعية، سبينوزا Spinoza لا يقبل هذا مُطلَقاً، وله عبارة مشهور جداً قال فيها نحن نُؤثِر وخيرٌ لنا أن نُؤثِر العقل وأن نُقدِّمه على الكتاب المُقدَّس أو في الحد الأدنى – يقول كالمُحترِز والمُحترِس – على فهمنا للكتاب المُقدَّس، وطبعاً لا يُريد أن يُورِّط نفسه الرجل فقال ولكن في نهاية المطاف لابد أن يُقدَّم العقل على الكتاب – هكذا يقول وهكذا يُؤسِّس – أو على الأقل على فهمنا نحن، ولذلك راح يُؤِّول – لا نقول يُفسِّر لأن هذا نوع التأويل ونوع من الالتفاف التفسيري، فكل التفاف تفسيري هو تأويل، هكذا يُمكِن أن نصطلح، وعلى كل حال هذه مُصطلحات ولا مُشاحة في الاصطلاح – هذه المُعجِزة بقوله يوشع ظن أن الشمس توقَّفت عن السير أو عن المسير لأنه كان يجهل علم الفلك – هكذا قال – الذي لم ينوجد – أي لم يُوجَد – في ذلكم الزمان، علم الفلك كان علماً بدائياً جداً ومُختلِطاً بعلم التنجيم، لم يكن الأسترونومي Astronomy مُتميِّزاً من الأسترولوجى Astrology، فكان شيئاً أقرب إلى التنجيم، ولذلك يقول سبينوزا Spinoza بكل جرأة لأنه مُفكِّر عقلاني يوشع كان يجهل علم الفلك الذي نعرفه اليوم، ثم يقول وأنا شخصياً أذهب إلى أن ما ظنه يوشع توقّفاً لحركة الشمس هو مُجرَّد ظاهرة طبيعية جهل هو أسبابها، ما هى هذه الظاهرة؟ قال يبدو أن الصقيع كان مُرتفِعاً جداً في ذلكم المساء، ولذلك انعكس – وهذه مبادئ تفسيرية أخذها من ديكارت Descartes، فديكارت Descartes قدَّم مثل هذه المبادئ العلمية واستفاد منها سبينوزا Spinoza – ضوء الشمس انعكاساً استثنائياً بحيث توهَّم يوشع – Yusha – أن الشمس بقيت ساطعة ولم تغب، فهذه ظاهرة انعكاسية للضوء وليس أكثر من هذا، أي أنه فسَّر هذا الخارق أو تلكم المُعجِزة كما تُدعى تفسيراً طبيعياً، فلم تغد مُعجِزة وأصبحت ظاهرة طبيعية، أما أن تكون مُعجِزة وخارقة للطبيعة فقال لا نقبل هذا.

على كل حال الموضوع لاذٌ وشائق، وخاصة الآن في الوقت الذي تُثار فيه إشكالات وتشغيبات وتشبيهات من الشباب المُثقَّف والمُطلِع والذي يتعاطى مع شرقٍ ومع غرب، ولكن لا يُمكِن لخُطبة أن تتسع أو يتسع صدرها لمثل هذا الموضوع الضافي الأطراف والكثير الشعوب والذيول، فنجتزيء بأشياء تمس غايتنا وقصدنا – إن شاء الله – من خُطبتنا هذه.
أيها الإخوة:
علماؤنا آثروا أن يُعبِّروا عن المُعجِزة بأنها خرقٌ للعادة لا للعقل، وظن بعض العلماء الأفاضل أن هذا الاحتراز وهذا التعريف العلمي الذكي والدقيق يكفي في تفسير المُعجِزة، لكن في عصرنا هذا بالذات ما عاد يكفي، لماذا؟ لأن مُعظم الناس على الإطلاق صاروا مثل باروخ سبينوزا Baruch Spinoza ومَن جاء بعده، فكانط Kant نفسه رفض المعاجز – الفيلسوف النقدي العقلاني الكبير كانط Kant الألماني رفض المعاجز – وله كتاب إسمه الدين في حدود العقل وحده Die Religion innerhalb der Grenzen der bloßen Vernunft، وقال لا تقل لي خوارق ومعاجز، لكن ماذا قال كانط Kant في هذا الكتاب؟ سأُلخِّص لكم تلخيصاً طبعاً مُخِلاً لكلام طويل مُعمَّق أتى به الفيلسوف الهائل هذا، قال أولاً المعاجز تتعارض مع العقل، ونُخالِفه في هذا، فهذا غير صحيح وسنُوضِّح، المعاجز لا تتعارض مع العقل، فهى تتعارض مع القوانين الطبيعية لكن ليس مع العقل، فغير صحيح أنها تتعارض مع العقل، لكنه قال هى تتعارض مع العقل، ثانياً المعاجز تتعارض مع قوانين الطبيعة ومع دساتير الطبيعة، وهذا إلى حدٍ ما نُريد أن نُناقِشه وهو مُهِم جداً، الأول سهل ويُمكِن دحضه مُباشَرةً، لكن هذا صعب فنُريد هنا أن نقف، والخُطبة نُقطتان بإذن الله تعالى، هذه النُقطة ونُقطة ثانية عن الاصطلاح القرآني في تعريف وتوصيف الخوارق والمعاجز، أي الآيات، فلماذا؟ ونرجو أن يكون فيها شيئٌ من إضافة بإذن الله تبارك وتعالى، قال والمعاجز تُستخدَم وتُستثمَر غلافاً للقيم وتبريراً للأخلاق، تلكم الأخلاق والقيم التي لم تجد مُبرِّرا لها إلا في حدوث حادث استثنائي لقوانين الطبيعة، إذن لا قيمة لها.

إذن كانط Kant يرفض الخوارق والمعاجز لأنها أيضاً تضييعٌ للأخلاق والقيم، عكس ما أُريد لها أن تكون، وطبعاً هو صاحب نظرية الواجب، وذهب مذهباً بعيداً في قدرة وأهلية العقل الإنساني على معرفة ما ينبغي وما لا ينبغي بعيداً عن الدين وبعيداً عن أي تبريرات أخرى، وإنما الواجب لذاته، وكانط Kant هنا مُتعصِّب جداً وكلامه أشبه بأن يكون كلاماً مُغرِقاً في المثالية، وعلى كل حال قد نُوقِشَ طويلاً في نظرية الواجب كانط Kant، وكانط Kant طبعاً أسَّس هذا على الذي أيقظه من سباته العقدي الدوغمائي – Dogmatic – وهو ديفيد هيوم David Hume الإسكتلندي، فديفيد هيوم David Hume مِن أوسع الذين كتبوا رداً وإدحاضاً وبياناً لتهافت مُبرِّرات المعاجز والخوارق في كتابه An Enquiry Concerning Human Understanding، أي تحقيق حول الفهم الإنساني، وأتى بأشياء دقيقة أقنعت الكثيرين وكان من ضمنهم كانط Kant، وكانط Kant اقتنع بمُقارَبة هيوم Hume لموضوع المُعجِزة والخارقة، فماذا قال هيوم Hume؟ لابد أن نُلخِّص لأن كلامه طويل وفي مواضع لكنه قال باختصار أولاً المعاجز نحن لا نراها، أي كما قال إرنست رينان Ernest Renan بعده وبعد كانط Kant في القرن التاسع عشر المعاجز أشياء لا تحدث أبداً، وإنما يُسمَع عنها، لذا أرونا هذه المعاجز، فهو قال نحن نسمع عنها حديث خرافة ولا تحدث، المعاجز أشياء لا تحدث أبداً، أين هى؟ الكل يقول لك حدثت في زمانٍ ماضٍ، لماذا لا تحدث الآن؟ وهذا كلام رينان Renan، يقول هيوم Hume هذه المعاجز أو الخوارق أنا أقبلها بشرط، ما هو هذا الشرط؟ قال بشرط أن يكون تكذيب الذين رووها ونقلوها أدخل في الإعجاز من إعجاز المُعجِزة ذاتها، وأنا أُريد أن أُسهِّل لكم وإن كان هذا ليس كلاماً صعباً بل هو كلام عادي وبسيط جداً، لكن باختصار لو أنك أردت أن تُغامِر أو تُراهِن أو تُقامِر قد تخسر في مرة اثنين ويُمكِن في مرة أن تخسر عشرة، فأنت تُفضِّل ماذا؟ أن تخسر الاثنين طبعاً، لا أن تخسر العشرة، وهذا منطق هيوم Hume، فهو يقول لك أيهما أصعب وأيهما أفدح وأيهما أدخل في الصعوبة أو في الاستحالة إن شئت: أن أُكذِّب جماعة رواة زعموا أن المسيح – مثلاً – أحيا الموتى أم أن أُصدِّق هذه المُعجِزة؟ هكذا يقول هيوم Hume فهذا ليس منطقي أنا، وأنا جئت هنا لكي ننقد هذا الكلام ونُقدِّم مُقارَبات أخرى، وعلى كل حال لأننا تعلَّمنا أن هناك مَن يترصَّد في الماء النظيف وليس في الماء العكر، فانتبهوا إلى أن الماء النظيف يُعكَّر ثم يقولون لكم انظروا ماذا يقول، هم يُلقون بالجيف – بجيفهم – في الماء النظيف جداً ويقولون انظروا إلى هذا، وهذا شيئ عجيب جداً، إِنَّا لِلّهِ ۩ والله المُستعان، فهكذا يجتزِأون ويقولون هو ضد المُعجِزة ويسخر من القرآن ويقول إحياء الموتى مسخرة، فكفانا الله شر الأغبياء والحمقى، هذا شيئ عجيب، والأمة في هذه اللحظة تحتاج إلى أكبر قدر من الذكاء واليقظة، لا من الكذب والغباء، فعلاً إِنَّا لِلّهِ ۩، وعلى كل حال يقول تكذيب جماعة من الرواة يزعمون أنهم رأوا المسيح يسوع يُحيي الموتى أسهل علىّ من تصديق هذه المُعجِزة، فتصديقها أصعب بكثير وأدخل في الاستحالة، واحتمال أن يكونوا كذبوا أسهل علىّ وأقل فداحة، ومن ثم لا نقبله، ولذلك يقول هيوم Hume أنا لا أقبل مُعجِزةً عن طريق الخبر الذي يُدعى فيه التواتر كما يُقال، علماً بأن التوصيف المنطقي للمعاجز من قبيل قضايا المُتواتِرات، وهكذا يُزعَم لها أنها مُتواتِرة، فمُعجِزات موسى متواتِرة ومُعجِزات المسيح مُتواتِرة وإلى آخره، والمُعجِزات حتى التي تُنسَب لرسول الله مُتواتِرة، فهى من قبيل المُتواتِرات كما يُقال في علم المنطق غير مُصطلَح الحديث أيضاً، وعلى كل حال يقول هيوم Hume – ديفيد هيوم David Hume – أنا مُستعِد وجاهز أن أقبل خبر هؤلاء ولكن بشرط واحد، أن يكونوا اتفقوا على هذا الخبر في زمانٍ ما وفي بُقعةٍ محصورة ما، لماذا؟ لأننا سنُحاكِمهم ونُقاضيهم إلى غيرهم، نقول والآخرون أين كانوا؟ لم يُشاهِد هذا إلا أنتم – الخمسة أو العشرة أو الخمسون – فقط؟ وألوف الناس أين كانوا؟ هم في نفس البقعة، أين المُؤرِّخون الذين عاشوا؟ وهذا مُهِم جداً، لأنني أتحدَّث عن تاريخ الآن، والتاريخ لابد أن يُدرَس بمنهجٍ مُعيَّن وإلا سنقبل كل ما هب ودب وكل ما يُقال أنه بإسم الرواية التاريخية منقول، فهذا شرط معقول جداً، له الحق أن يشترط هذا الرجل وهذا الرجل فيلسوف كبير ما قاله، وهذا كان أولاً.

قال ثانياً أن يكون هؤلاء الرواة من الزكانة والفطانة والذكاء والتعليم والثقافة بالمثابة التي تُعطيهم حصانة من وضمانة ضد أن يُخدَعوا ويُضحَك عليهم، لأنه كأينٍ من ساحر ومن مُخادِع ومن أفَّاك ادّعى أشياء بخفة اليد أو بما شابه وقدَّمها للناس على أنها خوارق ومعاجز وخُدِعَ بها الأغرار، فهؤلاء لابد أن يكونوا على درجة عالية جداً من الزكانة والفطانة لئلا يُخدَعوا، ومعنى الكلام لا أقبل بجماعة من الأغمار ومن طغام الناس لأنهم قد يكونوا أو بعضهم أو كلهم أُميين ولا علاقة لهم بالذكاء والعلم والكتابة أن ينقلوا لي شيئاً، فأنا لا أقبل بهذا، هل أنا أترك عقلي وفلسفتي لهؤلاء؟ مَن هم؟ هل أقبل بهذا لأجل أنهم – مثلاً – كانوا حواريين أو غير حواريين؟ هذا لا يعنيني.
هؤلاء الناس عندهم منطق صعب، منطق حدي كالسكين، ولذلك يقول هيوم Hume ثبت – أي في الدراسات الأنثروبولوجية والأناسية كما يُقال – أن الخوارق والمعاجز تشيع أكثر ما تشيع في الشعوب الهمجية والبدائية وبين غير المُتعلِّمين، وإذا تحدَّثنا عن الشيوع هذا صحيح، أما إذا تحدَّثنا عن الكيانية والوجود فهذا غير صحيح، فحتى في الأمم الأكثر حضارة الإيمان بالخوارق موجود، أليس كذلك؟ والإيمان حتى بالخُرافات موجود ولكنه ليس شائعاً جداً كما يشيع في الأمم البدائية والهمجية والغير مُتعلِّمة، وهذا صحيح فالحديث عن نسبة الشيوع والانتشار والذيوع، ثم قال أشترط أن يكون هؤلاء الرواة والنقلة من النزاهة والشرف الشخصي بحيث أن خسارتهم إذا ضُبِطوا مُتلبِّسين بالكذب ستكون أكبر بكثير مما لو حدث الشيئ الآخر، فسيخسرون كل شيئ لو ثبت أنهم كذبة، وأيضاً بحيث أنهم لا يخدعون أحداً ولا يكون لهم قصد أو مصلحة في خداع أحد من الناس، ثم قال وفي النهاية مُجمَل غير الشروط غير مُتوفِّر، هم يدّعون فيها التواتر وهذا كله غير مُتوفِّر فيها في نظري، ولذلك يقول ليت شعري، لماذا انفكت المُعجِزات عن الحصول والوقوع في زماننا هذا؟ نحن لا نرى أي مُعجِزات المُعجِزات الماضي غاص بها، أما في هذا الزمان والحاضر لا مُعجِزات، لماذا؟ قال ببساطة لأنها لم تقع يوماً، فهذا كذب وهذه عصور أسطورية وخُرافية، فضلاً طبعاً عن أن المُعجِزة – كما قلنا لكم – هى نوع من الاستثناء والخرق للقانون الطبيعي، فكيف نرد على هذا الكلام؟ كيف يُمكِن أن نُجيب؟ ونحن الآن دخلنا في سلسلة الإلحاد والرد على الملاحدة والكفر بالله وبالرسل وبالأنبياء، فكيف نرد على هؤلاء؟ يأتيك مُلحِد يُناقِشك لكنه لا يأتيك من الأساس في حين أنه لابد أن يترتَّب النقاش، ومع ذلك يقفز لك مائة خُطوة ويقول لك أنت مُؤمِن مُوحِّد وتُؤمِن بالمُعجِزات، بالله عليك تُؤمِن بالمُعجِزات؟ أنت خرافي وانتهى كل شيئ، فإذن أنا انتصرت كمُلحِد، وهذا غير صحيح، ليس هكذا تُورَد الإبل، وما هكذا يكون النقاش، لابد أن تكون الأمور مُرتَّبة،ولكن هنا نحن الآن – كما قلت لكم – نجتزيء بالقليل فلا بأس.

أولاً القوانين بشكل عام فيما يتعلَّق بموضوع المعاجز نوعان، عقلية وعلمية، أي عقلية وطبيعية كونية، والقوانين العقلية لا يُقبَل ولا يُمكِن أصلاً مُناقَضتها ومُعارَضتها فضلاً عن أن تُعلَّق أو تتوقَّف عن العمل، هذا مُستحيل مع القوانين العقلية، ومُعظم الفلاسفة العقليين عبر العصور يرون أن قوانين العقل فاعلة دون قيدٍ أو شرط، هى قوانين شاملة – أي كلية عامة – وقوانين دائمية، لا تتخلَّف ولا تُعلَّق، وهى مُطلَقة من كل قيد، بمعنى أن مبدأ الهوية يعمل في كل الظروف، فهذا الخاتم هو هذا الخاتم، يُمكِن أن تصنع مليون خاتم مثله في الظاهر تماماً لكن لا خاتم يُساوي هذا الخاتم، لا خاتم هو هذا الخاتم وإلا هذا الخاتم، فهذا مبدأ الهوية، ولذا يقولون الله – تبارك وتعالى – يُمكِن أن يصنع من هذا الشيئ مليون قطعة بحيث لا يستطيع أحد أن يُفرِّق قطعة عن قطعة ولكن كل قطعة هى هى، ليست هى الأخرى، فهذا مُستحيل لأن هذا مبدأ الهوية، وكذلك ألف هى ألف، فهذا مبدأ عقلي، ومن مبادئ العقلية أيضاً المُساويان لثالث مُتساويان، إذا ألف ساوت جيم وباء ساوت جيم فحتماً بقوانين العقل ألف تُساوي تُساوي باء، هذا أمر لازم هنا وفي الجنة وفي النار وفي الدنيا وفي الآخرة وفي كل مكان وعند الملائكة وعند الجن والأنس وعند الحور العين وكله، فالمُساويان لثالث مُتساويان، والجزء أصغر من كله، وهذا أمر لازم أيضاً، يُوجَد عندنا كل وأخذنا منه جزء فلازم يكون الجزء أصغر من كله، وكذلك الكل أكبر من جزئه، وهذا أمر لازم هنا وفي الجنة وفي النار وفي كل مكان وفي كل الظروف، فهذه المبادئ عقلية لا تتخلَّف، والمنطق الصوري – Formal Logic – على ماذا تأسَّس؟ على هذه المبادئ، الرياضيات – Mathematics – على ماذا هى مُؤسَّسة؟ على هذه المبادئ، ولذلك هى علم يقيني قطعي تحصيلي تكراري تحليلي، لا تركيبي ، والمنطق الصوري كذلك، فهذا هو إذن، وهذا ما يتعلَّق بالقوانين العقلية، والمُعجِزات لا تُخالِف أي قانون عقلي ونتحدَّى، ائتونا بمُعجِزة واحدة خالفت القوانين العقلية، هذا مُستحيل، فهذا لا يحصل ولم يحصل ولن يحدث، ولكن في القانون الطبيعي المُشكِلة، فكان يظن بعض الناس أشياء غير صحيحة في القانون الطبيعي، و ابن سيناء – مثلاً – له مُحاوَلات في هذا ويُمكِن أن يُفهَم من كلامه – هذه زبدة الكلام – أنه حاول أن يُثبِت ويُبرهِن في نهاية المطاف أن القوانين الطبيعية تتسم بالقطعية والضرورية، وهذا غير صحيح من أيام هيوم Hume بالذات – أكبر مُناقِد للمُعجِزات – وكانط Kant والفلسفة التجريبية عموماً والمنطق الوضعي، فالآن تقريباً من الصعب جداً إن لم يكن من المُستحيل أن تسأل أي فيلسوف علم وليس عالماً – العالم عالم فقط، فهو يعرف علوم ولكنه لا يعرف الفلسفة ولا يعرف كيف يُعيد قراءة علمه، لكن الفيلسوف يقوم به، وقد يكون عالماً وفيلسوفاً مثل بعض العلماء المُعاصِرين، فهو عالم وحامل نوبل Nobel في علمه وفيلسوف ويتحدَّث مثلاً في فلسفة علم الأحياء وفي فلسفة الفيزياء، فهو عالم كبير ويحمل نوبل Nobel ومن ثم أهلاً وسهلاً، لكن إذا كنت لا تستطيع سوف تنتهي، والفيلسوف يقوم بهذا الدور – عن هذا ويقول لك القوانين الطبيعية والكونية قطعية وضروية، هذا من المُستحيل تقريباً، بل هى ترجيحية وليست يقينية ولا تتصف بصفة الضرورة، وسأذكر لكم لماذا بتبسيط واضح بإذن الله تعالى، فالقوانين الطبيعية تأتي خلافاً للقوانين العقلية، والقوانين العقلية قوانين عقلية لأنها من صناعة العقل، فالعقل هو الذي صنعها ولم نر هذه القوانين في الخارج، مثل قانون الجاذبية وقانون الانجماد – التجمد – وقانون المحفوظية -محفوظية المادة ومحفوظية الطاقة ومحفوظية وما إلى ذلك – وغيرهم، فهذا موجود في العقل، ولذلك هى في نهاية المطاف هى قوانين اعتبارية مع هذه الفاعلية الخطيرة لها بخلاف القوانين الطبيعية، القوانين الطبيعية مأخوذة بالحس، وأنتم تعرفون العلم بمعنى Wissenschaft أو Science، وهذا العلم التجريبي له منهج مُعيَّن يقوم على أشياء مثل المُلاحَظة Observation، لابد أن أرى في الأول وأُلاحِظ، ثم يجتمع عندي عدد من المُلاحَظات فأُريد أن أُفسِّر الذي لاحظته، إذن أنا أُلاحِظ وبعد ذلك أُفسِّر، لكن كيف أفسِّر؟ لابد أن أطرح فرضية Hypothesis، ثم أرى هل سوف تنجح أم سوف تفشل، وإذا فشلت آتي بفرضية ثانية وإذا فشلت آتي بفرضية ثالثة وهكذا، ولدينا – مثال – الخفاش الآن، حين بدأ العلماء يدرسون كيف هذا الخفاش على ضعف بصره يطير في الليل ولا يصطدم بالحواجز ويصطاد وهو طائر في الهواء ومُحلِّق وبسرعة وكياسة ومرونة عجيبة جداً جداً افترضوا أشياء تتعلَّق بالبصر وكلها فشلت وهو دائماً ما يصيد، فغطَّوا عينيه ومع ذلك يصيد، فطمسوهما تماماً ومع ذلك يصيد، فانتقلوا إلى فرضية جديدة تتعلَّق بالسمع فنجحت الفرضية، أي أن القصة لها علاقة بالسمع، وهذه قصة طويلة وكُتِبَت كتباً عن هذا الموضوع، والتجارب الموجودة لطيفة جداً جداً جداً، فإذن هكذا نطرح فرضية إلى أن تنجح الفرضية في تفسير ما لاحظناه، والآن نُقدِّم الاستخلاص Conclusion، ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما يُعرَف بالمبدأ أو القانون، ويُمكِن بعد ذلك أن نبني نظرية تُفسِّر عالماً مُتسِقاً من الظواهر، وهذا هو المنهج العلمي وهذه هى الطريقة Method، فالمنهج العلمي الذي في النهاية ينتهي إلى قوننة أو صياغة قانون طبيعي كيف يعمل ومن أين يبتديء؟بالحس، فهذه هى القوانين الطبيعية، والحس – يحدث حين تلمس وحين تشم وحين ترى وحين تسمع – لا يتناول شيئاً ولا يقع على شيئ إسمه الضرورة والقطعية، هذا غير موجود، هذه المفاهيم عقلية، أي هذه المفاهيم في العقل، لكن الحس يرى هذا، فإذا رآه رأى الذي يتلوه، ولذلك في مرة ومرتين ومائة مرة وألف مرة، فيقول هذا سبب هذا، وهذا إسمه Cause and Effect، أي أثر ومُؤثِّر أو علة ومعلول أو سبب ومُسبَّب أو سبب وظاهرة، فهذا الحس الذي يراه، أما أن هذا السبب يُنتِج بالضرورة هذا المُسبَّب فكلمة بالضرورة غير موجودة في الخارج ولا يُمكِن أن تُبرهِنها، وهذا كلام مَن؟ هيوم Hume، وهو كلام صحيح، وكانط Kant أثبت هذا، والآن كل العلم الطبيعي يقول هذا، ولذلك إذا سألت أي عالم طبيعي يفهم علمه فهم فيلسوف وقلت له هل هذه المبادئ والقوانين والأشياء هى أشياء قطعية ضرورية؟ فإنه سوف يقول لك لا، هى ليست ضرورية وإنما ترجيحية، فلا ندري ولا نستطيع أن نقطع بأنها صحيحة، وهذا هو الصحيح، ولذلك مبدأ الهوية مبدأ عقلي، فهل له استثناءات؟ هذا مُستحيل، لا يُمكِن أن تُسجِّل له استثناءً واحداً أبداً، ولكن المبادئ الطبيعية يُمكِن أن تُخرَق باستثناءات، وهناك القانون في التجمد أو الانجماد، فهذا موجود، وفي قانون التجمد كل السوائل التي تتجمَّد ينقص حجمها وتزيد كثافتها، أليس كذلك؟ لكن يُوجَد استثناء عندنا وهو الماء – Wasser أو Water – طبعاً، وهو استثناء واضح جداً جداً جداً، وهو أشهر وأثمن هذه السوائل، وحاجتنا إليه أحق به وأمس، فإذا انجمد الماء أو تجمَّد يزداد حجمه وتقل كثافته، لكن لماذا هو كذلك؟ قال لك هو هكذا، الله خلق طبيعة هذا السائل بهذه الطريقة، فإذن هذا استثناء واضح جداً، وحالة الماء هذه خرق واضح لقانون التجمّد، وطبعاً هذا له حكمة سنذكرها – إن شاء الله – في وقته وليس في هذا الموضع، فهذا يحدث لحكمة معروفة جداً جداً جداً، ولولا هذا الاستثناء لانتهت الحياة في المُحيطات بالكامل والبحار بالكامل، فالحياة المائية كانت ستنتهي بالكامل لولا الحكمة الإلهية – لا إله إلا الله – وكانت ستتعذر أمور كثيرة، فإذن هذا هو القانون الطبيعي ويُمكِن أن تُوجَد له خروق، وقانون روبرت بويل Robert Boyle في الضغط وما إلى ذلك له استثناءات، فعند حد مُعيَّن هناك استثناءات، والقوانين الطبيعية تكثر أحياناً استثناءات بعضها، فهذه الأمور موجودة، لأنها ليست قوانين ضرورية وشاملة شمولاً مُطلَقاً أو كُلية، هى ليست كذلك، وهذا مُهِم جداً أن نعرفه، ولكن هذا الكلام لا يُفيد الآن، وهنا قد يقول أحدهم لي أنت تقدِّم وُتهوِّل بفلسفات ولكنك لم تُجِب لأننا نتحدَّث عن هذه المعاجز، فكيف هذا؟ المُعجِزة في نهاية المطاف خرق لقانون طبيعي، أنتم تُحدِّثوننا عن عيسى أتى من العذراء مريم، فكيف؟ هذا مُستحيل، لأن عيسى ذكر وهى اُنثى، وهى تحمل فقط نصف الحقيبة الوراثية، لا كامل الحقيبة الوراثية، أليس كذلك؟ يعني ليس عندها الكروموسوم Chromosome الذي يُسمى (Y) وإنما عندها الكروموسوم Chromosome الذي يُسمى X)) فقط، فهى ليس عندها الـ (Y) الخاص بالذكر، وعيسى لو أخذنا أي خلية بنائية – Somatic Cell – سوف نجد (X) و (Y)، فمن أين أتى الـ (Y)؟ أنتم تقولون هو من نسل داود، فأي نسل هذا؟ هل هذا من طريق الله؟ يُوجَد شيئ غير مفهوم ومرفوض، فهذه خرافة في المسيحية، ولذلك يردها فلاسفة التنوير، وهم فعلاً ردوا معاجز أخرى كثيرة لعيسى، مثل مُعجِزة التجسد – أن الله تجسَّد في إنسان فصار الإله إنساناً – وقالوا هذه خُرافة وقصة غير صحيح، وردوا مُعجِزة القيامة – أن عيسى بعدمت صُلِبَ على الصليب ووُضِعَ في قبره قام بعد بضعة أيام وليال – وقالوا هذه خُرافة وهذا أمر مُستحيل، وديفيد هيوم David Hume قال إذا أجمع مُؤرِّخوا إنجلترا على أن – مثلاً – إليزابيث Elizabeth ماتت شهراً – ظلت ميتة شهراً ثم بعد شهر قامت وعادت إلى عرشها وحكمت يُمكِن أن أقبل أنا عودتها، لماذا؟ لأنه ترتَّب على هذا أحداث تاريخية ووقائع كثيرة جداً جداً، فهى عادت وخاضت معارك وعملت مُعاهَدات، وهذا كله موجود وكل الدنيا تعرفه، ثم قال لكنني لا أقبل بل أُكذِّب في حادث أو زعم موتها، أي أنها لم تمت، فهذا الذي يُكذِّبه، الشيئ الآخر المُتعلِّق بأنها تحكم وما إلى ذلك معقول جداً، لكن أنها ماتت ثم عادت من الموت غير صحيح، فالعود من الموت كذب، هى لم تمت أصلاً، ربما أُغمى عليها أو ربما افتعلوا هذه الإشاعة أو الشائعة لغرضٍ ما، فعقلي يقول لي هذا كذب، وعلى كل حال هكذا يفترض هو بذكاء وهذا من حقه.
أنا الآن سأُجيب عن مسألة عيسى – مثلاً – ولا نستطيع أن نُجيب عن كل المُعجِزات، ولكن نُعطيكم فقط طريقة لكي تفهموا مُقارَبتنا لموضوع الإعجاز والمُعجِزات، فانتبهوا حتى لا تقولوا هذا باب من أبواب الإلحاد ونحن نُكذِّب الأديان، حاشا لله فانتبهوا:
أليس ثبت وتبرهَّن أن العلم البشري في حالة تكامل وترقٍ دائم؟ هذا ثابت طبعاً،فالحقيقة العلمية لا تتبرَّج وتتكشَّف مرة واحدة وبضربة واحدة، هذا مُستحيل وإنما يحدث عكس هذا، وأحياناً هذه الحقيقة تناسخ، فما يبرز لنا كحقيقة اليوم نُوقِن بعد قرنين وثلاثة أنه لم يكن حقيقة وأنه كان خطأً مُعيَّناً – خطأً في فهمنا وخطأً في تبريرنا وخطأ في تفسيرنا – ثم نبدأ نُفكِّر على نحوٍ آخر، وأحياناً يتغيَّر النموذج الإرشادي كاملاً للعلماء، ولدينا نظرية توماس كون Thomas Kuhn صاحب بنية الثورات العلمية وهى نظرية كبيرة وقصة طويلة عريضة، فبما أن العلم يتطوَّر ويترقَّى ما معنى تطوره وترقيه؟ ما لوزام وتوالي هذا التطور والترقي؟ من لوازمه أننا نُصبِح كعلماء وبالتبعة كعامة مُثقَّفين علمياً أكثر دقةً في تشخيص العلل والمعلولات، فما كنا نظنه علة نكتشف أنه ليس علة، ربما ظرف للعلة أو مُهيئ للعلة أو مُعِد للعلة أو مُقارِن للعلة أو جار للعلة لكنه ليس العلة الحقيقية، مَن الذي يُعطي هذا؟ العلم والتطور العلمي، وطبعاً هذا الكلام غير مفهوم إلا بالمثال، ومن ثم سأضرب مثالاً.

إلى وقتٍ قريب كان كل الأطباء وعلماء الأجنة يظنون بل يجزمون بأن وجود الذكر شرطٌ ووجود الأنثى شرطٌ وحصول التلاقي بينهما – أي التلاقي الجنسي – شرطٌ ضروري ووجود نُطفة للرجل صالحة شرط ووجود بوييضة للمرأة صالحة شرط، فهم عندهم Index للتخصيب – Fertilization – طبعاً، ولذلك أحياناً يتزوَّج رجل امرأة ولا تحبل فيُطلِّقها ويتزوَّج غيرها فيأتيه خلف وحين تتزوَّج غيره يأتيها خلف، وهذا الـ Index معروف لدى الأطباء، وعلى كل حال كانوا يقولون كل هذه شروط لازمة، لكن في ذاك القرن العشرين المُنصرِم ماذا حصل؟ اكتشف العلماء بفضل التطور العلمي وهو من فضل الله – لأن يُوجَد في الناس مَن يُعقِّدوننا ويقولون هذا عنده شرك لأنه يقول بفضل التطور العلمي، لكن يا أخي التطور العلمي من فضل الله – اختلف الأمر، وهناك معلومة لطيفة جداً جداً سأذكرها سريعاً خطرت لي اليوم، وهى أن العلم والمعرفة في المنظور القرآني قوة وقدرة، فقبل فرانسيس بيكون Francis Bacon الذي قال المعرفة قوة قال القرآن هذا، ولدينا نظرية مُتكامِلة وأجمل بكثير من المعرفة قوة لبيكون Bacon، لكن كيف؟ كيف قال القرآن هذا؟ قاله في سورة النمل حين أراد سليمان – عليه السلام – أن يستحضر عرش بلقيس، ماذا قال له العفريت الجني؟ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ ۩، وقيل : المقام هو مجلس الحكم أو الملك، يمتد أربع ساعات أو خمس ساعات من الضحو أو الضحوة إلى الظهر، فهذا يستغرق أربع أو خمس ساعات ومن ثم قال سأطير وما إلى ذلك لكي آتي به، تقول الآية الكريمة قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ – أي على هذا الأمر لأنني أستطيع آتي بالعرش – أَمِينٌ ۩، أي لن أذهب به ولن أغله ولن أسرقه، ولكن أنا قوي، فهو احتج بماذا وتوسَّل ماذا؟ القوة، فهذه هى القوة، لكن الرجل الآخر الصالح سواءٌ كان هو آصف أو سليمان نفسه على اختلاف المُفسِّرين ماذا قال واحتج بماذا وتوسَّل ماذا؟ العلم، تقول الآية الكريمة قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ ۩، إذن هنا القوة الهائلة الأقصوية للعلم، وهذا أمر عجيب، أرأيتم هذه اللفتة العجيبة جداً؟ لذلك القرآن العظيم يُوشِك أن يُعادِل بين العلم والقوة، وهذه ليست مُعادَلة حقيقية ولكنها شبه مُعادَلة بين العلم والقوة، فحين يُوجَد العلم تُوجَد القوة بإذن الله تعالى، وحين تُوجَد قوة تُستخَدم استخداماً مُرشَّداً فإنها تُنتِج العلم أيضاً، كيف؟ في سورة النجم قال عَلَّمَهُ شَدِيدُ ۩،أي كثير العلم، لكن يا أخي المُناسِب والمعقول أن تقول لي علَّمه العليم الحكيم أو علَّمه عظيم العلم أو أنه كثير العلم أو واسع العلم – وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا – أو علَّمه وسيع العلم، لكن الله قال عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ۩، فهل تساءلتم عن سر هذا الربط؟ ما معنى أن تقول لي علَّمه قويٌ؟ والله قشعَّر بدني وقف شعري، لا إله إلا الله، ما هذا الكتاب؟ أرأيتم؟ هذا كتاب عجيب، واليوم نحن في أمة أعجب، أمة تُقدِّس الجهل والانغلاق – والله العظيم – والبلاهة والحمق، هذا كتاب غريب جداً، ولذلك الله يقول مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ ۩،فالله يتحدَّث عن الرحمة، كل هذه الرحمات مثل التمكين في البر والبحر والجو وعلاج الأمراض وتكثير الخيرات ومُبارَكتها وأن يعيش حيٌ بقلب ميت أو بكبد ميت وما إلى ذلك من هذه الأشياء الغريبة وكل هذه الفتوح بسبب العلم، فكل فتوح الرحمة بسبب العلم، من أين؟ كلكم تعرفون وكلكن أن من أسماء الله الفتَّاح العليم، وهما إسمان مُتلازِمان، الله أكبر، فلا فتوح إلا بعلم، إذا وُجِدَ العلم وُجِدَت الفتوح وإذا لم يُوجَد العلم لن تُوجَد الفتوح، قال الله اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۩، حين تقرأ أكثر يكون الكرم أكثر وتتمكَّن في الكون أكثر، وحين تتعلَّم أكثر تُكرَم أكثر وتقوى أكثر، قال الله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩،وهذه نظرية عجيبة، لذلك لا عجب ولا نُكر أن يكون في أول سورة البقرة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ ۩، فعلى ماذا يُعوِّلون؟ على التأله فهم يتحدَّثون عن التسبيح والتقديس، لكن الله قال لا، التسبيح والتقديس شيئان شريفان جداً جداً لكن يُوجَد شيئ آخر به يكون التبرير الأول للاستحقاق الخلافي أو الاستخلافي، ما هو؟ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ۩، أي التعليم، فالله قال لهم القضية الآن ليست تتعلَّق بالتقديس، ولذلك أرجو من إخواني الدعاة والمشائخ والوعَّاظ والكتَّاب أن يتلفتوا كثيراً و ألا يُبالِغوا في مقولة أو مانشيت حين نعود إلى الإسلام ونُحسِن الصلاة والزكاة الله سوف يتولَّى كل شيئ، فانتبهوا لأن هذا غير صحيح والله لا يقول هذا بل أنتم مَن تقولون هذا، وبعد ذلك هذا لا يشتغل، فهذه النظرية البسيطة جداً الساذجة نعمل بها ولا تشتغل، نكون من أحسن الناس ونكون من أجهل الناس، نكون من أحسن الناس عبادة وأكثر الناس تسنناً ونكون من اكثر الناس فقراً ونُستعمَر ونُدحَض ونُبهدَل ونُهان، فما هذا يا أخي؟ من أين أتيتم بهذه النظريات البسيطة جداً جداً؟ جزء الحق لا يُساوي الحق لكن أحياناً جزء الحق يُساوي الباطل فانتبه، إن لم تفهم النظرية أو إن لم تصغ نظرية مُتكامِلة وصوغت نظرية كبيرة بالزعم ولكن من هُتامة واحدة فهذه تُساوي الباطل وتُنتِج باطلاً.

نعود إلى موضوعنا وهو موضوع لطيف جداً، وإن شاء الله يشوق لكم ويلذ بإذن الله،ماذا اكتشف العلماء في النصف الثاني من القرن العشرين؟ اكتشفوا أن اللقاء المُباشِر بين الجنسين ليس ضرورياً، وهذا تطور علمي، فليس شرطاً أن يكون هذا اللقاء، لكن كيف ليس شرطاً يا أخي؟ قالوا هذا أمر عادي، سوف نأخذ النطفة ثم نُخصِّب بها البوييضة، والرجل ليس له علاقة بهذا بل قد يكون الرجل مات في هذه اللحظة أو قد يكون دخل في غيبوبة – في كومة Coma – حين أخذنا نطفته أو سافر، فقد يكون سافر إلى قارة أخرى، لكن نطافه عندنا ومن ثم سوف نأخذها ونُلقِّح بها، إذن سقط أول شرط، وهو اللقاء المُباشِر، وكان يُظَن هذا إلى الأمس أنه شرطٌ شرطٌ شرط، فلا حمل ولا إنتاج ولا تكاثر جنسي إلا باللقاء، لكن هذا الشرط الآن، وهذا كان أولاً.

ثانياً كان يُظَن وجود الرحم الأُنثوي في البداية والتوسط وإلى النهاية شرطٌ شرطٌ شرط ، لكنهم استعاضوا عنه برحم صناعي، فسقط هذا الشرط، وصرنا مُمكِن نستنبت في البداية وبعد ذلك نُكِمل في رحم الأم، والآن في التشيك – تحديداً في برنو – في ألفين وتسعة صنعوا رحماً أقرب ما يكون إلى الرحم الطبيعي لأنه يتوفَّر تقريباً على مُعظم الشروط، وهذا شيئ مُذهِل، فالتشيك فعلت هذا بسبب العلم، تقول الآية الكريمة اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۩، وهم قرأوا وتعلَّموا وأكرمهم الله – تبارك وتعالى – فسقط هذا الشرط، وأنا أقول لكم كلما تقدَّم العلم يزداد تساقط الشروط، والسؤال الآن هل هناك مانع على مُستوى التفكير والافتراض أن تظل تتساقط هذه الشروط حتى يأتي بعد ذلك جوهر العملية الذي لا نظنه الآن شرطاً ولا خاطر على بالنا وهو الجوهر الحقيقي للتخصيب والإنتاج – إنتاج الأولاد – دون أن ندري؟ سأكون صريحاً معكم، الاستنساخ – Cloning – ماذا أفهمنا؟ أفهمنا أن من المُمكِن أن نستعيض عن أحد الجنسين بالكامل في البداية، فنأخذ خلية من الرجل وبعد ذلك نستنسل منها خلية رجل آخر هو صورة مُطابِقة في المُستوى البيولوجي طبعاً وليس في مُستوى الخبرة والشعور والتجربة الحياتية والزمانية، فهذه الأشياء خصائص مُتميِّزة تماماً لكل إنسان، لكن على مُستوى التركيب الوراثي والبنية الحيوية، فنأتي بنُسخة تماماً من أصله أو من أصلها، وهذا أمر عجيب، لكن هذا صح وثبت وجُرِّبَ وتبرهَّن، وهذا يُقرِّب لنا مسألة عيسى، قبل أكثر من سنة بقليل من الآن حدث حدث مُدوي جداً في عالم العلم في الدراسات البيولوجية الحيوية وعلم الوراثة – هذا شيئ عجيب – للعالم الأمريكي الذي أخذ جيناً Gene ودرس تركيبه الكيمياوي ثم خلَّقه كيميائياً وأعاد هذا الجين Gene المُخلَّق إلى الخلية فاشتغل وأنتج بروتينات Proteins، وهذه كانت صاعقة، وهذا تحدٍ جديد الآن للموقف العقدي الثيولوجي وموقف الأديان فانتبهوا، على رجال الدين أن يكونوا مُستعدين جداً جداً جداً لمثل هذه الصواعق ومثل هذه المُفاجآت التي ستُغيِّر كثيراً من أفكارنا وربما من أُطر تفكيرنا، ولي مقولة قلتها قبل سنين وهى أن الشخص الجامد أو المُفكِّر الجامد أو العالم الجامد كلما زاد جموده ساءت حالته، وطبعاً في نهاية المطاف لابد أن يُفكِّر ضمن إطار، فتغير الإطار يُساوي تماماً تغير دماغه وعقله كله، بخلاف الشخص المرن الذي يستبقي دائماً طائفة من الأفكار والخيالات والافتراضات ويُعيد موضعتها ضمن نموذج آخر، ومن ثم يبقى حياً مُتصِلاً ولا يُعدَم، لكن ذاك يُعدَم لأن العقلية أُعدِمَت، ولذا نحن نسمع كلمة مُتخلِّف وكلمة رجعي ونُكرِّرها كثيراً لكن هل نعرف معناها البسيط جداً والواضح جداً؟ معنى مُتخلِّف أنه يعيش في القرن الحادي والعشرين ولكن بأفكار ونظريات من ثلاثمائة سنة وربما ألف سنة أكل الدهر عليها وشرب، ما عاد أحد عاقل أو يُتابِع العلم والتطور يقول بها بعد أن ثبت فشلها، لكن هذا المسكين لا يدري أنها فاشلة، ولذا يُسمونه بالشخص المُتخلِّف، فنقول له أين تعيش أنت؟ أنت مُتأخِّر جداً، نحن هنا لكن أنت في القرن التاسع عشر يا حبيبي ومن ثم أنت رجعي، فهذا كله انتهى، وهذا لا يعني أن كل فكرة قديمة باطلة، ولكن يُوجَد عدد من الأفكار القديمة التي أُبطِلَت وانتهت، ألا تعلم أنت؟ لا يعلم لأنه رجعي مُتخلِّف، يعيش في القرن الحادي والعشرين بجثمانه وبإسمه، لكنه يعيش بعقله وخياله وافتراضاته وأطره في القرن الثامن عشر، وهذا معنى التخلف، فالقضايا حساسة جداً، فموضوع تخليق جينات Genes معملياً ثم تشتغل وتنجح يُعَد شيئاً خطيراً جداً وتحدياً مُخيفاً، لماذا؟ بحسب نظريتي أو مُقارَبتي في تساقط الشروط أو ما يُظَن شروطاً من المُمكِن أن يأتينا يوم قريب يُصنِّعون فيه لك جينات Genes كاملة، فهم كانوا يظنون الجينوم Genome الإنساني فيه مائة ألف، لكنهم قالوا الآن ثبت وجود أقل من أربعين ألفاً، زُهاء أربعةٍ وثلاثين ألف جين Gene فقط، وهذه ليست عملية لا نهائية، فمن المُمكِن أن يُصنِّعوا الأربعة وثلاثين ألف جين Gene – الله أعلم هذا بعد مائة سنة أو بعد ألف سنة أو غير هذا – ويختاروهم كما يُريدون ويضعومه في الخلية وتشتغل، وتُنتِج إنساناً قدَّروه هم، قال الله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ۩، ولذا من الآن أقول على المُفسِّر المسلم وعلى اللاهوتي وعالم العقيدة المسلم أن يتصدَّى للجواب والتكيف مع هكذا حقيقة أو مع هكذا فرضية على الأقل، فانتبه ولا تقل لي هذا مُستحيل ولن يحصل وقال الله كذا وكذا، انتبه حتى لا تحمل الناس على الكفر وتكذيب القرآن، تفتَّح وكُن مرناً وغيِّر من طريقة التفكير وطريقة التعاطي والتأويل، فهذه القضايا حساسة جداً!
إذن ثبت لكم أنه كلما تقدَّم العلم يحصل تدقيقٌ وتشذيبٌ وتهذيب في تشخيص العلل والمعاليل أو العلل والمعلولات، فما كان يُظَن علةً أصبح غير علة، وما كان يُظَن شرطاً صار غير غير شرطٍ، وهذا مُهِم جداً، لذلك سأُنهي الفصل الأول من هذه الخُطبة بالاستخلاص – هذا هو استخلاصي – الآتي:
المُعجِزة في فهمنا ليست خرقاً لقانون طبيعي وليست تعليقاً لقانون طبيعي، المُعجِزة في الأرجح – لأن هذا اجتهاد والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – هى نتاج فاعلية أو فعل قانون طبيعي كوني لم نكتشفه بعد، فهو موجود لكننا لم نكتشفه، ويوم نكتشفه ستغدو المُعجِزة شيئاً غير مُعجِز وشيئاً مفهوماً، لأن العلم في تقدّم مُستمِر، فسليمان من معاجزه أنه سُخِرَّت له الريح ومن ثم كانت تنقله، ففي ذهابها تنقله إلى مكان لا يُمكِن للدواب العادية في عصره أن تذهب إليه أو تبلغه إلا في شهر وكذلك رواحها في شهر، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وهذا اليوم شيئ عادي جداً جداً جداً، بل أن الكونكورد Concord تنقلنا في غدوة أبعد بكثير من سرعة الريح، أليس كذلك؟ فهذا أصبح شيئاً عادياً، ولكن ما معنى أن سليمان يُؤتى هذه المُعجزة؟ ما معنى أن يُنقَل له عرش بلقيس؟ هذا الموضوع مُهِم جداً، إذن المُعجِزة ليست خرقاً وليست تعليقاً لعمل القانون الطبيعي وإنما هى فقط عملٌ لقانون لم نصل إليه أو تعارض ظاهري بين فئتين من القوانين، وهذا يعرفه الأطباء وعلماء النفس الذين يتعاطون مع الأمراض المعروفة السيكوسوماتية والأمراض النفسجسمية، أي الأمراض التي تكون جسمية ولكن أسبابها وبواعثها الحقيقية نفسية، فالطبيب العادي الذي لم يدرس هذا الاتجاه يُنكِر ويتعجَّب ويقول لماذا؟ كيف؟ هذا أمر غير معقول، وهو لا يفهم لماذا يحدث هذا، لكن لو أنه فهم أن البنية الإنسانية والكيان الإنساني ليست تتسلَّط عليه فقط القوانين الطبية التي درسها بل يخضع أيضاً لقوانين نفسية لم يدرسها فجمع الجناحين ودرس هذا إلى هذا وضم هذا إلى هذا سوف يبدأ يفهم أن القوانين النفسية أيضاً لها آثار ومفاعيل وتُؤثِّر على البنية الجسدية، لكن من حيث هى تصمت أو تفشل التفسيرات الطبية العادية التقليدية، فهذا عمل لنوعين من القوانين أو لفئتين من القوانين فلا تقل لي مُعجِزة، وهذا هو نفس الشيئ، فلماذا لا تكون المُعجِزة الإلهية على هذا النحو؟ أي لماذا لا تكون عمل لقوانين أخرى لم تظهر لنا بعدُ ولم نفهمها ولم نُدقِّق فيها إلى الآن وسيأتي يومها؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه!

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الجزء الآخر الذي أرجو أن أُحوصِله وأن أُكثِّفه وأُركِّزه في جُمل سريعات – بإذن الله – مُتواليات من هذه الخُطبة هو هل استخدم القرآن لتوصيف هذه الظاهرة الخوارقية أو الخارقية مُصطلَح أو لفظة مُعجِزة ومعاجز أو مُعجِزات؟ كلا، وللأسف الشديد آثر العقل الكلامي العقدي الإسلامي أن يستخدِم مُعجِزة، وقد أخطأ في هذا وضيَّع علينا كثيراً من بركات وأثمار الاستخدام القرآني الرباني، فالقرآن لم يُسمها مُعجِزة، ولست الآن بصدد أن أُعيد تعريف علماء الكلام المشهور جداً والمحفوظ لدى طلاب العلم – حتى الصغار – للمُعجِزة، فمعروف ما هى المُعجِزة، مع العلم بأن بتطبيق هذا التعريف على أكثر ما قيل أنه مُعجِز أو مُعجِزات لا ينطبق أبداً، كثير من الآيات التي يُقال عنها معاجز النبي لم يقع بها تحدٍ، النبي لم يفعلها تحدياً أو استجابة لتحدٍ منهم أبداً، هذه أمور لها علاقة بالبركة والكرامة له ولأصحابه وما إلى ذلك وليس فيها أي تحدٍ، فإذن هذه ليست مُعجِزات وتُسمّى مُعجِزات ومن ثم الأمر مُختَل، لكن على كل حال نعود ونقول ماذا سماها القرآن الكريم؟ سماها الآيات، فالمُعجِزة إسمها آية والمعاجز إسمها آيات، والقرآن طافح بهذا، فكلما قرأتم في كتاب الله – وهذا في مواضع كثيرةٍ – آيةً يحكي فيها الله طلب الكفار أو اقتراح الكفار على رسول الله أن يأتي بآية أو بآيات اقطعوا بأن المطلوب هنا قطعاً والمُقترَح مُعجِزة بمعنى ما نفهم، فالآية المطلوبة هنا ليست آية شرعية، وإلا هل هم يُريدون قرآناً؟ هم لا يُريدون قرآناً بدليل أنهم ردوه، وإنما يُريدون آيات كونية إعجازية خوارقية، وهذا واضح في آيات كثيرة، فإذن هذه هى الآيات، قال الله وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ ۩، وقال الله أيضاً وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا – هل هذه آية قرآنية؟ هذه ليست آية قرآنية وإنما خوارقية – فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۩، فضلاً عن أنه قال في يونس إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ – كل آية كونية إعاجزية خوارقية – حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ۩، والآيات كثيرة جداً، قال الله وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ۩، أي الآيات الكونية، وقال أيضاً مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ۩، والأرجح أن المُراد هنا الآية الكونية وليست الآية الشرعية فانتبهوا، وهذا عمل لنا خربطة كبيرة في موضوع الناسخ والمنسوخ، لكن هذه آية كونية والسياق يقول هذا فاقرأوا السياق، السياق يحكي هذا بشكل واضح وفصيح وبيِّن، والله – تعالى – أعلم، لا نُريد أن لا نُطوِّل لضيق الوقت وهذا معروف على كل حال، في القرآن هناك آيات كونية بمعنى المعاجز وآيات شرعية تُتلى، قال الله يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ ۩، وقال أيضاً الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ۩، هذه الآيات التي تُتلى وتُرتَّل آيات شرعية، وهناك آيات بمعنى ثالث أيضاً قريب من المعاجز، فما هى؟ الآيات الكونية التي ليست بخوارقية، مثل خِلقة الكون والشمس والقمر والنجوم والكواكب والمطر والنبات والرياح، فكل هذه آيات، وكل ما في الكون آيات، والله يُسمي هذه الأشياء آيات، وهذا أمر عجيب جداً، إذن نحن لدينا نظرية مُتكامِلة في كتاب الله.
لماذا يُسمّي الله – تبارك وتعالى – مظاهر الوجود آيات ثم يروح يُسمّي ما نعرفه أو ما عرَّفناه بالمُعجِزات والخوارق النبوية على أنه أيضاً آيات؟ هل التفتم إلى العلة؟ السبيل واحد، كلها تحكي قوانين طبيعية وكونية، منها ما ظهر لنا ومنها ما لم يظهر لتأّلّفنا وتأنّسنا ولأننا أصلاً لم نُفكِّر فيه كثيراً ورآيناه شيئاً عادياً، فإذا نزل الماء – مثلاً – وامتصته الأرض نراه شيئاً عادياً وهو غير عادي بالمرة واسألوا العلماء، ليس عادياً بالمرة أن يحدث هذا، فكيف تمتصه وكيف تخزنه وكيف وكيف، هذا غير عادي بالمرة، ثم أن إذا كان هذا الأمر في النبات فإن النبات بيمتص الماء، وغير عادي أنه يمتص الماء، وإلا كيف يمتص الماء؟ هل هو عنده طرمبة وما إلى ذلك؟ هل عنده Pumper؟ كيف يصعد الماء إلى فوق؟ من المفروض أن الماء ينزل من فوق إلى تحت، لكن الماء يصعد من تحت إلى فوق، فكيف؟ اسألوا علماء النبات، لكن الناس تراه أمراً عادياً، نحن نمشي على رجلين ونراه أمراً عادياً لكنه غير عادي، ليس عادياً بالمرة إنك ترى وتسمع وتتكلم.
بنفيلد Penfield أخذ جائزة نوبل Nobel في علم الدماغ والأعصاب وهو الحُجة رقم واحد في هذا الباب قال في النهاية لو سألتموني كيف نرى؟ لقلت لا أعرف كيف نرى، واسألوا الدكتور تمّام الذي يجلس الآن في المسجد عن هذا، العالم يصف لك أشياء معروفة في كتب الطب ولكن في نهاية المطاف هل تفهم أو تستطيع أن تُفهمني كيف هذا الصندوق – Box – المُغلَق وكيف هذه المادة الهُلامية السحلبية المُظلِمة ظلاماً شديداً ترى الألوان؟ كيف ترى الأحمر والأخضر والأبيض والمُلتمِع والمُعتِم؟ كيف يتفسَّر هذا؟ بنفيلد Penfield قال لا يُوجَد عندي تفسير ولا أفهم هذا ولست قادراً على فهمه، لذلك قال الله فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۩ قال الله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ۩، فإذن هذا مجعول، وهذه كلها آيات، ولذلك في الفهم السُني عند أهل السُنة وخاصة الطائفة الأشعرية – كالمالكية والشافعية والأحناف أيضاً مثلهم – يرون المُعجِزات من قبيل الظواهر الكونية العادية، وهذا ذكاء شديد عند الأشاعرة، فهم قالوا هذا كله مثل بعضه، ألا ترى أن هذا الكون كله مُعجِز؟ كله مُعجِز، لكن ما معنى مُعجِز؟ أولاً مُعجِز لك أحياناً أن تفهمه، أي أنك لا تقدر على فهمه، ثانياً مُعجِز لك حين تفهمه وتُفسِّره وترى فيه دقة وتصميم عجيب جداً، ثالثاً – انتبهوا إلى الشيئ الثالث وهو الأهم – مُعجِز لك حين تفهمه أنك فهمته، أي لماذا هو قابل للفهم؟ لماذا أنا مُؤهَّل لأن أفهمه؟ من الصعب أن تفهم، لذا ألبرت أينشتاين Albert Einstein – أنتم تعرفون أينشتاين Einstein صاحب النظرية والعامة والخاصة – ماذا قال؟ قال إن أكثر الأشياء في الوجود غير قابلة للفهم – Incomprehensible – هو أن هذا الوجود قابل للفهم Comprehensible، الله أكبر على الذكاء، الله أكبر على العباقرة، وقاتل الله الأغبياء، هذا هو الذكاء، أرأيتم ماذا قال ألبرت أينشتاين Albert Einstein؟ قال إن أكثر الأشياء في الوجود غير قابلة للفهم -Incomprehensible – هو أن هذا الوجود قابل للفهم Comprehensible، الله أكبر، وهذه تحتاج إلى شرح في خُطبة بحيالها، وهذا ما فهمه السادة الأشاعرة ونحن منهم ولنا الشرف، أي نحن الشافعية والماكية والحنفية وما إلى ذلك، لكن هناك مَن يقول البدعة الأشعرية، لكن هذا شرف لنا، هؤلاء هم أهل السُنة والجماعة فانتبهوا، المالكية والشوافع والأحناف الأغلبية، أما الحنابلة فهم خمسة في المائة، لكي تُوضَع الأمور في نصابها ولا يُضحَك على الناس ولا يُكذَب على الناس، وعلى كل حال السادة الأشاعرة رأوا أن كل ما في الوجود هو مُعجِز وآية، والقرآن يقول هذا، القرآن يقول هذه آيات، قال الله إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ۩، فهل تُريدون الآيات؟ هذه كلها آيات، قال الله في سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩، فالله هنا ذكر صنوفاً من الظواهر البيئية والجوية أو الكونية ثم قال لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩، أي أن هذه آيات، قال الله وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۩، فهم ليس عندهم ذهن أينشتاين Einstein وليس عندهم ذهن شاتوبريان Chateaubriand – الأديب الفرنسي الشهير في عهد نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte – أيضاً، لكن ماذا قال شاتوبريان Chateaubriand؟ شاتوبريان Chateaubriand قال إن ما يُعَد في نظر الناس مُعجِزاً ليس مُعجِزاً بقدرٍ أكثر إعجازاً مما لا يُعَد كذلك، الله أكبر، أي أنه قال كل شيئ مُعجِز، فهل أنت ترى أن ميلاد عيسى من أمه ومن غير أب مُعجِزة؟
قبل يومين كنت أتكلَّم مع رجل كبير فاضل وأُباحثه، والرجل في هذا العصر يظن فعلاً أن الشمس أو الأرض محمولة على أشياء، مثل أنها محمولة على ماء وما إلى ذلك، وهذا التفكير يُعَد قاصراً، قلو سألته والماء محمول على ماذا؟ سوف يقول على ضفدعة، ولو سألته والضفدعة محمولة على ماذا؟ سوف يقول لك على كذا، وهكذا إلى أن تصل إلى آخر شيئ، فآخر شيئ في النهاية محمولة على ماذا؟ لكن العامي يقف عند هذا ويكون مُقتنعاً بأن هذه الأرض الكبيرة العجيبة محمولة على ماء، لكننا قلنا لهذا الشخص هى ليست محمولة لا على ماء ولا على ما يحزنون، هى محمولة بقدرة الله وبقوانين يُسمونها قوانين الجاذبية الأرضية ونحن لا نراها، ولكن هى هكذا، فقال هذا أمر عجيب، وقلنا له هى تلف حول نفسها وحول الشمس، ومثلها الشمس ومثلها المجرة التي فيها أربعمائة ألف مليون نجم، أي مجرتنا التي تُعرَف بـThe Milky Way Galaxy و Die Milchstraße Galaxie، وحين قلت له فيها أربعمائة ألف مليون نجم كاد الرجل يُجَن، ثم قلت له وهذه المجرة يُوجَد منها حوالي ثلاثمائة ألف مليون مجرة، وكل هذا إسمه الكون ومحمول بقدرة الله، قال الله لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۩، فصدقت يا شاتوبريان Chateaubriand حين قلت إن ما يُعَد مُعجِزاً ليس مُعجِزاً بالقدر الذي يكون به أكثر إعجازاً مما لا يُعَد كذلك، فهو قال كل شيئ مُعجِز، والأشاعرة قالوا كل شيئ مُعجِز.
انظروا الآن إلى العظمة القرآنية وانتبهوا، رسالة الله الباري تبارك وتعالى – والله أعلم والله عنده العلم والحكم، فهذا فهمي البسيط القاصر – حين سمّى ما نُسميه الخوارق بالآيات ثم ذهب – عز وجل – ونعت الظواهر الكونية بالآيات هى رسالة مُزدوَجة ولها هدفان وقصدان وغاياتان – والله أعلم – فيما ظهر لي، القصد الأول أن يلفتنا إلى أن الحاكم في المرتين هو شيئٌ واحد، فالقوانين الكونية تفعل هنا وتفعل هنا، وبعضها معروف لكم وأكثرها مجهول ولذا العلم يُحاوِل أن يُنقِّب عنها، القصد الثاني أن المُعجِزة أو الخارقة – حسبما فهمناها نحن وكل اللاهوت السماوي الوحياني عند اليهود والنصارى – وظيفتها الإخضاع والتسليم وليس الإقناع العقلي، فأنت تُسلِّم بسببها، حين يقول أحدهم أنا نبي كيف نعرف أنه نبي؟ قال – مثلاً – أنا سوف أُحيي هذا الميت، لكن هل تُوجَد علاقة علّية واضحة بين ميت يحيا وبين أنه نبي؟ علماً بأن هذا الموضوع ناقش فيه هيوم Hume كلاماً طويلاً، وعلى كل حال لابد أن تكون هناك علاقة ما بلا شك، لكن رسالة المُعجِزة الإخضاع، فأنت تخضع وينتهي الأمر، لماذا؟ لعدم السنخية بينها وبين أفعالنا، فلا يُمكِن لأي أحد منا أن يُحيي ميتاً، لأن هذا ليس من أفعال البشر، فإحياء البشر ليس من أفعالنا ولا في حيز مقدوراتنا، ولذا حين يأتيني بشر ويُحيي لي بشراً ميتاً أعرف أن هذا من فعل رب البشر لا إله إلا هو، لعدم وجود سنخية، ولكن حين يأتيني شاعر كبير ويُؤلِّف لي ديواناً وبعد ذلك يأتي شاعر آخر يُؤلِّف ديواناً لكنه أقل منه وبعد ذلك يأتي ثالث ورابع وألف وهكذا فإنني سوف أقول هذا الشاعر هو أعظم شعراء عصره، لكن هل هذا مُعجِز؟ هذا غير مُعجِز، هلتعرفون لماذا؟ لوجود سنخية هنا، فهذا شعر وهذا شعر وهذا شعر وهكذا، والعرب بذكائهم يوم عرفوا أن آية رسول الله – أي مُعجِزة رسول الله بتعريفنا – ليست إحياء الموتى وليست إبراء الأكمه والأبرص وليست فلق البحر الأحمر وإنما القرآن – قال لهم أنا آيتي القرآن – بحثوا ودرسوا ونقَّبوا ونقَّروا وفتَّشوا وأعادوا ثم قالوا هذا ليس نثراً وليس شعراً وليس سحراً، فما هذا الكلام؟ هذا ليس من جنس كلامنا، وكل أصناف الكلام الخاصة بنا لا يندرج هذا الكتاب أو هذا الكلام العجيب تحت واحدٍ منها أو تحت أيٍ منها، فإذن فقدنا السنخية من جهة، وبالتالي الخلاف ليس بالدرجة وإنما يُشبِه أن يكون أيضاً بالنوع، لكن المسألة غامضة قليلاً.
إذا كانت رسالة المُعجِزة أن تخضع وأن تستسلم، فرسالة الآية ما هى؟ أجيبوني، رسالتها أن تُفكِّر وأن تتدبَّر، والقرآن سماها آية فلا تقل هذه مُعجِزة تُعجِزك، هذا غير صحيح، هذه آية كما قال الله، فكيف أتفاعل مع الآية؟ ردة الفعل – Reaction – ينبغي أن تكون التفكّر والتدبّر والتفهم، فتقول سيأتيني يوم أفك مغالق هذه الآية بفهم القانون الطبيعي الكامن خلفها، وبهذا الفهم تزداد مُسخرية الطبيعة لي وسأنجح في تسخير الطبيعة مزيد تسخير، وآتي إلى علم تطبيقي وأُطبِّق وأركب البحر والجو وما إلى ذلك، وقد صنعنا الطائرات وسفن الفضاء وإلى آخره بفهم الآية، وهذه هى العظمة القرآنية، فالله سمّاها آية، ولذلك قال إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ۩، فهو قال أن هذه ليست هى وظيفة الآيات عنده، الآيات ليست وظيفتها أن تُخضِع الأعناق، لكن هذه وظيفة المُعجِزات، فالله يقول لا مُعجِزة في الدين، أي أن الله قال ليس عندي مُعجِزات وإنما عندي آيات، وهذا أمر عجيب يا رب العالمين، فماذا تُريد أن تقول؟ يُريد أن يقول لنا فكِّروا طويلاً في كل الآيات التي أبرزتها على أيدي أنبيائي، هى تخضع لقوانين لو فهمتموها سوف تتمكنون يوماً من اصطناع أمثالها، وهذا شيئ عجيب وقفزة علمية غريبة.
الرجل الصالح أتى بعرش بلقيس في لحظة، واليوم – كما شرحت لكم في دروس التفسير قبل عامين – أحدث أبحاث وأعظم وعود الفيزياء المُعاصِرة الآن عن النقل الآني Teleportation، فهم يشتغلون على هذا ليل نهار، والعملية مُهِمة جداً جداً جداً، وهذا ليس نقل الطاقة وإنما نقل المادة كأن ينقلك أنت أو ينقل هذا الكرسي أو ينقل أي شيئ آنياً، فيفنى هنا ويتولَّد في مكان آخر، وهذا شيئ غريب، تقول الآية قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۩، فإذن هل الفيزياء تبحث في هذا الموضوع؟ نعم تبحث وبجد، وينفقون المليارات على هذه المباحث، والقرآن ذكرها على أنها آية من الآيات، ونحن عندنا نقول مُعجِزة، ففكِّروا فيها إذن، الفيزيائيون فكَّروا وبذلوا جهوداً كبيرة، والدكتور زبير معنا الآن ويعلم هذا، وهناك مبدأ التعالق – Entanglement – وهو مبدأ مُعقَّد في الفيزياء، فهم يشتغلون على هذا وسوف ينجحون، علماً بأنهم نجحوا نجاحاً نسبياً في فيينا هنا، فأكبر نجاح كان هنا في فيينا حيث نجح أستاذ نمساوي في موضوع النقل الآني – Teleportation – نجاحاً بسيطاً، والحبل على الجرَّار كما يُقال والمشوار مُتواصِل.
إذن هذا بعض سر أن القرآن سمّى ما نُسمّيه معاجز بالآيات، فلم يشأ أن يُسمّيها خوارق أو معاجز، وهذا يُريحنا طبعاً، لأن هل الله يُحدِث المعاجز لمَن عاشها أم لمَن سمع بها؟ أصالةً لمَن عاشها بصراحة، وفي الحقيقة الله – عز وجل – كان يبعث الأنبياء وكان يبعث كل نبي إلى قومه خاصة وليس للعالمين، فبعث موسى – مثلاً – وأجرى على يديه بضع آيات عجيبات – تسع آيات بصائر – ونحن نعرف منها اليد البيضاء والعصا وانفلاق البحر، قال الله وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۩، فهذه بصائر للناس، ونحن في الحقيقة لم نر هذه الأشياء، وحين بُعِثَ عيسى قال قوم عيسى ما علاقتنا بموسى؟ نحن لم نعش في عصره ولم نُشاهِد هذه الآيات فائتنا أنت بآية، وأتى هو بآيات، لكن حين بُعِثَ محمد اختلف الوضع، فالآيات هى لمَن يلمسها ولمَن يعيشها ولمَن يراها، هذه آيات له ومن ثم قد يقتنع أو يجحد ويُكابِر ككثير من الناس، فكثير من الناس جحدوا بالآيات والعياذ بالله، لكن حين بُعثَ محمد بُعِثَ لمَن؟ هل بُعِثَ للعرب؟ بُعِثَ للعالمين فانتبهوا، لو كان دليل محمد وبينة محمد آية خوارقية إعجازية كنا ماذا سنقول؟ كنا سنقول نحن – والله – لم نعشها اليوم بصراحة ولم نرها، ومن ثم سوف نتوسَّل حجج ديفيد هيوم David Hume ونقول النقل هذا الذي يُدعى فيه التواتر يُورَد عليه بواحد واثنين وثلاثة وعشرة، ومن ثم صار عندنا شك وريب، لكن الله – تبارك وتعالى – منذ البداية أبى هذا، علماً بأن لا تُوجَد آية قرآنية تقول هم اقترحوا على رسول الله أن يأتي بآية ولبيناهم، دائماً ما يقول الله قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ۩ ويقول أيضاً وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ۩ فضلاً عن أنه يقول وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩ الله هو الحر وهو الذي يأذن أولا يأذن وليس أنت، وقد اقترحوا عليه في سورة الإسراء ست آيات تلوتها في مُقدِم الخُطبة مع العلم أن بعضها كان مُتناقِضاً، فماذا قال؟ قال قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ۩، أي أن الآيات بإذن الله، ولا تُوجَد استجابة، فلماذا يأبى القرآن أن يستجيب؟ قال لهم هذا ليس مُرسَلاً لكم، أنا مُتأكِّد – وأٌقسِم على هذا – لو أن محمداً – عليه السلام – أُرسِلَ للعرب لأتى بآيات حسية واضحة جداً وأغرب من آيات موسى وعيسى، لكنه ليس مُرسَلاً للعرب، هو مُرسَل للعالمين وللأزمان كلها وللأصقاع وللمواطن كلها إلى يوم الدين، هذه آخر رسالة – الرسالة الخاتمة – فلا تُحدِّثني عن آيات لأن سيُقال أين هى؟ نحن لا نراها ومن ثم لا نُؤمِن بها، لكن الله قال لهم أنتم عندكم آية وهى القرآن العظيم فتدبَّروا فيه.
أختم بالحديث الصحيح الذي فيه قال صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً ما من نبيٍ من الأنبياء – أي مما كانوا قبلي – إلا أوتيَ من الآيات – ما الآيات؟ المعاجز والخوارق في تعريفنا – ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلىّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة، وهو أكثرهم – بإذن الله – تابعاً وأتباعاً يوم القيامة، وبذا سقطت الشُبهة الفارغة الداحضة التي يقول بها البعض وخاصة الملاحدة من أعداء هذا الدين، فهم يقولون لو كان محمداً نبياً ورسولاً حقاً وصدقاً لمَ لم يُلبَّ ويأت بآيات كونية وبآيات إعجازية خوارقية؟ لماذا يقول آيتي هى القرآن؟ لو أتى بها الآن لن يكون له قيمة الآن بل إن بعده بمائة سنة لن يكون له قيمة, ولكن الذي أتى به له القيمة كل القيمة والشرف كل الشرف والكرامة كل الكرامة، وهو كتاب مُبين غير ذي عوج للناس أجمعين.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم أصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، اجعلنا إلهنا ومولانا نخشاك حتى كأنا نراك وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك وخِر لنا في قضائك وبارك لنا في قدرتك حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا.
اللهم أبرِم لهذه الأمة المرحومة أمر رشداً تُعِز فيه أولياءك وتُذِل فيه أنوف أعدائك ويُعمَل فيه بطاعتك ويُتآمر فيه بالمعروف ويُتناهى فيه عن المُنكَر وتأمن فيه سُبل المُؤمِنين.
اللهم آمن أهلنا وانصرهم في سوريا الشام يا رب العالمين، اللهم اجعل لهم فرجاً قريباً، اللهم اجعل لهم فرجاً قريباً، اللهم اجعل لهم فرجاً ونصراً من لدنك يا رب العالمين فإنهم لا يرجون إلا إياك ولا يثقون إلا برحمتك ولا يستمدون إلا من عونك فلا تخذلهم يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 09/03/2012

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • ما دام رب العالمين الله الاحد موجود فكيف للمعجزات ان تنتهي قوة الايمان بالله هي من تحقق كل المعجزات و هذه قناعة عندي مهما كثرت الفتاوي و الاقاويل

%d مدونون معجبون بهذه: