مقدمة: بين الماضي والحاضر، لماذا نعيد قراءة معاوية؟
على مرّ التاريخ، شكّل الجدل حول شخصية معاوية بن أبي سفيان نقطة التقاء بين تيارات فكرية متضادة، فمنهم من رأى فيه قائداً سياسياً محنكاً استطاع أن يرسّخ أُسس الدولة الإسلامية، ومنهم من اعتبره المسؤول الأول عن تحويل الخلافة إلى مُلك عضوض، منهياً بذلك فكرة الحكم القائم على الشورى. هذا المقال يسعى إلى إعادة تقييم إرث معاوية من خلال قراءة معمّقة تستند إلى المصادر التاريخية والحديثية، إلى جانب تحليل أثر سياساته على تطور أنظمة الحكم في العالم الإسلامي.
قد يتساءل البعض: لماذا نناقش سيرة رجلٍ مات قبل أكثر من ألف عام؟ والجواب أن كثيرًا من القضايا التي طُرحت آنذاك لا تزال مؤثرة في واقعنا اليوم، لا سيما في ما يتعلق بعلاقة السلطة بالدين، وإشكالية الحُكم العادل، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لم يكن معاوية مجرّد حاكمٍ مرّ في التاريخ، بل كان مؤسسًا لنمطٍ سياسيٍّ استمر لقرون، وانعكست تداعياته على البنية الفكرية للمجتمعات الإسلامية حتى يومنا هذا.
معاوية والاستبداد السياسي: من الشورى إلى التوريث
قبل وصول معاوية إلى السلطة، كان النموذج السائد في الحكم الإسلامي يقوم على مبدأ الشورى، حيث كان الخليفة يُختار من خلال البيعة وفقاً لمعايير تُراعي الكفاءة والورع. غير أن معاوية أحدث تحولًا جذريًا في هذا النموذج، عندما جعل الحكم وراثيًا لأول مرة في التاريخ الإسلامي، مما أدى إلى ترسيخ مفهوم السلطة المطلقة وإضفاء شرعية دينية عليها، وهو ما أصبح لاحقًا القاعدة الأساسية للحُكم في العصور الإسلامية المتأخرة.
منذ البداية، اعتمد معاوية على مزيجٍ من القوة والمكر السياسي لتثبيت حكمه. بعد معركة صفين، استخدم ورقة التحكيم بدهاء، وعمل تدريجيًا على إضعاف سلطة الإمام عليّ وخصومه السياسيين. وعقب اغتيال عليّ، استمر في سياسة الإقصاء، مستخدمًا المال والإغراءات السياسية لضمان ولاء زعماء القبائل، فيما لم يتردد في استخدام العنف ضد معارضيه.
لقد شكّل توريث معاوية الحكم لابنه يزيد نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ المسلمين، إذ كان يزيد رمزًا للفساد والانحراف السياسي، وأدى حكمه إلى مآسٍ كبرى، أبرزها مذبحة كربلاء. وما كان لهذا السيناريو أن يتحقق لولا أن معاوية مهّد الطريق له، مكرسًا بذلك نظامًا قائمًا على الحكم الفردي المطلق بدلاً من الشورى.
سياسة معاوية تجاه أهل البيت والصحابة المعارضين
إحدى أبرز الإشكاليات التي تُثار عند الحديث عن معاوية هي موقفه من أهل البيت، وعلى رأسهم الإمام عليّ بن أبي طالب. تُجمع العديد من المصادر التاريخية على أن معاوية اتّبع سياسة ممنهجة لإضعاف نفوذ آل البيت، حيث قام بتشويه صورة عليّ، وأمر بسبّه على المنابر لعقود طويلة، وهي ممارسة استمرت حتى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بإيقافها.
إضافة إلى ذلك، استخدم معاوية وسائل مختلفة للقضاء على معارضيه، سواء عبر التصفية الجسدية أو العزل السياسي والاقتصادي. يُنسب إليه أنه استهدف كبار الصحابة الذين رفضوا الاعتراف بحكمه، مثل حجر بن عدي، الذي قُتل بسبب ولائه لعليّ، وصحابي آخر يُدعى عمرو بن الحمق الخزاعي، الذي تعرّض للقتل بطريقة بشعة.
هذه السياسة لم تكن مجرد إجراءات سياسية وقتية، بل كانت تعكس فلسفة حكم قائمة على الإقصاء واستئصال المخالفين، وهي منهجية أصبحت جزءًا من النُظم السلطوية في تاريخ الإسلام السياسي، حيث تم توظيف الدين لتبرير القمع والاستبداد.
معاوية والاستلحاق: تغيير قواعد الشرع من أجل المصالح السياسية
أحد أبرز القضايا المثيرة للجدل في عهد معاوية كانت قضية استلحاق زياد بن أبيه، وهو إجراء يُنظر إليه باعتباره أول تعديل صريح لقواعد النسب في الإسلام لصالح مكاسب سياسية. كان زياد بن أبيه يُعرف بأنه ابنٌ غير شرعي لأبي سفيان، لكنه ظل منبوذًا اجتماعيًا، حتى قرر معاوية الاعتراف به ونسبه إلى أبيه سفيان، ضاربًا بعرض الحائط القاعدة الشرعية التي تقول: “الولد للفراش، وللعاهر الحجر”.
هذه الحادثة لم تكن مجرد استثناء عابر، بل كانت سابقة خطيرة فتحت الباب أمام تحريف القواعد الشرعية لخدمة السلطة. فحين يُوظّف الدين والسياسة بهذه الطريقة، يصبح الحكم الإسلامي عرضةً للتلاعب والتغيير بحسب مصالح الحُكّام، وهو ما استمر لاحقًا في العديد من العصور التي شهدت تحالفًا بين السلطان ورجال الدين لتبرير سياسات الحُكم.
الرُعب في ظل الحكم الأموي: شهادة التاريخ على القمع السياسي
عندما ندرس المرحلة الأموية، نجد أن حكم معاوية كان بدايةً لنظام استبدادي استخدم الترهيب لإخضاع معارضيه. فُرضت الرقابة على الفكر والخطاب الديني، وكان يُلاحق كل من يُبدي تعاطفًا مع أهل البيت.
يُروى أن الإمام الأوزاعي، أحد أبرز علماء الشام، قال يومًا: “ما أخذنا العطاء حتى شهدنا على عليّ بالنفاق وتبرّأنا منه”. هذه الرواية تعكس الجو السياسي المشحون في ظل الحكم الأموي، حيث لم يكن الولاء لعليّ وأهل بيته مجرد رأي سياسي، بل كان يُعد تهمة تُفضي إلى الإقصاء وربما القتل.
قراءة حديثة: ما الذي يُمكن أن نتعلّمه من تجربة معاوية؟
حين ننظر إلى الإرث الذي خلّفه معاوية، نجد أن النموذج الذي أرساه لم يكن مجرد تجربة تاريخية انتهت بموته، بل كان نقطة انطلاق لنظام استمر قرونًا، أثر بشكل كبير في الفكر السياسي الإسلامي. فقد أدّى ترسيخ الحكم الوراثي، واستخدام القمع السياسي، واستغلال الدين لخدمة السلطة إلى خلق نموذج يصعب الخروج منه، حتى في العصر الحديث.
هذا لا يعني أن الحديث عن معاوية يجب أن يكون سجالًا طائفيًا، بل ينبغي أن يكون دراسة موضوعية لتجربة سياسية أثّرت في تشكيل الدولة الإسلامية، كي نفهم بشكل أعمق كيف يمكن بناء نظام حكم عادل لا يُكرّر أخطاء الماضي. فالتاريخ ليس مجرد قصص تُروى، بل هو مرآةٌ للحاضر ودليلٌ للمستقبل.
خاتمة: بين الحقيقة والتقديس
إن دراسة شخصية معاوية بن أبي سفيان لا ينبغي أن تكون مسألة عاطفية تُبنى على الولاء أو الكراهية، بل يجب أن تكون موضوعًا للنقاش العقلاني المُستنِد إلى الأدلة التاريخية. الحقيقة التاريخية تقتضي أن نُفرّق بين نجاح معاوية السياسي وبين أخطائه التي غيّرت مسار الأمة.
لقد أسّس معاوية نمطًا من الحُكم أصبح النموذج السائد في العالم الإسلامي، حيث تحوّل السلطان إلى مطلق اليد، واستُخدمت وسائل الترهيب لضبط المجتمع، فيما أصبحت الدولة في خدمة الحاكم بدلًا من أن يكون الحاكم في خدمة الأمة. إن إعادة قراءة هذه التجربة بمنهج نقدي يساعدنا على فهم كيف نشأت الأنظمة الاستبدادية، ولماذا استمرت، والأهم من ذلك: كيف يمكن تجاوزها.
أضف تعليق