مصائبنا: بين الابتلاء والمسؤولية – قراءة في فلسفة الابتلاء الإنساني

standard

المقدمة: سؤال المصائب ومعناه

لطالما شغل سؤال المصائب والابتلاء الإنسان منذ القدم: لماذا تحدث الكوارث؟ ولماذا تتوالى النكبات على الأفراد والمجتمعات؟ وهل هي قضاء محتوم أم نتيجة أفعال البشر؟ الدكتور عدنان إبراهيم، في خطبته العميقة بعنوان مصائبنا ذنب من؟، يتناول هذا الموضوع بحكمة تتجاوز السطح إلى العمق، حيث يربط بين الابتلاء الإلهي وسنن الكون، وبين مسؤولية الإنسان في تشكيل مصيره.

الابتلاء: مفهوم قرآني يتجاوز العقاب

الابتلاء ليس مجرد اختبار عابر؛ بل هو سنة إلهية تُعنى بتمحيص القلوب، وتهذيب النفوس، واستخلاص معادن البشر. قال تعالى: “وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ” (آل عمران: 141). هذا التمحيص لا يهدف إلى العقاب فقط، وإنما هو إعداد الإنسان للتعامل مع الخير والشر باعتبارهما جزءين متكاملين من دورة الحياة. فالابتلاء قد يأتي في صورة نِعم كما يأتي في صورة نِقم.

الذنوب الفردية والجماعية: انعكاس على الواقع

أحد المفاهيم المركزية التي تناولها الدكتور عدنان إبراهيم هو الربط بين أفعال الإنسان ونتائجها في الدنيا. فالقرآن الكريم يوضح هذه العلاقة حين يقول: “قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ” (آل عمران: 165). المصائب التي تُلم بالأفراد والجماعات ليست كلها ابتلاءً بقدر ما تكون أحيانًا نتيجة طبيعية لقرارات خاطئة وأفعال تجاوزت حدود الله.

السنة الكونية والاجتماعية: قوانين ثابتة

من أبرز النقاط التي أضاء عليها الدكتور عدنان إبراهيم هي أن الله أودع في الكون سننًا ثابتة، لا تحابي أحدًا، حتى لو كان من المؤمنين. فحينما خالف المسلمون في معركة أُحد أوامر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم –، نالوا الهزيمة. هذه السنة تؤكد أن التفريط في الأخذ بالأسباب يؤدي إلى نتائج كارثية، بغض النظر عن صدق النوايا أو شرف المقاصد.

اللامبالاة: أصل الهزائم المجتمعية

المجتمعات التي تعيش في حالة من اللامبالاة تجاه الظلم والتقصير تسهم في صناعة بيئة مواتية للفساد والانحلال. يُذكّر الدكتور عدنان بأن هذه السلوكيات ليست معزولة عن تأثيرها، إذ أنَّ الفتنة حين تقع لا تصيب الظالمين فقط، بل تعم الجميع. قال تعالى: “وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً” (الأنفال: 25).
اللامبالاة تُنتج قادة مستبدين، ومجتمعات هشة لا تستطيع الدفاع عن مكتسباتها. هنا، يُحذّر الدكتور عدنان من أن الأنانية والانغلاق داخل دائرة الاهتمامات الفردية يؤديان إلى تفكك النسيج المجتمعي بأكمله.

الابتلاء بين السماء والأرض: موقف الإنسان

في سياق العلاقة بين السماء والإنسان، يؤكد الدكتور عدنان على أهمية التمييز بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. فالله قد يأذن بوقوع المصائب، ولكنه لا يأمر بها. الأمر هنا يتطلب فهمًا عميقًا لسنن الله في الكون، والتعامل مع المصائب كفرصة للمراجعة الذاتية والإصلاح بدلاً من الاستسلام أو تبرير الأخطاء.
دروس مستفادة: نحو تفكير سُنني
يدعو الدكتور عدنان إبراهيم إلى اعتماد نهج “التفكير السُنني”، أي فهم الواقع من خلال قوانين الله في الكون والمجتمع. هذا التفكير يعيننا على مواجهة التحديات برؤية واضحة تستند إلى الحكمة الإلهية:

المحاسبة الذاتية: تبدأ عملية الإصلاح بالاعتراف بالأخطاء الفردية والجماعية.

الأخذ بالأسباب: العمل وفق القوانين الكونية والاجتماعية التي وضعها الله.

العمل الجماعي: تعزيز الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع.

الوعي بالهدف: استحضار أن الحياة امتحان، وأن الابتلاء جزء من هذا الامتحان.

الخاتمة: المصير بأيدينا

“مصائبنا ذنب من؟” سؤال قد يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في طياته أبعادًا فلسفية عميقة تدعونا للتأمل في دورنا كبشر في صياغة واقعنا. إن إدراك العلاقة بين الابتلاء وسنن الله يفتح الباب لفهم أوسع لمسؤوليتنا في هذا العالم. وبدلاً من إلقاء اللوم على القدر أو السماء، يجب أن نعود إلى أنفسنا، متذكرين قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11).

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: