خطبة يرد فيها عن سر البلوى التي تصب على رؤوسنا جماعات وأفراد وعن حقيقة وفلسفة الابتلاء وعن الأسباب التي تجعل أمتنا لا تفهم سنن الابتلاء وتفشل في نفس الوقت أن تفكر سننيا مع دعوة لكل منا لعرض نفسه على كتاب الله لمعرفة أين نحن وأين نقف. للخطبة تكملة عن مجالات وأغراض الإبتلاء ننشرها لحضراتكم في مقطع منفصل.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ۩ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۩ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۩ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۩ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۩ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
سؤالٌ صار في زمن المحن يتردد كثيراً، ما سر هذه البلوى والنكبات والمصائب والألاقي والمرائر والعذابات التي تُصب على رؤوس المُؤمِنين صباً، وتنوشهم من كل حدب وصوب، أفراداً وجماعاتٍ؟
ويأتي الجواب من أهل العلم ومن أهل الذكر بأنه الابتلاء، هكذا شاء الله – تبارك وتعالى – أن يبتلي عباده. ويُعارض الجواب من فوره بالقول وهل اختصت الأقدار المُسلِمين من بين الخلق أجمعين لكي يكونوا محلاً وموئلاً للعذابات والمصائب والخيبات والفضائح؟ ما فلسفة هذا الابتلاء؟ وما معنى هذا الابتلاء؟
وهكذا تطرَّق الشك، بل الشكوك، إلى إيمان وقلوب، لا أقول كثيرين، وإنما بعض الناس، من الكبار والصغار. فما حقيقة الابتلاء؟ وما هي فلسفة الابتلاء؟ ما هو التصوير القرآني لهذا المفهوم الضخم الكبير؟ بلا شك هو مفهوم ضخم وكبير، ويتكرَّر في عشرات الآيات، بل هو إحدى السُنن الإلهية الغلّابة الماضية، التي لا مرد لها، ولا التواء لها، لأنها عامة شاملة، لا تستثني أحداً، ومُطردة لا تتخلَّف، ولا تُخرَق إلا بمُعجِزة يُجريها الله – سُبحانه وتعالى – إذا شاء لمَن شاء من رُسله وأنبيائه، أو خارقة عظيمة لمَن أحب من أوليائه، لحكمة يعلمها، على أن قانونها الاطراد، ولذلك قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۩.
والآيات الجليلة هي من سورة آل عمران، وفي سياق الحديث عن مُصيبة المُسلِمين في أُحد، لقد ابتلاهم الله – تبارك وتعالى -، فأصابتهم مُصيبة عظيمة، هي مُصيبة الهزيمة والفشل، لقد فشلوا، القرآن يقول وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ۩، لقد فشلوا هنا وانهزموا، وقُتِّل منهم جماء غفير كريم، وكان في رأسهم أسد الله حمزة – عليه السلام، ورضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، وسماها الله – تبارك وتعالى – مُصيبة، وخلوا عنكم تمحلات بعض الوعاظ والمُذكِّرين الذين أبوا إلا أن يُحيلوها إلى نصر، ليست بنصر، هي هزيمة، وهي فشل، وهي مُصيبة، قال – عز من قائل – في السورة عينها أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ۩، أي في بدر، قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ۩، من أين تطرَّق إلينا هذا العذاب؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩.
إذن هي سُنة من سُنن الله الغلّابة، وعجيب شأن القرآن – إخواني وأخواتي – قبل عبد الرحمن بن خلدون وقبل مُؤسِّسي علم الاجتماع وفلسفة التاريخ من فيكو Vico، إلى كونت Comte، إلى ماركس Marx، إلى هؤلاء، القرآن تحدَّث كما سمعتم للتو حديثاً مُسهباً مُفصَّلاً عجيباً، ولا عجب، فهو كلام رب العالمين – لا إله إلا هو -، عن موضوعة السُنن، ليست سُنة الابتلاء فقط، سُنن كثيرة جداً، ولفت الأنظار إليها، على أن الأمة لم تُمعِن كثيراً في درس وفقه وفهم ودرك هذه السُنن، ولعل أول المُفسِّرين الذين خصوا السُنن القرآنية ببحث واسع مُسهَب، وصار يقف عند كل مُناسَبة تُذكِّر بهذه السُنن أو تعتلق بها بوجه من الوجوه، هو الشيخ الإمام المُجدِّد، مُفتي مصر في وقته محمد عبده – رحمة الله تعالى عليه -، ولفت النظر إليها جداً، وظهر هذا حتى في تفسيره الجليل (تفسير المنار)، الذي أتمه بعد ذلك تَلميذه محمد رشيد رضا – رحمة الله تعالى عليهما -، ولم يُكمِل فيه أيضاً القرآن العظيم، ووقف إلى سورة يوسف – عليه السلام -، هذا التفسير يُعتبَر التفسير السُنني الأول في حياة الأمة، وكان حقيقاً وجديراً بهذه الأمة أن تكتب في هذا الموضوع وأن تخص هذا الموضوع بدراسات مُسهَبة مُوعِبة، من القرن الأول أو الثاني الهجري، لكن هذا الموضوع تأخَّر كثيراً، ودفعنا ولا نزال أكلافاً باهظةً.
أعتقد – وأسأل الله تبارك وتعالى أن يُوفِّقني، وأن يُمدني بمدد من عنده – كما سيضح بُعيد قليل، بما يتسع له المقام الوجيز القصير، أن الأمة إلى الآن تفشل أن تُفكِّر سُننياً، نحن لا نُفكِّر سُننياً، نحن بالعبارة العامية (ملخبطين)، مثل هذه الاعتراضات، مثل هذه التساؤلات، ومثل الجوابات العامة أيضاً ليست سُننية، انتبهوا! حتى أجوبة أو جوابات بعض الوعاظ والمُذكِّرين وربما حتى العلماء للأسف الشديد ليست سُننية، دائماً كلما أصابنا ما أصابنا ومهما كان هذا الذي يُصيبنا، يقول لك أحدهم هذا من بشائر النصر، هذا من رحمة الله، هذا تثبيث للأمة، وبعون الله سيعقبه خير عظيم. هذا غير صحيح، هذا التفكير غير سُنني، هذا التفكير أودى بنا، هذا التفكير دمَّرنا. علينا أن نعرض أنفسنا وأحوالنا، أفراداً وجماعاتٍ، على كتاب الله، على ميزانه، على معياره، لكي نرى أنفسنا، أين نحن؟ وأين نقف؟ ولكي نزن أنفسنا بميزان كتاب الله – تبارك وتعالى -.
لا أُحِب – إخواني وأخواتي – أن أُسهِب في التعريف بالسُنن ومعاني السُنن، لكن ألفت – كما فعلت ربما غير مرة – إلى أن السُنن في القرآن الكريم لا يُراد بها السُنن الكونية الطبيعية، على أن للكون سُنناً بلا شك، وهي سُنن أيضاً غلّابة مُطردة عامة شاملة، وهي التي يدور عليها البحث العلمي الطبيعي، ويكشف عنها معرفة البشر بقوانين الطبيعة، قوانين الطبيعة هي سُنن الطبيعة، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ۩، سُنة، وهذا واضح، واضح أنها سُنة، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ ۩، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ ۩، سُنة، وواضح أنها سُنة، هذا لا يتخلَّف، الشمس لا تجري كما يعن لها، اليوم بسرعة كذا كذا، أو هذه الساعة بسرعة كذا، ثم تتباطأ، ثم تُسرِع. لا! أبداً أبداً، محكومة بسُنة، رُغماً عنها، هي مُكرَهة.
لكن الله لم يتحدَّث عن هذه القضايا تحت عنوان السُنن، وخص قضايا الاجتماع والتاريخ بعنوان السُنن، إذا قال سُنن، فهو يُريد سُنن ماذا؟ سُنن الاجتماع وسُنن التاريخ. قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ۩، سُنن التاريخ، سُنن التاريخ! إذن السُنن يُراد بها ما يتعلَّق بموضوع النشاط البشري الاجتماعي، في ساحة المُجتمَع، وفي طول مدار أو مسار أو مجرى التاريخ، وهذا شيئ عجيب، وهذا مُهِم جداً يا إخواني للأمم والجماعات، أن تُمعِن – كما قلت – في فهمه ودركه والتفلسف فيه، والقرآن كفانا المؤنة إلى حد بعيد جداً – لو فقهنا عن الله وعرفنا عنه، لا إله إلا هو -.
باختصار – إخواني وأخواتي – القرآن يتعرَّض لسُنة الابتلاء، تحت العنوان المُباشِر: الابتلاء أو البلاء. أبلاه وبلاه وابتلاه. بمعنى أنه قال نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ۩، أي نبتليهم، نَبْلُوهُم ۩، وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ۩، من ابتلى، هنا من بلى وأبلى وهنا من ابتلى، فيها نوع مُبالَغة، وأحياناً تحت عنوان الفتنة، وأحياناً بالمعنى دون اللفظ كما في آيات كثيرة، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ ۩، لماذا؟ ابتلاءً. ابتلاءً! لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩، لم يذكر هنا ماذا؟ الفتنة، لم يذكر البلاء أو البتلاء، لكن واضح أنه فتنة وبلاء وابتلاء.
وأصل المادة – إخواني وأخواتي، هذا أصلها – ضد الجدة، من قولنا شيئ جديد، وشيئ بالٍ. هذا هو! شيئ جديد، من الجدة، وشيئ بالٍ، أي قديم رث. كما نقول أكل عليه الدهر وشرب. فكأن الذي ابتلى شيئاً، كأنه أخلقه من كثرة الاختبار. وفعلاً العرب حين يقولون – مثلاً – دع عنك فلاناً، فقد بلوته في ماضي أيامي، لا تكون بلوته بمعنى اختبرته مرة واحدة وجرَّبته، لا! أي واضح أنه ماذا؟ أخلقه. فيها نوع مجاز، كالذي أخلقه، أبلاه. ثوب بالٍ، ثوب بالٍ أي يبلى، بليَ ثوب بِلىً وبلاءً، إذا خلق، خلق أي أصبح الثوب قديماً. فكأنه ابلاه بكثرة الاختبار، دع عنك فلاناً، فقد بلوته في غابر الزمان، في ماضي الأيام، فما وجدت منه إلا كذا وكذا وكذا، فهذا معناه أنني أنهيت أمره بالاختبار.
وأيضاً المادة تُشعِر بالكشف، تُشعِر بالكشف! يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩ يوم الدينونة، يوم القيامة. ما معنى تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩؟ تنكشف ويظهر ما فيها، تظهر الدخائل (دخائل البشر). ففيها معنى الانكشاف، هذا مجاز! لماذا مجاز؟ لماذا؟ لأن الذي يختبر الشيئ يُظهِر حقيقته، فتبين حقيقته بالاختبار. فاستخدام مادة الابتلاء أو البلاء بمعنى الكشف والبينونة والإظهار مجاز، واللُغة تتوسَّع جداً في مثل هذه المجازات، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩ أي تنكشف الدخائل والنحائز.
على كل حال لا نتوسَّع أيضاً في المعنى اللُغوي لهذه المادة، بمعنى الاختبار، بمعنى الامتحان. وله أغراض، في القرآن الكريم له أغراض، لكن قبل أن نُعرِّج على أغراض الابتلاء في كتاب الله – تبارك وتعالى – أُحِب – إخواني وأخواتي – أن ألفت إلى أن الكتاب العزيز حين قعَّد وأصَّل لهذه السُنة الإلهية الغلّابة الماضية العامة الشاملة، أصَّل لها على نحو فريد جداً يخصها، فجعل خلق هذه الخليقة كلها لأجل حكمة وغرض الابتلاء، في أول سورة الدهر (الإنسان) إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ۩، من أجل أن نَبْتَلِيهِ ۩، ولذلك خلقناه وأعددنا له مسكنه في الكون (الأرض)، ضمن السماوات. من أجل ماذا؟ أن نَبْتَلِيهِ ۩. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ – في أول هود – عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، عجيب! هذه الخليقة من أجل ماذا؟ الابتلاء. الهدف العام الأكبر، الغرض الأضخم الابتلاء، لِيَبْلُوَكُمْ ۩.
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ۩، في الكهف، لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ۩، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ۩، عجيب! معناها نحن مخلوقون في ظرف وبغرض ولغرض ماذا؟ الابتلاء. ولذلك ليس أحد مُستثنىً من هذا الغرض الإلهي العظيم، لا الأنبياء، ولا القدّيسون والأولياء، ولا الشياطين، ولا القتلة، ولا المردة والكفرة والعُتاة، لا الأفراد ولا الجماعات، لا مَن آمن ولا مَن كفر، لا مَن استقام ولا مَن تنكَّب وانحرف. الكل مُبتلىً، الكل في الابتلاء، وفي ماذا؟ في كل شيئ. إذا آتاك، فقد ابتلاك. إذا منعك، فقد ابتلاك. إذا أصح لك جسمك، فقد ابتلاك. يُريد أن يرى ماذا تفعل بهذه الصحة؟ هل تشكر؟ هل تُؤدي حق شُكرها، أم أنك تبطر وتكفر وتستكبر وتتنمر على عباد الله وتطغى وتنسى؟ إذا أغناك، فقد ابتلاك. إذا افتقرك، فقد ابتلاك. إذا أغنى غيرك وأفقرك، فقد ابتلاك به وابتلاه بك. وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۩، بالسراء وبالضراء، بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ۩، فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ۩، إذا يسَّر لك الهُدى والرشاد، وأعانك عليه بحُسن نيتك وحُسن قصدك وسلامة الطلب لديك وصحة العزم، أنك تهتدي، فهداك وساعدك ووفقك ولم يخذلك، فقد جعلك بلاءً وفتنةً لمَن أضله وأشقاه. وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۩، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩، وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ۩، بلى، اللهم بلى. شيئ عجيب! أي لا أكتمكم، أنا فرغت من هذه الآية واقشعر شعري كله.
يا إخواني – والله – مَن يقرأ القرآن، بمُجرَّد أن يقرأه أحياناً بقلب صادق، والله يعلم دون حتى أن يُمعِن عميق فكرة أن هذا النظم لا يكون إلا من رب العالمين. هذا ليس كلاماً بشرياً يا أخي، هذه الصياغات، هذه الطريقة، هذه الهيمنة، هذه السُلطة في الكلام، لا يُمكِن أن تكون هكذا، ليست ضمن مقدور بشر، يا أخي اذهب وحاول أن تصطنع مثل هذا الكلام، أنت لا تستطيع ولا تقترب منه، ستصطنع كلاماً مُزوقاً مُزخرَفاً مُنمَقاً، تُجمِّله تُحسِّنه تُرونِقه تُؤنِقه، ولكنه يخلو من هذه السطوة – إن جاز التعبير – النفسية المهولة الضخمة. سُلطان! الذي يتحدَّث هنا هو ملك، رب العالمين، ملك الملوك – لا إله إلا هو -، قضية أنه خلق الجميع ودبَّر للجميع، هذه مفروغ منها هنا، يقول لك هناك ما هو أكثر، القضية لها بقية بعد ذلك، بعد الخلق وبعد التدبير وبعد كذا، هناك الفتنة! أقام العباد فيما أراد كما يقول الصالحون والعارفون. أقام العباد فيما أراد. أفقر هذا وأغنى هذا، أصح هذا وأسقم هذا، أعز هذا وأذل هذا، رفع هذا وخفض هذا، علَّم هذا وترك هذا في ربقة جهله. إلى آخره، إلى آخره! شيئ عجيب، هذا تصرف ملكوتي تدبيري عُلوي، فيه هيمنة، فيه سُلطة مُطلَقة. والمُتحدِّث يتكلَّم من هذا الموقع – لا إله إلا هو -، آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم ۩، فتنة!
يقول عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – فيما رواه أبو جعفر بن جرير وغيره، يقول جاء جماعة من الملأ، من علية قُريش إلى محمد – صلى الله على محمد وآل محمد -، فقالوا يا محمد أهؤلاء الذين رضيت بهم دوننا؟ رضيت ببلال وعمّار وخبّاب وسلمان، وبهؤلاء الفقرة الضعفة المساكين المغمورين، الذين لا وزن لهم في المُجتمَع؟ أرضيت بهؤلاء؟ أَهَٰؤُلَاءِ ۩ يا محمد، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ۩؟ اطردهم، فإن طردتهم، لعلنا أن نتبعك. فأنزل الله – تبارك وتعالى – وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩، وأتبع الآية بقوله – هذه الآية التي والتها مُباشَرةً – وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۩.
المنطق نفسه تكرَّر واتفق لنوح – عليه السلام -، قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ۩ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ۩ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، قال لا. نوح! وانظر إلى منطق الأنبياء، منطق الانحياز إلى الحقائق، الحقائق أن الناس منهم شقي وسعيد، منهم مُهتدٍ وضال ردي، هؤلاء اهتدوا – بفضل الله تبارك وتعالى -، لهم الاعتبار ولهم التجلة ولهم الاحترام والقبول وتوطئة الأكناف، وأنتم استكبرتم واستعليتم وأخذتكم حمية الجاهلية ونخوتها وكبرياؤها، فتباً لكم! لماذا أتواضع لكم؟ لماذا أوطيء لكم؟ أبداً! أرجو لكم الخير، ليس أكثر من هذا، ولكن هؤلاء لا أطردهم ولا أزدريهم ولا أزري عليهم. هذا منطق النبوءة، هذه معايير القبول عند الله – تبارك وتعالى -، معايير الرفعة والارتقاء في سلم المجد الإلهي، أن تُؤمِن وأن تستقيم وأن تعمل الصالحات. هكذا!
على كل حال إذن الكل في البلاء، الكل في الابتلاء، لا أحد مُستثنى، ولكن هذا البلاء والابتلاء على طبقات وعلى مُستويات، وأسبابه ومداخله وفواعله كثيرة جداً ومُشتبِكة ومُعقَّدة، انتبهوا! وإن كان الكل من لدن الله – تبارك وتعالى -، بمعنى ماذا؟ بمعنى الإذن به. فلا يقع شيئ في المُلك والملكوت إلا بإذنه وعن إذنه – لا إله إلا هو -. وليس معنى أن الشيئ وقع بإذن الله وعن إذن الله أن الله أمر به وأنه يرضاه. أبداً أبداً أبداً! فقتل الأنبياء وقع بإذن الله، وفكِّروا! لو أن الله لم يأذن ولم يسمح بأن يُقتَل نبي، أيُقتَل؟ مُستحيل. هو لم يأذن أن يُقتَل إبراهيم، أخذوه، أوثقوه، قذفوه بالنار. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ۩ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ۩.
إذن انتهى الأمر، أفشلهم، خيَّبهم، لم يستطيعوا! هذا أكثر ما في طوقهم ووسعهم، فشلوا وخابوا، لم يأذن. لكن حين يأذن، هل يكون معنى إذنه أنه أمر بهذا؟ أعوذ بالله. لا! بل هو يسخط ويلعن ويغضب ويُخلِّد في جهنم مَن قتل أنبياءه ورُسله بعد كفره بهم، مُستحيل! هل يكون يرضاه؟ مُستحيل! لكن لا يقع إلا عن إذنه، بفعل العباد أحراراً مُختارين، طواعية! هم فعلوه طواعية مُختارِين بحرياتهم، لم يلزهم، لم يُلزِمهم، لم يضطرهم إلى فعله أحد. ولذلك سيُسألون ويُجازون بقبيح ما فعلوا يوم القيامة شر جزاء، شر جزاء! جَزَاءً وِفَاقًا ۩، لماذا؟ لأن هذا مُقتضى سُنة الابتلاء. لا معنى للابتلاء وحرياتنا ماذا؟ مُقيَّدة مُعتقَلة. أبداً! إنما أطلقك وأرسلك في كونه حُراً مُختاراً، تستطيع أن تنهج نهج الإيمان، وتستطيع أن تسلك سبيل الكُفران. تستطيع أن تُسبِّح وتُقدِّس، وتستطيع أن تُجدِّف – والعياذ بالله،أن تُجدِّف في حق الله وفي المُقدَّسات عموماً -. لماذا؟ مُقتضى سُنة الابتلاء. ابتلاء! هذا ابتلاء. هكذا!
فلابد أن نُميِّز بين ما من الله – تبارك وتعالى – وما من عباده، ولا يهولنكم أمر أن الله أذن وسمح، طبعاً لأنه هو مالك المُلك، ولا يُمكِن أن يقع في مُلكه إلا ما يأذن به، لكن الإذن قضية عامة، تقتضيها ماذا؟ الربوبية. أنه رب العالمين، فنحن عندنا في اللُغة العامية – وأستغفر الله، ولله المثل الأعلى دائماً وأبداً – دائماً مثل الرجل الطرطور، بالعامية يقول لك طرطور. رب بيت، لكن طرطور. لا أمر ولا نهي! الأولاد والبنات والنساء خرّاجات ولّاجات، يذهبن ويأتين عن غير إذنه، وعن غير علمه أيضاً – أي بغير علمه -، لا أحد يستأذن ولا أحد يُعلِمه، طرطور البيت، طرطور البيت! وهذه طبعاً ماذا؟ معرة تلحق بصاحبه. فإذا كان رب بيت أو رب أسرة من خمسة أنفار تلحق به المعرة – إخواني وأخواتي – والمذمة إذا كان يقع في بيته ما يقع عن غير علمه وإذنه، فكيف برب العالمين؟ مُستحيل! لا يقع شيئ في كونه إلا بعلمه وعن إذنه، لكن ليس معنى أنه أذن به أنه ماذا؟ أمر به.
انتبهوا! هذه حُجة مَن؟ كما قلت لكم الآن من المُسلِمين – من المُسلِمين، هدانا الله وإياهم أجمعين، وفقَّهنا في الدين – مَن يفشل أن يُفكِّر سُننياً، لم يتعلَّم أن يُفكِّر سُننياً، لم يُرب على هذا، لم يقرأ القرآن بقلب مُتفتِّح وعقل مُنداح فسيح يقظ بصير، أبداً! قرأه وخر عليه أصم أعمى، أصم أعمى! لم يفقه فيه شيئاً، يذهب يحتج بحُجة المُشرِكين، سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۩، فعجيب! قالوا نحن أشركنا في الأخير لأنه هو سمح بهذا. الله قال كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۩، هذه في الأنعام، وفي النحل وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۩، في موضعين! في موضعين! والموضع الثالث في الأعراف أيضاً، وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۩، الله! لأنهم قالوا لك هو سمح بهذا، نحن فعلنا هذه الفاحشة، وهو سمح بها. لو أنه لا يُحِبها ولا يرضاها، لمنعنا. لو كان لا يُحِبها حقاً ولا يرضاها، لمنعنا منها. لمنعنا! فرد الله عليهم مُباشَرةً، قالوا: وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۩، الله قال لهم فرِّقوا بين الإذن وبين الأمر، بين الإرادة الكونية وبين الإرادة الشرعية، التي تُساوي ماذا؟ الأمر. الإرادة الشرعية هي الأمر، الإرادة الكونية أنه يأذن، يأذن بالزنا وبالقتل وبالكفر وبقتل الأنبياء، لكن الإرادة الكونية مُقتضى الربوبية، مُقتضى جلال الربوبية، لا تعنى ولا تتطابق بالضرورة دائماً مع ماذا؟ مع الإرادة الشرعية. يأذن بالشيئ كوناً وقدراً، ويلعن عليه شرعاً وأمراً. نعم! يأذن بالشيئ قدراً وكوناً، ويرفع الدرجات ويُعظِم الجزيات عليه شرعاً. أي الأشياء التي يُحِبها، فما يقع في الكون منه ما يرضاه ومنه ما يُواطئ أمره – لا إله إلا هو – وإرادته الشرعية، ومنه ما يُخالِفها ويضادها. إذن الإرادة الكونية أوسع بكثير من هذا، هذه فلسفة قرآنية، وعلم الكلام بحث في هذا والفلاسفة، قضية عميقة هذه، أنت تتحدَّث عن رب العالمين هنا، وليس عن أستاذ مدرسة ولا رب أسرة، عن رب العالمين! عليك أن تتفقَّه جيداً في كتابه، في كلامه.
أنت تعرف أن هذا يُشبه ما قاله الراحل ستيفن هوكينغ Stephen Hawking في مرحلة إيمانه قبل أن يشك أو يتردد، في مرحلة إيمانه قال كل مساعي (كل أبحاثي الرياضية والعلمية والكوزومولوجية) إنما أتت كمُحاوَلة مني – هذه مُحاوَلة، ومن قبله أينشتاين Einstein حكى الشيئ نفسه، هذه مُحاوِلة – لفهم كيف يُفكِّر الله. أي هذا كله لكي أُحاوِل أن أفهم كيف يُفكِّر الله. لكن نحن عندنا يُوجَد طريق أيضاً قصير، وطبعاً هذه مُحاوَلة شريفة وعظيمة جداً، ونحن مأمورون بها أيضاً – انتبهوا – في العلوم الطبيعية والكونية، لكن أيضاً هي مُحاوَلة أُخرى، وهي أسهل أيضاً وأمتن قواعد وأرسخ أُسساً، ما هي؟ أن تفهم عنه كلامه – لا إله إلا هو -، هو عرَّفك بنفسه، هو يتحدَّث عن نفسه، هو يتحدَّث عن ذاته، عن أسمائه، عن صفاته، عن أفعاله. حاول أن تفهم هذا جيداً، وإياك أن تظن أنك تفهمه بطريق سهلة وميسورة كما تفهم تدبيرات بشرية. لا! كما في التوراة لله طُرق – هذا في التوراة، وهذا من وحي الله أيضاً – تعز عن أفهام الخلائق. لله طُرق تعز عن أفهام الخلائق! كما قالت الصوفية لدينا لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق. طرائقه كثيرة وأحياناً غامضة وغير واضحة.
أينشتاين Einstein ذات مرة قال، قال نعم قد تكون له أساليب وطرائق غامضة – الله قد يكون غامضاً -، ولكنه ليس شريراً. هذا صحيح، وهذا الفهم واضح! أرأيتم؟ أينشتاين Einstein فهمه مُؤسَّس هنا على التوراة، فهذا تراث ديني، هذا تراث ديني! وعلاقة الدين بالعلم على فكرة أعقد مما يظن الناس، وتأثير الدين والنصوص الدينية في العلم الحديث – أي في الــ Science – أكبر بكثير مما يظن المُتعجِّلون. للعلم أُسس دينية أيضاً! قضية ثانية هذه في فلسفة العلم، هي في فلسفة العلم ومكتوب فيها كتابات.
إذن حاول أن تتفقَّه في كتابك، إذا أردت أن تفهم كيف يتصرَّف الله وكيف يفعل الله وكذا، فعليك أن تكون فيلسوفاً قرآنياً. لا عليك إذا لم تدرس فلسفة أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato وكانط Kant وشوبنهاور Schopenhauer، لا! لكن في القرآن تدبر، تفلسف في القرآن، حاول أن تفهم القرآن.
الله قال لك حذاري، إياكَ، إياكِ، إياكم، إياكن أن تحتجوا بحُجة المُشرِكين، أن الله ما دام سمح بهذا، فالأمر مُنتهٍ، هو يُريد هذا. غير صحيح! هذا كلام المُشرِكين، الذي يُريده الله مذكوره في كتابه، قال لك افعل ولا تفعل. هذا الذي يُريده، انتبه إذن، وليس الذي يحدث في الكون هو ما يُريده الله، فالآن يتم قتل الأطفال وحرق الناس وتدمير البيوت والمُدن والقُرى، مسالخ بشرية تحدث! هل هذه يُريدها الله شرعاً؟ أبداً! يلعن عليها، يُخلِّد في جهنم بسببها، ويسخط – لا إله إلا هو -. لكن هل سمح بها قدراً؟ طبعاً. لو لم يسمح بها، ما وقعت. لكن حين سمح بها قدراً وحين أذن بها قدراً، وقعت عن تصرف مَن وعن يد مَن؟ عن يد مَن فعلها، حُراً مُختاراً، ابتلاءً. تماماً كما وقع قتل الأنبياء والأولياء، قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس. أليس كذلك؟ وقع بإذن كوني إلهي، طبعاً عن إذنه، ولكن مُضاداً لأمره وشرعه، وفيه اللعن وفيه الغضب.
الآن إذا أردنا أن نتوجَّه بالعتب، نتوجَّه بالعتب لرب العالمين، أو لمَن فعل هذه الأفعال اللعينة؟ لمَن فعل هذه الأفعال اللعينة. انتبهوا! ولا يزال القرآن يمضي بنا خُطوة، ونحن تعجَّلنا الجواب على كل حال، ولكن هذا فضل، وعلى فكرة الخُطبة عُقدت من أجل الجواب عن هذا السؤال. كيف يسمح الله بحصول ما يحصل ووقوع ما يقع من قتل الأطفال وتدمير القُرى والمُدن وذبح المساكين والغلابة والمُضطهدين وطلّاب الحرية و… و… و… إلى آخره؟ مَن فعل هذا؟ أي هل ملائكة الله فعلت هذا إذن، أم أعداء الله وأعداء الإنسانية وأعداء الرُسل وأعداء الرحمة وأعداء العدل من الذين أحدهم مُستعِد أن يُبيد العالم وأن يبقى هو جالساً في كرسيه؟ هناك مَن هو مُستعِد لأن يُبيد تسعة أعشار البشرية، وليس فقط حتى أهله بلده، لكي يظل في الكرسي ويغنم غنائم الكرسي.
الآن سوف تقول لي إذن وما موقف السماء؟ السماء تلعن على هذا. والسماء أيضاً تلعن القاعدين، وتلعن الكذّابين، وتلعن المُستخزين، وتلعن اللامُبالين. أكبر جريمة هي اللامُبالاة، كأنك لا سمعت ولا دريت والأمر لا يخصك!
تخيَّلوا الآتي، أنتم الآن تعيشون في مُجتمَعات – كما يُقال – بلا شك ديمقراطية ومُتقدِّمة، وفيها قدر هائل من الحرية والأمن والاستقرار والحقوق بلا شك، لا نستطيع أن نُنكِر هذا حقيقةً، لكن هذه المُجتمَعات تخيَّلوا لو أن البشر فيها – أن فلاناً وعلاناً من الساعين الماشين في الطرق والطُرقات، وراكبي المُواصَلات العامة هؤلاء وراكبي وسياراتهم الخاصة – كانوا بمثل مِزاج بعض الشعوب والأمم اللامُبالية بشيئ، يقول لك الواحد منهم لا، لا، لا يعنيني، لا يعنيني، هذا الأمر لا يعنيني، أنا يعنيني نفسي فقط وعائلتي. لا يهتم بالشأن العام، ليس له علاقة به، مُنسحِب بالكامل، جميل جداً! لو هؤلاء انسحبوا، وكانوا هكذا مخذولين مُخذِّلين، وكانوا سلبيين، لا مُبالين، ألا تظنون أن مَن يكونون في سُدة السُلطة والحُكم يُحِبون أن يستفحلوا؟ طبعاً. الإنسان هكذا، الإنسان والحيوانات عموماً هكذا، كل الحيوانات! ما لم يُوضَع له حد يقف عنده، يتجاوز دائماً. انتبهوا!
ولذلك مثل هذه القيم، مثل هذه الحصائل، مثل هذه الذخائر مُهِمة، هذه ذخائر الأجيال والقرون، أي مُكتسبات القرون هذه، هناك ملايين – ملايين يا إخواني – عانوا وبذلوا الدموع والدماء والعرق والأموال والسنين، وضاعت عليهم حتى مكاسب كثيرة، من أجل أن ماذا؟ أن يُثبِّتوها وأن يُرسِّخوها. جهاد قرون وجهاد أجيال! لابد لها ماذا؟ أن تُحرَس. مَن الذي يحرسها؟ الجميع. كل مَن في المُجتمَع يحرس هذه المُكتسبات والحصائل والذخائر، وعينه لابد وأن تكون عليها، وهذا لا يختص به الصحافة وكذا، هؤلاء عندهم وظيفة أكبر، ولكن الكل حتى يختص بها، أنا وأنت، وهذه الشعوب تفعل، تفعل! وأحياناً يُغامِر أحدهم بنفسه، وأحياناً يُقتَل طبعاً، بعض الناس تُقتَل، ويُلفَّق للواحد منهم تُهم مُعيَّنة، لأنه يُريد أن يضع رأسه برأس الكبار المُتنفِّذين، الذين يُحِبون أن يتخطوا حدود صلاحياتهم. لا! قفوا. لكن في بلادنا لا يحدث هذا، وحين تقع الواقعة، يقول أحدهم إنهم يلومون على الأقدار. لا تلم على القدر، لا تلم على السماء.
فنفسك لُم، ولا تلم المطايا ومت كمداً، فليس لك اعتذار.
كما قال الأول. لم على نفسك، فرداً وجماعةً، لم على ثقافتك اللامُبالية، لم على الأنانية التي اخترمتنا واخترقتنا وثقبّتنا، دمَّرتنا! الكل يهتم فقط بنفسه، ولا يعنيه الآخرون.
في مثل هذه المُجتمَعات الأنانية، اللاأبالية، اللامُبالية، أنت تفقد حتى ابنك وابنتك، المُجتمَع يُفسِده، لأنك لم تُساهِم حتى بشيئ في إصلاح هذا المُجتمَع، أنت ظننت أنك إن انصلحت في ذاتك، بين أربعة جُدران بيتك وغُرفتك، أنك ستكون بمأمن وبمنجاة. لن تكون لا أنت ولا أولادك ولا ذُرياتك بمأمن ولا بمنجاة، ستدفع الثمن مُباشَرةً عبر أولادك المُباشِرين، لأنك تعيش في هيئة اجتماعية، تعيش في مُجتمَع، هو هكذا!
القرآن أيضاً لفت إلى هذا المعنى الاجتماعي العميق جداً، حين قال وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۩، قال حين تقع الفتنة، لا تقع فقط على رؤوس الظالمين، على رؤوس الجميع! الذين سمحوا لهؤلاء أن ماذا؟ أن يستفحلوا في ظُلمهم وطُغيانهم وبغيهم وعسفهم، وباللُغة العامية: و(تخبيصهم) في الشأن العام. تستأهلون، الله قال لهم.
وليس هذا فحسب، هناك ما هو أكثر من هذا. الصحابة حين مُنوا بهزيمة مُدوية في أُحد – وذكرتها قُبيل قليل في صدر الخُطبة – ماذا قالوا؟ أَنَّى هَذَا ۩. من أين أتانا هذا؟ من أين دُهينا؟ من أين أوتينا؟ وكأنهم يقولون نحن أهل الحق، نحن أصحاب محمد، نحن المُوحِّدون على وجه هذا البسيط. كيف ينتصر علينا المُشرِكون، سدنة اللات والعُزى ومناة الثالثة الأُخرى؟ كيف؟ الله قال لهم قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۩، لذلك في السياق نفسه – كما قلنا – قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ۩، قال لهم هناك سُنن، السُنن لا يُمكِن أن تُخرَم وأن تتوقَّف وأن تتعطَّل مُحاباةً، لأجل جماعة من الناس، وأقول بين قوسين (وإن تكن هذه الجماعة جماعة الصحابة المُبارَكين – رضيَ الله تعالى عنهم -). هؤلاء صحابة، أصحاب محمد، آخر دين وخاتم دين، وهؤلاء أصحابه وأتباعه الأبرار الطهرة، قال لكم نعم، وحتى من أجل أصحابه وأتباعه الأبرار الأطهار المُبارَكين لن تتعطَّل السُنن. عن سُنن ماذا تتحدَّث يا رجل؟ عن ماذا؟ نعم! هناك سُنة بسيطة جداً جداً، قوانين من قوانين الحرب وإدارة المعارك، أعني التزام الخُطة العسكرية التي وضعتها القيادة. والقيادة كانت صريحة وأكثر من واضحة معهم، قالت لا تُغادِروا الجبل وإن رأيتمونا تخطفتنا الطير. النبي كان يعرف أنهم في البداية – بفضل الله – سينتصرون نصراً مُظفَّراً عزيزاً مُؤزَّراً، يعرف هذا! ويعرف الضعف البشري، أن بعضهم سيُهرَع مُباشَرةً إلى ماذا؟ إلى النيل من الغنائم. لئلا يفوته ماذا؟ قسمه ونصيبه. قال لا، إياكم أن تفعلوا هذا. كان يعرف هذا، وكان يعرف أن الآخرين فيهم مثل خالد بن الوليد، دُهاة الحرب ومساعير الحرب، المداره المُحامون عن الكُفر والشرك، من هؤلاء الأذكياء المُجرِّبين، الذين لم ينهزموا في معركة. قال لهم إياكم. ولكن هم خالفوا، غلب عليهم هوى النفس، فحلت بهم القارعة، حلت بهم القارعة! نزلوا من حالق، ووجدوا أنفسهم في سابع أرض، تقتيل وتذبيح، وهم كبار الصحابة، والرسول كاد يُقتَل من بين أيديهم، ما الذي حصل؟
والقرآن كان واضحاً، في غير مجمجة، في غير تردد، في غير مُجامَلات، كالتي أدمنها وعاظنا اليوم ومُذكِّرونا، ونحن كجماهير أدمنا على الاستماع إليها. جرت فريقاً منا في الأخير إلى الشك والإلحاد. قال لك أحدهم نحن من خمسين سنة نسمع الكذب هذا ولم يحصل منه شيئ، من خمسين سنة ونحن أمة مُمتازة وجيل مُبارَك والنصر قريب والبُشريات تلوح في الآفاق. وسنة ألعن من سنة، وشهر أفظع من الشهر الذي سبقه! وفعلاً كل حقبة الآن تمر على الأمة العربية والمُسلِمة – والله – أسوأ من التي سبقتها، أليس كذلك؟ فالشباب شك، قال لك دع هذا الكلام الفارغ، أي بُشريات؟ وأي نصر؟ يكذبون علينا. وابتلاء واصبروا و… كذب! نحن الذين كذبنا، طبعاً بحُسن نية حقيقةً، بعض الناس يُحِب أن يرفع المعنويات وكذا، هذا جميل، ويُشكَر عليه، لكن الجهل غير مشكور. الجهل مدحور منكور، غير مشكور. لا نشكر الجهل، لا! وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، لا تفتروا على الله، لا تكذبوا على الله ورُسله، تكلَّموا وأفرِغوا عن منطق القرآن السُنني.
القرآن هنا لم يقل للصحابة بارك الله في سعيكم، بارك الله في جهودكم، نياتكم كانت حسنة، وهذه زلة مُغتفَرة، وبعون الله لكم جولة أُخرى. لم يقل لهم هذا! قال قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۩. يا الله! انظر إلى هذا، كلمتان! مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۩، كلمتان! لفظتان قصيرتان، مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۩، منكم! نعم، طبعاً هذا منا، لا تقل لي هذا من السماء. إياك إياك أن تُحيل على السماء ما هو ماذا؟ ما هو من عملك أو عمل غيرك. ما هو من عملك، أسنده إلى نفسك، وقل هذا من عملي، الاعتراف يهدم الاقتراف. لا تفعل هذا أبداً! كما قلنا ألف مرة آدم وحواء – عليهما السلام – قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ۩، لم يقولا هذه شجرة حلوة، جميلة جداً، مُتألِّقة، غرنا الخبيث جداً، حلف لنا أيماناً، عظّمنا اسمك، لم نُصدِّق أن أحداً يحلف باسمك وهو كاذب. لا! أنتما ضعفتما، هما أدركا أنهما ضعفا واشتهيا الشجرة. فقط، انتهى! قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، قال لهما غفرت لكما. هيا، انتهى!
اللعين قال له لماذا وضعتني في الامتحان هذا؟ هذا امتحان صعب جداً، وأنت أصلاً كرَّمته علىّ، وأسجدت له الملائكة، وطلبت مني أن أسجد، وأنا لم أسجد، وعملت لي كذا، وأدخلتني في هذه (الدوكة) كلها، و… و… و… هذا كله منك. أستغفر الله العظيم! قال له أنت ملعون، أنت إبليس، أنت يئست من رحمتي، لعنة الله عليك.
وعلى فكرة نحن الآن هكذا. أستغفر الله، إن شاء الله لا يكون الوضع هكذا، لكن كأننا – والله أنا أقول هذا وأنا وجل، أوجل أن أقول هذا – تحل بنا اللعنات. هل تعرفون لماذ؟ لا نُريد أن نعترف بأننا نغلط، بأن ما يحل بنا ربما يكون من خطايانا، من ذنوبنا، من تدجيلنا، من كذبنا، ومن بُعدنا الحقيقي عن الله. لا نُريد! نخوض معاركنا، نخوض قضايانا، ويقتل بعضنا بعضاً، وقال لك لا، ابتلاء! ابتلاء ماذا يا أخي؟ الله بلانا بعضنا ببعض، الله لبسنا شيعاً، وفي الحقيقة نحن الذين فعلنا هذا بأنفسنا، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۩، الآن – قال – نخوض معاركنا مع العدو. العدو المُشترَك الجهير الواضح لا نقرب منه، وفي الطريق كلها وفي كل مراحل الطريق يقتل بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، ويئتمر بعضنا ببعض. ثم نقول نحن على طريق الله، ونحن مُبتلون، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۩، والنصر قريب. والله كذب! سأكون واضحاً معكم، والله كذب! هذا الذي يُصيبنا لعنة وغضب وعقاب من الله.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۩، وواضح أن الابتلاء هنا كرامة وتمييز وتمحيص ولا عقوبة؟ عقوبة. قرية أخذها الله بِالْبَأْسَاءِ ۩. ما هو البؤس؟ الفقر، الفقر والحاجة، البؤس! وَالضَّرَّاءِ ۩، ما هي الضراء؟ المرض والمصائب، المرض وصنوف المصائب. بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ ۩، الله قال هذا، وعلى فكرة القرآن قبل القانون الحديث، بل قبل القانون المُعاصِر، قال هذا، أنا أقول لكم هناك آيات كثيرة تُوضِّح أن العقاب في القرآن (العقاب الإلهي) لا يُراد من أجل العقاب، دائماً يُراد من أجل إعادة التأهيل ومن أجل الإصلاح، حتى في حق مَن؟ الكفّار والمُشرِكين وقتلة الأنبياء. ما هذا؟ رحمة، رحمة فيّاضة! كما قال تماماً – وهذه الآية على فكرة في حق الأمم التي كفرت وتنكبت – بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۩ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ۩، ما هي السيئة؟ البأساء الضراء. الله قال فهيا إذن، الآن نحن بلوناهم، امتحناهم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ۩ فترة، مرت سنوات أو ربما مر جيل أو أكثر أو أقل، ودعونا نرى، نُبدِّل لهم، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ ۩، أي البأساء والضراء، سماها ماذا؟ السيئة. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ۩، وما الحسنة؟ عكس البأساء وعكس الضراء، مد الله لهم – تبارك وتعالى -، ووسَّع أو أوسع عليهم في دنياهم، مالاً ونفوذاً وصحةً وثمراً واستقرارً وأمناً. هل فهموا أن ما جرى عليهم في كلا أو في كلتا الحالتين ابتلاء وامتحان؟ أبداً، لم يفهموا. أغبياء لا يفهمون السُنن، فشلة! ماذا قال الله؟ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا ۩، ما معنى عَفَوا ۩؟ أي زادوا ونموا، نموا! كثروا، الذُرية كثرت، والأرض – ما شاء الله – أخرجت خيراتها، والدواب تناتجت، والدواب ماذا؟ تناتجت. هذا معنى عَفَوا ۩، هذا معنى عَفَوا ۩، أي كثروا وزادوا ونموا، حَتَّىٰ عَفَوا ۩، وما المنطق الذي فهموه – ما شاء الله -؟ هل فهموا درس السُنة؟ لم يفهموا، وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ۩، قالوا هذا أمر من عادات الزمان في أبنائه، الزمان قلّب، الزمن دوّار، والدهر قلّب. وقد تداول آباؤنا وأجدادنا الزمان، ضراء وسراء. قالوا الزمان هو هكذا، يوم لك ويوم عليك، لا تقولوا هذه سُنن ولا تقولوا هذا امتحان، الله ليس له علاقة بالقضية. أف! أي هل الله قال هذا؟ أخذناكم بهذا ولم ينفع، بدلنا من أجل أن تنصلح أحوالكم، ولم ينفع هذا، قال فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ۩، قال دمَّرناهم. لم يفهموا، قال.
وهذا على فكرة يقع مع الأفراد أيضاً أمثالنا، مع الأفراد! الله يبتليك بأشياء، ثم بعد ذلك يُفرِّج عليك، تقول فُرجت، الحمد لله. ماذا تقصد بالحمد لله؟ ماذا تقصد بهذا؟ هل فهمت أنت؟ دخلت امتحاناً أنت، فهل فهمت الامتحان؟ لم يفهم، الشيئ نفسه! أي قال لك هذه قضية من مُعتادات الزمان في مجاريه، الزمان يجري في الناس هكذا، مرة بالبأساء ومرة بالضراء، يوم نُسَر ويوم نُضَر، يوم نُسَر ويوم نُضَر! مثل هؤلاء – سُبحان الله – عُرضة لماذا؟ أن يُؤخذوا على بغتة وهم لا يشعرون، أرأيتم؟ لم يفهموا! قال لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، في آية أُخرى فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، أخشى أن هذه الآية في الكفّار تنطبق على بعض أمة محمد الآن من المُسلِمين. يقول أحدهم نعم، الحمد لله، هناك نصر، ابتلاء، تمكين، البُشريات آتية بعون الله، وسيرى مَن يعش منكم هذا. لا إله إلا الله يا رجل، يا رجل اتق الله، يا رجل الأمة – والله – أحق منك بنصيحة، أن تقول لها اتقي الله أيتها الأمة، واتقوا الله يا مَن قمتم في هذه الأمة هذه القومات، والله أعلم بنواياكم يا رجل، يا رجل التربية الإسلامية الإلهية الحقة تجعلك تُفكِّر قبل أن تتلفظ بكلمة، فقط كلمة! قبل أن تقول كلمة لجارك أو لأخيك، تسأل نفسك ماذا أردت بها؟ هل أُريد بهذه الكلمة وجه الله حقاً، أم أُريد أن أتميَّز على أخي – أي كأنني أقول له أنا أفضل منك، وأنت مُقصر، وأنا أراك طبعاً، فاتق الله يا أخي، وأنا أُحِب لك الخير، وأنت كذا وكذا -؟ هذا كلام فارغ، أنت فقط تُريد أن تُفهِمه أن فيك نقصاً وأنا أراه، اتق الله! وهذه الكلمة تكون في غضب الله، والله العظيم! مع أنك قلت كلمة طيبة، تقول له ماذا؟ قال الله وقال الرسول. وفي غضب الله! لأنك لم تُرد بها ماذا؟ وجه الله. أنت أردت بها نفسك، فكيف بك حين تعمل ما هو أكثر من هذا؟ هذه ليست كلمة تقولها لجارك أو لأخيك في المسجد ولا في الشارع ولا كذا، لا! أنت تتحرَّك بالأمة، تقول لهم قوموا، قاتلوا، خُذوا السلاح، هيا، ضحوا بأموالكم وأولادكم وبيوتكم ومُدنكم. وأنت في الأخير ما قصدك؟ القصد كله مصالح شخصية أو طائفية، مادية أو رمزية! وكيف بك لو كان أيضاً التعامل يتم مع الاستعمار وأعداء الأمة وكان هناك تنفيذ لمُخطَّطات مُقابِل وعود بسُلطة وأموال وأشياء؟ حسبي الله ونعم الوكيل، لا يُجوز هذا أبداً، ولذلك نحن نرى – ما شاء الله – ما يحصل لنا.
وعلى فكرة هناك سؤال، الحق يتعاند أو يتصادق؟ مُستحيل أن يتعاند. أنت الآن قد يُوجَد عندك مكان مُظلِم، وتُريد أن تُنيره، فتأتي بشمعة، هذه ستُنير شيئاً من فضاء هذا المكان، فماذا لو أتى آخر بشمعة أُخرى؟ هل سيحل الظلام أو سيزداد النور؟ سيزداد النور. الحق يتساعد، الحق يتساعد! قال تعالى نُورٌ عَلَى نُورٍ ۩، اللهم اجعلنا من أهل النورين، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۩، الحق يتآزر ويتساعد، فماذا لو كانت هناك شمعة ثالثة؟ هذا أحسن وأحسن. وماذا لو كانت هناك شمعة رابعة؟
إذن دعونا نرى ما الذي يحدث الآن، جاء هذا الفريق، وقال إنه قائم بالحق في قضية. وجاء الفريق الثاني، فالتحما وتقاتلا، أثخنا في أنفسهما! ما معنى هذا؟ إما أن كلا الفريقين مُبطِل، أو أحدهما على الأقل مُبطِل. أليس كذلك؟ سلوا أنفسكم مَن المُبطِل؟ غير مُمكِن أن تكونوا جميعاً على الحق، يستحيل! الحق ماذا؟ يتساعد ويتناصر، ولا يتكاذب ويتناكد ويتعاند. منطق بسيط لا نفقهه، ليس لنا علاقة به، لا نُفكِّر سُننياً، لا نُفكِّر سُننياً!
للأسف لم أسرد الخُطبة على النحو الذي رتبت، ولعل لي عُذر، ولعله قائم لديكم. الموضوع طويل الذيول – كما يُقال -، كثير الشعوب، مُسهَب، عميق. يحتاج إلى مُحاضَرة مُطوَّلة، بضع ساعات على الأقل.
فأكتفي بهذا وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
إذن إذا نزل البلاء، إذا نزلت الفتنة، تعم، ولا يُختَص بها بعض الأفراد الذين ظلموا وعتوا وتعدوا. هل هذا واضح يا إخواني؟ ومن أجل هذا لما نزلت المُصيبة في أُحد، الكل ناله نصيبه منها، حتى رسول الله، الذي شُج في رأسه الشريف، وكُسِرت رباعيته، وكاد يُقتَل ويُفتلَت من بين أيديهم – صلى الله عليه وسلم، روحي وأرواح العالمين له الفداء -، فضلاً عن الصحابة الكبار، الذين ذهبوا شُهداء سُعداء.
لما فعل بنو إسرائيل ما فعلوا، وتأبوا على أمر الله، أن يدخلوا الأرض المُقدَّسة بأمر الله وأمر رسوله، ماذا قال الله – تبارك وتعالى -؟ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۩، هذه الآية مُخيفة على فكرة، أو هذا الجُزء مُخيف. الله يقول لك هذه سبيل النصر، خُذ وانهج هذه السبيل، وخُذ بأسباب النصر، أُقيّد لك نصراً مؤزراً. لكن أنت استكبرت عن هذا، وأخذت في البُنيات، وأخذت تُلاحِق أهواءك وشهواتك، فكنت تخدم أجندات Agendas وجداول. لذا الله سوف يقول انتهى، النصر مُحرَّم عليكم. ربما! في هذا الجيل مُحرَّم، لن تُحرِزوا نصراً. فما الفرق إذن؟ مُستحيل أن كل سيئة عليهم وكل حسنة لنا كما قال جابر بن عبد الله، قال نعم الإخوة بنو إسرائيل، إن كانت كل سيئة عليهم وكل حسنة لكم. سُنن! سُنن لا تُفرِّق بين بني إسرائيل وبني إسماعيل وبين مُسلِمين ويهود ومسيحيين وهندوس، سُنن على الجميع، على الجميع! إما أن نصدع بأمر الله كما هو وأن نتقي الله في أنفسنا وأمتنا وديننا ونعلم أننا مأخوذ علينا في أقوالنا وأفعالنا وسكناتنا وحركاتنا وكل ما نأتي وما نذر، مأخوذ علينا، مُقام علينا من طرف عليم خبير، عليم بكل نفس وبما تكسب – لا إله إلا هو -، وإلا لن ينفع هذا التلاعب، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ ۩، ماذا؟ الْفَاسِقِينَ ۩. قال هؤلاء فسقوا عن أمري، هؤلاء لم يُطيعوني في أمري، فَلَا تَأْسَ ۩ عليهم.
المُهِم في القضية أن موسى وهارون – عليهما الصلوات والتسليمات – كانا مِمَن قضى الله – تبارك وتعالى – أن يقضيا زهرة العمر – أحسن ربما عقود العمر – في التيه. وموسى تُوفيَ ودُفِن في التيه، الله لم يقل له لا، أنت استثناء، سنُخرِجك وندعهم. لا! أنت معهم. هو هكذا، لأن فعلاً القوانين التاريخية وقوانين الاجتماع لا تستثني، لا تستثني! هكذا، لأن المُجتمَع هذا حلقة واحدة، كأنه كيان واحد، كائن فرد، هل هذا واضح؟ والنبي قال هذا، قال إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمى والسهر. صحيح! بمعنى ماذا إذن؟ بمعنى أنه لا يُمكِن لك أن تقول لي أنا المُعتل، عندي مُشكِلة في الكبد، ولكن بقية الجسم (عال العال). غير صحيح! إذا اعتل الكبد، اعتل الجسم. أليس كذلك؟ إذا اعتل أي شيئ فيك، يُقض مضجعك. يا رجل حين يُؤلِمك أي سن – أي (يضرب عليك) كما يُقال -، يحرمك لذيذ المنام – كما يُقال -، يقض مضجعك، أليس كذلك؟ وكذلك الهيئة الاجتماعية، مثل البدن الواحد، حين يفسد فيه أجزاء، الكل يُعاني، والكل يدفع الثمن، مثل الجسد الواحد! نفهم هذا، المُجتمَع مثل عضوية واحدة، مثل أورجانزم Organism واحد، مثل عضوية أو مُتعضية واحدة، مثلما تتعاطى مع قضية العضوية الواحدة صحةً ومرضاً، تعاط مع قضايا ماذا؟ الاجتماع. ولا تلم على أقدار الله – تبارك وتعالى -، لُم على مَن لم يخضع لمنطق السُنن ولم يفقهها ولم يُفرِغ عنها، هو أمامه طريق ويُمكِن أن يرجع، يُمكِن أن يرجع، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩. هل هذا واضح يا إخواني؟
إخواني:
أُلخِّص بكلمة، الابتلاء في كتاب الله – تبارك وتعالى – نعم قد يكون للتمحيص والتمييز، أليس كذلك؟ واليوم تلونا من سورة آل عمران وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۩، ما معنى يمحص؟
طبعاً مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۩، سُنة! هي نفسها، سُنة الابتلاء، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ۩، هناك فتنة، ابتلاء، تمييز، لكي نعرف مَن الصادق في دعوى الإيمان ومَن الكاذب والمُنافِق والمُتردِّد، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ۩، واضح! إذن هذه سُنن التمييز، لماذا؟ الناس قبل الابتلاء سواء. أليس كذلك؟ الناس قبل الابتلاء سواء، ما الذي سوّى بينهم؟ الدعاوى والمزاعم. الكل يدّعي ويزعم أنه مُؤمِن وصادق وولي وصالح وخالص وناصح. الكل! فإذا نزل البلاء، محَّصهم، فامتاز الصادق مِن مَن؟ مِن الكاذب. حكمة إلهية، حكمة تربوية هائلة، وهذه تحتاج إلى كلام وحدها.
إذن يُوجَد عندنا في القرآن الكريم ابتلاء تمحيص وتمييز، وبالتمحيص والتمييز يكون ماذا أيضاً؟ رفعة الدرجات. أليس كذلك؟ رفعة الدرجات! ويُوجَد عندنا ابتلاء يا إخواني آخر هنا، انتبهوا! وهذا المُهِم جداً جداً جداً، فليس كل ابتلاء تمحييص وتمييز، لا! يُوجَد ابتلاء يكون ماذا؟ عقوبةً وردعاً. هو عقوبة من الله وردع، حرصاً منه – لا إله إلا هو – علينا، لا تشفياً ولا انتقاماً، والله لا يتشفى، لأن لا يُوجَد أحد أصلاً يُمكِنه أن يضر الله أو ينال الله بأذى، لا يُمكِن أبداً! أي كما نقول دائماً إذا كفر الناس كلهم أو إذا آمنوا الناس كلهم، فهذا لا يزيد ولا ينقص عند الله شيئاً، ولكن هذا من أجل الناس، من أجل مصلحة الناس، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩، لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۩، لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، لكي ترجعوا فقط، هل هذا واضح؟
فهذا – انتبه – أيضاً يستوي فيه المُؤمِن والكافر، هذا ليس في حق الكفّار فقط، وفي حق المُؤمِنين أيضاً، في حق المُؤمِنين! فبنو إسرائيل – بنو إسرائيل قوم موسى – لم يكونوا كفّاراً، بالعكس! الله قال ماذا؟ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۩، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ۩، كان منهم أئمة عظام جداً في الدين، لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ۩، وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ۩، إلى آخره، إلى آخره! ولكن أيضاً ابتلاهم – لا إله إلا هو -، ابتلاهم وعاقبهم لما رسبوا وخابوا في الامتحان، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۩. ما قضية السبت هذه؟ هذا العقاب إذن، عقاب! لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩، القضية كانت قضية ابتلاء، قضية ماذا؟ قضية: الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ۩. هم كانوا يُخالِفون عن أمرنا، فنحن وضعنا لهم هذا الامتحان الذي خابوا فيه، ثم ماذا؟ عاقبناهم بعقاب ماذا؟ المسخ. سواء أكان هذا مسخاً مادياً أو مسخاً معنوياً، والأخير هذا الذي نرتاح إليه ونستروح إليه، وهو مذهب مُجاهِد، الذي هو ضد مذهب الجماهير، فمذهب الجماهير أنه مسخ ماذا؟ مادي، وليس معنوياً فقط. على كل حال قولان في القضية مأثوران مرويان، لكن قضية عقوبة هنا، قضية عقوبة! أَصَابَتْكُمْ ۩، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۩ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۩… إلى آخر الآية الكريمة، هذا أيضاً ماذا؟ عقاب. الله عاقبهم بشؤم المُخالَفة لأمر القيادة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، عقوبة!
إذن علينا دائماً أن نكون حذيقين وحذيرين ودقيقين هنا، ولا نعز كل ابتلاء يُصيبنا إلى ماذا؟ إلى غرض التمحيص والإكرام ورفعة الدرجات. لا! أبداً، ونرجو الله – تبارك وتعالى، نرجو الله فعلاً – أن يُكفِّر عنا بكل ما يُصيبنا من أذى أو حُزن أو بأساء أو لأواء أو ضراء أو نكبة أو مُصيبة، وهو فاعل – إن شاء الله تبارك وتعالى -، كرامةً أيضاً ورحمةً بهذه الأمة، وألا يجعل ما يُصيبنا عقوبةً وزجراً، بل يُقيمنا على الجادة وعلى السوية. قال – تبارك وتعالى – وأختم بهذه الآية مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ۩، وطبعاً الآية في صدرها لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩.
قال لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، جميل جداً، جميل جداً أن نلتفت يا أمة محمد – إخواني وأخواتي، أحبابي في الله – إلى أننا نصدر عن فهم قرآني لا يجعلنا نظن أنفسنا أمةً ماذا؟ أمةً مُصطفاة، مهما فعلت، فهي مرضيٌ عنها، غير مأخوذ عليها في شيئ، ومغفور لها. هذا المنطق اللعين مرفوض، أي منطق الاصطفاء، منطق الــ Chosen people أو الشعب المُختار، منطق الأمة المُختارة أو الناس المُختارين، منطق لعين على أصحابه قبل أن يكون لعنة على العالمين، والقرآن لا يُوجَد فيه هذا المنطق. وليس في القرآن منطق أننا خُلِقنا عبثاً وتُرِكنا هملاً سُدىً، هذا منطق ماذا؟ الذين ألحدوا بربهم، قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۩. وهؤلاء ما عرفوا لله قدراً، ولا أقاموا له وقاراً، ولا أقاموا له وقاراً أبداً! لا يُوجَد عندنا المنطق هذا.
بقيَ منطق واحد، منطق ماذا؟ أننا ماذا؟ عبيدٌ في قيد التكليف مُبتلون. مُبتلون بالأمر والنهي، مُبتلون بفهم السُنن ولزومها والصدور عنها في صغير أمرنا وكبيره. فقال – تبارك وتعالى – لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، مُخاطِباً مَن؟ مُخاطِباً الصحابة الكرم، والرسول بين ظهرانيهم. مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ۩ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۩.
لما نزلت الآية كبرت على الصحابة، كبرت حتى على أبي بكر الصديق، ريع! الرجل الجليل الصدّيق ريع، دخلته روعة، قال يا رسول الله كيف الفلاح؟ كيف النجاة بعد هذه الآية؟ الله يقول مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ۩، ونحن أُناس مُعرَّضون للسوء، نحن لسنا ماذا؟ أنبياء، لسنا رُسلاً، ولسنا ملائكة. نحتقب أحياناً ذنوباً، نفعل بعض الصغائر وبعض الذنوب! قال غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تُنكَب؟ أنت تقع وتتعثر وكذا، ألست تحزن؟ قال بلى يا رسول الله. هذا يحدث لي! قال فذلك مما تُجزى به.
صلى الله على مُعلِّم الناس الخير، وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين. ربنا لا تُؤاخذنا بما فعل السُفهاء منا، ولا تجعلنا في القوم الظالمين.
اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات مغفرةً ورضواناً. واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
__________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.
أضف تعليق