مركب الشوق: عندما يكون الحب طريقًا إلى اليقين

standard

الحب الذي لا يرتوي: سر التعلق بالمطلق

في عالم يموج بالمشاعر العابرة والتجارب الزائلة، يظل هناك نوع من الحب لا ينضب، لا تحدّه لحظة نشوة ولا تخمده خيبة الأمل. إنه الحب الذي يتجاوز كل حب آخر، لأنه ليس موجّهًا إلى كائن فانٍ أو لحظة عابرة، بل إلى المطلق، إلى الله. في خطبة مَرْكَبُ الشَوقْ للدكتور عدنان إبراهيم، يتبدى لنا هذا الحب في صورته العميقة، حيث يصبح الشوق إلى الله برهانًا على وجوده، ودليلًا على أن القلب الذي يبحث عن الكمال لن يجد مبتغاه إلا عند خالقه.

حين يصبح الحب دليلًا على الوجود

لماذا يشتاق الإنسان إلى ما وراء ذاته؟ لماذا يسعى إلى كائن أعظم منه، يحبه ويتمنى قربه؟ هذا السؤال، الذي حيّر الفلاسفة، يجده المؤمن جوابًا حيًا في أعماقه. حب الله ليس وهماً، بل هو حب مُتبادَل، وهذا ما يميّزه عن أوهام التعلق التي تصنعها النفس البشرية. “أن تُحِب الأوثان نعم يحصل، لكن أن تُحِبك الأوثان؟ هات الدليل!”، كما يقول الدكتور عدنان إبراهيم. لكن الله قال: “يحبهم ويحبونه”، أي أنه يبادل محبيه حبًا بحب، ووجودًا بوجود.

الاختبار الحقيقي للمحبة: هل يصمد الحب أمام الألم؟

في الحياة، يُختبر الحب الحقيقي ليس عندما تكون الظروف سهلة، بل عندما تشتد المحن. فهل يبقى حبك ثابتًا عندما يأخذ الله منك ما تحب؟ هل يكون الله عندك أكبر من كل شيء، حتى من نعمته نفسها؟ المحب الحقيقي لا يرى من الله إلا كل جميل، إن أعطاه رأى العطاء نورًا، وإن ابتلاه وجد البلاء عذبًا. أما من كان حبه مشروطًا، فإن زال عنه النعيم، كشف عن وجهه القناع.

القصة التي يرويها الدكتور عدنان إبراهيم عن السلطان محمود الغزنوي ونديمه إياس تضعنا أمام هذا السؤال الحاسم: هل نحن نحب الله لأنه يمنحنا، أم لأننا عرفنا أن لا شيء يعدل القرب منه؟ حين قدّم السلطان لمجلسه قثّاءة مرّة، ورأى أن نديمه يأكلها بلذة، سأله بدهشة: كيف تأكلها وأنت لم تذق مرارتها؟ فأجابه إياس: “لقد أفضت عليّ بالنعم طوال حياتي، فكيف أعترض عندما تعطيني شيئًا مرًّا؟”. هذا هو المحب الحقيقي، الذي يرى في كل ما يأتي من الله نعمة، حتى لو لم يفهمها.

المحبة الحقيقية تمحو كل الفوارق

من أعظم دلائل الحب الصادق لله أنه يمحو الفوارق بين الناس. في دنيانا، تحدد العلاقات بالفروق: الغني لا يخالط الفقير، والكبير لا يتواضع للصغير، والعالم يتعالى على الجاهل. لكن حين يكون الجامع المشترك هو الله، فإن كل الحواجز تسقط. كيف نفسر علاقة حب عميقة بين شيخ في الثمانين وشاب في العشرين؟ كيف يذوب الفارق بين العالِم والأمي؟ السر في أن المحبة الإلهية لا تعترف بفوارق الدنيا، لأنها ليست قائمة على المصالح، بل على النور.

حين يسخّن القلب الماء البارد

أحد أعمق الرموز التي وردت في الخطبة، والتي تختصر المعنى كله، هي قصة التلميذ الذي اعتاد أن يسخّن الماء لشيخه فجراً حتى لا يمسه البرد. ذات يوم، استيقظ الشيخ قبله، فارتبك التلميذ وأخذ الإبريق بين يديه، وضمه إلى صدره ليمنحه شيئًا من دفء جسده. وعندما جاء الشيخ ليتوضأ، فوجئ بالماء دافئًا، فسأل: “متى سخّنت الماء؟” فأجابه التلميذ: “على حرّ قلبي، يا سيدي”.

هكذا، من يعرف الله، لا يحتاج إلى نار تُشعل قلبه، بل قلبه نفسه نار من الشوق، تمنح الدفء لكل من حوله.

هل نحن مستعدون للحب الذي يغيّرنا؟

الحب لله ليس مجرد مشاعر جميلة، بل هو طريق يغيّر صاحبه. إنه يقلب موازين الأولويات، يمحو الفوارق، يرفع الإنسان فوق شهواته، ويمكّنه من تجاوز الألم دون أن يفقد يقينه. فمن أراد أن يحب الله، فليستعد لأن يكون هذا الحب أكبر من أي شيء آخر في حياته. وكما قال أحد العارفين: “اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، ومن الماء البارد على الظمأ الشديد”.

هذا هو مركب الشوق، فهل نحن مستعدون لركوبه؟

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: