إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله – جل من قائل -:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ۩ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۩ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۩.
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۩، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩، ليس من المُستبعَد أن يُحِب المرء وهماً أو أن يُحِب وثناً، وقد أحب هؤلاء العادلون بالله، المُشرِكون به أوثاناً وآلهةً مزعومة، اتخذوها أنداداً من دون الله، ورد الله – تبارك وتعالى – عليهم بالقول وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۩، وهنا يثور سؤال، ولِمَ لا يكون حُب المُؤمِنين لله من باب حُب الأوهام أيضاً كما ذهب إلى هذا غير واحد من كبار فلاسفة الإلحاد، مثل فيورباخ Feuerbach وسيجموند فرويد Sigmund Freud وغيرهما؟
في الحقيقة الجواب أيضاً في كتاب الله – عز وجل -، وهو قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩، قال يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩، أن تُحِب الأوثان نعم يحصل ويقع، لكن أن تُحِبك الأوثان هات الدليل، أن تُحِبك الأوثان هات الدليل! أن تُحِب الأوهام واقع وحاصل، كأين من وهم يُستهام المرء في حُبه، على أنه وهم من نسج الخيال وإبداعه! لكن أن يُحِبك الوهم أقم البرهان، الله – تبارك وتعالى – قال يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ۩، من جهتهم يُحِبُّونَهُ ۩، وهنا لا تنتهي المسألة، لكن من جهته يُحِبُّهُمْ ۩، ويصير السؤال ما علائم ودلائل هذا الحُب؟ كيف نعلم أنه يُحِبنا – لا إله إلا هو -؟ كيف نعلم أنه يُحِبنا؟ وإذا تبرهن أنه يُحِبنا تبرهن أنه موجود، ولا نقول مُدرِك، ولا نقول واعٍ، وإنما عالم حسبما وصف نفسه، إنه موجود وعالم بنا وبمشاعرنا وبُحبنا إياه – لا إله إلا هو -.
قد يُوجَد موجود وقد تُحِبه، لكنه لا يشعر بحُبك، وبالتالي لا يُبادِلك حُباً بحُب، هناك المُخ الزواحف – مثلاً -، المُخ الزواحفي! يُمكِن أن يُحِب إنسان غير عادي – ربما يكون غير عادي – تمساحاً، لكن التمساح لن يشعر بهذا الحُب، ولن يُبادِله إياه، لأن المُخ العواطفي أو العاطفي – وهو مُخ الثدييات، أي الــ Mammalian brain كما يُقال – غير موجود لدى الزواحف، هذا المُخ غير موجود لدى الزواحف، لم يُخلَق، لم يكن مُتطوِّراً في تلك الحقبة المُتقدِّمة المُبكِّرة، ولذلك هذه الزواحف لا يُمكِن أن تشعر بك، ولا أن تشعر بحُبك هذا، حُب أصم هذا، حُب عقيم، حُب عاقر، لا يحصل معه تفاعل، وبالتالي لا إنتاج، لا تخصيب، لا بركة، لا تثمير، هل هذا واضح؟
إذن الوجود نفسه غير كافٍ، لابد من الوجود ومن الشعور، في حق الله لابد من الوجود ومن العلم، لكي يُحِبك كما تُحِبه، فهو موجود وعالم، لا إله إلا هو! عالم بطويات الأنفس وبمُضمَرات الصدور، وهو أقرب إلى واحدنا من حبل وريده.
هذا أحد البراهين التي يُمكِن أن تُقام وتُشاد لإثبات وجود الذات الإلهية، لإثبات وجود الله – لا إله إلا هو -، بُرهان الشوق! لماذا يتشبَّث المرء بشيئ خارجه؟ أنت تشتاق إلى مَن تُحِب من البشر أيضاً ومن الأشياء ومن الحيوانات، لماذا؟ لماذا تشتاق إلى شيئ خارج ذاتك؟ لماذا تجاوز الأنانية؟ لماذا تجاوز الأنا؟ بُرهان أقامه الله – تبارك وتعالى – ليدل عليه، ليدل عليه!
عرفنا الحُب والشوق والتشبث بالآخر، بالماهناك في إطار عالم الخلق، ثم تجاوزناه إلى مُبدِع الخلائق ومُوجِد الملكوت والمُلك، لا إله إلا هو! وشعرنا بهذا عميقاً، بل يُمكِن للمرء أن يزعم في غير مُجازَفة وفي غير اعتساف أن كل ضروب وصور وألوان الحُب التي عرفها وخبرها البشر تفريع عن ومن الحُب لله، لا إله إلا هو! نعم، ولذلك ما من حُب إذا حُكيت حكايته أو إذا قُصت قصته أو إذا تُليت أشعاره يبلغ من المرء جوهر وسويداء قلبه وروحه كحكاية الحُب لله – لا إله إلا هو – حين يقصها العاشقون أصحاب الحكاية، انتبهوا! فرق كبير بين العارف بالله وبين رجل يدّعي العرفان ورجل يدّعي أنه من أهل الله ويستنفذ أوقاتنا في حكي الحكايات عن الآخرين، العارف الحقيقي بالله هو حكاية، هو حكاية تُحكى، هو قصيدة تُتلى، ولا يكتفي فقط بأن يحكي لنا الحكايات وأن ينقل لنا الأخبار، هو يغدو خبراً من الأخبار، ويئيض ويعود بصدق عرفانه وصدق محبته للحق – لا إله إلا هو – حكاية تُحكى، إن لم تحك اليوم ستُحكى في الغد القريب أو البعيد، هذا لمَن فقه ولمَن جرَّب.
وهذا الحُب – إخواني وأخواتي – من كلتا جهتيه عليه علائم ودلائل، محبة العبد للرب ومحبة الرب – لا إله إلا هو – لعبده، وأعود إلى قضية أن كل صور الحُب تتفرَّع من حُب الله – لا إله إلا هو -، بدليل أن كل خبرات الحُب لا ترتوي، فإن قال قائل قد ارتوت قلنا لم يكن حُباً حقيقياً، كان شهوة، كان إرادة تملك، وإرادة احتياز، فلما قُضيت الشهوة وحصل الاحتياز ارتفع الحُب الذي لم يكن أصلاً، فهذا ليس حُباً، الحُب الحقيقي يا إخواني لا يرتوي، هل تعرفون لماذا لا يرتوي؟ لأنه لا يقوم بذاته، هو يقوم مُؤشِّراً على ما اشتُق منه، وهو حُب الله – لا إله إلا هو -، ومن هنا قال العارفون في القلب خلة لا يسدها إلا محبة الله – تبارك وتعالى -، فمَن لم يعرف الله ظل يُكابِد ويُعاني آلام وأوجاع هذا الشوق الوجودي العظيم، هذا العشق الذي لا يعرف حقيقته المسكين، ويظن أنه عشق للحُسن والجمال والشهوات والأملاك والبذخ الفارغ، ليس هذا!
ومن هنا سر تأثرنا حين نسمع – كما قلت لكم – حكاية صادقة عن مُحِب صادق لله من هؤلاء العارفين الكبار، قصيدة شعر تُتلى، ولو كانت حتى مُترجَمة، نتأثَّر تأثراً غير عادي، لماذا؟ لأن ما يُتلى علينا ويُحكى ويُقَص يُحرِّك ذلك الحُب الكامن الذي لم نستثره بالتجربة، لم نحفزه، لم نبعثه من مكمنه، إنه حُب الله في قلب كل مخلوق وفي قلب كل موجود، ومن الجميل ما ذكره بعض كبار النُحاة، أن الله – الاسم الجامع، الاسم المُفرَد، لفظ الجلالة: الله – أصله الإله، والعرب تستثقل هذه الهمزة، الــ إله، فحُذِفت، ثم اعتورت الكلمة إجراءات تدغيمية – من الإدغام – أو إدغامية وحركية، فأصبحت الله، وأصلها الله بالكسر، فأصبحت الله، ثم ذهبوا ليبحثوا في أصل الاشتقاق، من ماذا اشتُق الإله وهو أصل الله؟ ذهب بعضهم – وأنا أميل إلى هذا وأرتاح إليه جداً – إلى أنه من وله يوله ولهاً، والوله هو العشق يا إخواني، لأن الله تعشقه موجوداته، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ۩، من وله يوله ولهاً، والوله شدة الحُب والشوق والجزع على الحبيب وعلى الحِب، امرأة ولهى ذهب عقلها جزعاً على ابنها الذي فقدتها – مثلاً – أو سُجِن، تولهت المسكينة، فأصبحت ولهى، الوله شدة الحُب والعشق، وربما ضياع العقل ونفاذ الصبر بسبب فقد المحبوب.
قال مولانا عبد الرحمن الجامي – قدَّس الله سره – الحُب كالصاعقة، يُشعِل النار في الصبر والعقل جميعاً، فيصيرا هباءً منثوراً، لا صبر ولا عقل، انظر إلى هذا، هذا يقشعر له البدن مُباشَرةً، لماذا؟ حديث عن حُب الله هذا، ليس عن حُب النسوان والولدان والقصور والأموال، عن حُب الله! يقول الحُب كالصاعقة، يُشعِل النار في الصبر والعقل جميعاً، فيصيرا – أي فيُصبِحان أو فيعودان – هباءً منثوراً، لا صبر ولا عقل، إنه الوله، فراغ القلب من كل شيئ، إلا من الله، لا إله إلا هو!
وهذا له علائم – كما قلت لكم -، وعليه دلائل، ولابد من أن يُختبَر الحُب، قبل أن نذهب إلى العلائم والدلائل لابد أن يُختبَر، الله – تبارك وتعالى – يختبر زعم مَن يزعم حُبه، ودعوى مَن يدّعيه، أي ودعوى مَن يدّعي حُب المولى – لا إله إلا هو -، فيبتليه بأشياء، يسوق إليه أموراً، ليرى هل هو صادق في الدعوى أم مُخادِع كذّاب – حاشاكم -، كذلك الرجل الذي استُهيم مرة بامرأة جميلة، بارعة الحُسن والجمال، فجعل كلما عرضت له يتعقبها، ويمشي وراءها، وأحست هي بهذا، حتى إذا كان ذات يوم خلا بها في زقاق من الأزقة، فقال لها يا أمة الله والله ما عُدت أعرف للطعام والشراب معنىً، والنوم زايلني مُذ عرفتك ورأيت هذا الحُسن البارع، لقد تدلهت بكِ وفرغ قلبي من كل شيئ إلا من خيالك وطيفك فارحميني، يعرض نفسه بالحلال عليها، قالت له ومن أين لي أنك صادق؟ فلعلك إذا رأيت أختي التي تفوقني وتبذني جمالاً وبراعةً تلتفت إليها وتتركني – قالت فلعلك كذا وتتركني، لا أدري -، فجعل يستوثق لنفسه بأغلظ الأيمان والأقسام، تالله وبالله ووالله، فقالت ها هي ذا قادمة، فالتفت مُباشَرةً، فصكته بخفة على قذاله، وقالت له تدّعي الحُب أيها الكذّاب وفي أول اختبار تسقط؟! كذّاب، كذّاب!
مَن ادّعى محبة الله لم يلتفت إلى غير الله، والله أكبر، كم مرة نقولها! الله أكبر، أكبر في جماله، وأكبر في محبوبيته، وأكبر في أن يُلتفَت إليه من كل شيئ، فمَن عرف الله لم يلتفت عن الله إلى شيئ سواه، لأنه أكبر، وتحقَّق هنا بمعنى هذه الأكبرية هو، تحقَّق بفهمها ودركها ووعيها، أنه أكبر، لكن إن التفت فالمُتلفِّت لا يصل، والمُتسلِّل لا يُفلِح، وإنما هو لص من اللصوص، ويُوشِك أن يكون تدين الكثيرين من الناس لصوصية وسرقة يا إخواني، يضحكون ويخدعون ويغشون أنفسهم بأنهم يُريدون وجه الله وبأنهم يُحِبونه، وإنما ذلك فقط من أجل أن يُصيبوا به الدنيا، ولذلك يختبر الله مَن ادّعى حُبه، وفي رأس الاختبارات كما أعطاه اللذيذ المشوق الحلو السكري العذب يسوق إليه المُر الحنظلي والجشب الغليظ والحامي الساخن، مرائر الامتحانات! ليرى، فأما الصادق فهو على حالة واحدة، لا يرى من الله إلا كل جميل، وأما المُخادِع الكذّاب فسريعاً يُفتضَح.
يُحكى عن السُلطان العظيم محمود بن سبكتكين الغزنوي الآتي، وهو من أعظم سلاطين المُسلِمين وأجلهم، وكان يتعاطى العلم أيضاً ويُقرِّب العلماء والصُلحاء، لكن كان له نديم من خاصة خِلصانه وأقربهم إلى قلبه وأمسهم به مودة، إياس! يُدعى إياساً، واتفق ذات يوم أن تناول السُلطان محمود الغزنوي قثاءة، أي خيارة! خيارة كسرها باثنين، وأعطى إياساً نصفها، وأخذ هو النصف، فشرع إياس مُباشَرةً يأكل، ويأكل بالتذاذ، والسُلطان يُحادِثه، بعد قليل وضع السُلطان شطره في فمه، فلفظه سريعاً، لفظه سريعاً وقال إياس، كيف أمكنك أن تأكل هذا؟! إنه مُر كالحنظل أو كالسُم الزُعاف، كيف أمكنك أن تأكل هذا وتلتذ به؟ وهذا يُواصِل أكله، قال سيدي، سُلطاني المُعظَّم، لقد أفضلت علىّ كثيراً، سنوات كثيرة وأنت تُغدِق علىّ النعم والأفضل، حتى صرت إلى حالة مهما أعطيتني من شيئ لم أره إلا حلواً عذباً لذيذاً.
هذا هو المُحِب، هذا الذي عرف الله، وهذا الذي شكر نعمة الله، عمَّرك الله ما عمَّرك – عمَّرك عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو سبعين أو ثمانين سنة – وساق إليك من وجوه النعم والأفضال ما الله به عليم وما تستذكر أنت بعضه ونسيت أكثره، فإذا أراد أن يختبرك في مسألة أو مسألتين أو ثلاث عُدت إلى حافرتك وانقلبت على عقبيك وجعلت تشكوى وتتذمَّر وتتسخَّط! أين الحُب؟ لا يُوجَد حُب، هذا كذب، لا يُوجَد حُب، المُحِب الحقيقي – كما قلت لكم – لا يعود يُميِّز أبداً، كله لذيذ، كله حلو.
ما مسني قدر بكره أو رضا إلا اهتديت به إليك طريقاً.
أمض القضاء على الرضا مني به إني وجدتك في البلاء رفيقاً.
يا إخواني هذا معنى لطيف أسوقه الآن وجميل، جميل جميل جميل وعميق، لو أن الله – تبارك وتعالى – أكرم عبداً به لكان أكرمه بواحدة من أعظم وأجسم وأجل الكرامات، اللهم أكرمنا بذلك، وهو المعنى الذي عرضه أبو سعيد النوري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حين قال ولي الله والعارف بالله يقبل من الله كل ما يُورِده الله عليه، ما يُورِده الله! مما لا يد له فيه ولا لغيره من الناس، أمر من عند الله، الله يُريده مهما كان صعباً ويقبله ويرضى به، وليس فقط يصبر عليه أو يُسلِّم، وإنما يرضى به ويفرح به، كأنه ليلة القدر!
إذا طرقت بابي من الدهـر فـاقة فتحت لها باب المسرة والبـشـر.
وقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً فوقتك عندي أحظى من ليلة القدر.
عجيب! مع أنك تفتاق، تفتقر، تُكرَث، وتُصاب؟ قال نعم، الله أراد هذا لي، وهو الخير كله، هذه ليلة القدر.
فتوحي مرهون أو مرهونة بها – أي بهذه الليلة – إن رضيت وأحببت ما أحبه الله لي، فينقلب الأمر تماماً، ليعود فتوحاً حقيقيةً، ليعود لذةً ونعيماً، بعد أن كان ألماً وعذاباً.
قال ولي الله والعارف بالله يقبل من الله كل ما يُورِده عليه، والله يُكافئه بماذا؟ يقبل منه كل ما فعل، لا إله إلا الله! ما هذا؟ هذا هو، الإنسان يُخطئ، والله يقول له معفو، الإنسان يتجاوز، والله يقول له مُسامَح يا عبدي، مُسامَح! أنت تحمَّلت ما لا تتحمَّله الجبال من اختباراتي، وأنا الآن أجوز لك وأسمح لك ما أخطأت به، تماماً كما قال السيد الأجل – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ما على ابن عفان ما فعل بعدها أبداً، أوجب عثمان – قال -، مَن اختُبِر بالمال وأعطى – أعطى الجزيل الكثير -، والنبي كان يعلم أن سيدنا عثمان سيُخطئ، وقال على هنات والله يغفر له، قال ستكون له هنات، أي أخطاء، أخطاء مُعيَّنة ستكون، وهي صغيرة، الله سيغفرها له، لماذا؟ لأن عثمان ابتُليَ، ابتُلي فنجح في الابتلاء، جاز الامتحان، أوجب! أوجب عثمان، ما على ابن عفان ما فعل بعدها أبداً، عجيب!
يونس – عليه السلام – أخطأ خطاً يسيراً، ترك التبشير بالدعوة إلى الله من غير أن يأذن الله له، فكان أن التقمه الحوت وهو مُليم، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ۩، هو الذي غلط، الله لم يتجاوز عليه، هو الذي تجاوز، لكن موسى ألقى الألواح المكتوبة بخط القدرة، ويُقال إنها تكسَّرت، لم يثبت هذا، لكن في القرآن وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ۩، فهذا في كتاب الله، في سورة الأعراف، عند أهل الكتاب وأنها تكسَّرت، في القرآن لا يُوجَد ولا موضع واحد أن الله عتب عليه، إشارة عتب! كيف ترمي الألواح؟! لأن موسى مر باختبارات كثيرة، وكان نعم العبد، يخرج منها نعم العبد، مُشحَّراً كالذهب الإبريز، مُشحَّراً صافياً كالذهب الإبريز، فلم يعتب الله – تبارك وتعالى – عليه يا إخواني وأخواتي، هل هذا واضح؟
من الدلائل يا إخواني على صدق محبة العبد لله – تبارك وتعالى – أن العبد إذا أحب الله بصدق أحب أولياء الله حُباً عجيباً، هذا الحُب لا يفهمه لا كافر ولا مُسلِم لم يُجرِّبه، ما رأيكم؟ مُسلِم قرأه في القرآن الكريم، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۩، عجيب! ما هذا الذي لا يُمكِن أن يُشترى بأموال الأرض كلها؟ الله يلفتنا، ويقول هذا شيئ غير ما تتخيَّل، ليس هذا الذي بيننا من الكذب والرياء والنفاق والتجمل لبعضنا البعض والمصالح أبداً، حتى إذا حدث شيئ يسير ظهرت الحقائق، وإذا بالأخ يأكل لحم أخيه، ويقرض أديمه، ويُقرِّض عرضه، وقال له أُخوة في الله، كذب، كذب! لم نعرفه، ولم نُجرِّبه، لا! المحبة في الله شيئ خطير وعجيب وغريب يا إخواني، وهي دلالة على أن الله – تبارك وتعالى – هو الجامع المُشترَك بين هذين المُتحابين فيه، هذان المُتحابان من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ليس لأنه كان يقول له أنت أخي أو أنت أخي في الله ويتعانقان ويتكاذبان، لا! تُوجَد محبة حقيقية، هذه المحبة لا تستطيعها أنت ولا أستطيعها أنا، فقط تأتي ثمرةً لاستقرار واستحكام محبة الرب – لا إله إلا هو – في قلب عبده.
ولذلك أقول لكم هذه المحبة أيضاً في الله عليها علامة، عليها علامة لائحة! ما هي؟ أنها تمحق كل ما يعتده الناس من فوارق في دنيا الناس، هناك فوارق كثيرة لها اعتبارات يا إخواني، يُعتَد بها! كفوارق السن، تجد – مثلاً – الرجل إن كان في الخمسين أو في الستين يستحي ويستكبر أصلاً بل يستنكف عن أن يُحِب أو يُصادِق أو يُواخي ابن العشرين – مثلاً – أو السابعة عشرة، يقول لك ما هذا؟ مثل أولادي هذا، كلام فارغ! فليذهب لكي يلعب مع أطفال مثله أو شباب مثله من المُراهِقين، لكن أنا لا، أنا عمري خمسون سنة، ورجل لي حجمي ولي وضعي وحيثيتي، فلا ينبغي هذا، لا يلتئمان، لكن لا، في الله يحصل هذا، تجده في التسعين من عمره ويُحِب حُباً أكثر ما يُحِب أبناءه أو بعض أبنائه رجلاً في العشرين، غريب! ما المُناسَبة بين رجل في التسعين ورجل في العشرين؟ هذا من أهل الله، وهذا من أهل الله، هذا نور الله في قلبه وعلى وجهه ولسانه، وهذا – نفس الشيئ – نور الله في قلبه وعلى وجهه ولسانه، الله جمع بينهما، انمحق فارق السن، عجيب وغريب! وهناك حكايات وقصص – ولكن المقام لا يتسع لذكرها – عجيبة، بها عاد بعض الملاحدة إلى دين الله، لما رأى هذا فهم، كان ذكياً وفهم أن الذي يجمع بين شيخ ثمانيني وبين شاب عشريني أمر غير عادي، غير طبيعي بالمرة في دنيا البشر، وفي أيام يسيرة تتوثَّق المدة حين يلتقي رجلان في الله، قال اجتمعا عليه وافترقا عليه، الله موجود هنا، هو الجامع المُشترَك – لا إله إلا هو -.
كذلك ينمحي حجاب الغنى والفقر، هذا غني، ملياردير! وهذا فقير، مُملِق المسكين، لا يُوجَد هذا الحجاب أبداً! بينهما المحبة في الله، عجيب! ينمحق أيضاً فارق العلم والجهل، هذا علّامة كبير، إمام عصره، وهذا أُمي، المسكين لا يضع سواداً في بياض، لكن لا أثر لهذا، لا أثر لهذا! محبة عجيبة بينهما، غريب! على أن هذا من أعلم العالمين، وهذا أُمي، بقيَ في قيد الأُمية، الله حاضر، يجمع بينهما، شيئ غريب، الله حاضر يجمع بينهما!
شيخ الإسلام الإمام أبو نُعيم الأصفهاني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، صاحب حلية الأولياء، الإمام الشهير والكتاب الشهير عن الصحابة، وعنده غير هذا من الكُتب، كدلائل النبوة – روى الآتى، روى – رحمة الله تعالى عليه – أنه في زمن المُعتمِد العباسي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري رُميَ جماعة من الصوفية بالزندقة، هناك فتنة معروفة لمَن درس التاريخ، تُعرَف بفتنة غُلام خليل، على كل حال رُميَ جماعة من الصوفية بالزندقة، فأُخِذوا! وكان مِمَن أُخِذ أبو الحُسين النوري الخراساني – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، هذا الصوفي الجليل شيخ الطائفة ببغداد، هذا كان شيخ الصوفية وأهل الله ببغداد، وكان الجُنيد يُجِله جداً، وخال الجُنيد السري السقطي كان أيضاً له علاقة بأبي الحُسين النوري – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.
مُباشَرةً – لم يكن يُوجَد لدينا مثل الذي لدينا اليوم، هذه ليست دولة قانون، دولة اعتساف وظلم شديد، يُقتَل الرجل الصالح والعالم في لمح البصر، أبدا! ولا يُطالِب تقريباً أحد بدمه – أُحضِروا، تكلَّم معهم المُعتمِد، وأمر بضرب أعناقهم، قال أخرجوهم في ساحة – أي ساحة القصر – واضربوا أعناقهم، فبادر مُباشَرةً أبو الحُسين النوري إلى السيّاف ليُضرَب عُنقي، ابدأ بي – قال -، فالسيّاف رُعِب، ما هذا؟ فقال له لِمَ فعلت هذا؟ قال آثرت حياتهم بنفسي ولو ساعة، قال هؤلاء إخواني في الله، هؤلاء رجال الله، أموت قبلهم، وعلى الأقل تتأخَّر موتتهم ولو ساعة، والساعة عندهم ليست ستين دقيقة مثل اليوم، الساعة خمس دقائق أو سبع دقائق، هذه ساعة، في اللُغة الفقهية واللُغة العربية القديمة الساعة سبع دقائق أو عشر دقائق، هذه الساعة، يُقلِّلها كما في الحديث الصحيح، الساعة ليست ستين دقيقة، هذا اصطلاح حادث.
قال آثرت حياتهم بنفسي ولو ساعة، فرُعِب السيّاف، ألقى السيف وعاد إلى المُعتمِد، فيه خير السيّاف وفيه عقل، ليس عابداً للمُعتمِد من دون الله، هناك ضمير يتحرَّك، عاد وقال يا سيدي وقع كذا وكذا وكذا وكذا، وأشفقت أن أضربت أعناقهم، ما هذا الشيخ؟ شيئ غريب هذا، فأجفل أيضاً وأوجل المُعتمِد، فأمر بأن تُرفَع قضيتهم إلى قاضي القُضاة إسماعيل بن إسحاق الجهضمي – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -، معروف هذا، القاضي إسماعيل مشهور، وهو علّامة كبير.
فأُخِذوا أيضاً إلى القاضي، فبدأ بأبي الحُسين النوري، وسأله مسائل في العبادات، فأجاب بأحسن جواب، في كل مسألة أجاب، أجاب! فالقاضي إسماعيل تحيَّر، عجيب، هذا رجل يعرف الشرع، ويحترم الشرع تماماً، ومُترسِّم أيضاً برسوم الشرع فيما يبدو، لماذا يُتهَم بالزندقة؟! ثم أن أبا الحُسين النوري قال له بعد أن فرغ من جوابات الأسئلة كلها وبعد هذا فإن لله رجالاً، يتكلَّمون بالله، ويسمعون بالله، ويُبصِرون بالله، ويتعاطون بالله، فانخرط قاضي القُضاة في بكاء مُر، ثم قال إن كان هؤلاء زنادقة فليس لله على وجه الأرض مُوحِّد، قال هؤلاء المُوحِّدون.
والشاهد – إخواني وأخواتي – في هذه القصة العجيبة الغريبة أن هذا الرجل فدى إخوانه بنفسه، محبة في الله، الله حاضر هنا، وهو يعلم أنه لن يفقد شيئاً، كلنا في قبضة الله، إِنَّا لِلّهِ ۩، الآن إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، إِنَّكَ مَيِّتٌ ۩، أنت ميت، في الحقيقة ميت أصلاً، هو هذا! بل هذا مما يُعلي مقامه عند الله – تبارك وتعالى -، هذا مما يُعلي مقامه عند الله – تبارك وتعالى -.
الذي يصدق في حُبه لله – تبارك وتعالى – يا إخواني يفنى عن نفسه، ليس عن حظوظ نفسه فقط، حتى عن نفسه يفنى المسكين، عن نفسه يفنى! لا يعود يراها، ولا يحس بها، يفنى في حبيبه – لا إله إلا هو -، كما قال مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره -، قال اليوم صرت إلى حالة لا أُفرِّق فيها بين الحمار وحمله، واليوم صرت إلى حالة لا أُميِّز فيها الشوكة من الوردة، والذي فعل هذا بي حُبي، حتى لم أعد أُميِّز مَن هو المُحِب ومَن هو المحبوب.
أمس أفض بي السُكر إلى باب حِبي – أي محبوبي -، واليوم لم أعد أر الباب ولا الدار أصلاً، لا باب ولا دار، ذهبا! قال في العام الفائت كان لي جناحان، هما الرغبة والرهبة، الخوف والرجاء، قال أما اليوم فما عُدت أدري ما الجناحان، ولم أعد أعرف الطيران، وتلاشت عني مخاوفي الضائعة، لم أعد أخشى شيئاً، هذا هو حال مَن أحب الله – تبارك وتعالى -.
أما مَن أحبه الله – تبارك وتعالى – فهذه عليها دلائل، مَن أحبه الله عليها دلائل أيضاً، من دلائلها بنص كتاب الله – تبارك وتعالى – وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۩، إذن مفهوم الآية أن مَن أحبه الله لم يُعذِّبه، تقول لي ولكنهم كما قلت يا أخي يُبتَلون، قلت لك نعم، أنا قلت لك يُبتلون، ويجدون كل شيئ حلواً عذباً لذيذاً، أنت تقول هذا مسكين، المسكين ابتُليَ بفقد حبيبه، مات ابنه وحيده أو ماتت زوجته أو خسر ماله، أنت تُشفِق عليه، وهو سعيد جداً، وأنت لا تدري، أنتم يا قوم في واد وهو في واد، أنتم في واد وهو في واد، أنت تُشفِق عليه، تقول محزون مكلوم، المسكين ممرور موجوع، فقد وفقد وفقد، وهو يرى أنه وجد ووجد ووجد، طبعاً طبعاً! لا يحزن، وهذا من علامات أن الله يُحِبه – لا إله إلا هو -، يجد كل شيئ لذيذاً، يجد كل شيئ عذباً من الله – تبارك وتعالى -.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا حُبه، وحُب مَن أحبه، وحُب العمل الذي يُقرِّبنا إلى حُبه، اللهم ما رزقتنا مما نُحِب فاجعله قوةً لنا فيما تُحِب، وما زويت عنا اللهم مما نُحِب فاجعله فراغاً لنا فيما تُحِب، واجعل حُبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ الشديد، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب.
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب.
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب.
يا ما أحيلاها من أبيات! يستحليها أيضاً السمع، سمع المُؤمِن وسمع المُحِب، لأنها عن المحبوب الأعظم – لا إله إلا هو -.
أختم – إخواني وأخواتي – هذه الخُطبة بسؤال وجوابه، لِمَ نشعر ونلمس جمالاً وروعةً خاصةً لكلام أُناس عن رب العزة، في حين يُردِّد الكلام نفسه – انتبهوا، لا نتحدَّث عن كلام آخر، لتفاوت ما بين الكلامين، كما قد يُقال، لا! يُردِّد ربما الكلام نفسه آخر، مِمَن ينتمي إلى الدين وربما يُوهِم أنه من السالكين سبيل العرفان وولاية الله الخاصة – فلا نجد شيئاً؟ هنا تخشع، وهنا يعسو ربما قلبك، غريب! تسمع الذكر، تسمع ما يُذكِّر بالله، والقلب يقسو، عجيب! ما الذي يحدث؟ هذا شيخ وهذا شيخ، فلِمَ الكلام هنا له روعة، له جمال، له طلاوة، وله ديباجة خاصة، له تأثير من نوع استثنائي، وهنا غير موجود كل هذا، هل تعرفون لماذا؟ هذا الكلام خارج من قلب مُحِب لله، عرف الله وأحبه، وهذا قلب يدّعي أنه عرف الله وأحبه، يدّعي! من أصحاب المزاعم، كلامه ميت، كلمات ميتة، ميتة! تخرج ميتة، وتقع ميتة، ولا نعود منها بشيئ، نبقى كما نحن، وربما نقسو.
ولذلك وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ۩، ليس كل مَن شاء أن يزعم أنه يدعو إلى الله، يا رجل هل مأذون أنت بطريقة أو بأُخرى إذن؟ كيف؟ كيف عرفت أنك مُستأهل لأن تدعو إلى الله وأن تدل على الله؟ هل لك تجربة صادقة مع الله؟ هل لك سر بينك وبين الله – عز وجل -؟ سر تخبأه ليوم الدين، لا تُريد أن يطلع عليه، لا إنس ولا جن، هل لك؟ مُكافأة من الله، لأنك سرت على دربه بالصدق سنين طويلة أو حتى يسيرة – لا ندري، هذا بحسب قوة الصدق والإخلاص -، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ۩، قال بِإِذْنِهِ ۩، فرق بين مَن هو مأذون وفرق بين مَن هو مزعوم، مزعوم له أنه يدعو إلى الله، فرق!
ولذلك العارفون بالله هم أحكم منا، هم أساتيذ هذه الطريق، مَن لم ينفعك لحظه لم يُفِدك لفظه، قبل أن يتكلَّم ينفعك لحظه، وهذا أتى مصداقاً للخبر الذي رواه الطبراني وأبو نُعيم وغيرهما حين سُئل – صلى الله على رسول الله وآله وسلم تسليماً كثيراً – مَن هو الولي؟ تُحدِّثنا عن الولي وتقول مَن عادى لي ولياً – في الحديث القدسي – فقد آذنته بالحرب، الله شيئ عظيم عنده الولي هذا، مُقرَّب مُجتبى! قال مَن – حين سُئل عن أولياء الله قال هذا – إذا رُأوا ذُكِر الله، بمُجرَّد أن تراه قلبك أنت يلين ويذكر الله، لأنك إزاء رجل مع الله على مدار الأربع والعشرين ساعة، (أربع وعشرين على أربع وعشرين) كما يُقال، حتى في نومه! مع الله باستمرار، يعيش بالله ولله، فإذا رأيته القلب رق ولهج بذكر الله – تبارك وتعالى -، وهذا فرق بين كلام رجل كلامه حديث عهد بربه، من واقع الخبرة، من بين لحم ودم الخبرة والعيش، وبين رجل كلامه مأخوذ من الكُتب، والآن من الإنترنت Internet طبعاً أيضاً، فرق كبير جداً!
سأختم بقصة، هي تُحفة هذه الخُطبة – إن شاء الله تعالى -، تُؤكِّد هذا المعنى بطريقة رمزية ولا أروع، كان الشيخ أفتار – قدَّس الله سره – قد أبل من مرضه، وكان الجو مُشتياً، كان شتاءً قارصاً زمهريراً، والماء من البرودة بحيث لا يُمكِن أن يُمِسه الشيخ جلده إذا نهض لصلاة الفجر، بارد برداً شديداً، ولكن تَلميذه ومُريده الصادق المُحِب – الصادق في حُبه لشيخه – دائماً ما كان يستيقظ قبل شيخه ويُسخِّن له الماء، وعوَّد شيخه هذا، لكن فُوجئ التَلميذ هادي ذات ليلة أو ذات فجر أو ذات صباح بأن شيخه استيقظ قبله، فهب من فراشه مذعوراً يصيح، وبادر إلى الإبريق ووضعه على صدره، ضمه بين جناحيه وبين يديه.
الشيخ يأتي إلى المغسلة، يُشمِّر كُميه، ويمد ساعديه، يصب هادي الماء على شيخه، ومُباشَرةً يُباعِد يده، لقد لذعه حر الماء، قال يا هادي متى وأين سخَّنت هذا الماء؟ قال على حر قلبي يا سيدي، على حر قلبي يا سيدي! وهذا هو حرارة الكلام ونُضج الكلام الذي يصدر من قلب مُلوَّع مُدلَّه مُولَّه بُحب الله ومعرفة الله.
اللهم دلِّهنا وولِّهنا بحُبك، ودلنا عليك دلالة العارفين، وأرشِدنا إليك كما أرشدت إلى جنابك وحضرتك عبادك العارفين الصادقين، يا ولي المُؤمِنين، يا رب العالمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.
اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعِذنا من شر نفوسنا، وألهِمنا رُشدنا، واختم لنا بصالح العمل وبخير الصالحات وأعظم المبرات المُبارَكات يا رب العالمين.
اللهم ارحمنا في شهر الصيام، اللهم واغفر لنا في شهر رمضان، اللهم واجعلنا من عتقائك فيه من نار جهنم، نحن وآباؤنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأحبابنا وأزواجنا وذُرياتنا، بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
اللهم أنِلنا فيه ووفِّقنا لليلة القدر، وأعظِم لنا فيها الأجر، ولا تحرمنا يا رب العالمين بسيء أعمالنا وبعظيم ذنوبنا وتفريطنا وتقصيرنا وإسرافنا على أنفسنا، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ورزقاً واسعاً، وعملاً مُتقبَّلاً، وعيناً دامعةً، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن عمل لا يُرفَع، ونعوذ من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنه بئست البطانة.
اكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أخرانا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (8/6/2018)
أضف تعليق