كانت مراجعاتي في الحلقة الماضية عند مقولة الدكتور عدنان إبراهيم ” القرآن في القضايا الاقتصادية مقل ، آيات الربا، وآيات الديْن لا يمكن أن تشكل أساسًا للشأن الاقتصادي.” وقد بيّنتُ فيها ما هية نظام المال في الإسلام، والحاجات الأساسية للمعاش، والأصول والمبادئ التي يقوم عليها النظام المالي والاقتصادي في الإسلام ، وتوقفتُ عند الموارد المالية وتشريعاتها.
ولكن قبل أن أتحدث عن الموارد المالية سأضيف إلى الأصول والمبادئ التي يقوم عليها النظام المالي والاقتصادي في الإسلام التي ذكرتها في الحلقة الماضية ثلاث مبادئ هامة في النظام المالي، هي:
- النهي عن بخس النّاس أشياءهم
هي قول شعيب عليه السلام لقومه ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )[1]
هذه القاعدة القرآنية الكريمة تكررت ثلاث مرات في كتاب الله عز وجل، كلها في قصة شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
جاءت بعد عموم النهي عن نقص المكيال والميزان، فهو عموم بعد خصوص، ليشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير.
قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: “وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة؛ لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادَلة بين الأمّة، وإنَّما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمُنتج يزداد إنتاجاً وعَرْضاً في الأسواق، والطَّالبُ من تاجر أو مُستهلك يُقبِل على الأسواق آمِناً لا يخشى غبناً ولا خديعة ولا خِلابة، فتتوفّر السّلع في الأمّة، وتستغني عن اجتلاب أقوا[2]تها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نَماء المدينة والحضارة على أساس متين، ويَعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك” [3]
وقال بعض المفسرين ـ مبيناً سعة مدلول هذه القاعدة ـ:
“وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفًا شرعيًا.[4]
- الرهن
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[5]
3.تنظيم مواقيت البيع
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[6]
الموارد المالية للدولة
وهذه الموارد:
أولاً : الزكاة
فرضت الزكاة بقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[7]
وتجب على كل مسلم حر عاقل بالغ إذا ملك نصابًا خاليًا من الدين، فائضًا عن حوائجه الأصلية ملكًا تامًا في طرفي الحول .
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، إذا امتنع المسلم عن أدائها فقد هدم ركناً أساسياً من أركان الإسلام، وقد ذكر الفقهاء أنّ من منع الزكاة معتقداً وجوبها أخذت منه قهراً، أما من أمتنع عن أدائها فقد اتفق الصحابة على قتال مانع الزكاة ومحاربة أبي بكر رضي الله عنه لمانعي الزكاة ثابتة أخبارها في التاريخ الإسلامي، وقوله “والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة” وحق ولي الأمر في جباية الزكاة وتخصيص حصيلتها لمصارفها الشرعية، وتجنيب هذه الحصيلة عن سواها من موارد بيت المال، ثابت لاشك فيه [8] ، فالزكاة إجبارية لأنّها حق الفقير في مال الله الذي للغني [9]لقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[10] وقوله تعالى : ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) [11]
مصارف الزكاة
لقد حدد القرآن الكريم مصارف الزكاة في ثمانية أصناف بقوله تعالي في سورة التوبة 60(إنما الصدقات[12]للفقراء [13]والمساكين [14]والعاملين عليها [15]والمؤلفة قلوبهم[16]وفي الرقاب [17]والغارمين[18]وفي سبيل الله [19]وابن السبيل [20]فريضة من الله [21]والله عليم حكيم .)
ثانياً : الغنائم
الغنيمة في الشريعة الإسلامية هي كل مال وصل إلى المسلمين من الكفار عن طريق الغلبة والقوة من الأموال المنقولة .
وقد عرف المسلمون الغنائم بعد هجرتهم إلى المدينة حيث شرع القتال وكانت الغنائم، وقد حدد الله جل شأنه في الوحي المدني لمن تقسم الغنائم(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[22]
وأصل الغنيمة إصابة الغُنم وتقسم خمسة أخماس: أربعة منها للمقاتلين تقسم بينهم “وسهم للراجل، والخمس الباقي يقسم إلي خمسة أسهم لكل من الرسول صلوات الله وسلامه عليه والأربعة المذكورين بعده، ولذلك سميت بضريبة الأخماس.
أما الأرض التي يستولي عليها المسلمون من العدو، فإنّها للدولة ينفق من ريعها على المرافق العامة للدولة ،ويرى أبو حنيفة أن السهمين اللذين كانا لله ولرسوله ولذي القربى من خُمس الغنائم قد ارتفعا بموته صلوات الله وسلامه عليه وتصرف على المصالح العامة كإعداد الجيش وإقامة المساجد وإنشاء المستشفيات ونشر التعليم .[23]
ثالثًا: الفيء
هو كل مال وصل من المشركين من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب كما قال تعالى ( مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[24]
لقد فصل الله جل شأنه في هذه الآية كيفية صرف الفيء الذي تركه بنو النضير فأمر الله نبيه أن ينفق تلك الأموال في وجوه البر والخير، ولا تقسم تقسيم الغنائم، فا للرسول أن يأخذ منه لنفسه ولذوي قرباه من مؤمني بني هاشم وبني عبد المطلب الذين لا تحل لهم الزكاة ولا يأخذون من مال الصدقة ،وقد خص بني هاشم وبني عبدا لمطلب بالخُمس من الغنائم وبنصيب من الفيء تكريماً وتقديراً لهم لحمايتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه ، فكتبت قريش الصحيفة وعلقتها على الكعبة لمقاطعة بني هاشم، الذين أخرجتهم من مكة، وفرضت عليهم الحصار في شعب أبي طالب، ودخل معهم بنو عبد المطلب .[25]
وأن تقسم أيضاً لليتامى والمحتاجين وللفقراء والمساكين وابن السبيل، ويمنع من الفيء الأغنياء الذين لا حاجة بهم إليه؛ إذ لو ترك للأغنياء لغلبوا عليه، واستأثروا به ، وتكاثروا كما كان دأبهم في الجاهلية .
رابعاً: الجزية
وهي ضريبة واجبة على الرجال الأحرار العقلاء القادرين من أهل الذمة ،أي لا تجب على النساء والصبيان والعبيد [26]والفقراء والمساكين والشيوخ الكبار الذين لا قدرة لهم على العمل، وقد فرضت هذه الجزية على الرجال القادرين من أهل الذمة مقابل حماية المسلمين للذميين والدفاع عنهم وتسقط بإسلامهم[27] ، وقد فرضت عليهم الجزية امتثالاً لقوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)[28] ولا تجبي الجزية إلا بحلول الحول[29] ، وقد حددها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه للموسر ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الوسط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الكادح إثني عشر درهماً، وعممها وأقفل باب الاجتهاد فيها منعاً للظلم .[30]
وهو ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدي عنها وفيه من نص الكتاب بينة خالفت نص الجزية، فلذلك كان موقوفاً على اجتهاد الأئمة
خامساً: الخراج
الخراج في لغة العرب – كما قال الماوردي – اسم الكراء والغلة
قال تعالى: ( 4أخلاقية، فبينما تنظم القاعدة القانونية السلوك الخارجي للإنسان ولا تدخل إلى الأغنَ )[31]
فقال ( خرجًا) : أي أجرًا أو نفعًا، و( خراج ربك) فيه وجهان : أحدهما : رزق ربك في الدنيا.
والثاني: أجر ربك في الآخرة.، ويناظرها الآيات
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْق%8ية، والإنسان في القوانين الوضعية تغلب عليه المادة بينما الإنسان في القرآن روح ومادة، وجاء؇ِ )[33]
(يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [34]
ولا يجبى الخراج إلا بحلول الحول ولا يستحق قبله، والخراج يؤخذ مع الكفر والإسلام بي%D وتتجلى في التعامل مع الأحكام، وإنّ الخضوع للأحكام دليل التقوى، كما أنّ 9ْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( يق7بْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ %8مه الله – في تبويبه، فقد ذكر كتاب ا]
تضمن التشريع الإسلامي تطبيقات للضريبة كأداة للتوجيه الاقتصادي ، ويبدو ذلك بالنسبة للزكاة المفروضة على الذهب والفضة ، فهي تحفز صاحبه على استثماره، حتى يفي بالزكاة من دخل4َيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَك عمد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى استخدام الضريبة الجمركية كأداة للتشجيع علي استيراد المواد الضرورية ، فخفّض سعرها إلى 5% بالنسبة لتجار دار الحرب الذين كانوا يمونون المدينة المنورة بالمواد الغذائية ، وهذه السياسة هي أحدث ما يتبع الآن عند فرض الضرائب الجمركية.[37]
وبعد هذا العرض السريع لأصول وأسس النظام المالي في الإسلام، والموارد المالية ومصارفها وفق الوحي المدني، لنا وقفة مع مواقف مستشرقي المدرسة الإنجليزية من هذه التشريعات ومناقشتها والرد عليها .
مناقشة كولسون حول التشريع القرآني
يصف كولسون التشريعات القرآنية بأنه يغلب عليها السمات الخلقية فهي معظمها عبارة عن التزامات خلقية ولا تتضمن النت%Dب العنق، ولكن قد يكون العقاب بالسجن، ومصادرة الأموال الربوية، وإذا تاب لا يأخذ إلا رأس ماله، فهذا عقاب قانوني مدني، كيف لم يطلع عليه الخبير بالفقه الإسلامي كولسون خاصة وأنّ موضوع بحثه في تاريخ التشريع الإسلامي، ممّا يؤكد لنا أنّ المستشرقين مجتمع متحضر يعبر عنها القرآن عادة فيما يشبه أن يكون إلزاماً خلقياً، فالرحمة بالضعاف في المجتمع ونفي الغبن في المعاملات التجارية، وعدم الميل والحيف في تحقيق العدالة. كل هذه المفاهيم ترد في القرآن باعتبارها معايير السلوك المطلوبة دون أن تترجم إلى بناء قانوني للحقوق والواجبات في أي نوع، ونجد هذه السمة الأخلاقية في كثير من القواعد المميزة للإسلام ، فمثلاً يعرض القرآن الكريم تحريم شرب الخمر والتعامل بالربا في عبارات متماثلة تغلب عليها هذه السمة دون أن يتضمن إشارة إلى النتائج القانونية العملية لهذا التحريم. والذي حدث في الواقع أن صار شرب الخمر فيما بعد جريمة يعاقب عليها بجلد الشارب، على حين استمر الربا موضوعاً من موضوعات القانون المدني بحكم كونه عقداً من العقود الفاسدة ، أو غير الملزمة، ويشير هذا بوضوح إلى ذلك التنوع بين وظيفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدينية ووظيفته السياسية والتشريعية، نعم قد يشترك الجانبان في تناول الفعل أو الترك بالحكم عليه، ولكن يظهر الفرق. الب. بينهما في طبيعة الحكم الذي كان يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ـ فبصفته السياسية التشريعية تتمثل أحكامه في جزاءات عملية تطبقها أجهزة الدولة، على حين تتمثل أحكامه بصفته الدينية في كون الفعل أو الترك طاعة أو معصية يجازي الله عليها بالمثوبة أو العقوبة، ثم يستطرد قائلاً : ” وأقصى جزاء يقرره القرآن الكريم عادة على أتباع أحكام الله ومخالفتها هو رضاه سبحانه أو سخطه، فهؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً على ما يقرره القرآن ( إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلوْن سعيراً) ، ولقد اهتم التشريع السياسي بأثر تصرفات الفرد على غيره من الأفراد ، وعلى المجتمع بأسره، على حين يتجاوز الفقه نعيم أو شقاء في الآخرة، وفي كلمة موجزة لم يكن الهدف الأول للقرآن هو تنظيم علاقة الإنسان بالإنسان بقدر ما كان هدفه تنظيم علاقة الإنسان بخالقه” ثم يقول: “ومع غلبة الاتجاه الخلقي على التشريعات القرآنية من حيث السمة التي تميزها فإنّ الآيات التشريعية ليست كثيرة – من حيث العدد – بأي مقياس؛ إذ تقدر في مجموعها بحوالي ستمائة آية، كما أنّ أكثر هذا العدد يتعلق بتحديد أحكام الفرائض الدينية والشعائر من صلاة وصيام وحج، بحيث لا يبقي إلا قريب من ثمانين آية هي التي أضفت بالموضوعات القانونية البحتة [39] “، ثم يصف هذه الآيات لم تتناول الجزئيات فيقول: “وحقيقة عالج القرآن الكريم بعض الموضوعات القانونية المبينة على نحو ملحوظ من التفصيل البسيط، ولكنه لم يعمد – في أي من هذه الموضوعات المشار لها – إلى تناول جزئياتها المختلفة على نحو كلي مستوعب.”[40]
من هذه النصوص نستنتج الآتي :
- أنّ كولسون ينفي عن التشريع القرآني تحديد العقوبة الدنيوية ” المدنية ” وتطبيقها، فإنّ تشريعاته في معظمها يغلب عليها السمة الخلقية؛ إذ يكتفي بالتحذير من العقوبات الأخروية .
- زعمه أنّه لا توجد عقوبة قانونية قرآنية على المتعامل بالربا.
- زعمه أنّ عقوبة شرب الخمر لم تحدد وتنفذ إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
- تجريد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم من تطبيق التشريع الجزائي القرآني.
- تحديده آيات الأحكام ذات موضوعات قانونية بحتة بثمانين آية .
- أنّ أحكام القرآن مجملة غير مفصلة .
ورداً على هذه المزاعم أقول :
واضح أنّ الأستاذ كولسون لم يستوعب مقاصد التشريع الإسلامي، ولم يدرسها جيداً رغم أنّه كما يقول: مترجم هذا الكتاب يملك أدوات البحث القانوني، وخبير بمصادر الفقه الإسلامي، وأنّه عكف على دراسة التطبيقات القانونية لأحكام الشريعة في بلاد العالم الإسلامي جميعها .[41]
وكما يبدو أنّ السيد كولسون نظر إلى التشريع القرآني أنّه عبارة عن نصائح ومواعظ لأنّ الديانة المسيحية تتسم بهذه الصفات. ولم يدرك أنّ التشريع الإسلامي يختلفّ عن التشريعات الوضعية في أنّه لا يفصل بين القاعدة الأخلاقية والقاعدة التشريعية، وإنّما يجعل القاعدة الأخلاقية داعمة للقاعدة التشريعية، ولهذا فإنّ الفرد الذي يستطيع أن يتخلص من رقابة القانون عليه لا يستطيع أن يتخلص من رقابة القواعد الأخلاقية التي يدعمها الضمير الديني الذي ينبع من الذات الإنسانية التي تنميها العقيدة وتغذيها العبادة[42] ، فلا تحقق القاعدة القانونية أهدافها إذا انعدمت القاعدة الأخلاقية، فالمذنب إذا لقي جزاؤه القانوني قد يعيد تكرار الجريمة، لأنّه لا يوجد وازع ديني يردعه، ولكن هدف التشريع الإسلامي هو حماية المجتمع من الجريمة والحد منها بتوبة المذنبين والتوبة لا تكون إلا بتلازم القاعدتين معاً الأخلاقية والقانونية، وقد يرتدع عن ارتكاب الجريمة قبل أن تنكشف السلطات الأمنية جريمته خوفًا من العقاب الأخروي، كما أنّ التذكير بالعقاب الأخروي يبين للمذنب أنّه لا يقتصر عقابه على الدنيا، وإنّما سيكون عقابه أشد وأعظم في الآخرة، وهذا بحد ذاته يقلل من ارتكاب الجرائم في نفس الوقت فتح أبواب التوبة على مصراعيها لمن يكون صادقًا فيها .
فإذن هناك فرق كبير بين القاعدة القانونية، والقاعدة الأخلاقية، فبينما تنظم القاعدة القانونية السلوك الخارجي للإنسان ولا تدخل إلى الأعمال إلاّ قليلاً، وترتب الجزاء القاهر على من يخالفها، في حين أنّ القواعد الأخلاقية تتغلغل في أعماق النفس البشرية وتخاطب الجانب الروحي في الإنسان فتحدث تأثيراً على السلوك الإنساني، وتبعث فيها نوعًا من الرقابة الذاتية، وهي الخوف من غضب الله ومراقبته في كل الأحوال والأعمال والأقوال .
فالتشريع القرآني لم يفصل بين الجانب الخلقي “الروحي” والجانب القانوني “المادي” لأنّ الإنسان في نظره مادة وروح لا ينفصلان، في حين نجد أنّ الإنسان في تعاليم المسيحية تغلب عليه الناحية الروحية، والإنسان في القوانين الوضعية تغلب عليه المادة بينما الإنسان في القرآن روح ومادة، وجاءت تشريعاته لتوازن بينهما دون أن تهمل جانباً أو تركز على جانب دون الآخر . [43]
منهج القرآن الكريم في التشريع والتكليف
إنّ منهج الإسلام في التشريع يتفق مع فطرة الإنسان وطبائع البشر، ويسهل لهم قبول التشريعات، وييسر للناس الاستجابة للتكاليف، كما يرفع عنهم الحرج والمشقة، ويأخذ بأيديهم لما يحقق مصالحهم ويجلب لهم الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان الجانب الأخلاقي والإيماني أساسًا هامًا من أسس التشريع الإسلامي جنبًا إلى جنب مع الجانب القانوني [44] ؛إذ ربط التكاليف بالتقوى، تظهر التقوى وتتجلى في التعامل مع الأحكام، وإنّ الخضوع للأحكام دليل التقوى، كما أنّ التقوى هي ثمرة أداء التكاليف، ونجد هذا الربط واضحًا في سورة البقرة، وهي تمثل أولى مراحل التشريع في المدينة المنورة بعد الهجرة. وجدير بالذكر أنّه تكرر ذكر التقوى والأمر بها في السورة أكثر من ثلاثين مرة، والأمثلة في السورة الكريمة:
- العبادة والتقوى : قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فالتقوى ثمرة الطاعة وأداء التكاليف وهو معنى العبادة.
- التقوى وآيات القصاص : ومنها قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( يقول القرطبي: “المراد تتقون القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك؛ فإنّ الله يثيب بالطاعة على الطاعة..”.
- الصيام والتقوى: قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وبعد آخر آية من آيات الصيام وفي آخرها )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) جاء قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل ) فالصوم عبادة تثمر التقوى، وإنما تتجلى التقوى في أحكام المعاملات كالبيوع؛ وهذا ما أثبته البخاري – رحمه الله – في تبويبه، فقد ذكر كتاب البيوع بعد كتاب الصوم وصلاة التراويح والاعتكاف، للتنبيه على أن من صام وقام واعتكف فلا يأكل مال الناس بالباطل ولا يكسب حراماً.
- آيات القتال والتقوى: وهي ست آيات تأمر بالقتال ورد العدوان، كما تأمر بالتقوى في ممارسة أحكام القتال والنهي عن تجاوز الغرض منه، وأنه حال الالتزام بالتقوى فإنّ ثمرة ذلك معية الله وهي الجالبة للنصر، قال تعالى: (الشَّهْرُ الْـحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْـحَرَامِ وَالْـحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ)
- التقوى وأحكام الأسرة من زواج ومعاشرة وشقاق وطلاق: حيث تكرر ذكر التقوى والأمر بها خمس مرات لأهميتها وضرورتها في مثل هذا النوع من المعاملات، وكان الأمر الأول قوله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [45]
العقوبة القانونية للمرابي في التشريع القرآني
يزعم كولسون أنّه لا توجد عقوبة قانونية للمرابي في التشريع القرآني، مع أنّ العقوبة واضحة في قوله تعالى [46]{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله. وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون}[47]، وقد بيّن الطبري في تفسير هذه الآية أنّه من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلاّ ضرب عنقه، لقوله تعالى {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.}
إذن حكم من لم يتب عن التعامل بالربا هو ضرب عنقه عند الطبري، فهو فسّر ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله.) بضرب العنق، ولكن قد يكون العقاب بالسجن، ومصادرة الأموال الربوية، وإذا تاب لا يأخذ إلا رأس ماله، فهذا عقاب قانوني مدني، كيف لم يطلع عليه الخبير بالفقه الإسلامي كولسون خاصة وأنّ موضوع بحثه في تاريخ التشريع الإسلامي، ممّا يؤكد لنا أنّ المستشرقين يخوضون البحث في مواضيع هامة عن الإسلام تمس العقيدة والشريعة دون الالتزام بقواعد منهج البحث العلمي التي تتطلب التثبت من صحة ما يكتب الباحث ولا يطلق أحكامه جزافًا لتوافق أهواءه الشخصية؟[48]
أمّا عن تحديد كولسون لآيات الأحكام ب(540) آية ، وآيات الأحكام ذات موضوعات قانونية بحتة بثمانين آية فلم لم يرد عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) توقيفًا في عدد آيات الأحكام، ولا من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، يبقى الأمر هكذا بدون تحديد عدد هذه الآيات، لأنّ المقصود بالمحصورة هو ما استخرج منها آيات الأحكام عند العلماء وكانت معانيها معلومة، فإن حصرناها على هذا القدر لأدى التضارب على ما فعله أمثال ابن العربي والهراسي وابن الفرس والقرطبـي في تفسيرهم، فالحصر يؤدي إلى التوقف في استباط الأحكام الشرعية من الآيات التي ليس من آيات الأحكام ، ولم يقل أحد بهذا القول، وعلى هذا فآيات الأحكام غير محصورة بعدد معين كما ذهب إليه بعض العلماء ، مثل : القرافي ، والصنعاني، والشوكاني . والله أعلم بالصواب.
هذا ونجد نظام الاقتصاد في الإسلام انبثقت منه نظريات اقتصادية ، في مقدمتها نظريات ابن خلدون الاقتصادية ، وهذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
[1] . الأعراف: 85. [2] . الجمعة: 9-10. [3] .التحرير والتنوير (5 / 451). [4] . الزمخشري : تفسير الكشاف (3 / 337). [5] . البقرة : 283. [6] [7] .التوبة : 103. [8] . د . محمد عبد المنعم الجمال : الموسوعة الاقتصادية، مصدر سابق، ص219 – 222. [9] .عفيف طبارة، روح الدين الإسلامي، مصدر سابق ،ص . 344 [10] . المعارج : 24-25. [11] . الذاريات : 19. [12] – الصدقات : الصدقة هي الزكاة الواجبة على النقود والأنعام والزرع والتجارة . [13] – الفقراء : الفقير من له مال قليل دون النصاب ” أي أقل من اثني عشر جنيهاً ذهباً . [14] – المساكين : المسكين الذي يسأل لأّنه لا يجد شيئاً ،فهو أضعف حالاً من الفقير . [15] – العاملين عليها : الجباة الذين يسعون في تحصيل الزكاة وجمعها، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم . [16] – المؤلفة قلوبهم : قوم إسلامهم ضعيف أو قوم من الكفار يعطون من الصدقة ليتألفوا علي الإسلام وسقط سهم المؤلفة قلوبهم بإجماع الصحابة ينتهي العمل به إذا زالت العلة . [17] – وفي الرقاب : وينفق من الصدقات شفي تحرير الأرقاء وعتقهم وفك رقبة الرق من أعناقهم . [18] – الغارمين : المدينين وهم الذين استدانوا لأنفسهم في غير معصية وعجزوا عن أداء الدّين، أو هم المدينون في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يغضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء . [19] – في سبيل الله : فقراء المجاهدين في سبيل الله ،أو الحجيج المنقطع بهم . [20] – ابن السبيل : المسافر المنقطع عن ماله . [21] – فريضة من الله : فرض الله ذلك فريضة مقدرة ليس لأحد رأي فيها، محمد عبد المنعم الجمال ، مصدر سابق ص . 233 [22] – الأنفال : 41. [23] – الموسوعة الاقتصادية، مصدر سابق ص. 242 [24] .الحشر : 7. [25] . المصدر السابق ص. 243 [26] .الماوردي : الأحكام السلطانية ، ص 183. [27] . د .عصام الدين عبد الرؤوف الفقي: الدولة العباسية ص 105 ، مكتبة نهضة الشرق – جامعة القاهرة . [28] . التوبة :29. [29]. الماوردي : مصدر سابق، ص 181 [30] . د . عصام عبد الرؤوف، مصدر سابق51. ص 105 . [31] . المؤمنون : 72. [32] . القلم : 46. [33] . هود : 29 [34] . هود: 51. [35] . الماوردي : الأحكام السلطانية ص181 ،186 بتصرف واختصار . [36] . البقرة : 177 [37] . د. محمد عبد المنعم الجمال: موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص 235، 236. [38] – كولسون : تاريخ التشريع الإسلامي ترجمة وتعليق د . محمد أحمد سراج، مراجعة د . حسن محمود عبد اللطيف الشافعي ، ط1 ، 1412هـ ـ 1992م ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت . [39] – المصدر السابق: ص 29-31. [40] – المصدر السابق: ص. 32 [41] – المصدر السابق : ص 9. [42] – د . سعاد إبراهيم صالح : مرجع سابق ، ص 51، نقلاً عن الدكتور فاروق نبهان ” مبادئ الاقتصاد الإسلامي. [43] . . د. سهيلة زين العابدين حمّاد: السيرة النبوية في كتابات المستشرقين” دراسة منهجية على المدرسة الإنجليزية،- الجزء الرابع، موقف المدرسة الإنجليزية من التشريعات المدنية، تحت الطبع( رسالة دكتوراة)
[44] . د. سهيلة زين العابدين حمّاد: السيرة النبوية في كتابات المستشرقين” دراسة منهجية على المدرسة الإنجليزية،- الجزء الرابع، موقف المدرسة الإنجليزية من التشريعات المدنية، تحت الطبع( رسالة دكتوراة) [45] . منهج القــرآن الكريم في التشريع والتكليف: مجلة البيان العدد (304) بتاريخ 17/12/2012. [46] – سبق وأن أشرت إليه. [47] – البقرة : 277-278. [48] . د. سهيلة زين العابدين حمّاد: السيرة النبوية في كتابات المستشرقين” دراسة منهجية على المدرسة الإنجليزية،- الجزء الرابع، موقف المدرسة الإنجليزية من التشريعات المدنية، تحت الطبع( رسالة دكتوراة)
أضف تعليق