أواصل مراجعاتي على برنامج صحوة الرمضاني الذي يذاع الخامسة والنصف عصرًا في قناة روتانا خليجية بتوقيت مكة المكرمة، وبتوقيت القاهرة في روتانا مصرية، ويقدمه الدكتور أحمد العرفج وضيفه الدائم المفكر الدكتور عدنان إبراهيم.
بيّنتُ في الجزء الأول من مراجعاتي على الحلقة (22) عن توظيف الدين لخدمة السياسة، أنّ في القرآن الكريم وُضعت أسس الحكم في الإسلام ( الشورى والبيعة والعدل، والمساواة ،والحرص على العمران وعدم الفساد ، وحرية الدين والعقيدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإجارة المحارب)، وذلك ردًا على مقولة الدكتور عدنان إبراهيم ” قول الدكتور عدنان إبراهيم إنّ : ” القرآن بطوله لا تجد فيه إلّا بعض الآيات التي تتعلّق بالسياسة.”
وفي هذا الجزء سأتوقف عند قول الدكتور عدنان إبراهيم:” النظام الخلافي في عهد ساداتنا وتاج رؤوسنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يكن متطورًا كتطور النظام في روما الامبراطورية ،وكانوا وثنيين . لأنّ هذا شأن إنساني، ولا يحتاج إلى توجيهات نصوصية دينية تسيّره.”
وفي البداية أود تصحيح معلومة، وهي أنّ الامبراطورية الرومانية ، لم تستمر على وثنيتها، فقد أعلن الامبراطور قسطنيطين(فترة حكمه من 306–337م) اعتناقه الديانة المسيحية ، واعتبارها الديانة الرسمية للدولة الرومانية، وكانت على المذهب الملكاني، وقد قامت الامبراطورية الرومانية على مفهوم الدولة الجامعة (Universal State) ذات الطابع الاستعماري، وعُرفت مرحلة الحكم الإمبراطوري بـالحكم الاستبدادي.
ومادام الدكتور عدنان إبراهيم قد اعتبر أنّ النظام الامبراطوري الروماني أكثر تطورًا من النظام الخلافي في عهد الخلفاء الراشدين، فهذا يدعونا إلى التعرّف على نظام الحكم الامبراطوري ومقارنته بنظام الحكم الخلافي الراشدي، وإن كان لا مجال لمقارنة بين امبراطورية تأسست قبل دولة الخلافة الراشدة بِأربعة عشر قرنًا ونصف، فروما القديمة هي حضارة انبثقت عن مجتمع زراعي صغير في شبه الجزيرة الإيطالية في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد. ظهرت على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط وأصبحت واحدة من أكبر امبراطوريات العالم القديم ، ودامت قرون عديدة ، وبين دولة حديثة ( 11- 40 ه/ 632- 661م ) ؛ تأسست (632) م واستمرّت (29) عامًا، ومع هذا نجد هذه الدولة الناشئة هزمت هذه الامبراطورية العريقة في مواجهاتها في بلاد الشام ومصر التي كانت تحت احتلالها، فامتدت أراضيها من شبه الجزيرة العربيَّة إلى الشام فالقوقاز شمالًا، ومن مصر إلى تونس غربًا، ومن الهضبة الإيرانيَّة إلى آسيا الوسطى شرقًا، وبهذا تكون الدولة قد استوعبت كافَّة أراضيالإمبراطوريَّة الفارسيَّة الساسانيَّة، وحوالي ثُلثيّ أراضي الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. وقد وقعت أغلب الفتوحات الإسلاميَّة في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وسأبدأ بـ
أنظمة الحكم والمجالس عند الرومان
عرف الرومان ثلاثة أنواع من أنظمة الحكم هي: الملكية والجمهورية والإمبراطورية. وكان يحكم روما منذ نشأتها ملك يتولى العرش بالانتخاب ويعد من سلطانه هيئتان هما: مجلس السناتو (الشيوخ) والجمعية الكورية.
1. العهد الملكي: كان هناك مجلسان هما:
أ. مجلس السناتو (الشيوخ)
يطلق عليه مجلس الشيوخ ويطلق على أعضائه الآباء. وهذا المجلس كان استشاريا وليس له حق تشريعي، ولكن هذا المجلس استحوذ على سلطات أوسع كثيراً مما أريد له عند إنشائه. ويتكون من مائة عضو يختارهم الملك، وفي العهد الجمهوري كان القناصل يقومون بهذا الاختيار. وأعضاء هذا المجلس يعتبرون أفضل رجال المجتمع. ومدة عضويتهم تستمر مدى الحياة. ويختص هذا المجلس بإصدار القرارات، ومباشرة السياسة الخارجية للدولة.
ب. الجمعية الكورية:
هذا المجلس يمثل عموم الشعب، ويتكون من ثلاثين عضوًا ، ويهتم بالاختصاصات الدينية ولم تستطع هذه الجمعية أن تحافظ على اختصاصاتها طويلا فإنّها جردت منها شيئًا فشيئًا في العصر الملكي نفسه.
2. العهد الجمهوري
بدأت فترة جديدة من الحكم الروماني عندما أسقط مجلس السناتو الحكم الملكي. وشهدت روما تغييرًا كبيرًا في توزيع السلطات ، إذ حل محل الملك قنصلان متعادلان في السلطان ويكون كل منهما رقيبًا على الآخر. وألغت الجمعية الكورية وأصبح توزيع الاختصاصات في هذا العهد على القنصلين ومجلس السناتو ‘’الشيوخ’’.
أ. مجلس السناتو ‘’الشيوخ’’:
ظل قائماً طوال العهد الجمهوري في روما، وزاد عدد أعضائه ليصبح ثلاثمائة عضو وقيل إنه زيد إلى ستمائة فيما بعد. وأما عن اختصاصات المجلس فهو المختص بالعلاقات الخارجية، وبعقد المعاهدات والمخالفات وإبرام الصلح وإعلان الحرب وحكم الولايات، وإدارة الأراضي العامة وتوزيعها، والإشراف على سياسة الإنفاق المالي، وقد أدى انفراد مجلس السناتو بهذه الأمور إلى إعطائه سلطات لا يكاد يعرف لها حدود جعلته صاحب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ب. المجلس المئوي
مجلس إستشاري يجتمع بدعوة من القنصل ولا يبحث ألا فيما يعرضه عليه مجلس السناتو ‘’الشيوخ’’ من أمور وعندئذ لا يستطيع أن يناقش الاقتراحات أو أن يعدل فيها بل كل ما كان يملكه أن يقبلها أو يرفضها.
ج. المجلس القبلي
سمي بهذا الاسم لأنّ المقترعين فيه كانوا ينظمون حسب القبيلة التي ينتمون إليها، وهذا المجلس أظهر صوت العامة، لأنّ العضوية فيه لم تكن على أساس الثراء، فالأغنياء والفقراء سواء. وزادت سلطة هذا المجلس بسبب اعتراف مجلس الشيوخ بحقوقها التشريعية.
- العهد الإمبراطوري
وجد النظام الإمبراطوري الجديد ويهدف إلى تمركز السلطات بيد السلطة التنفيذية وعلى رأسها الإمبراطور الحاكم المطلق وقائد الجيش الأعلى، ولم يبق لمجلس الشيوخ أو السناتو إلّا ظاهر السلطة. وعليه فإنّ في هذا العهد لم يكن هناك وجود لأي من المجالس السابقة سوى مجلس السناتو أو الشيوخ.
وقد عاب بعض المؤرخين على الامبراطورية الرومانية في أوائل عهدها افتقارها إلى وجود قانون وراثي ثابت يُنظِّم وظيفة الامبراطور.[1]
النظام الطبقي
يُنظر إلى المجتمع الروماني إلى حد كبير على أنّه هرمي، مع العبيد (servi) في القاع، المعتقون (liberti) فوقهم، والمواطنين المولدين أحرار (cives) في القمة. كما أنّ المواطنين الأحرار أنفسهم أيضا مقسمين إلى طبقات. ويعتبر الانقسام واسع النطاق، والأقرب، بين الأرستوقراطيون، الذي يمكن أن يعود أسلافها إلى واحد من 100 البطريرك عند تأسيس المدينة، والعامة الذي لا يمكن. وأصبح هذا أقل أهمية في الجمهورية اللاحقة.
وأصبح التقسيم الطبقي على أساس الخدمة العسكرية أكثر أهمية. وتحدد عضوية هذه الطبقات بشكل دوري من قبل الرقباء، وفقا للممتلكات. وكانت الأغنى هي طبقة أعضاء مجلس الشيوخ، الذين كانوا يهيمنون على الحياة السياسية وقيادة الجيش. وتليهاالفرسان (equites، وأحيانا بترجمة “الفرسان”، والذين يستطيع في الاصل تحمل نفقات جواد الحرب، والذين يشكلون الطبقة التجارية القوية. وهناك المزيد من الطبقات، على أساس المعدات العسكرية التي يستطيع أعضائها تحمل نفقاتها، وتلت ذلك، البروليتارى(العمال) المواطنين الذين ليس لديهم ممتلكات إطلاقا، في القاع. الذين كانوا قبل إصلاحات ماريوس غير مؤهلين للخدمة العسكرية، وكثيرا ما وصفت بأنها بالكاد فوق العبيد المحررين من حيث الثروة والمكانة.
نظام إقطاعي
وكان الاقطاع وأمراؤه هم المسيطرين على الحكم والوظائف العامة ، وكان تعيين العاملين في الجهاز الحكومي يتم عن طريق القرارات الامبراطورية بناءً على توصية رئيس المصلحة والإدارة ؛ إذ كان يعول على الوراثة ، وبيع الوظائف في الترشيح الأمر الذي جعل أمور البلاد تصل إلى درجة كبيرة من الجور والتعسف ، جعلت الأرقاء في إيطاليا يتأهبون إلى ثورة عارمة جعلت الطبقة الموسرة ترتعد خوفًا من أن تخسر كل شيء السيادة والملك ، بل الحياة نفسها، وكان الشيوخ والأثرياء خائفين من مواجهة هذه الثورة ، إل(ى أن تقدم ” كراسيس” بالقضاء على الثورة بقتله رئيسها ، ” سيرتكوس “[2] ، كان ذلك في عام (98) ق.م.
أزمة القرن الثالث الميلادي الاقتصادية وافتقار إدارة الأزمات
وفي القرن الثالث الميلادي ساءت الأحوال الاقتصادية في الامبراطورية نتيجة لكثرة الحروب الأهلية التي مزّقت وحدة الدولة ، وجعلت طرق التجارة غير مأمونة في البر والبحر، وزاد الطين بلّة ثقل عبء الضرائب ، سواءً تلك التي فرضتها الحكومة المركزية ، أو التي جمعتها السلطات المحلية، وذلك أنّ الامبراطورية أصبحت مقسّمة إلى دوائر جمركية عديدة في حين فرضت الضرائب على جميع السلع التجارية بنسبة تتراوح من 2%إلى 12% ، هذا فضلًا عمّا فرضته المدن من ضرائب صغيرة على المأكولات – كالخضر والفواكه، والطيور واللحوم – التي ترد إليها من الأقاليم المجاورة ، وكان من المتبع أحيانًا أن تكون هذه الضرائب عينية، أي تؤخذ من نوع البضاعة، أو الصنف، بعكس الحال في الضريبة الذهبية الفضية ، وهي الضريبة الرئيسية في الانتاج الصناعي ، والتي سميت بهذا الاسم ، لأنّها كانت تدفع نقدًا.[3]
ومهما يكن من أمر، فإنه العبء الأكبر للضرائب وقع على الأراضي والمزارعين ، وإذا كان العالم الروماني قد اشتهر بالملكيات الزراعية الكبيرة ، فإنه المفروض هو أن تقوم طبقة كبار الملاك بتحمّل الجزء الأكبر من أعباء الضرائب، ولكن الواقع العملي لم يطابق هذا الفرض النظري؛ إذ تحرر كبار الملاك من هذا العبء ، وألقوا به على كواهل المستأجرين ، عن طريق رفع قيمة الإيجار ، أو عن طريق إثقالهم بالالتزامات والخدمات التي يتعيّن عبيهم أداؤها للمالك ، أمّا المزارع الصغير ، فكان يلجأ إلى رهن أرضه عندما يعجز عن الوفاء بما عليه من ضرائب ، وعندئذ يستولي كبار الملاك المجاورين على الأرض ، ويصبح المزارع الحُرّ قِنًّا ، أو يترك مزرعته لينزح إلى إحدى المدن ، وينضم إلى جموع الدهماء التي أخذت تتكاثر في المدن الرومانية ، إضافة إلى فرض ضرائب إجبارية يؤديها أهل الولاية نقدًا ، أو سخرة لصيانة الطرق والجسور والقنوات وغيرها من المرافق العامة ، هذا عدا الضرائب المستحقة على جميع الأحرار، والتي اقتصرت في زوّل الأمر على المواطنين الرومان اذين تمتعوا بالجنسية الرومانية حتى منح كاراكلا هذه الجنسية سنة 212، لجميع سكان الامبراطورية الأحرار للحصول على إيراد أوبر وأعم ، وإن كان هذا الإجراء قد ترتب عليه نتائج خطيرة بالنسبة للإمبراطورية ونظمها. [4]
وقد أثر هذا تأثيرًا خطيرًا في بناء المجتمع الروماني الذي اختل توازنه ، فالأغنياء وهم من الطبقة الارستقراطية المؤلفة من كبار ملاك الأراضي ازدادوا غنى ، في الوقت الذي ازداد فقرًا ، أمّا الطبقة الوسطى في المدن والأرياف فقد أخذت تتناقص ، وسارت في طريق الاضمحلال السريع نتيجة تحويل أفرادها إلى فئة من الأتباع والعبيد في ميدان الزراعة والصناعة ، كذلك أدى هذا الوضع إلى تدهور الانتاج ، وانخفاض قيمة العملة التي لم يتردد بعض الأباطرة في تزييفها ، والإكثار من سكها . ذلك أنّ الأباطرة عندما وجدوا أنفسهم لا يملكون المعادن الكافية لسك العملة ، فخلطوا الذهب بالفضة ، والفضة بالنحاس ، والنحاس بالرصاص ، وبذلك انحطت قيمة العملة، وأفلس من التجار ،من كان ثريًا بسبب التلاعب في النقد. [5]
وأدى تزييف العملة إلى اختفاء النقود الجيدة من السوق ، وقصر التداول على النقود الرديئة – وفقًا لقانون جربشام الحديث – الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار ارتفاعًا جنونيًا، وفي هذه الاعتبارات جميعًا يمكن تفسير الثورات العديدة التي انتشرت في القرن الثالث في مختلف ولايات الامبراطورية في القرن الثالث عندما أخذ المزارعون والفلاحون يهجرون مزارعهم ، ويهاجمون المدن المجاورة لها، كما اتسع نطاق أعمال السلب والقرصنة حتى عمّ الفساد البر والبحر.[6]
وعُرفت هذه الأزمة بأزمة القرن الثالث (أو”الفوضى العسكرية” أو “الأزمة الإمبراطورية”) (235–284 ب.م.) هي الفترة التي انهارت فيها الإمبراطورية الرومانية تقريبًا إثر الضغوط المتراكمة عن الغزو والحرب الأهلية والطاعون والكساد الاقتصادي. بدأت الأزمة بـاغتيال الإمبراطور ألكسندر سيفيروس على يد جنده، لتبدأ بذلك فترة سعى فيها نحو 20-25 شخصًا أغلبهم جنرالات منالجيش الروماني إلى لقب الإمبراطور، محاولين فرض سلطة إمبراطورية على الإمبراطورية كليًا أو جزئيًا.
وفي الفترة بين 258 و260، انقسمت الإمبراطورية إلى ثلاث ولايات متصارعة: الإمبراطورية الغالية وتشمل الولاية الرومانية في الغال وبريطانيا وهسبانيا، وإمبراطورية تدمر، وتشمل الولايات الشمالية في فلسطين السورية وإجبتوس، والإمبراطورية الرومانية المستقلة ومركزها إيطاليا وعلى مسافة واحدة منهما. ثم جاء أورليانوس (من 270 إلى 275) ليوحد الإمبراطورية، وانتهت الأزمة بتولي ديوكلتيانوس وقيامه ببعض الإصلاحات سنة 284.
وأسفرت الأزمة عن تغيرات جوهرية في مؤسسات الإمبراطورية ومجتمعاتها وحياتها الاقتصادية وأخيرًا دينها، لدرجة أنّ أغلب المؤرخين يعدونها نقطة التحول من الفترة التاريخية الكلاسيكية القديمة إلى فترة العصور القديمة المتأخرة.[7]
من هذا العرض السريع لأحوال الامبراطورية الرمانية في مراحلها الثلاث ( الملكية والجمهورية الدستورية والامبراطورية) نلاحظ الآتي:
1.أنّ في العهد الامبراطوري اختفت المجالس الاستشارية ، ولم يبق إلّا مجلس الشيوخ ، أو السناتو بسلطة صورية. وهذا خلل في بناء الكيان الامبراطوري ؛ إذ أصبح نظامًا استبداديًا.
2.افتقار الامبراطورية الرومانية في أوائل عهدها إلى وجود قانون وراثي ثابت يُنظِّم وظيفة الامبراطور.[8]
3.يسوده التمييز الطبقي.
4.افتقار الامبراطورية الرومانية إلى إدارة أزمات، فلم تكن لديها خطة لمواجهة الأزمات أو المشاكل ، أو محاولة منعها قبل وقوعها ، وإنّما تركت الأمور تسير وفق ما هو جار ، والأحداث فيها تتداعى حتى تقع أزمة ، أو أمر خطير، ففشلت فشلًا ذريعًا في مواجهة أزمة القرن الثالث، بل ضاعفت من الأزمة بفرض ضرائب على الناس أثقلت كواهلهم ، وحوّلت الأحرار منهم إلى عبيد، واختفت الطبقة الوسطى وتلاشت، بتحويل أفرادها إلى فئة من الأتباع والعبيد في ميدان الزراعة والصناعة.
5.سيادة النظام الاقطاعي ، وانتشار الفساد والمحسوبية والجور والتعسف.
نظام الحكم في دولة الخلافة الراشدة
يقوم نظام الحكم في دولة الخلافة الراشدة على الأسس التالية:
1.الانتخاب
نظام الحكم في دولة الخلافة الراشدة لم يكن وراثيًا، كما هو في نظام الحكم الامبراطوري، والقول إنّ نظام الحكم في الإسلام، هو نظام الخلافة لا غير” قول يُغاير الحقائق التاريخية الثابتة، فلا يوجد نظام خلافة نسير عليه، فكل خليفة من الخلفاء الراشدين تولى الخلافة بطريقة غير التي تولاها الذي قبله. وعلى المسلمين أن يختاروا من هذه الطرق ما يناسب عصورهم وظروفهم، فالرسولr لم يحدد من يتولى حكم الدولة الإسلامية بعده، وإنّما أعطى بعض الإشارات، كقوله عند مرضه” مروا أبا بكر فليصل بالنّاس”، فسيدنا أبو بكر رضي الله عنه تولى الخلافة بالمبايعة بعد ترشيح عمر بن الخطّاب له، وأمّا عمر بن الخطّاب فقد عهد له أبو بكر رضي الله عنهما بالخلافة من بعده، بينما سيدنا عثمان رضي الله عنه تمّ انتخابة من الستة الذين رشحهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لتولي الخلافة من بعده، وهم: عثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله من عمر رضي الله عنهم، وتنازل عبد الرحمن بن عوفt عن المنافسة، وقد وضع سيدنا عمر أسس وقواعد الانتخاب، والتقت وجهات النظر حول عثمان وعلي رضي الله عنهما، وانحصر الأمر بينهما إلى أن اجتمعت الأغلبية على عثمان رضي الله عنه ، ففاز بها.
أمّا علي رضي الله عنه فهناك من بايعه إثر استشهاد عثمان رضي الله عنه حتى لا تتسع دائرة الفتنة، وخذله نفر من المسلمين، ومنهم من أنكر عليه الخلافة.
وبعد استشهاد علي رضي الله عنه على يد عبد الرحمن بن ملجم تمت البيعة لابنه الحسن رضي الله عنه الذي قضى ما يقارب السبعة أشهر في الحكم، ثمّ تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيانt الذي عمل على التوصية بالخلافة- خلال حياته- لابنه يزيد. وبعد وفاة معاوية أصبح ابنه يزيد هو الحاكم، وقد رفض بعض الصحابة من ضمنهم الحسين بن عليt ذلك، وقرر الدعوة لنفسه رافضًا تحوّل الخلافة إلى حكم وراثي، مما أدى إلى نشوب معركة كربلاء التي استشهد فيها الحسين على يد عبيد الله بن زياد، وبعد وفاة يزيد تولى ابنه معاوية مقاليد الحكم وراثيًا، ولكنه أعلن رفضه للأمر، وقرر الانعزال وترك الأمر شورى بين المسلمين. وفي تلك الأثناء كانت البيعة قد تمت لعبد الله بن الزبير في العراق، إلا أنّ مروان بن الحكم تم اختياره من قبل الأغلبية خليفة للمسلمين، ومن بعده ابنه عبد الملك بن مروان والذي خرج على الخليفة في الحجاز عبد الله ابن الزبير ونشبت معارك قادها رجلعبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي انتهت باستشهاد عبد الله بن الزبير بجوار الكعبة لينتهي بذلك الأمل في عودة الخلافة إلى شورى بين المسلمين. وبشكل عام تعتبر بداية تولي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الحكم هي بداية نهاية الخلافة وتحولها إلى حكم وراثي منحصر في أسر حاكمة تتنافس فيما بينها على الحكم.
وهنا نجد أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قد وضع أسس النظام الانتخابي الذي تسير عليه الدول الديمقراطية من خلال:
تحديد المرشحيعن ، وذكر أسمائهم.
تعيين مراقبيْن للانتخابات هما: المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاري.
تحديد مدة الانتخابات، أو المشاورة، بثلاثة أيام ، وهي فترة كافية ، وإن زادوا عليها ، فمعنى ذلك أنّ شقة الخلاف ستتسع ، ولذلك قال لهم : ” لا يأتي اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير” [9]
تحديد عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة ، فأمرهم بالاجتماع والتشاور وحدّد لهم : أنّه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل ، وأبي أحدهم ، فليضرب رأسه بالسيف، . وإن اجتمع أربعة ، فرضوا رجلًا منهم ، وأبى اثنان فاضرب رأسيهما.[10] وذلك منعًا للانشقاق والفتنة(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقتل) [11] لأنّ العملية الانتخابية محصورة في ستة ينتخبون واحدًا منهم ؛ ولذا أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ، ويتشاوروا ، وفيهم عبد الله بن عمر ، يحضرهم مشيرًا فقط، وليس له من الأمر شيئًا ، ويصلي بالناس أثناء التشاور ضهيب الرومي.
وعند نتأملنا العملية الانتخابية العُمرية هي ذاتها التي تتم في الدول الديمقراطية الحديثة، التي زعتبر الدكتور عدنان إبراهيم ، أنّها أكثر عدلًا وإحكامًا من دول ةالخلافة الراشدة، فبيّن عدد المرشحين وأسماءهم بمن رآهم أهلًا للحكم ، وحدّد أيام الانتخابات، ووضع مراقبين عليها، كما بيّن نسبة الفوز.
2.العدل
من أسس حكم الخلافة الراشدة العدل ، وقد أوجد ديوان المظالم لقبول دعاوى رعايا الدولة ضد الحكام ، فإذا كانت هناك خصومة بين أحد الرعايا وبين حاكمه ، فالحاكم حتى ولو كان خليفة يدعى إلى دار القضاء، ويقف مع خصمه أمام القاضي، القاضي يناديه باسمه كخصمه ، ولا يفرق في تعامله معه أثناء المقاضاة بينه وبين خصمه، وقد يحكم على الخليفة إن كان ظالماً أو معتدياً أو مغتصباً لحق، والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال هنا لذكرها.
3.المساواة
فلا تمايز ولا تمييز في عهد الخلافة الراشدة ، امتثالًا لما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة ولعل حادثة محمد بن عمرو بن العاص مع المصري الذي فرسه سبق فرس محمد بن عمرو بن العاص فأخذته العزة وضربه بالسوط، قائلاً له “خذها وأنا ابن الأكرمين” فشكا المصري وهو من عوام الناس إلى سيدنا عمر بن الخطاب بن عمرو بن العاص، فاستدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمر بن العاص وابنه، ولما حضرا، أمر عمر أن يقوم المصري على مرأى ومسمع من الجميع أن يضرب ابن عمرو قائلاً له: “دونك المردة، اضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين، أضرب ابن الأكرمين، قال فضربه حتى أثخنه، ثم قال: اجلها على صلعة عمرو فوالله ما ضربك إلاّ بفضل سلطانه فقال: المصري: يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني. فقال: أما والله ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه إياه ،عمرو! متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” ثم التفت إلي المصري فقال: انصرف راشداً فإن رابك ريب فاكتب لي”[12]
4.الشورى
من أسس الحكم الثابتة في دولة الخلافة الراشدة امتثالًا لأمر الله واقتداءً برسوله الكريم ؛ إذ كانوا يتشاورون في جمع الأمور الهامة للدولة، فقد استشار أبو بكر رضي الله عنه المسلمين في أول مشكلة واجهته بعد توليه الخلافة، وهو امتناع بعض القبائل عن دفع الزكاة، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشير كبار الصحابة في عهده العلماء في فقه الأحكام ، ومصادر الشرع ، واستجابتهم بإخلاص النصح له ، فأهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم ، فالذين يُستشارون من أهل الفقه والفهم والورع ، والدراية ، الواعون لدورهم ، بعبارة أدق – الذين لا إمَّعية في آرائهم ، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق ، وفعله غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم ، أو غيره.
5.حرية الرأي : ونلمس هذا من المناقشة التي دارت حول الخلافة ، وكانت مناقشة موضوعية تدل على حرية الرأي والكلمة والاختيار دون ضغط سياسي . أو دعائي ، وإنّما كانت تقارع الحجة بالحجة الأقوى منها ، والدليل والبرهان ، حتى انتصرت الحجة القوية ، واقتنع الجميع بالخليفة المرشح ، مع أنّه لم يكن من المهاجرين في اجتماع السقيفة سوى ثلاث من المهاجرين ، وباقي الحضور من الأنصار ، فقد استطاع المهاجرون الثلاثة بقوة الحجة والبرهان أن يقنعوا الجميع ، فالغاية كانت لمصلحة العامة ، وليست طمعًا في مركز أو منصب.
6.التخطيط : من مقومات الحكم في دولة الخلافة الراشدة التخطيط للحاضر والمستقبل ، ومخطئون الذين يعتقدون أنّ الإسلام لا يقر التخطيط باعتباره يعالج أمورًا سوف تقع في المستقبل ، وأنّ المستقبل من علم الغيب الذي ينفرد به الحق سبحانه وتعالى ، وهذا اعتقاد ليس فيمحله ؛ لأنّ التخطيط يعتبر جزءًا من العمل الذي حضّ عليه الإسلام : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [13] ، وقوله تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[14]
ذلك لأنّ الإسلام لا يعترف بفكرة الدولة الحارسة فقط ، وإنّما عليها أن توفر لهم ما يعيشهم ويقهيهم الجوع والعطش والفقر ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” من ولاه الله شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة ” [15]
ومن هنا نفهم أنّ الدولة مسؤولة عن سد احتياجات المواطنين الاقتصادية والتغلب عليها ، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : ” كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه”[16] وهذا توجيه من الدولة بتخطيط الاستهلاك.[17]
وكذلك نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حينما اشتكى قوم له مشكلة عدم كفاية المنتجات ، وسرعة فناء طعامهم ، قال لهم : ” أتكيلون أم تهيلون ، قالوا : بل نهيل ، قال لهم كيلوا ولا تهيلوا” ومن هنا نرى تدخل الرسول صلى الله عليه وسلم موضحًا السياسة الرشيدة لمجابهة هذا الموقف ؛ إذ وضع لهم كيفية مجابهة المواقف بالتخطيط، وأن يكون الصرف على أساس تقدير دقيق بعيد عن الارتجال.[18]
كما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم أول عمل قام به بعد بناء مسجد في المدينة هو تخطيط سوق بالمدينة وتنظيمه.[19]
وقال سيدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إبان حكمه : ” إنّ الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم، ونوفر لهم عرضهم.” [20]
وهذا يُبيّن لنا مسؤولية الدولة في توفير العمل للأفراد ، وسد احتياجاتهم المالية ، ولا يتم هذا إلّا عن طريق التدخل الإيجابي من الدولة والتخطيط السليم.
7.القضاء على نظام الاقطاع
في الوقت الذي أقر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي ، وإحيائها جريًا على السياسة النبوية ، فأعلن : يا أيها الناس من أحيا أرضًا ميتة ، فهي له.”، إلّا أنّه كان لا يرى إقطاع الأراضي الزراعية في البلاد المفتوحة وتقسيمها ؛ لذا ألغى كل الأوضاع الإقطاعية الظّالمة التي احتكرت كل الأراضي لصالحها، واستعبدت الفلاحين لزراعتها مجانًا، فقد ترك عمر رضي الله عنه أرض السواد في أيدي فلاحيها، يزرعونها مقابل خراج عادل يطيقونه ، يدفعونه كل عام ، وقد اغتبط الفلاحون بهذا القرار ممّا جعلهم يشعرون لأول مرة في حياتهم أنّهم أصحاب الأرض الزراعية لا ملك للإقطاعيين من الطبقة الحاكمة، وكان الفلاحون مجرد أُجراء يزرعونها ، وكان تعبهم وكدّهم يذهب إلى جيوب الطبقة الإقطاعية ، طبقة ملّاك الأرض ، ولا يتركون لهم إلّا الفتات ، وكان من نتائج تمليك الأرض لفلاحي الأمصار المفتوحة عنوة الآتي:
قطع الطريق على عودة جيوش الروم ، والفرس بعد هزيمتهم ، لشعور أهل الأراضي المفتوحة بالرضا التام مما جعلهم يبغضون حكامهم من الفرس والروم ، ولا يقدمون لهم أية مساعدات، بل كانوا على العكس من ذلك يُقدِّمون المساعدات للمسلمين ضدهم.[21]
مسارعة أهل الأمصار المفتوحة الدخول إلى الإسلام ، فقد ترتب على تمليك الأراضي للفلاحين أن سارعوا إلى الدخول في الإسلام ، الذي انتشر بينهم بسرعة مدهشة ، لم يسبق لها مثيل، فقد لمسوا العدل ، وتبيّن لهم الحق ، وأحسوا بكرامتهم الإنسانية من معاملة المسلمين لهم.[22]
8.العمل المؤسسي
ويظهر هذا بوضوح في المؤسسات المالية والقضائية والرقابية والعسكرية والإدارية ، وتطويرها في عهد عمر رضي الله عنه، فقد أنشأ أوّل وزارة مالية في الإسلام ، وكوّن جيشًا نظاميًا للدفاع، وحماية الحدود، ونظّم المرتبات ، والأرزاق ، ودوّن الدواوين ،وعيّن الولاة ، والعمّال ، والقضاة، وأقّر النقود للتداول الحياتي، ورّتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وعيّن امرأة عليها( الشفاء من بني عدي) وثبّت التاريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، بتملكيها للفلاحين القائمين على زراعتها مقابل خراج يطيقونه يدفعونه سنويًا، وخطّط المدن الإسلامية ، وبناها، وقال المستشار علي علي منصور : ” إنّ رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن دستور للقضاء ، والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية ، وقوانين استقلال القضاء.[23]
9.إدارة الأزمات
تعرّضت دولة الخلافة الراشدة في عهد عمر بن الخطّاب إلى أزمة اقتصادية عُرفت ب” عام الرمادة” ، ففي سنة(18)ه أصاب الناس في الجزيرة مجاعة شديدة وجدب وقحط ، واشتد الجوع حتى الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها ، وماتت المواشي جوعًا ، وسمي هذا العام عام الرمادة لأنّ الريح كانت تسفي ترابًا كالرماد ، وهرع الناس من أعماق البادية إلي المدينة ، يقيمون فيها ، أو قريبًا منها يلتمسون من أمير حلًا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تعامل الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مع هذه الأزمة؟
لقد كان على مستوى الحدث والمسؤولية ، فتعامل معها بالآتي:
أولًا : بدأ بنفسه ، فضرب منها للناس قدوة ، فحلف ألّا يذوق لحمًا ولا سمنًا حتى يحيا الناس ، ولقد أجمع الرواة أنّ عمر كان صارمًا في الوفاء بهذا القسم ، وقد تأثر عمر رضي الله عنه في عام الرمادة حتى تغير لونه .
ثانيًا: إقامة معسكرات للاجئين ، وأمر رجالًا يقومون بمصالحهم ، فكانوا يشرفون على تقسيم الطعام ، والإدم على الناس ، وإذا أمسوا اجتمعوا عنده ، فيخبرونه بكل ما كانوا فيه ، وهو يوجههم، وكان عمر يطعم الأعراب من دار الدقيق ، وهي من المؤسسات الاقتصادية التي كانت أيام عمر توزع على الوافدين على المدينة الدقيق والسّويق ، والزبيب من مخزون الدّار قبل أن يأتي المدد من مصر والشام والعراق ، وقد توسعت دار الدقيق لتصبح قادرة على إطعام عشرات الألوف الذين وفدوا على المدينة مدة تسعة أشهر قبل أن يحيا الناس بالمطر.[24]
وهذا يدل على عبقرية عمر رضي الله عنه في تطوير مؤسسات الدولة سواءً كانت مالية ، أو غيرها ، وكان رضي الله عنه يعمل بنفسه في هذه المعسكرات.[25]
ثالثًا : الاستعانة بأهل الأمصار؛ إذ أسرع بالكتابة إلى عماله على مصر والشام والعراق يستغيثهم ، وذكر الطبري أنّ من قدم عليه أبو عبيدة الجرّاح في أربعة آلاف راحلة من طعام ، فوّلاه قسمتها فيمن حول المدينة ، وكان الفاروق يقوم بتوزيع الطعام والزاد على كثير من القبائل في أماكنهم من خلال لجان شكّلها ، فعندما وصلت إبل عمرو بن العاص إلى أفواه الشام أرسل عمر من يشرف على توزيعها مع دخولها جزيرة العرب.
رابعًا: توقف إقامة الحد عام المجاعة : فقد أوقف مر رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة، ليس تعطيلًا للحد، ولكن لعدم توفر شروط تنفيذ ، فالذي يأكل ما يكون ملكًا لغيره بسبب شدة الجوع ، وعجزه عن الحصول على الطعام ، فيكون غير مختار ، فهو لا يقصد السرقة .
خامسًا : تأخير دفع الزكاة في عام الرمادة: فأوقف عمر رضي الله عنه إلزام الناس بالزكاة عام الرمادة ، واعتبرها دينًا على القادرين حتى يسد العجز لدى الأفراد المحتاجين ، وليبقى رصيدًا بعد أن أنفقه كله.[26]
10.الرقابة الإدارية : ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عماله يخضعون لرقابة إدارية؛ إذ أطلق لعماله الحرية في إدارة ولايتهم ، مع تقييدهم في المسائل العامة، ومراقبته في خلواتهم وحياتهم العامة[27] ، فقد اشتد في متابعة عماله ومراقبهم ومحاسبتهم، وأخذ المذنب منهم بكل شدة، وكانت له عليهم عيون تأتيه بأخبارهم أولاً بأول وإذا جاءته شكوى عن أحدهم يحقق معه أياً كانت مكانته وأياً كانت الظروف، ومحاسبة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو خال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن السابقين الأولين للإسلام وفاتح العراق، إلاّ أنّ هذا كله لم يحل دون التحقيق معه عندما جاءت إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص تهم باطلة ،ويعلم سيدنا عمر أنّها باطلة، وهذه التهم جاءت من أهل شقاق ونفاق، وكانت الحرب دائرة مع الفرس في نهاوند، فأرسل سيدنا عمر محمد بن مسلمة ليحقق مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تحقيقاً علنياً ، وكان يطوف بين المساجد ، ويسأل الناس عن سيرته فيقولون لا نعلم إلا خيراً ،ولا نشتهي بديلاً إلى أن انتهى إلى مسجد بني عيسى، فقال فيه أسامة بن قتادة: اللهم إذا نشدتنا فإنّه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية ، ولا يغز في السرية، فدعا عليه سعداً فقال: اللهم إن كان قالها كذباً ورئائاً فاعم بصره ، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن ” فعمى بعد ذلك .
وفي النهاية خرج محمد به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال يا سعد ويحك كيف تصلي؟ قال: أطيل الأولين وأحذف الآخرين، فقال عمر، هكذا الظن بك ، ثم قال له: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيننا ،أي أنّ عمراً رضي الله عنه قد حقق من قبيل الاحتياط مع اعتقاده ببراءة سعد رضي الله عنه وافتراء القوم عليه .[28]
والأمثلة كثيرة علي محاسبته لعماله حتى أنّه عزل النعمان بن عدي بن فضلة عامله على ميسان قال شعراً ذكر فيه الخمر، وأنّه شاربها فلما سمع بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزله، فلما علم سيدنا عمر قال: النعمان: يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وماذا الشعر إلا شيء طفح على لساني فقال له : سيدنا عمر رضي الله عنه : أظن ذلك ولكن لا تعمل لي على عمد أبداً .”[29]
وكان الخلفاء الراشدون يراقبون الله في أعمالهم، وولايتهم على أموال المسلمين فأخرج ابن سعد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ عمر بن الخطاب كان إذا احتاج إلى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيلزمه[30]، وهذه الرواية تبين لنا حتى الخلفاء الراشدين أنفسهم كان يوجد من يحاسبهم ، فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة العادل الذي سمي بِ “الفاروق “،لأنّه فرّق بين الحق والباطل، والذي كان الشيطان يخشاه، فإذا مشي سيدنا عمر في طريق مشى الشيطان في طريق آخر خوفاً ورهبة منه، هذا الخليفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعز الله الإسلام بإسلامه، ووافق القرآن كثيراً من آرائه. إذا أعس ، ولم يستطع إيفاء دينه من بيت المال في الوقت الذي التزم فيه تسديده يقاضيه صاحب بيت المال، ورغم هذا يقول المستشرق أرنولد إنّ الإسلام أوجب طاعة الإمام طاعة مطلقة فصار الحكم الإسلامي حكماً استبدادياً، لأّنّه لا يوجد من يكون الإمام مسؤولًا أمامه “. وهي مقولة مجانبة للحق والصواب .
كل هذه النماذج التطبيقية للرقابة الإدارية في الإسلام على العمال والولادة تدحض مزاعم السير توماس، وذلك لأنّ النظام السياسي في الإسلام قائم على أسس ومبادئ ثابتة، وحدد مسئوليات الإمام ووظائفه، فكما أوجب على الرعية طاعته ،فقد أوجب على الإمام الحكم بما أنزل الله وبسُنة رسوله الكريم على أسس من العدل والشورى والمساواة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الفساد والإفساد، والإمام مسؤول أمام الله عن رعيته : ” ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ،والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما .[31]
وبيَّن الحديث أنّ الذي يغش رعيته تحرم عليه الجنة ” ما من عبد يسترعيه الله رعية يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة ” أخرجه مسلم عن عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني .[32]
أما الإمام الذي يأخذ الأموال غصبًا فإنّه يُحرم من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لفظ تحريم الفلول ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ” قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الفُلول فعظمه وعظم أمره ، ثمّ قال ألا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك شيئاً قد أبلغك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حُمحمة [33] ” ،يقولها ست مرات والرسول صلى الله عليه وسلم قول عليه نفس القول.
ممّا سبق يتضح لنا مدى بُعد السير توماس عن الحقيقة والواقع . فإنّ استبد حاكم مسلم، فلا يُنسب إلى نظام الحكم في الإسلام ، وإنّما لخلل في شخصية وتربية الحاكم المستبِّد ، وأخلاقه.
11.حرية الدين والمعتقد واحترامهما
فالامبراطوريتان البيزنطية والفارسية، اللتان كانتا تحتلان البلاد التي فتحها المسلمون يُعانون من اضطهاد ديني من قبل الرومان والفرس، والفاتحون المسلمون لم يُكرهوا أهالي البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام، بل عقدوا معهم معاهدات تمنحهم حرية العقيدة مع توفير الحماية لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم، وفي مقدمة هذه المعاهدات عهد الأمان الذي منحه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لأهل بيت المقدس على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم، وصلبانهم، ولا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم..”
وفي الوقت الذي اضطهدت الامبراطورية الرومانية أقباط مصر لأنهم يدينون بالمسيحية على مذهب الياعقبة المخالف لمذهب الدولة الملكاني ، عهد عمرو بن العاص رضي الله عنه للقبط الذي كتبه بيده بحماية كنيستهم، ولعن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها، وكتب أماناً للبطريق بنيامين، وردَّه إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاث عشرة سنة، وأمر عمرو رضي الله عنه باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال، وألقى على مسامعه خطاباً بليغاً ضمنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة ،فتقبلها عمرو رضي الله عه، ومنحه السلطة التامة على القبط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة، ولم يفرق العرب في مصر بين الملكانية واليعاقبة من المصريين، الذين كانوا متساوين أمام القانون، والذين أظلهم العرب بعدلهم بحسن تدبيرهم، وأخذوا على عاتقهم حمايتهم، وأمنوهم على أنفسهم ونسائهم وعيالهم، فشعروا براحة كبيرة لم يعهدوها منذ زمن طويل، بل كانوا يعانون من ظلم البيزنطيين الذين كانوا يضطهدون الياعقبة لأنّهم يختلفون معهم في المذهب، يوضح هذا قول المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: “يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي، لما عرف به من الإدارة الظالمة ،وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت ،فإنَّ الياعقبة الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط ،الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق الذيْن لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم)[34]
وبعد هذا العرض السريع لنظام الحكم في الخلافة الراشدة ، هذا النظام الذي لم يكن وراثيًا، بل قائم على الانتخاب، وقد كان له فضل السبق في ابتكار العملية الانتخابية المعمول بها الآن في الدول الديمقراطية الحديثة، نظام يقوم على العدل، ومحاسبة الحكام ومقاضاتهم ، ووقوفهم أمام خصومهم في مجالس القضاء مثلهم مثل خصومهم، لا مميزات لهم لأنّهم ولاة ، أو خلفاء، نظام شوري ، يقوم على المساواة ، وحرية الرأي والدين والعقيدة، حتى ذهب الخليفة عمر بنفسه إلى القدس ليمنح أهلها عهد الأمان على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم، وصلبانهم، ولا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم..” نظام يقوم على العمل المؤسسي ، والتخطيط، وإدارة الأزمات التي كانت واضحة في عام الرمادة ، والرقابة الإدارية والمحاسبة، لا محسوبيات ولا إقطاعيات ، فلا سادة وعبيد، ولا تمايز طبقي، فالناس سواسية ، والأفضلية للتقوى.، لا لجنس ولا لنوع ولا لون.
في حين وجدنا نظام الامبراطورية الرومانية – من خلال عرض سريع له أيضًا – أنّه نظام وراثي استبدادي لا شوري لاختفاء المجالس الاستشارية في العهد الامبراطوري ، ولم يبق إلّا مجلس الشيوخ ، أو السناتو بسلطة صورية. نظام إقطاعي ، يقوم على المحسوبية انتشر فيه الفساد والجور والتعسف. نظام طبقي . العبيد ، في قاع الهرم، لا يحترم حرية الدين والعقيدة، واضطهد المسيحيين الذين لا يدينون بمذهب الدولة وأباطرتها، نظام يفتقر إلى إدارة الأزمات، فلم يكن لديه خطة لمواجهة الأزمات أو المشاكل ، أو محاولة منعها قبل وقوعها ، ففشلت الدولة فشلًا ذريعًا في مواجهة أزمة القرن الثالث الميلادي ، بل ضاعفت منها بفرض ضرائب على الناس أثقلت كواهلهم ، وحوّلت الأحرار منهم إلى عبيد، واختفت الطبقة الوسطى وتلاشت، بتحويل أفرادها إلى فئة من الأتباع والعبيد في ميدان الزراعة والصناعة.
فأي النظاميْن الأكثر تطورًا، النظام الامبراطوري الروماني، أم النظام الخلافي الراشدي؟
للحديث صلة.
[1] . د. سعيد عبد الفتاح عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، ص 11، دار النهضة العربية ، بيروت ، طبعة سنة 1976م. [2] . سامي زين العابدين حمّاد : المجلد الثاني من موسوعة الإدارة في الإسلام ” أثر الإسلام والعلماء المسلمين في إثراء الفكر الإداري ، ص 465، دار الفجر الإسلامية ، المدينة المنورة، الطبعة الأولى ، سنة 1422ه – 2001م. [3] . د. سعيد عبد الفتاح عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ،مرجع سابق، ص 15. [4] . المرجع السابق : ص 16. [5] . المرجع السابق : ص 17. [6] . المرجع السابق: ص 17.6.. ويكيبيديا الموسوعة الحرة نقلًا عن ^ Brown, P., The World of Late Antiquity, London 1971, p. 22.
[8] . د. سعيد عبد الفتاح عاشور: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، ص 11، دار النهضة العربية ، بيروت ، طبعة سنة 1976م. [9] . ابن سعد: الطبقات ، 3/ 364. [10] . تاريخ الطبري5/226. [11] . البقرة : 191. [12] . ابن الجوزي : تاريخ عمر الخطَّاب ،ص93، 94،ط2، 1405هـ ـ 1985م ،دار الرائد العربي ـ بيروت. [13] . التوبة : 105. [14] . القصص : 77. [15] . رواه أبو داوود برقم (2984). [16] . رواه أحمد: 4/131. [17] . د. شوقي أحمد دنيا ، الإسلام والتنمية الاقتصادية ، ص 230، دار الفكر العربي ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1979م. [18] . المرجع السابق: ص 231. [19] . المرجع السابق : ص 231. [20] . المرجع السابق: ص 231. [21] . د. علي محمد محمد الصّلّابي: عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ” شخصيته وعصره” ، ص 325، دار ابن كثير ، دمشق- بيروت، الطبعة الثاثة1431ه- 2010م. [22] . المرجع السابق : ص 325. [23] . الإدارة في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب ، ص 392. [24] . محمد حسن شراب: المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي، 2/ 37،38، ، دار القلم ، بيروت ، الدار الشامية ، بيروت ، الطبعة الأولى 1415ه -1994. [25]. د. علي محمد محمد الصّلّابي: عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ” شخصيته وعصره” ، ص 288، دار ابن كثير ، دمشق- بيروت، الطبعة الثاثة1431ه- 2010م. [26] . سالم البهنساوي : الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى ، والديمقراطية ، ص 166، مكتبة المنار الإسلامية ، الكويت ، الطبعة الثانية ، 1418- 1997. [27] – د . إبراهيم أحمد العدوي : نهر التاريخ الإسلامي ، ص 176 ،بدون، القاهرة : ” دار الفكر العربي . [28] – د . سليمان محمد الطحاوي : عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة ط2″بدون ” دار الفكر العربي ص – 278 279. [29] – الإمام جلال الدين بن الجوزي : تاريخ عمر بن الخطاب ص – 108 109. [30] – المصدر السابق: ص 17.[31] – صحيح مسلم / النووي 12/ 213. [32] – المصدر السابق :2/214. [33] – المصدر السابق :2/ 216- 217.
[34] . توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة د. حسن إبراهيم حسن، ص 123.
أضف تعليق