بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المُرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.
إخوتي وأخواتي/
أعتقد أنني مهدت بدرجة، وإن لم تكن طبعا كافية، للتعريف بالمدرسة الإرثية، التي يصدر عنها كثيرون، وهي طبعا ربما تكون نوعا من التسمية للحكمة الخالدة. ويعود هذا النوع واستحياؤه والتعريف به إلى المرحوم عبد الواحد يحيى أو رينيه جينو René Guénon.
أي طوّفنا تطوافة سريعة، غير كافية بلا شك، بهذه المدرسة، وبأكبر مبنيين لها، ولها مبان أُخرى، لكن طبعا ربما يُصدم أحدكم، حين يبدأ يتقصى حول هذه المدرسة، حين يقف على أنها تُعنى بالعلوم الخفية!
لها علاقة وعناية خاصة بالعلوم الخفية، مثل الخيمياء، وإن كانوا يُسمونها الكيمياء، لكن هي ليست الكيمياء المُعاصرة، وعلوم أُخرى كثيرة، عُرفت في التراث الإسلامي، مثل الليمياء، والهيمياء، والسيمياء، والريمياء، وعلم الحروف، وعلم الرموز، وحساب الجُمل!
حتى السحر، للأسف الشديد! الحكمة الخالدة والمدرسة الإرثية تعتني حتى بالسحر، وبالتنجيم، وبالخيمياء، وبالرمزيات، وما إلى ذلك! حتى نكون واضحين، ونعرف أين نحن، هو هذا!
وفي ظني الكثير، في ظني! لكن أحسن أن أُرجئ هذا إلى وقت النقد، حين نقول رأينا في هذه المدرسة، وفي منزعها، وفي موقفها من العلم الحديث، هذا الذي يهمنا طبعا، نحن لا نتكلم عنها كمدرسة، هذا موضوع آخر، لكن في موقفها من العلم الحديث.
فكما قلت لكم سيد حُسين نصر هو أحد، بل الآن تقريبا هو أكبر علم، من أعلام هذه المدرسة حول العالم! مشهور جدا! طبعا مشهور في العالم الغربي أكثر منه في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي أكثر منه في العالم العربي! معروف جدا عند الغربيين! لأن مُعظم كتاباته الغزيرة والكثيرة جدا يكتبها باللُغة الإنجليزية، على أنه يُجيد عددا من اللُغات.
وطبعا كان سيد حُسين نصر أول مسلم يُدعى لإلقاء مُحاضرات جيفورد Gifford! حدثتكم عنها – سُبحان الله – في الحلقات السابقة! مُحاضرات جيفورد Gifford! سواء في اسكتلندا أو في أيرلندا أو في المملكة المُتحدة أو في غيرها! هو أول مسلم دُعيَ لإلقاء هذه المُحاضرات! وألقاها فعلا، ثم طبعها في كتاب اسمه تقريبا المعرفة والمُقدس، أي Knowledge and the Sacred!
وهو كتاب مُهم، أي بدرجة أهمية كتابه الحاجة إلى علم مُقدس، الذي يشرح فيه أيضا هذه المدرسة، ومبانيها، وموقفه، وهو قدر ليس كبيرا، من العلم الحديث، بناء على مباني وتوجهات هذه المدرسة.
الشخصية الثانية التي دُعيت إلى مُحاضرات جيفورد Gifford محمد أركون، المشهور! نعم! لا أعرف أن هناك شخصية ثالثة دُعيت.
كنت في البداية، في الحلقة الأولى، قلت لكم سأذكر لكم شيئا ربما يلفتكم بخصوص المدارس الثلاثة: مدرسة حُسين نصر، ومدرسة ضياء الدين سردار، ثم مدرسة إسلامية المعرفة!
المُلاحظة أن ثنتين من الثلاث المدارس تتبع مسلمين غير عرب، مما يؤكد أن المسلمين غير العرب لهم مزيد عناية بقضية العلم والدين وقضية الفلسفة العلمية وفلسفة العلم، أكثر من العرب، وهذا صحيح بلا شك!
طبعا مدى عُمق سيد حُسين نصر في فلسفة العلم وتراثه المكتوب في هذا الباب، هذا مشهود به عالميا، حتى ضياء الدين سردار! على أنه أصغر في السن بحوالي عشرين سنة على الأقل، أو أكثر؛ ثلاثين سنة! ثنتان وثلاثون، وإحدى وخمسون، نعم! قريب من رُبع قرن، لكن على الأقل له ستة كتب، حول قضايا العلم والعلم في الإسلام والعلم الغربي ونقد كذا!
ناس – سُبحان الله – عندهم اهتمام حقيقي بهذه المجالات! لذلك استحقوا أن تتبعهم مثل هذه المدارس، في حين أن العرب لهم مدرسة واحدة، وهي الأقل والأضعف من حيث التأصيل؛ مدرسة إسلامية المعرفة، وسوف نقف على بعض ذلك – إن شاء الله تعالى -.
نعود الآن إلى سيد حُسين نصر – بارك الله في عُمره – ومدرسته التي تدعو إلى علم مُقدس Sacred science، علم مُقدس! طبعا بعض الناس يأخذ الاسم ويطير به!
يقول لك أرأيتم هذا الموقف الاختزالي البسيط الساذج؟ علم مُقدس؟ وهل يُوجد علم مُقدس، وعلم Profane – أي علم مُدنس -؟ هل العلم الغربي مُدنس، وعلمكم الموعود الذي لم نر وجهه حتى – أى أين إنجازاته؟ أين عطاءاته؟ أين كشوفاته؟ أين فتوحاته؟ – مُقدس؟
لا، المسألة ليست بالطريقة هذه، وموقف سيد حُسين نصر أصلا من العلم ربما يكون مُشتبها قليلا عند بعض الناس الذين تعجلوا قراءة بعض مقالاته، ليس بعض كتبه وأعماله!
أي لو سألت هل سيد حُسين نصر مثلا ضد أن نتعلم هذا العلم، الذي تعلمه هو؟ لقيل لا، ليس ضده، بالعكس! ويقول لك تعلم، ولا بُد أن نتعلم هذا العلم الغربي، وأن نُمعن فيه. إذن أين يختلف معه؟ ما مُشكلته؟ وما هو العلم المُقدس الذي يُطالب به؟
نعم، سيد حُسين نصر قال لك أنا حين بدأت في دراسة تاريخ العلوم الإسلامية، وقرأت فلسفة العلم، وأمعنت فيها، تبيّن لي أن العلم في حضارة المسلمين تأسس على مهاد فلسفي ميتافيزيقي، ورؤية كونية – أي Worldview؛ رؤية كونية -، تمتح من معين العقيدة الإسلامية، من الروح الإسلامية، تجعله يختلف إلى حد بعيد – غير واضح قال للأسف الشديد -، لدى مُعظم المُسلمين، الذين يتكلمون في هذا المجال ويكتبون في هذا المجال!
وأحيانا يشتد في وصفهم، أي يصفهم أحيانا بأنهم بُسطاء أو سُذج! ليس عندهم أي دراية بالموضوع! ويظن واحدهم أن العلم الغربي هو العلم الإسلامي كما قلنا، بضاعتنا رُدت إلينا! قال لا، يُوجد فرق كبير جدا جدا بينهما، يُوجد فرق كبير جدا بينهما!
إذن – لكي نُلخص فقط، وبعد ذلك نبدأ نُفصّل – ما الذي ترمي إليه يا سيد نصر؟ وما الذي تبغيه؟ يقول أنا أبغي إلى إعادة تأسيس العلم على المُسبقات وعلى الأسس الميتافيزيقية الإسلامية؛ لأنها في نظري، وحسب درايتي بالعلم وبالعالم وبالإسلام، هي الأوفى والأفضل والأكرم والأضمن لمُستقبل العلم ومُستقبل البشرية.
عنده مُبرراته، ويُمعن في ذلك هو. هذا مُلخص موقف هذا الرجل. إذن هو ليس ضد العلم في ذاته، وليس ضد حتى أن نُحصّله، لكن ضد أن نكتفي به، وأن نأخذه على علاته كما هو؛ لأنه يرى في الأخير – وله طبعا تصريح في هذا – أن من المسلمين مَن يُحسن الظن فيه!
(وأيضا لبساطته؛ لأنه مسلم ساذج! ويظن أننا بمنجاة وبمأمن من أن نصير إلى المصير الذي صارت إليه الكنيسة في الغرب الأوروبي! بسبب تعقد علاقتها واشتباكها مع الدين. قال نحن بمأمن! قال لا، لسنا بمأمن! بل نحن أقرب أن نصير إلى هذا المصير مما تظنون!)
أنا في هذه النُقطة تقريبا أتفق معه، أظن أنني أتفق معه مبدئيا، لسنا بمأمن ولسنا بمنجاة، وواضح على فكرة أننا بدأنا نُعاني الآن، نُعاني من اشتباك العلاقة بطريقة غير مفهومة!
وندفع الثمن من إيمان أولادنا؛ أبنائنا وبناتنا، وإخواننا، دون أن يكون لدينا الجدية في فتح هذا الملف ومُعالجته، على نحو ما حصل حتى في الغرب الأوروبي! لسنا جادين إلى الآن! لسنا جادين!
أعتقد على الأقل يُعترف لأمثال سردار، وأمثال جماعة إسلامية المعرفة، وأمثال حتى الدكتور البروفيسور نصر، بأنهم جادون، أخذوا الموضوع فعلا وحملوه على محمل الجد، لكن قوى الأمة بشكل عام، أجنحتها الثقافية والفكرية – نتكلم في المجال الديني – بشكل عام، لا، لم تُناصرهم، ولم تستجب لهم!
ولذلك هذا التأثير! كما قلت لكم نحن العرب، أي أربعمائة وخمسون مليونا تقريبا، ونحن مهد الإسلام، وقلب الإسلام، ولُغة الإسلام! تقريبا لا دراية لنا، لا بمدرسة سردار، ولا بمدرسة نصر! نعم؛ لأننا لسنا جادين في أن نتعاطى مع هذا الملف حقا!
على الأقل بداية الجد أن نعرف أين وصل إخواننا، الذين هم منا وإلينا! هؤلاء مسلمون، مُفكرون مسلمون كبار! ولهم مدارس، ولهم أتباع، ولهم إنتاج فكري غزير، يعرفه الغربي قبل حتى المسلم! لماذا نجهله نحن العرب؟ ما مُشكلتنا؟ ما الخطب مع العرب؟ هو هذا! ما الخطب مع العرب؟ لماذا هذه الأُمية الثقافية لدى العرب تقريبا؟
حقيقة أنا لم أر دراسة عربية حاولت أن تُعرّف بهذه المدارس، إلا ما كتبه البروفيسور نضال قسوم – بارك الله في عُمره -، هذا العالم الفاضل الجزائري، المُقيم الآن حسبما أعتقد في الشارقة أو في الإمارات بشكل عام.
عنده كتاب مُمتاز أهدانيه – بارك الله فيه – قبل حوالي ثماني سنوات، مع رسالة لطيفة ورائقة جدا منه إلي! اسمه سؤال الإسلام الكمي Islam’s Quantum Question، وحاول أن يقوم فيه بنوع من التوفيق، بنوع من التوفيق بين العلم وبين المنظور الإسلامي.
هذا الكتاب عرّف فيه بالمدارس الثلاثة هذه، وبطريقة مُكثفة وجميلة، والله! هناك طبعا دكتورة مصرية، قامت بشيء مُشابه، مع تفصيل طبعا أكبر، أعتقد أن كتابها كان رسالة دكتوراة، لكن هذا الكتاب رسالة دكتوراة بالإنجليزية! اسمها مُنى أباظة.
المُهم، هو عن الجدل حول الإسلام والمعرفة في ماليزيا ومصر، في عوالم مهزوزة Shifting worlds! تقول Debates on Islam and Knowledge in Malaysia and Egypt: Shifting Worlds، في العوالم المُهتزة لماليزيا ومصر. أنا قرأت الكتاب بطوله – بفضل الله -.
عرّفت تعريفا مُسهبا، وطبعا ونبشت تحت الخلفيات! مع أنني لاحظت على الدكتورة مُنى أباظة أنها في العموم غير مُتعاطفة مع الطرح الإسلامي. واضح أنها ليبرالية، وعلمانية، أي لديها…لا أدري! ما يُمكن أن يُشتم منه أنه نوع من عدم التعاطف أو الانحياز، ضد أي طرح إسلامي تقريبا!
هكذا أنا رأيت، وقرأت كتابها بطوله، نعم! وعُدت إلى بعض مصادره أيضا، وهي كثيرة جدا! فهذا الكتاب تعريف أيضا، تعريف مُعمق، وعمل علمي أكاديمي مُسهب!
فيما عدا ذلك للأسف، العرب غير معنيين كثيرا! لا أدري لماذا! ليس عندنا إنتاج في هذا الباب، ولا حتى مُطالعات جدية! الله المُستعان، إن شاء الله يتغير هذا الشيء، وتكون هذه المُحاضرات أيضا دعوة إلى التغيير، وتُعطي ربما أخطوطة عامة، نعرف أين نتجه! اذهب وتعمق في هذه المدرسة، وفي هذه المدرسة؛ لكي تكون على دراية بما يحدث.
فسيد حُسين نصر قال لك لا، المُشكلة قائمة، والخطر يتهدد الإسلام والعالم الإسلامي، ولا بُد من مُعالجة هذا الملف بجدية حقيقية. هو ساهم بطريقته، وحسب موقعه الفلسفي، جميل!
إذن هو يُريد ماذا؟ يُريد إعادة النظر في الأُسس الرؤيوية الميتافيزيقية الحاكمة على العلم والنشاط العلمي والبحث العلمي والسعي العلمي. المُشكلة الآن بعد أن نفرغ من هذه المُحاضرات، أنكم سوف ترون الآتي!
ومهما قرأت، وجدت أن ما يُميز مدرسة نصر ومدرسة سردار ثم مدرسة إسلامية المعرفة، هو ما سماه عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو Pierre Bourdieu، ما سماه Le Sens pratique، أي The Practical Sense، غياب الحس العملي، الحس التطبيقي!
بمعنى أنك سترى تضخما في خطاب المدارس الثلاثة التنظيري! كتب ودراسات وأشياء! موجود، موجود، موجود، موجود! إذن والجانب العملي؟ أين؟ هل أنجزتم شيئا؟ هل جربتم أن تُشغّلوا هذه النماذج التي لديكم، الجديدة المطروحة كبديل، مثلا؟
ربما أكثرهم جدية مدرسة سردار؛ Ijmalism! أذكر أن أحد أعلام هذه المدرسة، واسمه منور أحمد أنيس Munawar Ahmad Anees – هو يبدو أنه هندي أو باكستاني -، ألف كتابا عن المُستقبلات – Futures سماه، ليس حتى مُستقبلا -؛ المُستقبلات البيولوجية!
الكتاب هذا مُعظمه كأنه بديل طبعا لعلم الأحياء، طبعا! وتكلم حتى عن موقف المدرسة الإجمالية من التكنولوجيا وكذا. لما تقرأ هذا الكتاب وتقرأ عنه، تجد الآتي! أعتقد أن مُنى أباظة لم تظلمه كثيرا، حين وصفته بما يُشبه بأن يكون متنا بورنوجرافيا هكذا أو إباحيا!
طبعا هو عمل علمي، على أساس هذا، يستخدم لُغة عجيبة، صادمة، جارحة، أي تجرحك، حين تقرأ! لا أستطيع أن أُمثّل هنا، خاصة معنا أخوات، لا أستطيع! عناوين لبعض الفقرات عناوين جنسية فاضحة! لكي يُعالج – قال – أمورا علمية!
فتجد كما لاحظت الدكتورة مُنى أباظة في كتابها هذا المُنوّه به قُبيل قليل، أن كتابه أصبح أشبه بالكُتب الصفراء، التي كانت تُوزع ربما أمام التكايا والمساجد! كتاب الباه ورجوع الشيخ إلى صباه، ونواضر الأيك للسيوطي إلى تكملة الاسم القبيح جدا!
قالت مثل هذا هو! قالت أين يُريد أن يبلغ هذا العمل؟ ماذا يُريد أن يقول هذا العمل؟ لم يُقدم أي شيء حقيقي في علم ال Biology! أنت تتكلم عن بديل في ال Biology! أي بديل؟ أين البديل؟ ماذا فعلت أنت يا رجل؟ شيء غريب جدا!
وطبعا هناك النمطية التسطيحية أو التنميطية! يبدأ كل فصل دائما بشجب الأخلاق الغربية، وطبعا يتحدث – هذا أكثر شيء – عن أخلاق أو بيولوجيا التناسل، بيولوجيا التناسل! هو هذا!
فكل فصل لا بُد أن يبدأ بشجب الحالة الغربية، وكيف أنها مُنحلة وموغلة في الإسفاف الأخلاقي والإسفاف الجنسي، ثم في الأخير – لينتهي إلى النهاية ذاتها في كل مرة -: نحن الأطهار، هم الأقذار ونحن الأطهار، نحن الجميلون الطيبون الأطهار الأنقياء.
تبسيط عجيب وغريب جدا جدا! وما هكذا تكون الأعمال العلمية! وعلى فكرة، لاحظ أكثر من ناقد، خاصة من الغربيين، لأعمال كل دُعاة العلوم على أساس ديني إسلامي، سواء سردار أو نصر أو إسلامية المعرفة، لاحظ فيها شيئا يُشبه أن يكون مُشتركا! ما هو؟
وهو أنها تتعامل بحس لا تاريخي! كأن الأمور أنماط ثابتة، ماهوية! نحن هكذا وهم هكذا، الإسلام هكذا والمسيحية هكذا، القرآن هكذا وال Bible هكذا! والأمور ليست كذلك، بالمُطلق ليست كذلك! إطلاقا!
مَن الذي يُمكن أن يتحدث عن إسلام هكذا بالمُطلق، إسلام محض؟ أبدا! إذا أردت إسلاما محضا، فقط اتل الآيات، كما هي. أما إذا أردت أن تذهب خُطوة إلى الأمام؛ لكي تؤول الآيات، فهنا سندخل في إسلامات! أليس كذلك؟ هناك التأويل الكلامي، والتأويل العرفاني الصوفي، والتأويل اللُغوي، والتأويل الفلسفي، أليس كذلك؟
وهنا طبعا نستعير ابن رُشد، شيخنا الكبير – رحمة الله عليه -، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال! وهذا الفيلسوف عنده طريقته الخاصة في التأويل – رحمة الله عليه -. وبعد ذلك الآن هناك السلسلة التي صدرت في تونس من سنوات: الإسلام واحدا ومُتعددا!
على فكرة، الإسلاميون عموما، أي أعمال علمية، بغض النظر عن قيمتها الذاتية، لا تتسق مع نزوعاتهم واتجاهاتهم العامة، يتجاهلونها، كأنها غير موجودة! مع أنها لو تعوطي معها، فحتما كانت ستُحدث بعض الآثار! شمال، يمين، ستُحدث أثرا، أكيد!
فسلسلة – أعتقد أشرف عليها عبد المجيد الشرفي، الأكاديمي التونسي المشهور – الإسلام واحد ومُتعددا، من العنوان، فيها قضية لافتة! عدد إسلام الفقهاء، إسلام المُتكلمين، إسلام المُتصوفين، إسلام الأكراد، إسلام العرب، إسلام كذا! وهكذا إلى آخر السلسلة!
أنت الآن تعال، قارن عموما بين الخطاب الإسلامي في العالم العربي، والخطاب الإسلامي الجنوب شرق آسيوي، هناك خلافات! هناك مُشتركات مُعينة، وهناك اختلافات.
وحين أُحدثكم عن مدرسة إسلامية المعرفة، سأتحدث عن طبعا العلم الثاني من أعلامها، بعد إسماعيل الفاروقي، وهو السيد محمد نجيب/ أو محمد نقيب العطاس.
مشهور جدا! مُفكر إسلامي أيضا. هذا مشهور جدا، وعلم كبير! أخوه سيد حُسين العطاس! أخوه الأكبر! شقيقه الأكبر! يتجاهله الإسلاميون! مع أنه أحد مؤسسي البحث السوسيولوجي التجريبي في جنوب شرق آسيا، وخصوصا سنغافورة وماليزيا! يُتجاهل بالكامل! وهو أخو نقيب العطاس! لماذا؟
لأنه بدأ بنزوعات إسلامية، ثم في الأخير انتمى إلى المُعسكر الليبرالي! ظل مسلما، لكن صار مسلما ليبراليا! ولم يُبارك، ولم يتعاطف، مع مشاريع أسلمة المعرفة هذه الإسلامية، وشجبها، وسخر منها. فتُتجاهل أعماله وكتاباته، إلى آخر ما هنالك! هذا موجود!
وهذه الحالة أيضا غير صحية. ينبغي ألا يُتجاهل خطاب الكبار، أيا كانوا! حتى لو كانوا ملاحدة، وأن يُتعاطى معه! لأن على فكرة تجاهل الخطاب، صدقني، سيُساهم في تكوين جُزر فكرية وثقافية مُنعزلة، وهذه لا تكون في صالح ثقافة الأمة!
أي في الأخير الخطاب لا يموت، وسيكون هناك مَن يتفاعل معه، ومَن يستجيب له، ومَن يبسطه ويمده أو يختلف معه نسبيا. هذه حالة غير صحية، حالة مرضية، أليس كذلك؟
فنعود إلى ما كنا فيه، فسيد حُسين نصر – أيها الإخوة – كما قلت لكم ليس ضد العلم كعلم، لكنه ضد الاكتفاء به، وضد أيضا تسليم ماذا؟ تسليم مفروضاته الميتافيزيقية كما هي! لا يُريدها. أي يُريد أن يُنقيها.
أعتقد أن سيد حُسين نصر في هذه النُقطة بالذات يتوافق مع مدرسة إسلامية المعرفة، للتو فرغت من القول بإن الذي يدّعي فضل الأسبقية في التأسيس لتيار إسلامية المعرفة، هو سيد محمد نجيب أو نقيب العطاس، الماليزي، من أصل طبعا حضرموتي يمني، من مئات السنين!
وهو سيد مشهور جدا جدا، وعنده معهد كبير للفكر والحضارة في كوالالمبور، وشخصية هائلة! أي معروف الرجل هذا! بدأ عسكريا! وبعد ذلك سنتكلم عنه.
هذا الرجل صك مُصطلح اسمه نزع الغربنة، نزع غربنة العلم، أي نزع تغريب العلم، نزع الصفة الغربية عن العلم. طبعا يبدو أنه استلهم فيه ماكس فيبر Max Weber؛ نزع السحر عن العالم! Entzauberung! Die Entzauberung der Welt؛ نزع السحر عن العالم. هو قال ماذا؟ De-westernisation of knowledge؛ نزع الصفة الغربية عن المعرفة.
وصك مُصطلح أيضا إسلامية وأسلمة المعرفة، الذي بعد ذلك نُسب – وهذا أحزنه وأغضبه – إلى إسماعيل الفاروقي! قال لا. قال قبل إسماعيل الفاروقي ومؤتمر مكة، أنا في سنة تسع وستين تكلمت عن الموضوع، أنا أول واحد!
هناك مُنازعات في هذا الباب! سيد حُسين نصر قال مع احترامي لسيد نقيب العطاس، أنا قبل ذلك في الخمسينيات كان لدي كتابات مُتواضعة في هذا الموضوع. قال أنا أول واحد!
لذلك سيد حُسين نصر مبدئيا، عنده تعاطف مبدئي، مع إسلامية المعرفة، وطبعا هو رجل مُهذب جدا على فكرة، عكس هذا سردار! سردار عنيف جدا وحاد، غير مُجامل في نقوده، صعب!
البروفيسور نصر مُهذب ولائق جدا، وهو شخصية هادئة أصلا، شخصية هادئة ووقورة ورزينة! ولذلك حتى في كتاباته يُظهر أو يَظهر أثر هذا الهدوء وهذه السكينة، ولا يُحب النزاع، أي الصدامي، لا يذهب إلى آخر الشوط، وسوف نرى طبعا!
ولذلك هو كما قلت لكم مبدئيا مع مدرسة إسلامية المعرفة، ويرى أن له الفضل في اللفت إليها، وربما حتى التأسيس البدائي لها. وهو يقول إنه يؤمن أنها ستؤتي أُكلا طيبا! مدرسة إسلامية المعرفة!
إذن في ماذا يتفق معها؟ يتفق معها في هذه النُقطة؛ في أنه لا بُد من نزع صفة الغربية عن العلم الغربي. لكي يكون علما حقيقيا عالميا، ويشترك فيه كل العالم، لا بُد ألا يبقى مُتغربنا. فيتفق!
إذن وما البديل؟ هنا يُوجد شيء جدلي قليلا، Dilemma! تُوجد Dilemma هنا! البديل إسلامي! ولماذا يا حبيبي؟ لماذا تفترض أن إسلامك هو العالمي والكوني؟ أليس كذلك؟ مُشكلة على فكرة!
ردة الفعل البسيطة الأولية لكل واحد غير مسلم، هنديا كان، يابانيا، صينيا، أوروبيا، مسيحيا، يهوديا: ولماذا الإسلام – يقول لك – إذن؟ لماذا أنت تفترض أن دينك ورؤيتك الكونية الإسلامية عالمية؟ لماذا؟ وسوف يُناقشك نقاشا حادا.
طبعا هنا تجد أن كل هذه المدارس تكاد تُجمع على أنه التوحيد! لأننا أهل التوحيد، نحن دين التوحيد، نحن دين التوحيد! الخالق واحد، العالم واحد، الحقيقة واحدة! إذا ماذا يعني هذا؟ المعرفة واحدة. هنا يُوجد خلاف، هنا تُوجد مُشكلة، هنا يُوجد شيء غير مُحقق، غير مُحرر!
على فكرة، حين تقرأ أنت كثيرا من أعمال حتى الدكتور نصر، يروعك أنها تفتقر إلى عُمق يتلاءم مع مكانة الرجل نفسه وسُمعته في العالم! لا يُوجد! إذن أين العُمق؟ لم نر أن هناك عُمقا رهيبا ونقاشا عميقا!
لذلك الذين يتعاطون مع أعماله، على أنه قد يكون الأعمق من بين كل المذكورين، يتعاطون معه وقد – كما يقولون – تراجعت أو اضمحلت الهيبة الأكاديمية للرجل، بسبب السُمعة العالمية وبسبب كثرة أعماله! لا، يرون أن أشياء كثيرة، تُمرر في خطابه، تحتاج إلى تحرير!
هل تظن أنت لأنك مؤمن مُوحد، ترى أن الله هو خالق العالم – وهو كذلك، سُبحانه وتعالى -، وأن العالم واحد، مُرتبط بواحد، أن الحقيقة واحدة، وبالتالي المعرفة لا بُد أن تكون واحدة؟ مسألة خطيرة جدا جدا جدا! الحقيقة هل هي ناجزة، أم غير ناجزة؟ هل تُبنى الحقيقة أم لا تُبنى؟
وذكرنا في الحلقات السابقة بعض المفاهيم السريعة في فيزياء الكم مثلا، تعليقا على كلمة برتراند راسل Bertrand Russell في الواقع، وهنا سنرجع مرة أُخرى نستشهد بالكانطية، وأمثال هذه الأشياء، وحتى بالهوسرلية، والمناهج الفينومينولوجية، قصة كبيرة مُعقدة! وطبعا إذا أدخلنا أيضا المدارس الاجتماعية – علم اجتماع المعرفة، وعلى وجه الخصوص علم اجتماع العلم أو ال Science هنا -، دخلنا في ورطة كبيرة! وأن هذه الحقائق، لا يُمكن أن تُوصف بأنها موضوعية هكذا، بقدر ما يُمكن أن تُوصف بأنها حقائق تُبنى، في سياقات مُحددة، ومرهونة أيضا بالأسئلة التي يُراد منها أن تكون جوابا عنها، قضية جدلية مُعقدة جدا!
ولذلك العالم سيقول لك مسكين أنت! أنت تدمغنا بما تقع فيه! أي أنت الصورة المُعاكسة لنا! تتهمنا بأننا كذا كذا، وأنت مثلنا! في نهاية المطاف سيقولون – في نهاية المطاف! وهذا الكلام أنا أعتقد أنه سيكون مُقنعا أكثر حتى لأبناء المسلمين -، سيقولون له على كل حال هذا ما حصل! هذا العلم الذي أنجزناه، ونجحنا في إنجازه، ولا يستطيع أحد أن يُكابر أنه ناجح جدا، وأنه له فتوحات رهيبة، وأن فتوحات هذا العلم يتمتع بها ويستفيد منها وخضع لها العالم كله، شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا.
وما من أحد، ما من أحد يُمكن أن يُغامر بدعوى أنه قادر على الاستغناء عن هذا العلم، أليس كذلك؟ إلا أن يزعم أن لديه البديل، الذي عليه أن يُثبت كيف يشتغل، وأن يُشغّله؛ لكي يُنجز! لكن ليس على نحو كتاب منور Munawar هذا – نعم، اسمه منور Munawar – عن بيولوجيا التناسل، الذي هو متن في البورنوجرافي Pornography تقريبا، ليس هكذا!
وليس على نحو ما ألف أكبر أحمد كتابه نحو أنثروبولوجيا إسلامية؛ Toward Islamic Anthropology! أنا قرأته، هذا قبل حوالي عشرين سنة، كتاب بسيط جدا جدا، لم يترك في أي أثر. بعض الأنثروبولوجيين الغربيين قرأوه، قالوا كتاب يتسم بالضحالة! ضحل! قال لك أنثروبولوجيا إسلامية! ما هذا؟ ما هذا؟ ليس هكذا!
المُهم، كما قلت لكم بيير بورديو Pierre Bourdieu صاحب مُصطلح الحس التطبيقي، يبدو أنهم في هذه المشاريع الإسلامية، يبدو أنهم لم يكتسبوا هذا الحس التطبيقي. تضخم في التنظير، إلى حد بعيد! مع ماذا؟ مع تطبيق ضعيف جدا، أو غير موجود حتى أحيانا! وضعيف!
وقلنا أكثر هذه المدارس الثلاثة في التطبيق جدية مدرسة سردار! على أنها لم تنجح، ولم تُثمر! وسردار طبعا نشط، هو نشط بمقدار سيد حُسين نصر! هذان الاثنان – ما شاء الله عليهما – خدما مشاريعهما، ولذلك تحولت إلى مدارس، خدمة مُتفانية!
كل يوم في قارة، كل يوم في دولة، مُحاضرة هنا، مُحاضرة هنا، باستمرار! حتى سماهم أحد المُفكرين الغربيين، ووصفهما بأنهما Jet set! Jet set هذه معناها عابرو القارات!
هؤلاء الأشخاص الأثرياء، من المُعاصرين، الواحد منهم عنده فلوس، وعنده فضلة وقت دائما، ودائما راكب الطائرة النفاثة؛ ال Jet، ومن مكان إلى مكان، يطلب ماذا؟ الإبهاج وال Pleasure والمُتعة وكذا!
فقال هذان الاثنان؛ سيد حُسين نصر وضياء الدين سردار، Jet set! بمثابة Jet set! Muslim jet set. قال! عابرات قارات مسلمة! كل يوم في مؤتمر، كل يوم في بلد، كل يوم في كذا كذا! نعم، ومع ذلك لا يُوجد مردود حقيقي إلى الآن، قريب من أربعين سنة! مرت أربعون سنة أو تزيد، قريب من نصف قرن! لا يُوجد أي شيء.
على فكرة هنا؛ حتى لا أنسى، يطيب لي أن أُلاحظ شيئا عجيبا جدا! ال Renaissance الغربية؛ النهضة، كانت في القرن الرابع عشر، أليس كذلك؟ والخامس عشر! المُصطلح نفسه متى صُك؟ في القرن الثامن عشر!
طبعا! كلمة Renaissance هذه في القرن الثامن عشر، بعد أربعمائة سنة! هيا نُسمي هذه الحقبة، بعد أن درسناها ورأيناها، وأنتجت كذا وكذا وكذا، وابتعثت الآداب اليونانية والرومانية، إلى آخره! واهتمت بالإنسان، وجعلته المركز بدل الله، وما إلى ذلك! هيا نُسميها Renaissance! أي البعث الجديد، الميلاد الجديد!
نحن – ما شاء الله – العرب قبل أن نخطو خطوة في النهضة، نقول لك النهضة العربية! إذن هل نهضتم؟ هل نهضتم أصلا؟ هل مشيتم؟ قال لك النهضة العربية – إن شاء الله -، النهضة العربية، هيا! النهضة، ننهض!
لا إله إلا الله! يُوجد تعجل، عكس آبائنا! وعلى فكرة، هنا ترى خطاب الأزمة وخطاب الانفعال من الخطاب الصح – إن جاز التعبير – وخطاب الفعل، خطاب أجدادنا! وستقول لي أكيد أجدادك هم فاعلون! طبعا فاعلون، طبعا هم فعلوا وأنتجوا وألفوا وأنجزوا وأسسوا، ما شاء الله عليهم!
لذلك أنت تُلاحظ التنظير؛ التنظير للعلم وفلسفة العلم، شبه معدوم! في أعمال ابن النفيس وابن سينا وابن الهيثم وفلان وعلان، شبه معدوم! يُوجد عندك مُنتج، انس! مُنتج، خُذ. تُريد حسابات مُثلثات، تُريد جبرا، تُريد خوارزميات، تُريد فلسفة طبيعية طبعا، علم حيوان، علم نبات، علم كذا! شيء لا يُصدق!
إن أنسى لا أنسى، حين كنت صغيرا – ولعلي قرأت هذا في موسوعة أحمد أمين! لم أُراجع هذا من حوالي خمس وثلاثين أو أربعين سنة، كنت في غزة، قبل أن أخرج أصلا – قرأت لمَن يتحدث عن موسوعة في النبات، ألفها عالم مسلم أندلسي في مئتي مُجلد، والله العظيم! شيء لا يُصدق! إن أنسى لا أنسى هذا الرقم! مئتا مُجلد في النبات؟ لا إلاه إلا الله! مئتا مُجلد؟ شيء عجيب!
لذلك على فكرة، في الفترة نفسها مثلا، كان لديك في مكتبات الأندلس، خاصة قرطبة وكذا، قريب من بضعة ملايين كتاب! تخيل! في بعض المرات تتكون مكتبة فرد واحد من مليون ونصف كتاب! والله العظيم! شيء لا يُصدق!
أعظم مكتبات أوروبا، إذا جُمعت أعمالها في الحقبة ذاتها؛ الوسيطة، لوُجد أنها تتكون من ثمانمائة كتاب! ونحن عندنا بضعة ملايين! شيء مُذهل حضارتنا! حضارة عمل حقيقي وإنجاز! ناس عشقت العلم، وعشقت المعرفة، وعشقت الإضافة! لم يعشقوا الكلام والتنظير.
نحن اليوم نُنظر، نُنظر، نُنظر، ولا يُوجد أي منتوج، لا يُوجد موقف سليم! سوف نرى في الأخير! ستقول لي إذن موقفك أنت؟ ماذا سنعمل مع العلم الحديث هذا؟ ما القصة؟ ما كذا؟ سوف نرى، سوف نرى كل شيء في وقته – إن شاء الله تعالى -، وسوف نرى هل الشيء الذي نقترحه يُمكن أن يشتغل؟ هل هو شيء عملي؟ أي ما القصة؟
نرجع، طبعا هذه خُلاصة موقف سردار. ستقول لي أنا ربما أتعاطف مع النقاد، الذين ينتقدون نصرا، على خلفية فلسفته الخالدة هذه، أو الفلسفة الإرثية، التي أنجزت له مُصطلح العلم المُقدس هذا! لماذا؟
أولا مبدئيا أنت تذكر يا بروفيسور نصر أن جانب الروح أو النفس فينا مُتمايز من جانب البدن. بالفعل مُتمايز! غير مُستقل؟ غير مُستقل. يُوجد تحالف بينهما، طالما مع بعضهما، يُوجد تحالف! صحيح! نعم، إذا كان ذلك كذلك، فهل العلم المُقدس هذا – أيا كان وأيا كانت قواعده وخلفياته الميتافيزيقية، إلى آخره -، عنده القدرة على أن يتعاطى مع عالم الطبيعة، بنفس المردودية والنجاعة والجدوى، التي برهنها العلم الطبيعي المادي هذا؟
ستقول لي ما هذا السؤال؟ طبعا هذا السؤال مُهم جدا في فلسفة العلم! لماذا؟ لأن بناء على مبناك أننا كائنات ثانوية ومُكونانا مُتمايزان، التمايز هذا يطرح تحديا كبيرا! أن معناها الوسيلة المعرفية التي يُمكن أن نتعاطى عبرها مع جانب النفس أو الروح فينا لن تصلح لجانب المادة!
ولكي نُبسط، نقول الآتي! على فكرة أنا دائما وأنا أعد هذه المُحاضرات، دائما يثور في دماغي مثل هذه الأسئلة! دعك من ال Subatomic particles هذه، دعك منها؛ لأنهم سوف يُناقشون فيها! تعال إلى شيء أقرب من هذا، إلى ال DNA molecule! جُزيء الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين؛ Deoxyribonucleic acid هذا!
هذه بنية ثابتة! انس! ثبت وجودها وواقعيتها بدقة شديدة! تم الكشف بعبقرية مُذهلة! على فكرة من أعظم فصول الفتوح العلمية في تاريخ البشرية: كيف وصل بنو الإنسان إليها؟ الذين هم طبعا الغربيون! كانوا هم بلا شك! واتسون Watson، وكريك Crick، وروزاليند Rosalind هذه، هم كانوا جماعة! وإن كانت مظلومة هذه السيدة الألمانية (الغلبانة)، ولها فضل كبير! لكن المُجتمع ذكوري بطريركي، قصة ثانية!
كيف توصلوا إلى بنية الحمض النووي هذا؟ شيء لا يكاد يُصدق! وهذا أعطانا فتحا أكبر مما تتخيلون! نحن في ألفين وواحد أنجزنا مشروع الجينوم البشري! ما كان لهذا أن نحلم به أصلا، لو أننا لم نتوصل إلى بنية الحامض النووي، مادة الوراثة الجوهرية!
بالله عليك، مادة الوراثة الجوهرية هذه، كيف يُمكن لعلم الأسرار، أو لعلم روحاني، أو علم خفي، أو علم مُقدس، أن يتدخل فيها؟ هذه قضية مادية! الله شاء ذلك!
تماما ستقول لي هناك ما هو أبسط من هذا، لا نُريد أن نبعدها! أبسط من هذا: حتى أمراض البدن! اليوم هناك الطب الحديث. ستقول لي الطب الصيني، والطب الهندي، وطب الأعشاب، والطب ال Alternative هذا – يُسمونها Alternative هنا -، وطب ال Acupuncture، وما إلى ذلك!
حلو، حلو، حلو! نعم، ولكن بصراحة رُغم كل عطاءاتها وكل كذا كذا، لا تُقاس في الأخير، في نهاية المطاف، بالطب الحديث، المادي، الطبيعاني! أليس كذلك؟ شيء مُذهل يا أخي!
ولذلك مُستحيل أن زعيم حزب صيني مثلا أو هندي أو رئيس أو حتى رجل دين كبير، يُصاب بمرض عضالي مُعين، يحتاج إلى جراحة، أو نوع من العلاج الإشعاعي، ويذهب يأخذ وصفات طب بديل! يُمكن أن يموت، قبل أن يشفى! لكن هذا الطب شيء عجيب!
ورأينا المُحاولة – آخر شيء – التي لم تتم: تركيب رأس إنسان على بدن إنسان آخر. لم تتم؛ لأن المُتبرع تراجع. قال لك أنا تزوجت في الفترة هذه. وهو شخص مسكين طبعا، أي الجسم طبعا جهيض بالكامل! الرأس عنده سليمة تماما، والعقل والقدرات العقلية، لكن الجسم تقريبا غير موجود. الجسم جهيض بالكامل، مُتقزم، تعبان تماما!
وجد مَن تتزوجه، وهي حسناء جميلة. قال لك لا، أنا لا أعملها! وإلا كان البروفيسور هذا الإيطالي يُريد أن يُجري العملية! وقال لك ستنجح بنسبة تسعين في المئة. شيء مُذهل! هذا التقدم مُخيف!
نحن الآن يُمكن أن نجد في بعض الجلوس، في هذه المُحاضرة، الآتي: يكون أحد إخواننا أو أخواتنا، جالسا معنا بقلب إنسان آخر! هناك طبعا مَن هو جالس مع كبد آخر، موجود! مع كبد إنسان آخر، كبد فرنسي!
أحد إخواننا هنا يعيش بكبد شخص فرنسي لا نعرف مَن هو! شيء لا يكاد يُصدق! أحياء يعيشون بقلوب أموات! يعيشون بأكباد أموات! هذا العلم الحديث! هذا لا يلعب، هذا ليس لعبة.
العلم الذي فجر طاقة الذرة، وصنع القنابل الهيدروجينية والذرية، هذا علم لا يلعب، وعلم لا يُمكن أن يُستخف به، وبالقليل من التنظيرات الفلسفية والدينية والروحانية والرمزية تقول لي إنه انتهى، وسأُقدّم بديلا! تفضل، قدّم. البشرية تنتظر مَن يُقدّم! أليس كذلك؟ الأفضل! عندك سباق محموم ومفتوح، تفضل، قدّم! أرني كيف يشتغل بديلك هذا الإسلامي.
علينا أن نكون جادين، لا يُمكن تتعاطى مع هذا الملف بهذا الاستخفاف وهذه البساطة، أليس كذلك؟ وعلى فكرة، ستقول لي كيف يقع؟ أنا أقول لك، انظر؛ هذا لأن الإنسان محدود! إياك أن تطلب من إنسان يشتغل فلسفة – فيلسوف هو -، وخاصة إذا كانت فلسفته ذات طابع روحاني أسراري ألغازي، أن يُقدّم حلولا عملية حقيقية، لمشاكل المُجتمع والبشرية.
صدقني، بطبيعة تكوينه، وطبيعة ثقافته، ونزوعاته الشخصية، هو غير مؤهل لذلك! سيبقى يُقدّم لك تنظيرات بسيطة، على الورق! تقريبا مبتوتة الصلة بواقع الناس!
الآن على فكرة ما الفرق بين فيلسوف سياسي وبين سياسي؟ الفرق كبير جدا جدا جدا! هذا يتكلم ولا يشتغل، كلامه حتى لا يشتغل! أما السياسي، الذي خاض غمار السياسة، ورُبي فيها ونُشئ فيها، هو الذي يستطيع أن يعرف ما هي السياسية، وكيف تشتغل السياسة! ويُشغّلها ويُنتج! أنت فيلسوف، تأتي من خلفه؛ لكي تُعلق فقط! فربما أصبت، وربما أخطأت! هو هذا!
لذلك على فكرة، إياك أيضا أن تستعين في مشاكل الاقتصاد، والسياسة، وإلى حد ما في الاجتماع، بالناس الذين تغلب عليهم التأملية والانطباعية والإغراق في التفكير الفلسفي! لن ينجحوا، سيُتعبونك، سيُصدعون رأسك، دون أن تأخذ منهم شيئا قابلا لأن يُترجم إلى نتيجة عملية، هو هذا! فهذه قضية خطيرة!
لذلك على فكرة، سوف ترون هذه الحالة من الاحتراب بين هذه المدارس الثلاثة، وطبعا ضياء الدين سردار شديد النقد لمدرسة سيد حُسين نصر، وإلى درجة أنا أرى أنها جاوزت حدود اللياقة!
قال ما شاء الله! البروفيسور سيد حُسين نصر، واضح أنه رجل تائه! ماذا؟ تائه؟ قال نعم، Nowhere man! Nowhere man! لا يعرف أين هو! نحن بالعامية نقول (مش عارف وين ربنا حاطه). هو سماه هكذا: Nowhere man!
طبعا ضياء الدين سردار كاتب بالإنجليزية عميق، وأديب كبير أيضا طبعا هو! ألم أقل لك إنه واحد من المئة الأكثر تأثيرا في بريطانيا؟ مقروء عند غير المسلمين! رجل كبير! ونشأ في بريطانيا طبعا، هو وُلد في الباكستان، في البنجاب، لكن نشأ من طفولته في بريطانيا، وتعليمه في بريطانيا.
والعجيب أنه درس، مثل سيد حُسين نصر، درس الفيزياء في البداية! وبعد ذلك انفتح على النقد والتاريخ والأدب والمُستقبليات والسياسة والإسلام، إلى آخره! لكن بدأ بالفيزياء أيضا، نفس الشيء!
فنرجع، فقال Nowhere man هذا! قال وواضح أنه سيأخذنا الآن في كتبه هذه وتنظيراته في رحلة الألغاز الغامضة! Tour هكذا! سيعمل معنا Tour هو! جولة، كلها ألغاز! سماها Magical mystery tour.
قال هذا! هو سيأخذنا في رحلة الألغاز هذه! أي السحرية! رحلة الغموض السحرية! عجيب! قال هكذا هو. وفي الأخير قال هو رجل ليس عنده ما يقوله! كلامه فارغ! الكلام هذا ليس له أي معنى!
لماذا طبعا هنا؟ انظر؛ خلاف! وهؤلاء مسلمون، وهذه مدرسة إسلامية، تُريد أن تُقدّم بديلا لهذا العلم، وهذه مدرسة إسلامية – قال – تُقدم بديلا آخر! انظر إلى الورطة التي نحن فيها، للأسف!
لكن على الأقل بارك الله فيهم جميعا، أي اجتهدوا! يُحاولون، يُحاولون! مُهتمون، ليس لازما أن نقتنع بكلامهم، ولا نُباركه، لكن لا بُد وأن نقف عليه، ونعرفه، ما هو!
فقال هو رجل ليس عنده ما يقوله. كلامه كله ليس له معنى! لماذا؟ النزوع مُختلف. ضياء الدين سردار شاب كما قلنا، إحدى وخمسون! بعد الحرب العالمية الثانية!
عقلية الذين وُلدوا بعد الحرب العالمية الثانية على فكرة تختلف عن عقلية الذين وُلدوا قبل ذلك. وهذا بعد الحرب العالمية الثانية وُلد! إحدى وخمسون، تخيل! ونشأ في هذا المُجتمع، الذي هو بعد حداثي الآن، بعد حداثي! مُجتمع ضياع المعنى، وضياع الهدف، وضياع كذا! المُهم، ومن خلفية طبعا إسلامية.
ضياء الدين سردار عاش في هذا المُجتمع، ودرس فيه، ونشط فيه! يظهر في التلفزيون، في ال BBC، طبعا! عنده وجوه! الإسلام! ويأتي بناس ويستضيفهم وكذا، ورجل يُتابع، يُتابعه الملايين!
بعد ذلك يكتب في Nature، يكتب في العالم الجديد، في ال Independent، عجيب! اشتغل فترة مُراسلا صحفيا، رجل نشيط، يعيش بين الناس، ينشط بين الناس، يُخاطب الناس، الكبار والصغار، السياسيين، العلماء، المُفكرين، النقاد!
ويتحداهم بأبحاثه، وهم أيضا يقرأون له، ويكتب كبار الأكاديميين في الحقول التي تطفل عليها هو، في حقولهم! ويقولون عنده كلام جميل، وقلم سيّال، وفكر خصيب! وإن كان يفتقد إلى الدقة الأكاديمية. طبعا هم أكاديميون!
تأتي وتُناطح واحدا في تخصصه؟ لن تقدر! دائما سيظل يُسجل عليك أشياء. دعه يُسجل، لكن أيضا فرضت احترامك أنت! أن أنا عندي ما أقول، حتى في حقلك، عندي ما أقوله! وهو عنده ما يقول في حقول كثيرة!
لذلك تحس أنه الآن مسموع! وهكذا نكون حتى تقريبا لخصنا الكلام في ال Ijmalism هذه! قال لك أنا طريقتي ليست النظر العميق في المُسبقات الفلسفية والميتافيزيقية، لا! ليس هذا، يهمني شيئا أنا أقرب من هذا بكثير.
ما الذي يهمك يا سردار؟ قال هذا الذي لا يهتم به سيد نصر، ولم يُلق إليه بالا! ولذلك مدرسته – قال – في نظري مدرسة لن تشتغل، لن يكون فيها خير! لماذا؟ قال لك كان أولى بسيد حُسين نصر وأمثاله أن يُنظر في العواقب الاجتماعية للعلم.
ماذا يفعل العلم في البيئة؟ ماذا يفعل في التربية؟ ماذا يفعل في الاقتصاد؟ ماذا يفعل في الصحة؟ ماذا يفعل في الأمن؟ ماذا يفعل في العسكرية؟ تحالف العلم مع المؤسسة العسكرية! هذه الأشياء التي يهتم بها مَن؟ سردار! على فكرة، ويكتب فيها دائما.
طبعا وهناك مُشتركات بينهما، هما الاثنان يشتركان في أن العلم من جهة التطبيقات عنده وجه سيء. إذن من جهة حتى المهاد الميتافيزيقي؟ أيضا تُوجد مُشتركات. لا نقول إنها لا تُوجد! لا! تُوجد مُشتركات.
سردار نفسه يقول إن العلم الغربي أيضا نعم له فلسفة خاصة، نحن لا نُوافق عليها، نطرح فلسفة ثانية! لخصها هو في عشر نقاط. نحن سنذكر منها جماعة من النقاط.
وطبعا واضح الآن أن المُقاربة كلها مُقاربة نافية، مُقاربة سلبية، وليست إيجابية، وهذا عجيب! قال لك أنا العلم الذي أطرح هو العلم الذي لن يكون – لن يكون – هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا! كله بالسلب، بالسلب، بالسلب!
على فكرة، هذه الطريقة ليست مُناورة، لا! هذه الطريقة أنا أعتقد أنها تتسق مع طبيعة الموقف الإسلامي هذا المدرسي، من العلم الحديث. ما هي طبيعة الموقف هذا؟ طبيعة الموقف هذا أنها طبيعة مُتحفظة، لم تُعط الأمان لهذا العلم! لماذا إذن؟ ونحن نعرف طبعا لماذا! والكنيسة هنا تعرف لماذا!
لأن بصراحة هذا العلم، وخاصة في آخر العقود، أي في القرن العشرين، هذا العلم بشكل عام مُتحالف مع الإلحاد! اليوم عندنا الإلحاد العلمي، الإلحاد العلمي! سواء في باب ال Cosmology، أو في باب ال Biology، وخاصة التطورية! واضح أنه مُتحالف مع الإلحاد والملاحدة، والملاحدة يمتحون منه!
لو نرجع، ونقول لهم، من أول وجديد، إذن يا جماعة هل العلم هو هكذا، بنفسه يقتضي هذا، أم هذه تداعيات – مثلما شرحنا موقف الفيلسوف الإنجليزي الكبير والتر ستيس Walter Stace -؟ فسيقول أحدهم لك هذا لا يعنيني، أنا يعنيني ما قد حصل.
وصح! إذا كنت تُريد ما قد حصل بنظرة وضعية، ليست معيارية، فهذا الذي حصل، وهذا هو الحاصل! لكن انتبه! هنا أنا أعتقد الآتي! أُريد أنا كعدنان أن أدخل، أجد لي مدخلا ضيقا جدا، بين كل هذه الفئات المُتصارعة؛ لكي أقول كلمة أرى أن لها بعض الوجاهة وبعض الحقانية! ما هي؟
ليس طبيعيا أن تكون هذه مُنطلقات إسلامية المعرفة وسردار وسيد حُسين نصر، وفي الوقت ذاته لدي علماء مُحترمون كبار، مثل محمد عبد السلام، وله الكثير من الأمثال! ليس في العُمق العلمي، على الأقل في المنهج نفسه، وفي الموقف الفكري!
أنه بالعكس؛ أنا مسلم، وأحترم ديني، ولم أر أن العلم الغربي هز في مُعتقداتي الدينية قيد شعرة! بالعكس! أنا جربت – عبد السلام أو غيري -، ورأيت أن هذا العلم أعانني على تمتين عقيدتي، على ترسيخ إيماني بالله. وهذا صحيح! حصل! حصل معه، وحصل مع غيره! إذن ما الذي يحصل؟ سوف نرى ما الذي يحصل! هذا مُهم جدا على فكرة.
انظر، هذه الحالة الواقعية، وتحصل معنا نحن أيضا، ومعكم! الكثير منا درسوا طبا، ودرسوا هندسة، ودرسوا فيزياء، ودرسوا رياضيات! والواحد منا عنده إيمان عميق جدا بالله، ويُدلل عليه حتى ببعض الحقائق العلمية مثلا! لا يُوجد أي تناقض.
هذه الحالة الواقعية، والتي نعيشها، للأسف أغمض البروفيسور سيد حُسين نصر عينيه إزاءها، وكأنه لا يراها! وقدّم لنا تمثيلا آخر، أنا وجدته ساخرا! بالله، لو لم أقرأه له في أكثر من موضع من أعماله، لظننت أنه دُس عليه! تعرف ما هو؟ شيء فعلا شبه ساخر!
قال أنا وجدت أن الطالب المسلم، التلميذ المسلم، في الصباح يذهب إلى المدرسة. وضرب هذا المثال في أكثر من عمل من أعماله، وفي أكثر من مُحاضرة، وواجه بها الناس أيضا! أي لا أدري، لا أدري! أنا لو كنت مُستشارا له أو زميلا، لقلت له أنصحك يا أستاذي لا تفعل هذا، أطال الله عمرك، تُشمت بنا الأعداء، تُشمت بنا الناس، غير معقول هذا المثال الذي تضربه أنت! هذا يضربه دائما!
قال في الصباح يذهب إلى المدرسة، ليقرأ عن تركيب الماء، وأن جُزيء الماء مُركب من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأُكسجين! ثم؟ قال فإذا عاد في المساء إلى بيته، تركه فروضه الدينية، ولم يعد يُصلي!
أين حصل هذا؟ قال لك هذا يحصل! طبعا أنا أعلم أن هذا الرجل أركز وأصدق من أن يفتري، مُستحيل! هو لا يفتري! قطعا يتحدث عن حالة أو حالات عايشها، لكن أنا أفهم أنه عايشها في الغرب الأمريكي، وليس في الشرق الإسلامي أو العربي، مُستحيل أن تحدث هذه الحالة! في الغرب الأمريكي، صح!
وسوف أقول لكم لماذا؛ لكي نكون واضحين! لكن هل هذه الحالة وهذا المثال مُعمم فعلا؟ وهل يحدث طيلة الوقت؟ وهل يحدث كثيرا؟ وهل عندك يا بروفيسور نصر إحصائيات عن الذين ألحدوا من أبناء المسلمين؛ بسبب دراستهم لتركيب الماء، أو لتركيب حتى ملح الطعام؛ كلوريد الصوديوم، أو تركيب الذرة؟ يا رجل شيء غريب الذي تقوله أنت هذا! شيء غريب!
انظر، هذا مثال…لا أعرف، صفه كما تُريد! سردار من جهته يتهم العلم الغربي باللا إنسانية، وأنه منزوع الرحمة، وليس عنده تعاطف مع البيئة. طبعا عموما -عموما وطبعا حتى لا أنسى – هذه الأفكار لم يبتدعها سيد نصر، ولم يبتدعها سردار، الذين ابتدعوها غربيون!
الرومانسيون الألمان المُحدثون في القرن العشرين، جماعة تيودور روزاك Theodore Roszak، الذي كان يرتاد حلقته سيد حُسين نصر، في شبابه! ارتادها لفترة طويلة نسبيا في حياته! مدرسة فرانكفورت Frankfurt، اليسار، ما بعد الحداثة! وأيضا مَن انتموا إلى بعض التيارات الفلسفية الرمزية والاستخفائية! موجود كثيرا كثيرا في الغرب، وهم أيضا أعادوا إنتاج هذا الخطاب.
على فكرة، الأجيال الأحدث والأصغر وال Currental الآن يعتمدون أكثر شيء على خطاب ما بعد الحداثة ضد العلم! وخطاب ما بعد الحداثة مُفرط في مُحاربة العلم وتتفيه العلم وتسخيف العلم، وأعتقد أن منهم فايراباند Feyerabend النمساوي، صاحب ضد المنهج!
والذي لخص طريقته بكلمتين – بالعربية طبعا يقول لك بأربع كلمات؛ لأنها تُترجم بأربع كلمات -: Anything goes! كله ماش، كله يشتغل! فلا تقل لي المنهج. هذا مَن؟ فايراباند Feyerabend. فايراباند Feyerabend؛ بول فايراباند Paul Feyerabend، قال لك لا تقل لي المنهج.
نمساوي طبعا هذا! هذا فيلسوف، اعتبروه لعنة على العلم! قال لك إياك أن تقول لي يُوجد منهج ومناهج! كلام فارغ! مع أنه بدأ بوبريا، بدأ مُاشيعا لكارل بوبر Karl Popper، ومُقتنعا بمبدأ القابلية للدحض! إلى أن اشتد عوده كما يقولون، وطار! وصار له ريش، وطار!
قال لك لا، لا يُوجد منهج، ولا يُوجد أي منهجية حقيقية، في العلم، أبدا! كلها مسائل تشتغل على نحو سواء! شغّل هذا يشتغل، شغّل شيئا ضده يشتغل، كله يشتغل! نوع من الفوضوية! لذلك يُعتبر منهجه أو طريقته طريقة أناركية فوضوية! وهو لخصها: Anything goes! كل شيء يمشي، كل شيء يصلح، كل شيء يشتغل، تخيل!
فالذي أُريد أن أقوله إن هذا الرجل جاء في عصر ما بعد الحداثة، طبعا! كتابه هذا في مُنتصف الثمانينيات، أعتقد في خمس وسبعين أو ست وسبعين نشره! Against Method أو ضد المنهج! بالضبط أنت في عين العاصفة! لأن الستينيات والسبعينيات هذا ما بعد الحداثة، وبعد ذلك بدأ يعم! سُبحان الله! عم طوفانها كما يُقال.
فالجيل الأصغر – الذي مثلنا هكذا، والأصغر منا – من الإسلاميين الذين عندهم خطاب ضد العلم الحديث، يعتمدون مقولات ما بعد الحداثة، والنقد الما بعد حداثي! أحيانا يُظهرونه، وأحيانا يُخفونه، وكأنه أفكارهم! لا، ليست أفكاركم هذه! هذه أفكار ما بعد الحداثة. حدث هذا مع سردار، وحدث هذا مع نصر.
فقط أختم بمثال سردار أيضا الذي قد يبدو كما بدا مثال نصر! قال لك العلم هذا غير رحيم، منزوع الرحمة، قاس، عنده دائما نزعة هيمنة وإخضاع للطبيعة. هذا صحيح، وهم يعترفون بهذا. قال لك نحن علاقتنا مع الطبيعة علاقة هيمنة – وهذا صحيح -، وغزو؛ Invasion، وإخضاع! وهذا تضررت به الطبيعة، وتضرر به الكوكب!
لكن انظر أنت ما مُبالغات سردار! يُريد أن يُضيف شيئا جديدا! وأنت لم تُضف شيئا جديدا، هم الذين قالوا الكلام هذا! أي أعتقد أنا أن كارسون Carson هذه قالته! السيدة كارسون قالته في كتابها ال Silent Spring؛ الربيع الصامت! في الستينيات هذا الكتاب!
هذا من الكُتب التي أدعوكم لقراءتها، وطبعا الذي ترجمه المرحوم العلّامة أحمد مُستجير، الربيع الصامت! ترجم النُسخة السبعينية منه، لكن هو صدر في الستينيات، تخيل! كتاب عظيم، هذا أكثر كتاب أثر في الوعي ال Ecology والبيئي لدى الأمريكان، تخيل!
ولها أعمال أُخرى هذه السيدة؛ راشيل كارسون Rachel Carson! المُهم، في الربيع الصامت، في النُسخة القديمة – أنا عندي نُسختان منه، هذا في النُسخة القديمة – هي احتجت بأحد المُفكرين القُضاة الأمريكان الذي قال علاقتنا مع الطبيعة تقوم على الإخضاع والقهر، فُرصة الحياة لنا كانت ستكون أكبر، لو أقمنا علاقتنا بالطبيعة على مبدأ الاحترام والتوقير والاستفادة المعقولة.
كلام سليم! هذا الغرب هو الذي أسس لهذه الأفكار، هذه الحركة النقدية للعلم وكذا هي في الغرب، غربية أصلا! فتُريد أن تُضيف ماذا يا سردار إذن، وهذه أفكارهم هم أيضا؟ هم يُصلحون حالهم، يُحاولون أن يُصلحوا حالهم!
قال لك لا، أنا أيضا أرى أن تجارب التشريح على حيوانات حية (مثل ماذا إذن؟ الضفادع بصراحة! ونحن من الذين درسنا – وهو درس الطب – على الضفادع! كنا نأتي بها حية ونُشرحها. فهو قصده الضفادع إذن، أكيد ليس الشمبات ولا البونوبوز ولا الغوريلا، أليس كذلك؟ الضفادع) أمر فظيع وبالغ القسوة!
قال لك تجارب التشريح على كائنات وهي حية أمر فظيع وبالغ القسوة! وأيضا تعجيل جُسيمات دون ذرية؛ Subatomic particles – تعجيلها إلى سرعات وطاقات عالية جدا جدا -، لضرب جُسيمات أُخرى بها، أمر بالغ القسوة! نعم؟ أنا قلت معقول؟ ارجع اقرأ النص مرة ثانية! لا، هو يقصد، نعم! قال لك هذه قسوة العلم الغربي. وأنتم ستضحكون!
وأنا شخصيا قرأت لغربيين أبدوا تعاطفا مع المكورة العنقودية! ما رأيك؟ والله العظيم! وكتبوا شعرا في ذلك! أنه لا يجوز نجتاح بالبحوث الكيميائية الحيوية هذه الكائنات الدقيقة، وخاصة هذه البكتيريا وكذا! ما هذا؟ كائنات هذه يا أخي، عندها الحق في الحياة يا رجل!
أي أيضا لم يقف عند القرود، وعند الكلاب، وعند القطط! حتى المكورات العنقودية وكذا! لا بأس، سوف نُمررها! لكن يا ضياء الدين سردار حتى الجُسيمات دون الذرية هذه، إذا عجلناها وسرعناها وقذفنا بها جُسميات أُخرى، نكون قد أصبحنا قُساة وظلمة؟
لا أُريد أن أُطيل؛ لأن انتهى وقت المُحاضرة. إن شاء الله – لا أزال أذكر هذا – سأستهل المُحاضرة المُقبلة بالتعليق على هذه الناحية بالذات، وسيكون تعليقا جادا أيضا، يفتح أمامكم كوة لكيفية توجيه النقد لمثل هذه الطروحات، التي مع جديتها عند تفتيشها، يبدو أنها تفتقر إلى التماسك والجدية! مع أنها جادة، هم لا يمزحون، بذلوا أكثر ما عندهم! فأستودعكم الله، الذي لا تضيع ودائعه.
أضف تعليق