نقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله، وعرضوا المدينة لخطر شديد بينما المسلمون على الجبهة، حيث كانت المدينة خالية إلا من النساء والأطفال والشيوخ، وحين وصل النبي أمر خيانتهم أراد أن يستوثق فبعث بعض الصحابة للتأكد، فرجعوا إليه أن ما سمعه حول خيانتهم حقيقة، فبعد أن فرغ من محاربة الأحزاب، تحرك نحو بني قريظة ليعاقبهم بأمر إلهي. وبعد حصار دام حوالي 25 يوما، ارتضى الطرفان (المسلمون وبنو قريظة) أن يكون سعد بن معاذ حكما بينهما، فحكم سعد أن تُقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، وفي روايات أخرى جاءت يُقتل الرجال بدل المقاتلة، ولم ترد أرقام القتلى لدى البخاري ووردت في أماكن أخرى بأشكال مختلفة، فقال الإمام أحمد أنهم كانوا 400، وقال ابن إسحاق أنهم كانوا ما بين 600 و700 وأن المكثّر يقول ما بين 800 و900. وقيل أن رسول الله اصطحبهم من حصنهم إلى المدينة، وكانت المسافة ما بين الحصن والمدينة تُقطع في حوالي من 7 إلى 10 ساعات، وقيل أن عدد الجميع كانوا حوالي 5000، وأن رسول الله حبسهم في دار بنت الحارث، وأمر بحفر خنادق في سوق المدينة كي يقتلهم ويدفنهم فيها.
قرأت هذه القصة، واستفزني جدا أن يقتل الرسول كل هذا العدد من بني قريظة، حتى لو خانوا العهد فما ذنب الأطفال كي يقتلوا كما ورد أنه قُتل كل من نبت شعر عانته، بما يعني أنه تم قتل أطفال في الثانية عشر من العمر، وكيف يُقتل من لا حيلة لهم في إطاعة أوامر قادتهم؟ وأخذت أبحث عن حقيقة ما حدث، فشاهدت بالصدفة حلقة مفيدة جدا للدكتور عدنان إبراهيم، أفادتني أيما فائدة، وأرجعتني إلى الكتب كي أستوثق مما ورد في قصة يهود بني قريظة، وحقيقة ما طرحه الرجل في حلقته، وكي أعرف ما ورد في كتاب التراث حول هذا الأمر.
كانت من ضمن الأسئلة التي طرحها دكتور عدنان إبراهيم، لماذا قام رسول الله باصطحاب كل هذا العدد الذي يصل 5000 من حصن بني قريظة إلى المدينة، خاصة أن المسافة تستغرق من الوقت ما بين 7 إلى 10 ساعات، وطرح أنه من الممكن أن يهرب بعض هؤلاء أثناء الرحلة، لكن طرأ على رأسي أمر آخر وهو احتمال أن يثور هؤلاء وليس فقط مسألة الهرب، خاصة أنهم يعرفون أنهم ذاهبون للقتل، ولا أعتقد أن ثمة مانعا من ثورة ما يقرب من ألف رجل يساقون إلى الموت وتساق نساؤهم وأبناؤهم إلى العبودية، فإن لم تكن النخوة هي المحرك للثورة فإن حب الحياة دافع كاف جدا لذلك. واستمر عدنان في طرح أسئلته: كيف أن دار بنت الحارث التي جاء في كل الروايات تقريبا أن الرسول حبسهم فيها اتسعت لكل هذه الآلاف، وجاء في روايات أخرى أنه حبسهم في دارين، دار بنت الحارث هذه ودار أسامة بن زيد، لكن أيا كان فلا يمكن أن تسع دار أو داران كل هذا العدد. كيف للرسول أن يقوم بحفر مقابر جماعية في سوق المدينة رغم أن هذا يهدد المدينة كلها بانتشار الأوبئة والأمراض، لماذا قام الرسول أساسا بحفر مقابر جماعية أو خنادق وسط المدينة رغم أن هناك خندقا تم حفره بالفعل حول المدينة؟
ويقال إن الرسول كان يأمر بقتل كل من نبت شعر عانته، أي كل من بلغ، لكن الغريب في الأمر أن هذه الرواية أُخذت عن أحد رجال بني قريظة أنفسهم وهو عطية القرظي، قال ابن إسحاق: وحدّثني شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يُقتل من بني قريظة كلّ من أنْبت منهم، وكنت غلاما فوجدوني لم أُنبت، فخلّوا سبيلي. رغم أن عطية القرظي دخل الإسلام، لكن هذا لا ينفي كونه خصماً، ولنا كثير من الأمثلة على عرب دخلوا الإسلام، لكنه لم يغير من تكوينهم النفسي والقبلي شيئا، فكيف لابن إسحاق وغيره ممن اعتمدوا هذه الرواية أن يعتبروا أحد طرفي الخصومة مصدرا للأخبار؟
هذه الأسئلة وغيرها تثير الشكوك في حقيقة ما حدث، بما لا ينفي الواقعة ذاتها فهي ثابتة تاريخيا، ولكن فيما يتعلق بالأعداد التي قُتلت، خاصة أنه لا يوجد إجماع حول الأعداد من ناحية، وحتى كلام سعد بن معاذ نفسه ورد بأكثر من صيغة، فمرة ترد كلمة (مقاتِلة) ومرة ترد كلمة (رجال). ومع ما سبق نجد أن ابن زنجويه في كتابه الأموال يتحدث عن عدد مختلف تماما عن كل هذه الأعداد، حيث قال في كتابه: فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقضى بأن يقتل رجالهم، وتقسم ذراريهم وأموالهم، فقتل منهم يومئذ أربعون رجلا. لو وضعنا هذه الرواية الأخيرة بجوار الأسئلة المطروحة سنجد أن ثمة مبالغة كبيرة في الأعداد التي وردت، وأن القصة التي انتشرت بها الكثير من العيوب، سواء من حيث العدد أو من حيث المكان الذي حُبسوا فيه، أو من حيث المكان الذي دفنوا فيه، مما يجعل الأكثر قبولا هو أن الأعداد لم تكن بهذه الضخامة، وأنه تم قتل القادة الذين كانوا أصحاب أمر ونهي، والذين استمعوا لحيي بن أخطب ونقضوا عهدهم مع النبي، وهو ما يرجح العدد الذي ورد في كتاب الأموال، سواء زاد عنه قليلا أو نقص عنه قليلا.
لمزيد من التفاصيل راجع:
– كتاب الأمول لـ ابن زنجويه
– السيرة النبوية لـ ابن هشام
– الروض الأنف لـ السهيلي جزء 3
– تاريخ الإسلام للذهبي جزء 1
– سير أعلام النبلاء لـ الذهبي جزء 1
– البداية والنهاية لـ ابن كثير جزء 6
– فتح الباري لـ العسقلاني جزء 7
أضف تعليق