أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، لك الحمد بما أنعمت علينا بنعمة الإسلام، ولك الحمد بما أنعمت علينا بنعمة الإيما ، ولك الحمد بما أنعمت علينا بنعمة القرآن والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ورشداً.
أما بعد:
إخواني في الله وأخواتي في الله، أحبتي في الله: أُحييكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، استمعت في مُقدَّمة أخي الفاضل كلمة الحب، الحب في الله، وفي الحقيقة أنا أستشعر بفضل الله – تبارك وتعالى – بهذا الحب الذي أسأل الله أن يكون صادقاً وخالصاً لوجهه لكم يا شباب فرنسا ويا مسلمي فرنسا، ويشعر قلبي أن فيكم حباً صادقاً لدينكم وفيكم إقبالاً لافت مُتعشِّق على الله – تبارك وتعالى – وعلى ما يُرضيه إن شاء الله تعالى، فهنيئاً لكم على هذا، وأسأل الله – تبارك وتعالى – بأسمائه الحسنى وبلطفه وبكرمه أن يزيدكم من توفيقه ومن محبته حتى يُبلِّغكم في رضاه عز وجل أقصى أمانيكم. اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
رغب إلىّ أحبتي في الله الإخوة المسؤولون عن هذا المسجد الذي أسأل الله أن يُبارِكه وأن يُنزِّل عليه السكينة لذا نتحدَّث إليكم في موضوعٍ تمس الحاجة إليه، إنه موضوع الاعتدال أو التوسط في التدين، لكن ابتداءً حُقَّ لنا أن نتساءل ما المُراد بمُصطلَح الاعتدال في التدين؟ هل يُراد به – أيها الإخوة والأخوات – أن يكون مسألة انتقاء وتخير بحيث يسوغ ويجمل بالمُؤمِن والمُؤمِنة أن يتخير من الدين ما يرى أنه أقرب إلى الاعتدال وإلى خُطة التوسط حسبما يراه هو؟ مُحال أن يُراد بالاعتدال هذا المعنى، لأن هذا المعنى يُوشِك أن يكون افتئاتاً وكذِباً على الدين وتملصاً منه، الاعتدال ليس مسألة تخير وانتقاء وما ينبغي له، فهل الاعتدال هنا مسألة الاقتصاد في التطبيق بمعنى مُجافاة الغلو أوالغلواء بحيث لا يغلو المُتدين في الأخذِ بعزائم الدين ومحاب الدين فيُصلي باقتصاد – بخلاف الفروض يتطوع مُقتصِداً ولا يُغالي – وحتى إذا أراد أن يتصدق وأن يرضخ من ماله فعل هذا على وجه الاقتصاد؟ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، في حديث جابر – رضيَ الله تعالى عنهما – حين أتى أحد الصحابة الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ببيضة من ذهب – قطعة ذهب كبيرة – وقال له خُذها يا رسول الله وضعها حيث شئت، تبيَّن للنبي أن هذه هى جُملة ماله، هى كل ما يملك، هذا هو المال الذي تأثله، يقول فأخذها فحدفه بها، ولو أصابته أوجعته، وقال يأتي أحدكم بكل ماله ويقول خُذه يا رسول الله وضعه حيث شئت إلى آخر الخبر، فحتى الصدقة هنا تكون باعتدال، هل هذا هو المقصود؟ هذا المقصود بحد ذاته من حيث الأصل صحيح ومشروع ودلت عليه الأدلة الشرعية، ولكن ليس هو المُهِم، ليس هو من همنا، هذا لا يُشكِّل مُشكِلة للمُسلِمين.
إخواني وأخواتي:
أحسب أن الاعتدال المفهوم والذي ينبغي أن يكون مدار همنا ووكدنا هو فهم الدين كما هو، كما أنزله الله وكما أراده الله، المسألة الآن مسألة فهم، لماذا؟ لأن الدين حريٌ كما أنزله الله – تبارك وتعالى – أن يكون ديناً مُعتدِلاً وسطاً، ليس فيه مُغالاة، ليس فيه تطرف، دين اليسر ورفع الحرج الموصوف على لسان الصادق الأبر – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالحنيفية السمحة، لذلك مسألة الاعتدال مسألة فهم نعود به إلى أصل الدين كما أراده الله – تبارك وتعالى – وكما هيأه، ربما يقف أو يمثل في أول هذا الفهم تنزيل الأمور منازلها وإعطاؤها أوزانها النسبية بحيث لا نُعظِّم ما صغَّر الله ولا نُصغِّر ما عظمه الله، لا نُقدِّم ما أخَّر الله ولا نُؤخِّر ما قدَّم الله، بعض المسلمين – إخواني وأخواتي – يتدينون ويفهمون الدين على نحوٍ يُعظِّمون فيه حظ بعض الأمور الصغيرة الظاهرية، مثلاً بعض الناس قد يتشدد جداً في قضية اللباس، كيف تلبس أيها المُسلِم؟ يتشدد جداً في هذا، ويرى أن هذا من صميم الدين في الوقت الذي نراه يستسهل كشرب الماء غيبة المسلم مثلاُ، والغيبة من أكبر الكبائر، ذنبٌ مُخيف ومُرعِب في القرآن وصحيح السُنة، ما بالنا إذن نتساهل مع هذا الذنب الكبير ونتشدد ونتشنج مع أشياء تُعتبَر أشياء بسيطة ذا وزن بسيط كمسائل اللباس والهيئة مثلاً؟ هنا لأننا نفتقد إلى ميزة الاعتدال، لا نفهم الدين باعتدال، هذا فهم مُختَل، الاعتدال هو التوازن، ولا يحدث التوازن إلا أذا أعطينا كل شيئ وزنه النسبي، هناك أشياء لا أُحِب أن أُمثِّل بها درءاً للفتنة، تقريباً لا تجد ولن تجد مُفسِّراً لكتاب الله – تبارك وتعالى – أو فقيهاً يعرف ماذا يقول – فقيهاً أصيلاً حقيقياً – إلا وهو حاكم بأنها من صغار الذنوب، هى ذنوب وآثام لكنها من صغار الذنوب، في مخيال المُسلِم المُعاصِر هذه الأشياء ربما تكون من أكبر الكبائر، يراها أشياء فظيعة على أنها باتفاق العلماء من صغار الذنوب، لا نُمثِل بها درءاً للفتنة، ولكن كما قلت لكم هناك كبائر واقع الاتفاق على أنها كبائر يتساهل فيها المُسلِم ولا يتخالجه حرج أو تأثم – شعور بالذنب – أنه أتى عظيمة من العظائم تقطعه عن الله تبارك وتعالى، ومسألة الذنوب يا أحبتي ليست مسألة عابرة، إنها مسألة الطريق إلى الله، هل تسلك أو لا تسلك؟ هل تصل أو لا تصل؟ هل تُقبَل أو لا تُقبَل؟ هل يرضى عنك لا إله إلا الله – لا إله إلا هو – و يُحِبك أو لايرضى عنك؟ المسألة خطيرة، هي مسألة الدين!
الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – صح عنه يا إخواني وأخوتي في الله أنه قال أنه لَيُغانُ على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة، ورد أنه قال أكثر من سبعين مرة وورد مائة مرة، هذا الحديث استفاد منه السادة العلماء والصلحاء أن عين البصيرة – القلب يا إخواني والبصيرة الداخلية – حساسةٌ جداً، أكثر في حساسيتها من العين الباصرة، العين الباصرة حساسة جداً، أي ذرة غبار تدخل فيها تؤذيها وتستثير ردة فعلها، عين البصيرة أكثر حساسية من العين الباصرة، ذنب يسير يُمكِن أن يُخاطِب القلب يُمكِن أن يُشوِّش عليها، مثل الغفلة، لكن النبي – عليه السلام – ليس لع غفلة لأنه معصوم ومع ذلك يقول قلبي هذا يُغانُ عليه – يتغشاه شيئ مثل الغيم – حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة، مُجرَّد الغفلة البسيطة تُحدِث هذا الأثر، فكيف بالذنب العظيم؟ كيف بالكذب؟ كيف بالغيبة؟ كيف بالنميمة؟ كيف بالحقد؟ كيف بالكره؟ كيف تكره الناس وتكره إخوانك في الملة والدين أيضاً؟ الآن المُسلِمون – أصلحنا الله وإياهم جميعاً يا إخواني – بينهم قدر من الكره والتكاره عجيب سوَّغ لهم التدابر والتقاتل واستحلال الحرمات، وهذا مُخيف يا أخواني، كأنهم لم يقفوا على قول المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة – يُقسِم النبي – حتى تُؤمِنوا – وهذا صحيح، مُحرَّم على المُشرِك الجنة وعلى الكافر – ولن تُؤمِنوا حتى تحابوا، عجيب هذا الحديث، هذا الحديث لن يُفرَغ من شرحه، لو أردنا أو أراد غيرنا أن يشرحه ما فُرِغَ من شرحه، ما هى فلسفة ومغزى ربط الإيمان وتشريط الإيمان بالمحبة؟ شيئ عجيب جداً، وهذا المعنى في مُنتهى العمق أيها الإخوة، لن نخوض فيه الآن لكن فقط نحن نتلقاه، النبي يقول الإيمان مُشرَّط بالمحبة، ايئس أن تكون من المُؤمِنين حقيقة الإيمان وأنت كاره لإخوانك وكاره للمُوحِّدين وكاره لهؤلاء الناس، هذا مُستحيل، لا يُوجَد إيمان، المُصيبة يا إخواني أنه ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ، يوم يموت القلب ويوم تعمى عن البصيرة – حين تُصبِح عمياء، قال الله كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩ – لا يعود صاحب القلب الميت يشعر بورطته أو يشعر بمُصيبته التي أصابته، يشعر إنه بخير، ويقول هذا عادي، لكن انتبهوا إلى أن المُراقِب الخارجي والإنسان السليم والإنسان السوي يشعر أن هذا المُتدين ليس بخير، هذا المُتدين فيه غلط كبير، فيه غلط غير عادي، وبالحري لا يكون مُتديناً صحيح التدين، لماذا؟ التدين لا يُنتظَر منه إلا المحبة والتسامح والتواضع والإخبات والربانية والالتزام بالصدق والالتزام بالحق يا إخواني، كل المعاني والقيم الجميلة والنبيلة والجليلة يعكسها التدين الحق، وبالتعبير الإلهي – وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩ لا إله إلا هو – الربانية، قال الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ۩، يُصبِح العبد ربانياً، من أوضح ومن أجل ما فُسِّرَ به هذا اللفظ الإلهي الجليل وهو الربانية – كون العبد ربانياً – أنه يُصبِح مجلىً لجملةٍ من صفات الله، الله هو الرحمن الرحيم، تجد هذا العبد مرآة تعكس هذه الرحمة الإلهية، إن شئتم يُصبِح إنبوباً تتدفق من خلاله الرحمة إلى العباد، والرحمة ليس فقط بالمُوحِّدين من إخوان الملة والدين وإنما بالبشر أجمعين، الرحمة حتى بالعدو، حين يقع تحت رحمتك في ساحة الحرب وهو مُعتدٍ باغٍ – والعياذ بالله – قد ترحمه، الرحمة بالدابة وبالحشرة الصغيرة كالنملة وبأقل من هذا، يُحكى عن إمامنا أبي حامد الغزالي – حُجة الإسلام رضوان الله تعالى عليه – أنه كان يكتب مرةً فوقعت بعوضة أو ذبابة – لكن أنا أذكر إنها ذبابة – على سن القلم أو على سن الريشة فتركها حتى ارتوت، فعرض له في المنام – سنح له في المنام – مَن يُخِبره أن الله غفر له برحمته هذه الذبابة الضعيفة، قال يا رسول الله إنني أُريد أن أذبح الشاة فأرحمها أن أذبحها، هذا ما ورد في رواية، قلبه لا يُطاوِعه، فقال الرسول – عليه الصلاة والسلام – والشاة إن رحمتها رحمك الله، هذا أمرٌ عجيب، وهو يُريد أن يذبحها لمأكل، وربما شاة أُضحية، وربما شاة هدي في حج مثلاً، يقول لا أستطيع ، قلبي لا يُطاوِعني على أن أذبحها وأؤلِمها، لو سُئل الآن أحد هؤلاء المُتشدِّدين كما يُقال أو الذين لا يفهمون صحيح الدين هذا السؤال عينه لانبعث في وجه السائل غاضباً بقول يا مُتنطِّع ويا صاحب الورع الكاذب والبارد أتتنزَّه عن ما لم يتنزَّه عنه رسول الله؟ رسول الله ذبح النوق وذبح الشياه وذبح الجديان وأنت تدّعي أنك لا تقدر، لكن النبي علَّمنا درسان، الرحمة لا يُقال أن فيها تفريقاً، لا تفريق في الرحمة، كما قلت لك حتى أمام عدوك إذا عفوت عنه رحمك الله بذلك، هذا معنى الربانية، تُصبِح مرآةً و تُصبِح إنبوباً لرحمة الله – تبارك وتعالى – وأيضاً لكرم الله، نُترجِم هذا ثم نعود إلى حديثنا.
إذن يُصبِح العبد – إخواني وأخواتي – مجلىً لرحمة الله ولكرم الله تبارك وتعالى، ما معنى هذا؟ أعتقد أن كلاً منكم أسعده الحظُ ولو مرة في العمر فالتقى بأحد المسلمين الوادعين الصالحين الذين تبدو مخايل الصلاح والاستقامة على وجوههم النيّرة ولاحِظ شيئاً عجيباً، كل هؤلاء بينهم جامع مُشترَك ليس فقط محبة العباد وإنما إرادة الخير وبذل الخير للناس بلا شرط، عندهم قدرة على الكرم في العطاء، قدرة على الاهتمام بالآخرين، قدرة على مواساة الآخرين وعلى التعاطف – كما يُقال Empathy – مع الآخرين بشكل غير محدود، وأنت تستغرب أن إنساناً من البشر يكون بهذه الكيفية، ما سر هذه الطيية الفائقة؟ ما سر هذه التعاطفية المُثيرة جداً يا إخواني؟ الإيمان، الربانية، لأنهم ربانيون، لأن الله – تبارك وتعالى – كساهم من نوره وأقبل عليهم، تواصلوا مع الله عز وجل، سأشرح لكم بعض عمق هذا المعنى الجميل والجليل يا إخواني، هناك أنفار – اللهم اجعلنا منهم – من عباد الله المُؤمِنين الصادقين والأولياء الصُلحاء الله – تبارك وتعالى – لا يُخيِّبهم، كما قال النبي فيما صح عنه لو أقسم أحدهم على الله لأبره، تقول يا رب أُقسِم عليك أن تفعل هذا والله يفعل مُباشَرةً، كما قال صهيب الرومي – رضوان الله عليه – نعم الرب ربنا، لو أطعناه ما عصانا، هذا أمرٌ عجيب، هذه العبارة فيها جرأة ولكن حقٌ، نعم الرب ربنا، لو أطعناه ما عصانا، يقول النبي – عليه السلام – لو أقسم أحدهم على الله لأبره، هؤلاء الصُلحاء العرفاء الطيبون الوادعون يُقال لأحدهم أن فلاناً مريضاً وقد أشفى على الموت – يُوشِك أن يموت – فادع له لله، يرفع يديه يدعو، كأنما شوكة ونُقِشَت، في ساعة أو ساعتين أو في ليلة واحدة يقوم الرجل وليس به بأس والناس يتعجبون، قد يُطلَب منه أن يرقي – والرقية من السُنة – فيضع يده المُبارَكة على هذا العبد العليل، في ثواني قليلة أو دقائق كل شيئ ينتهي، كيف يحصل هذا؟ عرفنا على ماذا يدل لكن كيف يحصل؟ ما شرطه؟ أنا أقول لكم شرطه أيها الإخوة بعد الاستقامة التامة – بإذن الله تبارك وتعالى – والتحقق بالربانية أن يكون العبد مجلىً لكرم الله، الله – تبارك وتعالى – لا يُعطينا ولا يمنحنا فقط بل خلقنا من عدم وأعدنا وأمدنا من عُدمٍ بلا مُقابِل، قال الله وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ۩، كل هذه النعم من الله، طبعاً المُتزوِّجون – زوَّج الله عزّابنا رجالاً ونساءً، شباباً وشواباً – يُدرِكون هذه النعم بتعمق أكثر وبعمق أكثر من خلال الأولاد، يرى كيف أن الله لم يُعطه فقط الصحة والمال والعلم والاستقامة والزوجة الطيبة والمسكن المُريح والسيارة المُريحة أيضاً وإنما أعطاه الولد، الولد الذي لا يُمكِن أن يُشترى بمليارات الدُنيا، أعطاه بنتاً صغيرة صحيحة أيضاً مُعافاة أو ابناً صغيراً، وهذا من كرم الله، يُعطيك ولد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو كما يشاء – لا إله إلا هو – بلا مُقابِل، أنت لم تدفع له شيئاً لتستحق شيئاً من هذا، هذا الكرم الحقيقي أيها الإخوة، الصالح – أصلحنا الله وإياكم بما أصلح به عباده الصالحين – فيه شيئ من هذه الربانية يا إخواني، يبذل الخير للناس والعطاء والدعاء والتعاطف دونما انتظار لمُقابِل من أحد، لا يُريد لا جزاء ولا شكوراً ولا مالاً، لا يُدكِّن – لا يفتح دكاناً بالقرآن وبالسنة وبالرقية – أبداً، الصالح لا يفعل هذا البتة، وقد يُكلِّفه هذا أن يُسافِر سبعين كيلو أو مائة كيلو أو خمسمائة كيلو وأحياناً من بلد إلى بلد لكي يدعو إلى عبدٍ ويرقيه بيده المُبارَكة لوجه الله، قال الله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ۩، وانتبهوا إلى هذا، هؤلاء المُطعَمون منهم كفار مُشرِكون أسرى، كما قال أبو عُبيد ما نعلم هؤلاء الأسرى إلا كانوا مُشرِكين، هنا الرحمة يتلوها الكرم، رحمة تتظاهر بالكرم، نفعل هذا بكرم حقيقي، لا نُريد – مثلاً – أسيراً أن يتملقنا أو أن يُقبِّل أيدينا أو أرجلنا، لا نُريد منه شيئاً، نفعل هذا لوجه الله، قال الله يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، هذا الذي يُثبِّت الذات، هكذا يُصبِح العبد مجلىً أيضاً بعد الرحمة للكرم الإلهي، هذا معنى أن يكون العبد كريماً كرماً ربانياً.
أحد كبار الصالحين وهو من المُعاصِرين وقع فيه أحد الناس وشتمه وأساء إليه إساءة بالغة لا تتناسب مع مقامه العلمي والعرفاني، ولم يعتذر هذا المُذنِب وظل سائراً في ظلمة للرجل الصالح، بعد سنين قيل له يا فلان اعف عن فلان الذي سبك ووقع فيك، فأطرق برأسه حياءً وقال الله – تبارك وتعالى – وحده يعلم أنني لم أزل أستغفر له من تلك الساعة، هذه هى الربانية يا إخواني وليس حقد، ليس لأن أحدهم أساء إليّ أحمل الحقد في قلبي ويتقادم هذا الحقد حتى يُصبِح سُماً يقتلني أنا أولاً ويقتل العلاقة بيني وبيني إخواني وبيني وبين الآخر، العفو مظهر رباني، هذا دليل على الربانية، لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى – وهو مَن هو لا إله إلا هو، هو رب العالمين – يُلحِد ويكفر ويُشرِك العبد معه وبه ويُجدِّف عليه ستين أو سبعين سنة وهو يُحييه ويُعطيه ويرزقه ويُكثِر له، ثم إذا تاب قبل أن يموت تاب عليه، الله أكبر، الله رب العالمين يفعل هذا، ولذلك أمر نبيه وصفوته من خلقه وحبيبه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قائلاً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ۩ وقال أيضاً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ ۩، أمره دائماً بالعفو، لذا كان النبي كثير العفو، دائم العفو عمَن أساء إليه عليه الصلاة وأفضل السلام، هذا العفو مظهر الربانية، عكسه الذي لا يستطيع أن يعفو، مَن هو؟ الإنسان الممرور، الإنسان الذي أكل الحقد قلبه وفؤاده، والنبي أخبرنا أنه من شر عباد الله، حتى وإن صلى وصام وظن أنه مُتدين تديناً جيداً، النبي يقول هذا من شر عباد الله، ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله، رتَّب قوله على أربع مراتب، لكن كان من ضمن ما قال حتى لا أُطوِّل عليكم يا إخواني الذين لا يُقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة، إذا أخطأت في حقه لا يغفر لك، إذا جئت تعتذر لن يقبل عذرك، ويبقى مُصِراً على حقده، هو من شر عباد الله، المسلم لا يكون كذلك بالمرة، المسلم بارئ وطاهر الباطن بإذن الله، قال تعالى وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ ۩، نحن نُعنى كثيراً – ويجب أن نُعنى – بالإثم الظاهر، لكننا نُغفِل كثيراً خطورة الآثام الباطنة، مثل الغرور، العُجب ، الحقد، الكره، وإلى آخر هذه الذنوب المُهلِكة المُردية.
إخواني وأخواتي:
ونحن بصدد الحديث عن الاعتدال بمعنى إعادة فهم الدين كما أراده الله – تبارك وتعالى – في سعته وفي تسامحه وفي رحمته وفي كل هذه القيم والجوانب المُضيئة والنبيلة له ، لابد أن نتذكر في هذه اللحظة من حياة الأمة بل من حياة الناس والبشرية أن العالم أصبح كالزجاج شفافاً، كلٌ ينظر فيه إلى عمل ومسار وأقوال الآخر، كما نحن كما غيرنا، تقريباً لم يكد ولا يكاد شيئ الآن يخفى، مثل هذه الجلسة – مثلاً – تبلغ الآن أقاصي المعمورة بسبب وسائل الاتصال ويطلع عليها المسلم وغير المُسلِم، أفعال المُسلِمين الآن التي شوَّهت صورة الإسلام وشوَّهت مُحَيَّا الإسلام ووجه الإسلام على أنها تُرتكَب وتُجترَم باسم الإسلام – أنه هذا هو الإسلام – العالم شرقه وغربه يقف عليها ويستعملها مادةً دعائية وإعلامية على مدى أربع وعشرين ساعة حتى صرنا إلى حالة لا نُحسَد عليها، وهى حالة زرية جداً، فإذا ذُكِرَ المُسلِمون أو ذُكِرَ الإسلام مُباشَرةً يُذكِّر بالكفر، بالتعصب، بالانغلاق، بالجريمة، بالقتل، بالتفجير، بالذبح، وبكل المعاني الرهيبة المُخيفة، والإسلام ليس أيدولوجيا كالأيدولوجيات الشمولية المعروفة، الإسلام دين وليس أي دين، إنه الدين الخاتم، إنه الكلمة الأخيرة للسماء أيها الإخوة، وهذه الكلمة لا أقول المدعو أو المأمول بالعكس هى كانت وأُنزِلَت لكي تكون لإنها كذلك كلمة الرحمة، قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، أول سورة تبدأ بقول الله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، اختلفنا أو لم نختلف في آيويتها تتلوها مُباشَرةً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، هذا عنوان الإسلام مُباشَرةً، إسمه – أي الإسلام أيها الإخوة – يعكس طبيعة هذا الدين، الإسم يعكس طبيعته وجزءاً كبيراً من أهدافه، الإسلام مُشتَق من نفس الجذر الذي أُخِذَت منه كلمة السلام والسلم، حتى أن أنفاراً كثيرين من المُفسِّرين ذهبوا في تفسير قوله تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ۩ في سورة البقرة إلى أن المقصود هو الإسلام، الله سماه السلم، هذا دين السلم، هو دعوة للسلم العالمي، كيف؟ كيف يُمكِن أن يكون الإسلام فعلاً دعوة للسلم العالمي؟
العلاقة يا أحبتي – إخواني وأخواتي – بين السلام وبين الإسلام واضحة جداً، ومن هنا – كما قلت لكم – سماه الله سلماً، الإسلام هو السلم، لماذا؟ الإسلام هو من إسلام الوجه لله، في سورة آل عمران فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ ۩، هو إسلام الوجه لله، معنى إسلام الوجه لله أيها الإخوة أن نتحقق بأوصافنا، لسنا آلهة، لسنا أرباباً، نحن عبادٌ لمعبود واحد لا إله إلا هو، هو الرب ونحن المربوبون، يجب إذن أن نبرأ من كل آثار الكبرياء والعجرفة وإرادة الهيمنة والسيطرة والتربب على العباد، هذا لا يليق بنا، لا يليق بالعبد إلا أن يكون مُتواضِعاً للربوبية، ما الذي يحصل أيها الإخوة؟ قال ابن عطاء الله – رضوان الله عليه – تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه، أنت تحقق بكونك عبد يُعزِّك الله تبارك وتعالى، عز الإيمان، ليس عز الطغيان والعجرفة والقسوة،وإنما عز الإيمان، فتكون ملكاً في عزك وأنت من أفقر الفقراء بلطف الله تبارك وتعالى، تحقق بفقرك إلى الله تبارك وتعالى، حتى وإن كنت تملك الملايير يجب أن تعلم أنك فقير وأنه ما بك من نعمة فمن الله تبارك وتعالى، تحقق أيضاً بفقر العباد، انظر إلى العباد – كل العباد – على أنهم فقراء إلى الله وإن كانوا ملوكاً وأن الغني وحده هو الله تبارك وتعالى – أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ ۩ – يُغنك الله، تُصبِح غنياً وإن كنت فقير المال، غنياً بقلبك، غنياً بالقناعة بالقليل، غنياً بالعفة وعزة النفس، غنياً بالبركة التي يُودِعها الله في مالك وفي كل ما خولك وآتاك، فتحقق بأوصافك يكسك تبارك وتعالى أوصافه، وهذا أمرٌ عجيب، إذا فعلنا هذا وأسلمنا وجهنا لله بهذا المعنى وصرنا ربانيين هل يُمكِن أن منا غيرنا – قريباً كان الغير أم بعيداً – طغياناً أو ظلماً أو عدواناً أو اجتيافاً أو ميناً أو غبناً؟ يستحيل، لن يرى منا يا إخواني إلا كل عدل ورحمة وإنصاف حتى وإن خالفنا في الدين والمُعتقَد، هنا عظمة القرآن التي ينبغي أن يُحسَن الإفراغ عنها، أي أن يُحسَن فهمها وتصوير وعكس منطقها، ومن ثم التمثل بها في حياتنا، ليس لكي نكن مُمثِّلين وإنما أن نتمثَّل لكي نكون ربانيين، لكي نُحسِن التواصل مع الله أكثر وأكثر، لكي نقترب منه أزيد وأزيد لا إله إلا هو، نسعد في الدنيا والآخرة، وقبل الآخرة نسعد هنا بإذن الله، نسعد الآن وهنا، بعد ذلك نُبشِّر بهذا المنطق عالمياً، نُبشِّر بهذا المنطق على مُستوى العالم، وسيرى العالم حقيقة الدين الخاتم وحقيقة الشريعة المُصطفوية وحقيقة القرآن العظيم في بشر يُستدَل به كأمثلةً حية، من عجيب القرآن الكريم يا إخواني – هذا من أعاجبه – أنه تحدث عن التقوى من منظور مُختلِف، الآن اسأل أي إنسان من المُسلِمين العاديين وقل له ما هى التقوى؟ هو سيرى التقوى في الابتعاد عن الذنوب من زنا وشرب للخمر وقتل وسرقة وما إلى ذلكم، ولزوم أبواب وعتبات المساجد وكثرة السجود، وبلاشك هذا كله من التقوى، لكن قد لا يخطر على بال منه أن من التقوى – هذا من صميم التقوى – أن تُنصِف عدوك الكافر المُحارِب في ميدان المعركة، وهذا أمرٌ عجيب، كافر بالله وبالرسول وبالقرآن وبالشرائع وجاء يعتدي علىّ ويُقاتِلني فهل مطلوب مني أن ألتفت إلى أن من التقوى إنصافه والعدل معه؟ نعم بنص القرآن الكريم، قال الله في سورة المائدة – في أولها – وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ – أي ولا يحملنكم ولا يلزنكم – شَنَآنُ – أي بغضة، بغض وكره – قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ – الله لا يقبل العدوان على هؤلاء الكفار المُعتدين المُبغِضين لكم – وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ – من التقوى أن تكون كذلك -وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۩، ثم قال بُعيد قليل في السورة ذاتها – في سورة المائدة – وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ ۩، هذا عجيب، مع الكفار المُحارِبين المُشرِكين تتدخل التقوى هنا، هنا التقوى، أما القول بأن هؤلاء ليسوا مُسلِمين وهؤلاء كفار فخذوهم واذبحوهم ليس من الدين، وهم أبرياء، أبرياء تماماً، هذا لم يأت ليُقاتِلك، هو جاء ليُساعِدك، جاء ليُقدِّم لك الغذاء والدواء، كيف تأخذ رهينة ثم تنحره وتقول هذا من الدين؟ والقرآن يقول لك بعبارة واضحة تماماً لو جاءك كافراً مُشرِكاً واعتدي عليك وأنت تُبغِضه أنت مأمور أن تتقي الله فيه، لا تُجاوِز حد التقوى، القرآن عجيب، أنا أقول لكم هذا القرآن والله – أُقسِم بعزة جلال الله – تحتاجه البشرية اليوم بعد كل المشوار الطويل المقدور والمشكور الذي قطعته في سبيل تعزيز وتأكيد وتكريس حقوق الإنسان لكن ينقصها الكثير، ينقصها مثل هذا المنطق، أن يعدلوا فينا أيضاً وأن يعدلوا معنا ولو كرهونا أو كرهوا أنفاراً منا وطوائف فينا، لا بأس أن يحدث لكن قبل ذلك وقبل أن ندعوهم إلى هذا علينا نحن أن نُجسِّد القرآن، في الأول قبل حتى أن نُبشِّر به ينبغي أن أن نُجسِّده، حتى إذا سُئلنا قلنا نحن كذلك لأن هذا قرآننا، نحن مأمورون أن نكون قرآنيين، نحن لا نتصرف بعقلية ردود الأفعال أو بالمنطق الثأري أو بدوافع الكراهية والأحقاد أو بدوافع الغلبة والإرهاب – لكي نُرهِب الآخرين ونغلبهم بأي ثمنٍ كان – أبداً، المُؤمِن لا يفعل هذا بفضل الله تبارك وتعالى.
إخواني وأخواتي :
في القرآن العظيم النظام الكوني – الكون كله بهذه الساحة السحيقة المُخيفة المُرعِبة – قائم ومُعتدِل بفضل ميزان، هناك ميزان، في الأثر ورد بالعدل قامت السماوات والأرض، ليس العدل الاجتماعي أو العدل حتى السياسي فحسب، العدل روح التوازن بالاعتدال، قال الله وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، هناك ميزان ولذلك كل شيئ بحسبان، كل شيئ محكوم بقانون صارم، رياضياً، هذا هو العدل والاتزان، إذن اتزان المعمار الكوني روحه ماذا؟ هذا العدل والاعتدال، العجيب أن القرآن – هذا هو كتاب ربنا تبارك وتعالى – يُشير بنفس الوضوح والصراحة ذاتها إلى أن الاجتماع البشري والمعمار البشري – إن جاز التعبير وهو معمار من الصعب أن تحكمه قوانين رياضية صارمة لأنه عالم من الحريات وعالم من الاختيار – لابد له من خُطة يتزن وفقها، ما هى هذه الخُطة؟ قد تفشل كل العلوم الإنسانية للوصول إليها لكن القرآن أعطانا المفتاح فقط حين قال وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۩ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ۩، يقول أيضاً المعمار البشري والاجتماع البشري لا يعتدل أمره إلا باتباع الميزان أيضاً، إلا باتباع روح العدل ولذلك ورد في الحديد لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ۩، هذا ليس ميزاناً كونياً، هذا الميزان الشرعي، لا إله إلا الله، هناك الميزان الكوني الذي اعتدل به معمار الكون، الكون – الكوزموس Cosmos – كله اعتدل، ولك أن تتخيَّل هذا، يأتي الآن المعمار البشري، الاجتماع الإنساني له ميزان أيضاً، هذا الميزان الشرائع الإلهية، روح الميزان ماذا؟ حقيقة الميزان ماذا؟ العدل، لماذا؟ قال تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩، من أجل العدل ومن أجل الإنصاف، انتبهوا مرة أخرى إلى أنه ليس العدل وليس الإنصاف مع المُوافِق – المُوافِق في الملة أو في الدين أو في المذهب أو في الطائفة أو في الطريقة وإلى آخره – وإنما العدل مع الخلق جميعاً، مع مَن أحببنا ومَن كرهنا، مع مَن وافق ومَن خالف، لا نصدر عن منطق لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ۩، لا نقول لأنهم ليسوا منا نستبيح منهم كل شيئ، هذا ليس منطق المُسلِمين هذا، هذا منطق قوم قال الله عنهم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ۩، يُنكِر ويُبكِّت ويُثرِّب عليهم لا إله إلا هو، سبحان الله، ويح هذه الأمة الآن صار من أبنائها من يصدر عن منطق ليس علينا في الآخرين سبيل، والله يقول غاية الشرائع كل الشرائع – وشريعة محمد خاتمة الشرائع، النسخة الجامعة الكاملة التامة، الكلمة الأخيرة للسماء في الأرض – لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩.
انتهى تقريباً الوقت إخواني وأخواتي، أُريد أن أختم هذه الجلسة التي أسأل الله أن يتقبلها مني ومنكم بأحسن القبول وأن ينفخ فينا وفيها من روحه – تبارك وتعالى – بكلمات قصار، مجموعة جُمل إن شاء الله أقولها ويُترِجمها أخي الفاضل الدكتور، أبدأ أيها الإخوة لأقول لكم هذه مُهِمتكم جميعاً وجمعوات، ليست مُهِمتي وحدي أو مُهِمة أخي أو أخي أو أخي أو علماء الدين أو رجال الدين وإنما مُهِمة كل مُسلِم ومُسلِمة، أن يُعيد إلى الإسلام شرفه، أن يُعيد إلى الإسلام اعتباره، أن يُبرهِن بكل ما يستطيع أن الإسلام هو دين الرحمة – كما قال الله رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ – ودين السلام ودين الانفتاح ودين التسامح ودين المحبة، ليس دين الكره، ليس دين الانغلاق، ليس دين الجمود، ليس دين الإرهاب والجريمة، هذه مُهِمَتكَ ومُهِمَتكِ ومُهِمة كل واحد، لن تبرأ ذمتك حتى تُؤدي ما عليك في هذه السبيل، هذا ليس ترفاً وليس خياراً، ستقول لي كيف أفعل؟ ماذا يجب أن أفعل حتى أُساهِم – أيها الإخوة – في إعادة الاعتبار إلى ديننا لأُصورِه كما هو؟ سأحكي لك القصة التي حكاها لي أخي فيصل هنا، أخت مسلمة – ما شاء الله – من أخواتكم التي تعيش هنا أيضاً في باريس كانت حاملاً، وجاءت من بلد عربي لتضع هنا في مشافي باريس، سبحان الله وهى في الطريق تعود سيدة فرنسية عليها لم ترها بالسيارة وتطأها أرضاً فتقع على بطنها ويُصاب الجنين بالتشوه وينزل فعلاً مُشوَهاً، الشرطة من أول ساعة قالت لها لديكِ الحق مُباشَرةً أن نُحرِّر لكِ محضراً في هذه السيدة، وعرضوا عليها هذا عدة مرات، قالت لا، وزوجها قال لا، هى لم تفعل هذا مُتعمِدةً، طبعاً السيدة المسكينة تأسفت كثيراً وحزنت على ما جرى، وهى لم ترها، لذا قالت هى لم تتعمدها ولن نُكلِفها هذا العنت، وعفت عنها في نفس الساعة، أقول لهذه الأخت – ربما ستسمع – بارك الله فيكِ، كثَّر الله من أمثالك، أنتِ سفيرة حقيقية للإسلام، هكذا يجب أن يكون المُسلِم، سبحان الله قبل تقريباً ثلاثة أشهر حدث مع ابني نفس الشيئ، دعه زميله في المدرسة فوقع على يده وكُسِرَت يده كسوراً صعبة جداً، وإلى اليوم يُعالَج ابني، بعثت لي الدولة وقالت لي من حقك أن ترفع قضية ومن حقك أن تُقاضيهم، ستربح القضية وستُحصِّل أموالاً، قلت لا، لا أُريد ولن أفعل، على أنهم – عائلة هذا الولد – والله لم يتصلوا بي مُجرَّد اتصال ليقولوا مُتأسِفون، ونحن لا نُريد، نحن نفعل هذا لوجه الله، لا نُريد لا جزاءً ولا شكوراً، ولا نُريد أموالهم، إذن لماذا نفعل هذا؟ لأننا مُسلِمون، هذا ديننا ولذا نحن نُسامِحهم، أنا أضرب أمثلة يسيرة وهناك آلاف الأمثلة، لكنها أشياء توحي بأشياء إن شاء الله، تفعلين هذا يا أختي وتفعل هذا يا أخي وأنت في السوبر ماركت Supermarket – مثلاً – ولديك بضاعة كثيرة وترى خلفك امرأةً أو شاباً كبيراً أو صغيراً ومعه أغراض بسيطة، بكل أريحية وطيبة وسعة صدر تبسم في وجهه وقل له تفضل أولاً، وقعد فعلت هذا مائة مرة، قل له لماذا تنتظر؟ أنا أغراضي كثيرة فتفضَّل أولاً، ومن ثم يبدأ يشكرك وما إلى ذلك، وجميل أن يحدث هذا حين تكون مع زوجتك المُحجَّبة أو ابنتك المُحجَّبة، سوف يُقال أهذا مُسلِم؟ عجيب، هل هذا مُسلِم؟ أنا أقول لك هذا الفعل البسيط سيجعله يقطع مئات الألسنة التي تُحِب أن تنال من المُسلِمين، يقول له لا تُعمِم، التعميم خطيئة، المُسلِمون ليسوا سواء، والله منهم أناس أفضل منا، أشياء بسيطة تُرسِل رسائل طيبة، وأنت تفعل هذا لوجه الله، كذلك الحال مع البسمة، تبسم في وجه الناس، لا تكن مُكفهِراً، إذا كان عليك سِماء الإيمان يجب أن يكون عليك رضا الإيمان، يجب أن تكون دائماً تكون راضياً ومحبوباً، لذا تبسَّم في وجوه الناس، اتفق للعبد الفقير أكثر من مرة أن أطرح السلام على إخوة مُسلِمين لي فينظر إليَ بغضب ولا يرد السلام لأنه يعتقد أنني كذا وكذا وكذا، أمشي أنا على طيتي وأتبسم، عندي حلم -Dream – أعربت عنه أكثر من مرة، أنا أحلم باليوم الذي يأتي ويكون المُسلِم – بإذن الله تعالى – والمسلمة بحيث إذا رآه غير المسلم يستشعر مُباشَرةً الراحة والرضا أول ما يراه، ويقول أنا بإزاء مُسلِم فلن أُهضَم ولن أُظلَم ومهما احتجت إلى وجه من أوجه الدعم المساعدة فهذا الذي سأُهرَع إليه، حين نُترجِم هذا عبر عقود من السنين – بإذن الله – وعبر مئات آلاف الأفعال الصغيرة والكبيرة نكون يومها وضعنا بصمة جديدة ورسمنا وجهاً جديداً للإسلام، هذا هو حلمي، أرجو أن تُشارِكوني فيه وأن تعملوا على تحقيقه، كونوا يوسف هذا الحلم إن شاء الله تعالى .
نختم إذن بالآية التي في بدايتها كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، هذه ليست دعوى ندّعيها ونقول نحن خير أمة، لسنا خير أمة بالقطع، قال الله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، قال أبو هريرة – رضوان الله عليه – وغيره من الصحابة والتابعين الآية معناها أنتم خير الناس للناس، ليس خير الناس بين الناس، ليست دعوى فسواء أحسنا أو أساءنا نقول نحن خير أمة، هذا غير صحيح، معنى قول الله خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ أي خير الناس للناس، يوم نُثبِت أننا – إن شاء الله – خير الناس للناس لن نحتاج أن نقول للناس نحن خير أمة، هم سيشهدون بهذا لنا، سيقولون تالله أنتم خير أمة، حين يحصل هذا يكون الحلم قد أستوى على سوقه بإذن الله تعالى، قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ۩، ويومها – أنا أقول لكم ستذكرون هذا بإذن الله، وأسأل الله أن يُحيينا حتى نرى هذا، وأستطيع أن أُقسِم بالله عليه – سيدخل الناس في دين الله أفواجاً، سيدخلون في الدين أفواجاً بلا قتل، بلا ذبح، بلا تكفير، بلا كره، وبلا قطرة دم، سيدخلون أفواجاً – بعون الله تعالى – في شتى أصقاع المعموة.
نسأل الله تبارك أن يغفر لي ولكم وأن يتجاوز عني وعنكم، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ۩، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين برحمتك يا أرحم الراحمين، تقبَّل عنا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيئاتنا فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ۩، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
باريس 22/ 4/ 2015
شكر خاص للإخوة القائمين على المسجد وللذين قاموا بتسجيل المُحاضَرة
أضف تعليق