إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
لِمَ لا نشعر بكل هذا التناقض بهذه الهوة البعيدة السحيقة بين مبادئنا ونصوص ديننا وبين سلوكاتنا وواقعنا وأحوالنا؟ ما الجامع المُشترَك بين هذه الخصال المنهي عنها والمُدمدَم المُثرَّب على فاعليها في هذه الآيات الكريمات: السُخرية، اللمز، التنابز بالألقاب، سوء الظن، التجسس، والغيبة؟ ولكم أن تُضيفوا عليها وإليها أيضاً المن، مِمَن يُعطي ويتفضَّل ويتصدَّق، المن يُضاف أيضاً إلى هذه الصفات والخصال في خصال أُخرى كثيرة.
أحسب أن الجامع المُشترَك بين هذه الصفات والخصال الرديئة السيئة هو أنها تُمثِّل إرادة وفعل إهانة للآخرين، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩، الإنسان مُكرَّم عند الله تبارك وتعالى، والمُؤمِن مُكرَّم في شرع الله تبارك وتعالى، كل هذه الخصال وأمثالها إنما تُشكِّل استباحةً للإنسان، استباحةً لعرضه، مساً بل هدراً لكرامته، مساً بــ وهدراً لكرامته، وهذا لا يجوز في شرع الله تبارك وتعالى.
نقفز على المُقدِّمات للأسف الشديد في واقعنا ثم نتساءل يا لله، يا لله للمُسلِمين، من أين أتى ونشأ ونجم كل هذا الاستعداد للاستباحة؟ ونُريد استباحة الدماء، كيف يُمكِن أن يتكشَّف بعض المُسلِمين عن كل هذا الكم والقدر من الوحشية في استباحة الآخرين؟ انتبهوا! الباب الأول والخطوة الأولى هي استباحة الكرامة، استباحة العرض، وخذوه معياراً لديكم إخواني وأخواتي، لا أحسب أنه ينثني أو يفشل أو يلتوي، بل هو معيار صارم فاعل ولابد، مَن يفتح استباحة الآخرين باستباحة شيئ من أعراضهم يُمكِن أن يستبيح دماءهم، وكما قلنا غير مرة في مُناسَبات سابقة العرض لا يعني فقط ما يتعلَّق بالناحية الجنسية في الإنسان، العرض أوسع من هذا، العرض في تعريف الشرعيين واللُغويين هو موضع ومحل الذم والمدح من الإنسان، هذا هو! موضع ومحل المدح والذم من الإنسان، لذا لو تهوَّرت ووصفت رجلاً أو امرأةً بغير بيّنة بأنه كاذب أنت مسست بعرضه مُباشَرةً، انتهكت عرضه! ليس لازماً أن تقول إنه زانٍ لتصير قاذفاً، مسست بشيئ أكثر حراجة، لا! أن تصفه بأنه كاذب أو دجّال أو مُدعٍ او مُخادِع أو كذا وكذا – أي شيئ – بغير بيّنة وبغير دليل يعني مُباشَرةً أنك انتهكت عرضته، وخالفت شرع الله على طول الخط، وتعرَّضت لغضب من الله وبيل، طبعاً نحن هذه الأشياء نستهلكها كذا مواعظياً، للأسف لم نُدعِّمها، لم نُوظِّفها تربوياً، لم نُحِلها ثقافة، بالعكس! تقريباً إلا ما رحم ربي ثقافتنا الآن المُعاصَرة المعيشة في مُعظَمها – والعياذ بالله – ثقافة إهانة وثقافة استباحة وثقافة انتهاك لكرامة الإنسان، فطبيعي جداً مَن يفتح هذا الباب أنه يفتح الباب على الطريق الأسوأ والأردأ الذي ينتهي بجهنم طبعاً وقبل جهنم باستباحة دماء الآخرين، رفع عصمة أو عصم النفوس المعصومة، البداية من هنا! لو كنا نعقل هذا ونفهم هذا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، البداية من هنا! نتساءل لِمَ هذا الجلّاد بكل هذه القسوة؟ لِمَ هذا الحاكم الطاغية بكل هذا الإجرام؟ بلا شك هذا حاكم وطاغية ومُجرِم كبير وعليه من الله ما يستحق، وهذا جلّاد، جهنم أمامه، لكن انتبهوا، كلنا شركاء في الثقافة التي أنتجت وتُنتِج هؤلاء، ونحن أيضاً جلّادون وطُغاة على أقدارنا مبحسب ظروفنا، انتبهوا! بعض الناس قد يكون جلّادنا وطاغوتاً أعظم من هذا بكثير، هو كذلك – كما أقول بتعبيري – مع وقف التنفيذ، لأن الظروف لا تُساعِده، أعطه سُلطة ثم انظر كيف يتصرَّف، والآن تستطيع أن تختبره، اختلف معه في رأي ثم انظر ردة فعله، إذا استباحك مُباشَرةً فاعلم أن هذا طاغوت، لكن هو طاغوت صغير، من حُسن حظ العالم أنه لا يزال صغيراً، والأفضل له أن يبقى صغيراً، بمقدار صغر طُغيانه سيكون قلة عذابه في جهنم، غضب الله عليه! تربية هنا، المسألة تربوية ثقافية.
لا أُريد أن أدخل في مُقارَنات وأقول لا يُوجَد ولم يُوجَد لكن النصوص الشرعية يا إخواني والأدبيات الإسلامية في هذا الباب – ماذا أقول؟ – أكثر من كافية لكي تجعلنا أُناساً مُختلِفين تماماً عما نحن عليه، أكثر من كافية! يكفي فقط أن نُوظِّف هذه الآيات في خلق ثقافة أُخرى، ثقافة كرامة وتكريم للآخرين، كرامة وتكريم للذات وللآخر، تمنع كل سُبل الإهانة، لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ – سُخرية – عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ۩، تأمَّلوا في هذا اللفظ الإلهي العُلوي الكريم، عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ۩، أشبه بوعد إلهي، هو وعد ووعيد، مُزدوَج! وعد للمسخور منه بالزيادة، ووعيد للساخر بالنقصان، هل فهمتم الآية من هذه الزاوية؟ واللهِ اقشعر بدني الآن، أُقسِم بالله! لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ۩، وعسى من الله تحقيق كما قال ابن عباس، وكان في البال أن أُفكِّر في هذا الموضوع وأُطيل فيه النظر وعلى الأقل نُفرِغ الحصيلة في خُطبة، يُدهِشني جداً الفقه المُحمَّدي النبوي، واللهِ العظيم! واللهِ ما من حديث صح عنه ومعناه صحيح سديد سليم إلا وهو مُستمَد من كتاب الله، شيئ عجيب! لكن هذا الفقه المُحمَّدي، محمد يفهم القرآن كما لا نفهمه بالحري طبعاً، بالحري! لا جدال، وهو القائل في حديث أبي داود وغيره لا تُظهِر الشماتة بأخيك فيُعافيه الله ويَبْتَلِيك، المفروض هي ويَبْتَلِيكَ، لكننا نقول ويَبْتَلِيك بدون فتح الآخر من أجل السجع، لا تُظهِر الشماتة بأخيك فيُعافيه الله ويَبْتَلِيكَ، من أين؟ من قوله لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ۩، وعد للمسخور منه، على الأقل من هذه الحيثية، من الحيثية التي سخرت منه لأجلها، حيثية مُعيَّنة تتعلَّق بالصحة أو بالوجاهة أو بالسُلطة أو بالمال أو بالعلم أو بالفهم أو بالذكاء، بأي شيئ! فهذا وعد من هذه الحيثية على الأقل، لأن الله عادل، عدل حكم! ومن المُحال في عدل الله أنه يُفضِّله عليك في كل باب لأجل سخريتك منه في باب دون الأبواب، حاشا لله! الله حكم عدل، لكن سخرت منه في باب، انتبه! أنت الآن أمام وعيد إلهي بالنقصان في هذا الباب، وهو أمام عدة إلهية بالزيادة في هذا الباب، لكن بشرط طبعاً، بشرط أن يُقابِل سُخريتك وإساءتك بما حده شرع الله، وأكثر ما يُعجِب وأكثر ما يُحِبه الله في هذا الباب العفو، العفو أمارة التقوى!
وَلقدْ مَرَرْتُ عَلَى اللَّئيمِ يَـسُبُّنِي فَمَضيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لاَ يَعْنـِيـنِي.
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۩، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ۩.
نال أحدهم من أبي بكر الصديق – رضوان الله تعالى عليه – بمحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، وأبو بكر صامت لا يرد، وهذا يزداد، يزداد في السباب والبذاء، وأبو بكر صامت، ظل هكذا لمرتين ثم لثلاث ثم لأربع مرات، أبو بكر عيل صبره، لم يبق في قوس صبره منزع، فقام وسبه ببعض ما سبه، فقام رسول الله، أخذ ثوبه ومشى، قال يا رسول الله أنت رأيت، يسبني مُنذ الساعة – له وقت وهو يسبني – فلما سببته بكلمة قمت! قال يا أبا بكر ليس ذاك، حين كان يسبك وأنت صامت لا ترد ملكٌ كان يرد عليه، يقول له – بمعنى الكلام – بل أنت أنت، أنت الأحق بهذا القول، فإن قال له – مثلاً – يا مهين، الملك يقول له أنت المهين، وطبعاً هذا ملك مُصدَّق عند الله، إذا قالها صدَّقه الله، عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ۩، هذا هو طبعاً! لذلك استغفار الملائكة مُهِم جداً، دعاء الملائكة مُهِم جداً، الكائنات العُلوية الطُهرانية هذه الله يستجيب لها، فإن قالت له أنت الأحق، الأنت الأجدر، أنت الأقمن، بل أنت كذلك، حارت عليه وصار هو المهين وهو الكذّاب وهو الدجّال، وعما قليل سيُفتضَح بإذن الله تعالى، قال له فلما رددت عليه يا أبا بكر صعد الملك ونزل الشيطان، فلم أكن لأجلس في مكان يقعد فيه الشيطان، قال له هذا ديننا، هذا دين محمد بالمُناسَبة! هذا دين رسول الله، إنما بُعِثت لأُتمم مكارم الأخلاق.
النبي قال لك الهدف من بين الأهداف الأساسية الرئيسة لبعثتي وتنبئتي ورسالتي أن أُتمِّم مكارم الأخلاق، أبني على الحسن الطيب الموجود منها وأُتمم، ولا أنقض الحسن وإن كان من مواريث جاهليات عربية وغير عربية، الحسن أهلاً وسهلاً به أنى كان مأتاه، نحن نُبارِك الحُسن وكل ما هو حسن، من أي وجهةٍ آتانا ومن أي مصدرٍ وصل إلينا، لا نُبالي، سيان! هذا ديننا، دين انفتاح، ودين عظمة قيمية وأخلاقية ومسلكية، ولك أن تتخيَّل هذا!
ابن مسعود يتسلَّق نخلة ذات يوم، وكان صغير الجسم، صغير الجرم! كان جرمه صغيراً، كان جسمه صغيراً، وكان دقيق الساقين جداً، هو كان أصلاً لا يعمل، لا يمتهن! لأنه لا يستطيع العمل، لكن ساقاه كانتا دقيقتين جداً، مثل قصبتين هكذا، فحين تسلَّق النخلة بدت ساقاه أو شيئ من ساقيه، فضحك بعض الصحابة، قال تضحكون من دقة ساقيه! النبي لم يُعجِبه هذا، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أُحد، لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ۩، أنت لم تخلقه ولم تخلق ساقيك العظيمتين الثخينتين، اتق الله وكُن مُتواضِعاً، كُن عبداً لله تقياً، أنت لم تختر نفسك، وهو لم يختر نفسه، كيف تعترض على صنعة الرحمن؟ أسلوب! بعض الناس يتخذه أسلوباً وعادةً في السُخرية من خِلقة الناس ووجوه الناس وأشكال الناس، لا يجوز في شرع الله بالذات، لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۩، هذا ديننا بفضل الله تبارك وتعالى، هذا ديننا يا إخواني!
أبو ذر الغفاري من غفار، فارس غفار، هذا الصحابي الجليل السبّاق إلى الإسلام والتوحيد يغضب مرة في الحديث الذي تعرفونه جميعاً، فيُعيِّر بلال، يا ابن السوداء يقول له، أمك حبشية أنت! يا ابن السوداء، فيغضب النبي غضباً قل أن غضب مثله، طف الصاع! النبي يقول طف الصاع، لم يبق ما يُسكَت عليه، لا يُمكِن السكوت، هذا معنى كلامه طف الصاع، طف الصاع يا أبا ذر، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء من فضل إلا بالتقوى، تُعيِّره بأمه! إنك امرؤٌ فيك جاهلية! قال له ليس بهذا بُعِثت، ليس هذا ديني، ليس هذا شرعي، أن يُسَب الناس وأن يُعيَّروا بألوانهم وأعراقهم وأصولهم، فضلاً عن أشكالهم أو مهنهم.
طبعاً للأسف العالم اليوم لا يسمع هذا، العالم اليوم يسمع ويرى سباب المُسلِمين بعضهم بعضاً وذبح المُسلِمين بعضهم بعضاً، يقول هذا هو الإسلام، لا أمن ولا أمان، لا أخلاق ولا قيم، يظن هذا! لا يجد مَن يتلو على مسامعه ولا يجد مَن يُجسِّد هذه القيم أمام العالمين، مِمَن يُنظَر إليهم يُؤبه لهم وبشأنهم، أن هذا ديننا! يا ليته يجد مَن يفعل هذا، وطبعاً نحن نستأنس بحكايا، ومن حقنا أن نستأنس أيضاً ومن حق البشرية كما قلت لكم، بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق، وهذه علامة صحة المُسلِم، يوم تجد المُسلِم يستنكف ويستكبر أن يستشهد بممجدة لأحد الماجدين أو الماجدات لأنه شرقي أو غربي أو غير مُسلِم اعلم أن هذا المُسلِم مثبور، خاسر، في طريق الخُسران، باسم الحفاظ على الهُوية وأن لدينا ما يكفينا، لا يا سيدي! الحسن نُصفِّق له ونهش له ونُبارِكه، كما قلت بغض النظر عن مصدره ومأتاه، هكذا المُسلِم! لأنه إنسان، ويُريد أن يُثري ويسعد بثراء الإنسانية، ما رأيكم؟ يسعد بثراء الإنسانية!
والدليل – استفت قلبك – أنك حين تسمع مثل هذه الحكايا من الشرق ومن الغرب تتأثَّر، أحياناً تبكي والله، تبكي! مثل حكاية رئيس الوزراء الإنجليزي الشهير بل الأشهر – أشهر مَن رأس الحكومة في المملكة المُتحِدة – ونستون تشرشل Winston Churchill، معروف تشرشل Churchill! مَن يجهل تشرشل Churchill؟ تشرشل Churchill في الحرب العالمية الثانية – وهو مُنقِذ بلده وأوروبا، ربما كان أكبر الرؤوس التي خطَّطت لإنقاذ أوروبا من الطاعون النازي والفاشي، تشرشل Churchill – حين كانت في أوجها وحميَ وطيسها كان وزيره مُتوجِّهاً بعربته – بسيارته – إلى وزارته، كان هناك اجتماع للحكومة، وكان في عجلة من أمره، وعند الإشارة المرورية جاء زبّال – قطع طبعاً خط المُشاة – واندلق منه ما معه من زبالة في العربة الصغيرة، اندلق! فجعل الرجل يُعيدها إلى كيسها أو إلى إنائها ووعائها، فعوَّق الوزير قليلاً، أي ربما لدقيقة أو دقيقتين أو ثلاث دقائق،غضب الوزير، تنرفز! حرب عالمية واجتماع للحكومة وما إلى ذلك، هل نحن مُتفرِّغون لهذا الزبّال؟ وبعد أن مر قال له حقير، كلمة واحدة فقط! قال له حقير، فالزبّال صُعِق، مهانة! مس بعرضه، لماذا أنا حقير؟ ألأنك وزير تقول هذا؟ طبعاً الزبّال يعلم أنه وزير، ألأنك وزير – مثلاً – أو راكب لسيارة فارهة؟ ألأنني زبّال؟ ألأنني قمت بواجبي؟ هل كان الأفضل أن أترك الزبالة في الطريق مثلاً؟ عزت عليه نفسه، هناك تربية تُعِز الإنسان، هناك مُجتمَع يُكرِّم المُواطِن ولا يسمح بإهانته وإن كان من وزير أو رئيس حكومة أو حتى الملكة، هذه مُجتمَعات مُعافاة، لا تُحدِّثني عن ماضيها ولا تُحدِّثني عن ماضيك الآن، إذا أردت حدِّثني عن واقعنا وعن واقعهم، هذا واقعهم وهذا واقعنا، إذا أردت أن تتحدَّث عن الماضي فنعم ولابد أن تتحدَّث عن الماضي استنجاداً به في نقد الواقع وتشريحه وتجريمه ووجوب إصلاحه، هكذا يكون الحديث عن الماضي له قيمة ودلالة، بغير هذا لا نُريد، لا نُريد! سيكون مُخدِّراً نُخدَّر به، هل فهمتم؟ أعظم أمة، أكرم أمة، وأحسن ناس، لا! كنا، كنا هكذا، لا نُريد كنا هذا، نُريد كيف نعود، هنا نستنجد بالماضي فقط كدواء وليس كغذاء، لا تُحدِّثني عن ماضي أربع وعشرين ساعة، لا! حدِّثني ثلاث وعشرين ساعة عن حاضري وساعةعن ماضي، هذا الغذاء – الواقع – وذاك الدواء – الماضي – بقدر! بقدر ما نلم به شعث هذا الواقع، ونرأب به صدوعه وفتوقه ونُصلِح أحواله وأخلاله، المُهِم هذا الرجل الزبّال لم يقعد عن حقه، مُباشَرةً قدَّم اعتراضاً عند رئيس البلدية، ورئيس البلدية مُباشَرةً رفع الأمر إلى الحكومة، طبعاً لم يقل هذا زبّال، لا! لا يُمكِن أن يقول هذا، هذه ثقافة، ثقافة! الملكة أو الملك لو دريَ بالقضية أيضاً سيخب فيها ويضع، لا يجوز! هم يعلمون – هكذا تعلَّموا – أن فتح هذا الباب خطير، سينتهي باستباحة الإنسان، إغلاق هذا الباب ضروري، بالله عليكم فكِّروا في هذه المُعادَلة البسيطة، أُمة يُغلَق فيها هذا الباب، أن يُمتهَن زبّال من وزير ولو بكلمة، هل من المُمكِن هذه الأمة أن يضطرب حبلها وحبل أمانها واستقرارها فتُصبِح كوحوش الغاب فيأكل القوي الضعيف؟ مُستحيل، هذا مُستحيل! ثقافتهم تعصمهم من هذا، هذه ثقافتهم، لا يُحِبون هذا، لا يُريدونه، لم يتعوَّدوا عليه، يرونه مهانة، مَن يفعله هو المهين وليس الذي وُجِّهت إليه الإهانة، مَن يفعله هو شخص غير مُؤدَّب، ليس مُتربياً، ليس ابن ناس، ليس ابن أصول، وليس إنساناً راقياً، هكذا ينظرون إليه، يُجرِّمونه! الآن تعلمون طبعاً ما يحدث، لا أُحدِّثكم عما تعيشون، نحن نعيش ثقافة ترى أن العضل والقوة والصوت العالي والبطولة في أن تغزو ولا تُغزا، وأن تُهين ولا تُهان، وأن تفعل ولا يُفعَل بك، ما هذا؟ هل هذه ثقافة قروش؟ هل ثقافة أسماك القروش هذه؟ هل هذه ثقافة سباع الغاب؟ هذه ثقافة غير بشرية، غير آدمية أصلاً! غير مُحترَمة مثل هذه الثقافة، ينبغي أن نقولها بملء الفم، غير مُحترَمة! ادخلوا على مقاطع اليوتيوب YouTube وعلى البرامج والفضائيات، لا أتردد لُحيظة في أن أقول ما تعيشونه أيضاً جميعاً، البرامج والحلقات والمشاهد التي فيها سباب وإقذاع واتهامات بالعمالة وبالخيانة وبالفضائح الجنسية وبالفضائح الكذا والكذا تحصل على مئات آلاف – وأحياناً ملايين – المُشاهَدات! نحن نُشجِّع هذه الثقافة ونُحِبها، نُحِب مَن يمتهن الآخرين، مَن يفتري على الآخرين، مَن يسب الآخرين، مَن يلعن آباء وأمهات الآخرين، مَن يطعن في أعراضهم، ومَن يطعن في ذممهم، نُحِب هذا ونُشجِّعه، ثم نشتكي بعد ذلك، لماذا يفعل بنا طواغيتنا ما يفعلون؟ يا سلام! هم من هذا اللفق، هم قطعة من هذا القماش ذاته، هم بعوض من هذا المُستنقَع نفسه، ونحن بعوض فيه أيضاً، ينبغي ألا يُطرَح هذا السؤال، هذا السؤال أبله ويتباله، هذا سؤال أبله ويتباله، القضية واضحة ومعروفة لماذا، هذا مُهِم لنعرف من أين نبدأ ومن أين ينبغي أن نبدأ، المُهِم وصلت القضية للحكومة، صدر أمر رئيس البلدية مُباشَرةً – قبل أن تقول الحكومة رأيها – بمنع نقل الزبالة من أمام بيت هذا الوزير، ممنوع! لكي يتعلَّم قيمة الزبّال، أرني كيف ستعيش حياتك كوزير من غير زبّال!
لناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ.
هذا ما قاله أبو الطيب، طيَّب الله ثراه بهذا البيت وبهذه الحكمة طبعاً، بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ، أنا أخدمك وأنت أيضاً تخدمني كوزير، هذه هي، هذه الحياة! وفعلاً لم تُنقَل الزبالة من أمام بيته، في أول يوم الوزير لم يفقه الرسالة، في ثاني يوم تكرَّر الأمر، وفي ثالث يوم فاحت الرئحة، بدأ الناس ينظرون إليه بغضب، على أنه وزير مُعفِّن، الناس قالوا ما هذا؟ البيت مُعفَّن، ما هذا؟ الزبالة أمام البيت! فصار يُضطَر كل بضعة أيام أو كل يومين أو ثلاثة أن يأخذها بنفسه، عاش الأمرين، استمرت المسألة عشرة أيام، عشرة أيام! وحيئذٍ تدخَّل تشرشل Churchill نفسه – رئيس الحكومة – فكلَّمه وقرَّعه وأنَّبه، قدَّم استقالته فقال غير مقبولة، انظروا إلى أي مدى بلغت العظمة، هنا العظمة! قال غير مقبولة، ولا تُحدِّثني عن تشرشل Churchill الاستعماري، تعامله مع الآخرين في المُستعمَرات شيئ آخر، حدِّثني عن تشرشل Churchill المُواطِن وتعامله مع المُواطِنين، نحن على الأقل نُريد شيئاً في هذا الإطار، مع أنفسنا! كيف نتعامل مع أنفسنا؟ قبل أن نكون حاملي رسالة للعالمين ونتبجَّح بأستاذية الدنيا، مع أنفسنا! حتى لا نُشوِّش على الاستشهاد أيضاً بما يُستشهَد به دائماً، يقولون انظر إلى جانبه الاستعماري، هذا موضوع آخر! انظر إلى جانبه المُواطَني، كيف يُعامِل المُواطِنين؟ قال له الاستقالة غير مقبولة، لماذا؟ قال لأنك أهنته في العلن أمام الناس، وأهنته وأنت وزير، لابد أن تعتذر إليه علنياً وأنت وزير، وبعد أن تُعرِب عن هذا الاعتذار قدِّم استقالتك وهي مقبولة، وبالفعل اعتذر له علنياً، شيئ مُبكٍ، أُقسِم بالله! اعتذر له علنياً في وسائل الإعلام العامة، قال أُقدِّم اعتذاري للسيد الذي أهنته بالكلمة النابية القبيحة مني، تنفَّس الصعداء المُجتمَع البريطاني، تشرشل Churchill قال الآن الاستقالة مقبولة، استقل! لا تصلح أن تكون وزيراً.
ما هذه العظمة؟ لكن هذه العظمة أيضاً عشنا أمثال أمثالها بفضل الله تبارك وتعالى، أي والله! كلنا نعرف قصة اضرب ابن الأكرمين، رئيس مصر اضربه! كما ضربك يا قبطي، يا مُستضعَف، ويا مسكين اضربه! وليس هذا فحسب، في حديث أنس أعطاه الدرة وبعد ذلك قال له شيئاً آخر، وهو طبعاً ضربه، ضربه! يقول أنس وكنا نتمنى أن يزيد، انظر إلى عظمة الصحابة أيضاً، لم يقولوا يا عمر ما هذا؟ ما هذا يا عمر؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، أتُمكِّن قبطياً كافراً مُشرِكاً مُثلِّثاً من مُسلِم وهو ابن عمرو بن العاص؟ يا لله، ذل لحق بالإسلام والمُسلِمين باسم العدالة، لم يقولوا هذا أبداً أبداً! كلهم عندهم نفسية عمر، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال ضربه وإنا لنشتهي أن يزيده، أعطه وعلِّمه الأدب! علِّمه كيف يتصرَّف كعبد وكمُواطِن صالح، حتى لا يتألَّه على الناس بسُلطان أبيه وسُلطان دينه، هذا لا يُمكِن! وعمر تجاوز أيضاً بعدل، قال له خُذها وأجلها على صلعة أبيه، اضرب عمرو بن العاص على رأسه قال له، لأنه إنما ضربك بسُلطان أبيه، قال لا يا أمير المُؤمِنين، اعفني من هذه، قال له أنت وذاك، واللهِ لو أردت ما حُلنا بينك وبين ذاك، عمر قال له والله.
هذا عمر، وصدق رسول الله، أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأصدقها حياءً عثمان بن عفان، وأشدها في أمر الله عمر بن الخطاب، هذا صحيح! ها هي واقعة تُثبِت هذا، وبالمُناسَبة هذه الواقعة أقباط مصر يأثرونها، ما رأيك؟ ومع ذلك سيأتيك حاقد أو ناقم طبعاً في أمة المهانة لكي يُحطِّم رموزنا، نحن اليوم أمة مهانة، أمة امتهنت وتستلذ ويلذ لها كما حطَّمت نفسها وتُحطِّم كرامة رعاياها ومُواطِنيها وإخوانها وجيرانها أن تُحطِّم رموزها، لم يبق لنا رمز بالمُناسَبة، قسماً بالله! الآن حتى رسول الله يُحاوِلون النيل منه، مِن أبناء هذه الأمة مِمَن يدّعي الإلحاد أو الليبرالية أو العلمانية أو الحرية الفكرية مَن صار ينال مِن القامة التي ولا أشمخ! مِن المجد الذي ولا أبذخ! مِن رسول الله، ثم يقول حرية فكرية، حرَّرك الله من عُقدك النفسانية يا صعلوك، هذا أقل ما أقوله فيك لكي تستيقظ، لأنك صعلوك حقيقةً، أتنال من أعظم وأفضل وأكرم البشر؟ هذه صعلكة والله، صعلكة ومهانة بالمُناسَبة، هذه مهانة! هذه مهانة نفسياً وسيكولوجياً، هذه مهانة! الآن السوي – واللهِ – لا يستطيعها، واللهِ – بكسر الهاء – الإنسان السوي لا يحتمل ولا يُحِب ولا يُريد مَن يُقدِّمه على مَن هو أفضل منه، لا يُعجِبه! يشعر بأن هذا فيه نشاز وفيه ظلم، هذا أفضل مني، لماذا تُقدِّمونني عليه؟ قدِّموه هو! ما رأيك؟ هذا السوي، ستقول لي يا ويلتنا! مَن منا السوي؟ اختبر نفسك، واللهِ الإنسان السوي – واللهِ – لا يُحِب أن يُمدَح ولا أن يُعطى فوق مقامه، ويُغضِبه هذا، لأنه سوي، لا يُحِب!
النبي حين قال له أحدهم يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا قال اتقوا الله، أيها الناس عليكم بتقواكم، لا يستهوينكم الشيطان، واللهِ ما أُحِب أن يرفعني أحداً فوق منزلتي التي أنزلني الله، إنما أنا محمد عبد الله ورسوله، أنا عبد! قال له أحدهم يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا، فقال واللهِ لا أُحِب هذا، واللهِ – قال – لا أُحِب الكلام هذا، سوي يا أخي! أنا لم أر بالمُناسَبة حين درست رسول الله من زاوية سيكولوجية – وفعلت هذا مراراً بفضل الله عز وجل – مَن هو أكثر سواءً منه، لم أر مَن هو أكثر سواءً من هذه الشخصية في حياتي، أي في حياتي المعرفية! لم أعثر على شخصية بمثل هذه السوية وبمثل هذه العظمة، نبي ورسول وقائد أمة سياسي وعسكري ينام في المسجد حتى ينفخ، تخيَّلوا! يأكل مع أصحابه ويجلس جِلسة العبد، هذا لا يفعله إلا سوي، المُمثِّلون والدجّالون والذين يعرفون كيف تُستنزَف الممادح والتبجيل والتمجيد لا يفعلون، وفي كُتبهم يكتبون لا ينبغي لذي القدر، لا ينبغي للشيخ، لا ينبغي للعالم أن يتبذَّل بين طلّابه وأتباعه، ما معنى يتبذَّل؟ أي يخرج في لباس البيت، ممنوع! انتبه من هذا، لا تخرج إلا بالجُبة والعمامة، وكحِّل عينيك وافعل كذا وكذا، هذا لازم من أجل المهابة، النبي لم يُؤمِن بالكلام هذا، كل هذا كلام فارغ، كل هذا دجل، النبي على سجيته، إذا وُجِدَ أمر يُضحِك فإنه يضحك، كما قال أصحابه كل ذلك كان من شأنه، كنا نتذكَّر الآخرة معه، يُذكِّرنا بالآخرة وما إلى ذلك كأنها رأي العين، كأننا نرى الجنة والنار أمام أعيننا، فإذا خُضنا في الشعر وما إلى ذلك خاض معنا، ماذا قال هذا؟ ماذا قال عنترة؟ ماذا قال فلان؟ ماذا قال علان؟ ماذا قال الشنفرى؟ قالوا نتحدَّث في الطعام والشراب فيسمعنا أيضاً ويتعاطى معنا، قالوا كل ذلك كان من شأنه، يا سلام! هذه عظمة، أرأيتم؟ عظمة! هذا الذي يُغري، وهذا الذي ينبغي أن نتربى ونُربي أنفسنا عليه.
اليوم لا يستوعبون – وكلهم يلبسون البدل والقمصان والكرافتات – أن يخرج إمامهم ببدلة وكرافتة، ما هذا الإمام يا أخي؟ وكيف هذا؟ لكن أنتم ماذا تلبسون؟ ألأنه لم يُرِد أن يتميَّز عليكم يُقال فيه هذا؟ لم يُرِد! أحب أن يكون واحداً منكم، يلبس كما تلبسون، ينشطون كما تنشطون، لم تُحِبوا ذلك منه، لم تسمحوا بها له، لأنكم تعوَّدتم عبادة الأصنام ونحت الأصنام والأوثان، ثم تسألون من أين دُهينا؟ من أين نُدهى؟ ما سر هذا الطُغيان العجيب الموجود؟ كلكم ذلك الطاغية لكن أنت لا تفهمون، مُشكِلتكم في الثقافة، عودوا إلى السُنة، هذه السُنة، هذه السُنة المُحمَّدية، أتُريدون السُنة؟ هذه السُنة، هذه سُنة محمد!
جبلة بن الأيهم كان أمير غسان، وأنتم تعرفون غسان، من أكبر القبائل النصرانية العربية على الإطلاق، على الإطلاق! غسان التي لم تطب نفسها أن تدفع الجزية للدولة الإسلامية والتي تعيش في حمايتها وفي كنفها، قالوا ندفعها مُضاعَفة لكن باسم آخر غير الجزية، فعمر قال يا حيهلاً، ثم قال هؤلاء قوم حمقى، في الحقيقة قد أُخالِف سيدي عمر بن الخطاب وأقول ليسوا حمقى، في رأيي ليسوا حمقى، أقول هؤلاء ليسوا حمقى، هؤلاء ربما كرام النفوس، بالحري أنهم كرام النفوس! الجزية هم يعلمونها طبعاً، لهم خبرة طبعاً بالاستعمار البيزنطي، يرزحون تحته إلى ما قبل أمس، إلى ما قبل أمس القريب وهم يرزحون تحته، فيعلمون أن الاستعمار يأخذها باسم جزية، والمُسلِمون لم يبتدعوا اسماً جزية، قالوا جزية، فهم قالوا لا، لا للجزية، لماذا؟ عرفوا أن الإسلام جاء بمبادئ أُخرى، الإسلام غير بيزنطة، يعرفون هذا! غسان عرفت هذا، عمر ليس قيصر بالمرة، ليس سيزر، عمر يختلف، هو يلبس مُرقَّعة! قالوا ما دام الأمر كذلك فدعونا نعيش هذه القيم الجميلة الجديدة، نحن لن ندفع جزية، فقال لكن أنتم في حمايتنا وما إلى ذلك، فقالوا سندفع، سندفعها مُضاعَفة لكن باسم آخر، سمها مُعاوَنة أو سمها أي شيئ، لكن لا للجزية، فعمر قال هؤلاء حمقى، رفضوا الاسم وأخذوا بالمُسمى، لكنهم ليسوا حمقى، أنا أقول هكذا وقد تُخالِفونني وقد أكون مُخطئاً، أقول لا، هؤلاء كرام النفوس، هذه قبيلة كبيرة، من أكبر القبائل النصرانية على الإطلاق في الشام، أميرها جبلة بن الأيهم، فأتى ليحج وقد أسلم طبعاً، جبلة دخل الإسلام، أسلم واستبشر المُسلِمون بإسلامه خيراً كثيراً، هذا أمير غسان، شيئ عظيم هذا! يُسلِم بإسلامه الألوف، جاء إلى مكة وبين هو يطوف إذا بأعرابي – أعرابي من المُسلِمين المساكين – عن غير تعمد يدوس على طرف إزاره، فتعثَّر قليلاً ثم قام مُغضَباً وصكه على وجهه، الأعرابي طبعاً كما يُقال أيضاً – هذا ليس مع تشرشل Churchill فقط من دون العرب – لم يسكت عن حقه، لا! لماذا أُضرَب؟ أنا مُواطِن في دولة الإسلام، معنى دولة الإسلام ليس كما أفهمونا، الدولة التي تُقطِّع اليدين وتُرجِم البشر، لا! دولة الإسلام – هذا رقم واحد، ليست التي تُقطِّع وتذبح وما إلى ذلك، لا! هذا رقم واحد – التي تُوفِّر لك كل كرامتك، مُنتهى الكرامة والإعزاز لك كإنسان، مُسلِماً كنت أو غير مُسلِم، هل هذا واضح؟ فذهب إلى عمر، عمر قال لا يُمكِن هذا، ائتوني بجبلة الذي استبشرنا بإسلامه وكرَّمنا، قلنا له أهلاً وسهلاً وهو كريم قومه، قال له تعال يا جبلة، سيصكك! قال يا أمير المُؤمِنين أتُقيده مني وأنا مَن أنا وهو سوقة؟ قال له أنا سيد، سيد غسان قال له، أنا ملك، شبه ملك! وهذا سوقة من الرعية، قال له هيهات يا جبلة، هيهات! مسكين أنت قال له، أنت تعيش بالإنيرشا Inertia، أي بالقصور الذاتي، تعيش مبادئ بيزنطة وجاهلية العرب قبل أن يبزغ النور المُحمَّدي على العالم، قبل أن تسعد البشرية بهذه الدورة، أسعد دورة في حياته! قال له، هيهات يا جبلة، قد سوّى الإسلام بينكما، قال له قيمك هذه انتهت، منسوخة! الرجل تحيَّل على عمر بطريقة وفر والتحق بقيصر – قيصر بيزنطة – وعاد إلى نصرانيته، يُحكى أنه كان بعد ذلك يبكي على نفسه، لأنه ترك الإسلام! ويقول الأبيات المشهورة والتي مطلعها تنصَّرتِ الأشراف من عارِ لَطْمةٍ، إلى آخر الأبيات حتى لا نُطوِّل، هذا الإسلام، وهذه كرامة الإنسان في الإسلام، لكن ليس لدينا هذا الآن، لدينا – والعياذ بالله – ثقافة مُختلِفة تماماً كما قلت لكم، وهي ثقافة سأُسميها بثقافة المهانة، وعندي اصطلاح صككته أرجو أن أكون أيضاً دقيقاً فيه وصائباً، سأقترح مُتلازِمة Syndrome، مُتلازِمة أو مُتزامِلة، أي تناذراً، هذه ترجمات عديدة لكلمة Syndrome، أُسميه مُتلازِمة أو تناذر المهانة، أحسب أن هذه المُتلازِمة سطت بالكثيرين من أبنائنا وبناتنا، رجالنا ونسائنا، ما قصة هذه المُتلازِمة أو التناذر أو المُتزامِلة؟ هذه الــ Syndrome ما قصتها؟ إن شاء الله في الخُطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
في الحديث الصحيح الذي تتحفظونه جميعاً على ما أحسب وأظن – أخرجه مالك والبخاري ومُسلِم وعدد من الأئمة العظام عن أبي هُريرة رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المُسلِم أخو المُسلِم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يُسلِمه، بحسب امرئٍ من الشر – انظر إلى هنا، بالذات عند هذه قال يكفيك شراً فقط، أي أنت من أشر الناس والعياذ بالله – أن يحقر أخاه المُسلِم، المهانة! هذا دين يسد الأبواب كلها على الهوان والإهانة وثقافة المهانة، قال بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المُسلِم، والحقارة هي المهانة كما قال ابن فارس – على ما أذكر – في مُعجَم مقاييس اللُغة حين تكلَّم عن الأصل الثلاثي مهن، الميم والهاء والنون، أصلٌ يدل على حقارة الشيئ، ومنه قولهم هو مهين، أي حقير، هذه هي!
الإسلام ضد المهانة، ضد الإهانة، وضد أن تمس بكرامة الناس، باحترام الناس لذواتها، بحيثيات الناس، وباعتبارات الناس، أنزلوا الناس منازلهم، وطبعاً نحن نُمارِس المهانة والإهانة بخمسين مليون شكل، من ضمنها ومن أغمضها ربما يكون ما ذكرته في خُطبة قريبة – ليست بعيدة – وهو أننا نستنكف عن أن نُنادي الناس بألقابهم، لماذا أقول له يا شيخ؟ لن أقول له هذا، لماذا أقول له يا دكتور؟ لن أقول له هذا، ما دام أنا حتى لا أتطبب عنده – إذا كان دكتوراً في الطب – ولا أحتاج له فلن أقول له هذا، سأقول له يا أخ، كيف حالك يا أخ فلان؟ عُقد نفسية، أمراض، وضاعة في الشخصية، الدين ضد هذا تماماً، أنزلوا الناس منازلهم، كل واحد يأخذ قدره، لا نُكبِّره وننفخه ولا نُصغِّره عن قدره، وإلا نكون ظلمة، هكذا نظلم! ممنوع الظلم، ولكل شيئ وفاء وتطفيف، وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩، تقول يا أخي خاطبني بلقبي، خاطبني بحيثياتي، لكن خاطب أنت الناس بحيثياتها أيضاً، وكل الناس! ليس هو فقط وإنما كل الناس، تعلَّم هذا وأشِع هذه الثقافة، أشِع! إذا كنت تمتعض وما إلى ذلك فلتشِع هذه الثقافة، احترم الناس لكي تُحترَم.
بالمُناسَبة هناك دراسات نفسية مُتخصِّصة في دوريات سيكولوجية عالمية قالوا فيها أكثر الناس حرصاً على أن ينالوا من الآخرين وأن يُسيئوا إليهم وأن يُقلِّلوا أقدارهم هم ضعاف الثقة بأنفسهم، وهم الذين يُعانون من تقدير واطئ مُتدنٍ لذواتهم، الله أكبر! أي هو شاعر بأنه مهين، ولذلك يُقابِل الآخرين بالإهانة كلما استطاع، وبالمُناسَبة هذا من ضمن ما نتحدَّث عنه من المُتلازِمة، وسأشرح ما هي المُتلازِمة عموماً أصلاً في الطب العادي والطب النفسي، من سمات هذه المُتلازِمة يا إخواني – والعياذ بالله هذه مُتلازِمة المهانة – أن هذا المهين قابل للشغل على الطرفين، كما هو حريص على توجيه الإهانة للآخرين رمزياً ومادياً وتصريحاً وكنائياً أيضاً هو مُستعِد أن يتقبَّلها، أعوذ بالله! قالوا هذه دراسات نفسية.
الناس العوام عندنا يفهمون هذه القضية من غير دراسات نفسية ومُتخصِّصة، ليس لهم علاقة بها أبداً، قالوا – هكذا بالفهم العامي – المُحترَم يحترم، هذا معروف! أنت لا تتوقَّع من إنسان مُحترَم في ذاته – إنسان مُحترَم، ابن ناس، ابن تربية – إلا الاحترام، يحترم الكل، الصغير والكبير، الضعيف والقوي، المُتعلِّم والجاهل، لا يُوجَد عنده تمييز، مُحترَم هو! والذي ليس مُحترَماً في نفسه مهما كان – حتى لو كان حاكم دولة – تجد أنه مهين، يُوجِّه الإهانة لغيره ويتقبَّلها حين لا يجد منها مناصاً وعنها مندوحةً، ما هذا؟ مرض، اختلال في الشخصية، شيئ غير سوي، لا تُوجَد حسّاسية، لكن المُحترَم حسّاس للآخرين، ليس منهم وإنما لهم، فيُغضِبه جداً أن يُهان إنسان أمامه، كما رسول الله! الرسول كان يغضب جداً حين يشعر أن أحداً استُهزئ به أو نُقِص من قدره.
الرسول حين أتى المدينة طبعاً وفتح الله في بعض الغنائم والأفياء أعطى المُهاجِرين – مُهاجِري قريش – الكثير، وخاصة الفقراء منهم مثل ابن مسعود، أعطاهم الكثير، أي أعطاهم بشكل زائد، بعض الناس قالوا عجيب، يُعطي مثل هذا – انظر إلى الأسلوب، هذا موجود أيضاً، الصحابة ليسوا ملائكة طبعاً، وليسوا على درجة واحدة من استيعاب القيم المُحمَّدية والمُصطفوية الرسالية، ليسوا كذلك، يتفاوتون طبعاً، هؤلاء بشر، وهذه صفة المُجتمَعات البشرية في كل زمان ومكان، في كل أينٍ وآن كما يُقال – ويتنكَّبنا، نكبةً عنا! أي كأنه لا يرانا ويُعطي هذا، فبلغت النبي مقالتهم، غضب النبي! قال فلِمَ بعثني الله إذن؟ يا الله! هذا يعني أنكم لا تفهمونني، لا تفهمونني ولا تفهمون ما هي رسالتي المُحمَّدية، أنا بُعِثت – يقول لهم – نُصرةً للمُستضعَفين، رداً لاعتبار هؤلاء المُهانين، قال هذا هدف رسالتي، أي هنا في هذا المقام! فلِمَ بعثني الله إذن؟ قال لهم، هل تظنون أن الله بعثني لكي أزيد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً؟ قال لهم، لا! لست كذلك أبداً، أنا جئت لأنني ضد الإهانة والمهانة، جئت وأنا الذي نقلت لكم قول ربكم وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩، أنا الذي علَّمتكم.
نحن لم نُكمِل الحديث بالمُناسَبة، أعني حديث البخاري ومُسلِم، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المُسلِم، كل المُسلِم على المُسلِم حرامٌ، دمه وعرضه وماله! كله حرام، في حديث سعيد بن زيد عند الإمام أحمد في مُسنَده وإسناده جيد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المُسلِم بغير حق، أنتم تعرفون الربا، الربا الذنب الوحيد في كتاب الله الذي آذن الله مُتعاطيه بحرب، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۩، تخيَّلوا شخاً يدخل في حرب مع الله، مُدمَّر قطعاً لا محالة، هذا الربا! الربا شيئ مُخيف جداً جداً جداً، وصاحبه مذكور في كتاب الله مصيره يوم القيامة، يُبعَث يوم القيامة، كالذي يتخبَّطه الشيطان من المسـ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ – أي يوم القيامة – إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۩ والعياذ بالله، النبي قال يُوجَد شيئ أسوأ من الرباب، أربى الربا! أسوأ وأردأ وأبشع وأشنع الربا، إن من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المُسلِم بغير حق، كأن تقول الكذّاب، النصّاب، الدجّال، ابن كذا، وابن كذا، كيف تقول هذا يا بابا؟ ضعت أنت، أنت انتهيت! انتهيت يا ابني، انتهيت يا أخي دون أن تدري، ما الذي تفعله بنفسك؟ لماذا؟ سوف نرى لماذا، قصة طويلة تحتاج إلى خُطبة أُخرى، هذا من أربى الربا!
ابن عمر في الحديث الجليل الجميل يطوف بالكعبة، ويقول ما أطيبكِ وأطيب ريحكِ وما أعظم حُرمتكِ عند الله! وأشهد لسمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله – يطوف بكِ ويقول ما أطيبكِ وأطيب ريحكِ وما أعظم حُرمتكِ عند الله! والذي نفس محمد بيده للمُؤمِن أعظم عند الله حُرمة منكِ، أو لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منكِ، لأنه قال على البدل دمه، على البدل! دمه وعرضه – وفي رواية وماله – وألا نظن به السوء، يا الله! لك أن تتخيَّل هذا، من كرامة المُسلِم ألا تظن به السوء، مَن نصَّبك على الناس؟ لماذا تذبح نفسك بغير سكين؟ مَن وُلي القضاء فقد ذُبِح بغير سكين، هذا القاضي! لكن أنت لم تُول القضاء، الله عفاك من هذه البلية، لماذا تشتغل في الناس قاضياً؟ أنا أظن وأنا أُرجِّح أن هذا كذا وكذا وأن هذا كذا وكذا وأن هذه كذا وكذا وأن هذا كذا وكذا، ما علاقتك بهذه المسألة؟ ما علاقتك؟ دعها لنصّابي السياسة ودجّالي التحاليل والمدفوع لهم، أنت عبد الله المسكين وتُريد الجنة، أليس كذلك؟ ولا تُريد غضب الله، إذن اشتغل بشكل صحيح، اشتغل بدينك!
يا إخواني:
في هذه الفترة بالذات – وواللهِ لي أشهر طويلة هكذا، أُقسِم بالله – لو قيل لي يا عدنان يا أخانا وجِّه كلمة أخوية أو نصيحة مُشفِقة لإخوانك وأبنائك وأحبابك – إخوانك في الدين والمِلة من الأبناء والبنات، قل لهم كلمة واحدة – لقلت لهم – واللهِ العظيم أُريد أن أقول لهم كلمة واحدة في نفسي – حذاري حذاري حذاري أن تستسهلوا في الانسياق مع التيار الآن، تيار مهانة، تيار استباحة، تيار انتهاك لكل الحُرمات، تيار رهيب فظيع، فظيع جداً! والكل مُتورِّط فيه بالمُناسَبة، لا تقل لي غير هذا، الكل مُتورِّط فيه، الكل من جميع الجهات! إياك أن تفعل هذا، قدِّم مُقدِّمات واعلم مُقدِّمة واحدة، وهي أن الوضع الآن غير مُعافى وغير صحي وعلى غير ما يُرام بالمرة، نحن على غير ما يُرام! فالانسياق مع التيار وتقليد السائد وتقليد الشائع وتقليد المقبول عند الناس هلكة، انتحار! أنت تنتحر، لا تُقلِّد، ستقول لي ماذا أفعل؟ خل رهانك واجعل رهانك ألا تكون مثلهم!
لا تَعْجَبْ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ وَلَكِنِ اعْجَبْ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا.
أعجبنا! أثر عجبنا بأن تكون – بعون الله – مِمَن نجا، ما رأيك؟
هل يُمكِن أن يقع إنسان في مُستنقَع ويخرج طاهراً؟ هذا الرهان! أنت واقع في المُستنقَع، حاول أن تخرج طاهراً بإذن الله، ما رأيك؟ هذه تحتاج إلى عزيمة، عزيمة الصدّيقين وتحتاج إلى مدد من رب العالمين، اللهم أمدنا بمددك، مدد! لن أبذأ بذاءتهم، لن أشتم شتمهم، لن أحقد حقدهم، لن أكذب كذبهم، لن أكون مثلهم، وكما قلت مرة قبل سنوات ولن يغلبوني على برائتي، سأبقى – قل هذا لنفسك – ذاك البريء الطاهر، الذي يُضحي براحة رأسه ويُضحي بكل المكاسب والمغانم في سبيل أن يبقى طاهراً بريئاً صادقاً في مواقفه وكلماته ونياته بإذن الله تعالى، هذا التحدي إخواني وأخواتي، يا أحبابي هذا التحدي! قل سأكون كذلك، علماً بأنه سيُكتَب لك بإذن الله أجر المُصلِحين، لأنك دون أن تدري ستكون مُصلِحاً بعد ذلك، ستُقيم من نفسك نموذجاً مُعجِباً، يُثير العجب والإعجاب والاحترام، والناس ستبدأ تتقيل طريقك ولو شيئاً فشيئاً، فرداً ففرداً، جميل! وهناك ثانٍ وهناك ثالث وهنالك رابع، جميل! هذا هو، وخيرٌ من أن نلعن الظلام أن نُوقِد شمعة، لنكن تلك الشموع المُضيئة لأبنائنا وبناتنا – بإذن الله تبارك وتعالى – في هذا الزمان الحالك القاتم والكئيب يا إخواني، نسأل الله أن يُحوِّل الأحوال إلى خير حال بإذن الله تبارك وتعالى.
للأسف أدركنا الوقت إخواني وأخواتي، نأتي إلى مُتلازِمة المهانة، لكن قبل ذلك ما هي المُتلازِمة باختصار؟ المُتلازِمة مجموعة أعراض تأتي مُتزامِلة مُتزامِنة في نفس الوقت، بحيث أنه إذا ظهر بعضها عرف المُختَص، سواء الطبيب العضوي أو الطبيب النفسي أو حتى المُحلِّل الاجتماعي، لأن المُتلازِمات منها أشياء يختص بها أو بدرسها الطب العادي العضوي ومنها أشياء يختص بدرسها الطب النفسي والعقلي ومنها أشياء يختص بدرسها حتى علم الاجتماع، مثل مُتلازِمة فوق نشاط الغُدة فوق الكلوية، فالكورتيزون Cortisone يُفرَز كثيراً بشكل زائد عن اللزوم، مُتلازِمة عند النساء بالذات هذه، يُسمونها في الطب مُتلازِمة كوشينغ، أي Cushing’s syndrome، يحصل لهذه المرأة المسكينة اضطراب في الدورة الشهرية، تظهر على بطنها خُطوط بُنية، ووجهها يتلحَّم ويتدهَّن، يصير دُهنياً ويصير سميناً، هل هذا واضح؟ مزاجها مُضطرِب جداً، يتقلَّب هكذا وهكذا وهكذا باستمرار، وهي لا تعرف ما هذا! هذه مُتلازِمة، هل عندك هذه الأعراض؟ مُتلازِمة هذه، اسمها مُتلازِمة أو تناذر أو مُتزامِلة كوشينغ Cushing، مُتلازِمة! المُصاب بهذا الشيئ في أغلب الأحوال ما لم يكن طبعاً مُتخصِّصاً لا يعرف، الطبيب المُختَص يعرف، يرى بعض الأعراض فيحتمل مُباشَرةً أصابته بالمرض، يحتمل هذا ويقول عندك بنسبة سبعين في المائة أعراض هذا المرض، وسوف نرى بقية الأعراض لنتأكَّد، فهذه يُسمونها مُتلازِمة أو مُتزامِنة، أي Syndrome، هل هذا واضح؟
عندك مُتلازِمة ستوكهولم Stockholm في الدراسات النفسية والاجتماعية، في علم النفس الاجتماعي! وهي باختصار – أعتقد كلكم تعرفونها – تعاطف الضحية مع الجلّاد، تعاطف المخطوف مع الخاطفين، في سجلات الشرطة بنسبة ثمانية في المائة تحدث هذه المُتلازِمة، ثمانية في المائة من حالات الاختطاف تجد فيها أن المخطوف يتعاطف مع خاطفه، ويُعطيه معلومات ضد نفسه أو ضد جماعته أو ضد الجيش وما إلى ذلك، شيئ غريب، موجودة هذه، مُتلازِمة!
في عالم الفن والأذواق مُتلازِمة ستندال Stendhal، هل تعرفون ستندال Stendhal؟ ستندال Stendhal هذا أديب فرنسي كبير في القرن التاسع عشر، ذات مرة ذهب وزار فلورنسا في إيطاليا فصُعِق، صُعِق ستندال Stendhal! في فلورنسا طبعاً الــ Renaissance، التماثيل، اللوحات، الفخامة، القصور، وما إلى ذلك! شيئ لا يُوجَد في فرنسا منه طبعاً، بداية الــ Renaissance كلها كانت في فلورنسا، هذا معروف! فذُهِل الرجل، ذُهِل بشدة، وأُصيب بنوع من الذهول ونوع حتى من الهلوسة، وألَّف كتاباً في هذا، ستندال Stendhal أديب مشهور جداً، صاحب الأحمر والأسود، ألَّف كتاباً كبيراً، وهو كتاب لم يشف حتى غليلة في أن يُعبِّر عن انبهاره الذي لا حدود له بما رآه، فأخرجوا من هذه الحالة مُتلازِمة، Syndrome قالوا، Stendhal’s syndrome، أي الــ Syndrome الخاصة بستندال Stendhal، ما هي؟ حين ترى عملاً فنياً رائعاً ضربات القلب تزداد، تتعرَّق، تتوتَّر، وقد يُغمى عليك، موجودة هذه ولك أن تتخيَّل هذا، أنا هذه حصلت لي ذات مرة مع الكُتب حين كنت صغيراً، حصلت نفس الحالة هذه تماماً! عندي ربما مُتلازِمة عدنان للكُتب، كدت أموت من عشقي للكُتب وإعجابي بها، وكان عندي مكتبة صغيرة، ربما كان فيها بضع مئات، وذهبت إلى مكتبة جامعية فيها الألوف، فكدت أموت والله، لن أنسى طيلة حياتي هذه اللحظات.
على كل حال هذه مُتلازِمات، أنا الآن أتحدَّث عن مُتلازِمة المهانة، وسوف ترى لها أعراض كثيرة، أنا رتَّبت أكثر من عشرة أعراض أراها فعلاً، وأنت تجدها في هذا وهذا وهذا وهذا، مثلاً ماذا تتوقَّع من الشخص الذي يحرص على أن يُهين الآخرين؟ هو يتقبَّل الإهانة أيضاً بالمُناسَبة، هذه لا كلام فيها، هذه مُعادَلة لا تنثني، أي شخص يحرص وعنده استعداد على إهانة الآخرين بسبب وبدون سبب ويحرص على هذا ويلتذ به لا تُناقِشه، لا تُناقِشه في هذا أبداً! هو شخص عنده استعداد أن يتقبَّل الإهانة، نعم ليس منك لأنك أصغر منه لكن مِمَن فوقه، يتقبَّلها مُباشَرةً! لذلك ستقول لي نعم، هذه هي مُتلازِمة المهانة، وبالمُناسَبة أنا أتحدَّث عن مُتلازِمة المهانة وليس الإهانة، ستقول لي ما الفرق عندك بين المهانة وبين الإهانة؟ باختصار الشخص الذي يُهان كثيراً بحيث يبلع بعد ذلك يعمل ميتابوليزم Metabolism، يتمثَّل الإهانات هذه، ويُكوِّن شخصيته، لكن هذه الميتابوليزم Metabolism ليست عضوية، هذه ميتابوليزم Metabolism تُعتبَر Psych، أي نفسية، فهو يتمثَّل كل هذه الإهانات ويُبلوِر شخصيته ويبني أجهزته النفسية من طوب الإهانة، ستقول لي كيف يحدث هذا؟ مُجتمَعاتنا – رحمنا الله ورحمها بتغييرها – مُجتمَعات إهانة يا إخواني، واللهِ العظيم! بدءاً من الأسرة، وصولاً إلى الكتّاب، الحضانة، المدرسة، والشيخ، إهانة! وهذا معروف ولن نقول لماذا، هذا أُلِّف فيه كُتب كثيرة، تُوجَد كُتب حجازي المُتخصِّصة مثل الإنسان المقهور والإنسان المهدور، هناك كُتب نفسية ودراسات علمية مُحترَمة، فهذه مُجتمَعات قهر وإهانة، وبعد ذلك يبدأ أيضاً مُباشَرةً يتصرَّف بما لديه، كل يُنفِق مما عنده، وكل ما عنده إهانة، هو دائماً – كما قلت – يتحيَّن أي فُرصة لكي يُوجِّه الإهانة للآخرين، المسكين ضحية أصلاً، هو ضحية بطريقة أو بأُخرى! لكن هو لا يُدرِك هذا، هذا الشخص هل تتوقَّعون – مثلاً – منه – هذا سؤالي لكي نرى أعراض المُتلازِمة، أي الــ Symptoms الخاصة بها – الهين المهين المُهين أن يُشجِّع – مثلاً – البراعم؟ حين يرى شخصاً نابغة أو شخصاً وادعاً هل يُشجِّعه؟ هل حين يرى شخصاً نابغة يُعطيه تشجيعاً؟ مُستحيل، هذا يُحطِّم! هذا لو رأى أي شخص عنده – كما يُقال – علامات نبوغ أو علامات عبقرية أو علامات ذكاء وتفوق مُباشَرةً سيضع العصي في دواليبه، سيضع العقبات الكأداء في طريقه، سيُحطِّم نفسيته، سيُحاوِل بأي طريقة أن يُفقِده الثقة في نفسه، هذه المُتلازِمة، مُتلازِمة المهانة!
ستقول لي نعم، وهو بعد ذلك يُهين ويُهان، هذا يعني أنه مُزدوَج الشخصية، وهذا صحيح تماماً، طبعاً هو مُزدوَج الشخصية، عنده ازدواجية وهو مُتناقِض، مُتناقِض في مبادئه، لا يُوجَد إنسان يُنظِّر للمهانة والإهانة، كأن يقول لك يا حيا الله بالإهانة، هيا أهينوني، لا يُوجَد مَن يقول هذا أبداً، إلا أن يكون مازوخياً، أي إنه إنسان مازوخي، هذا شيئ ثانٍ، هذا انحراف جنسي مشهور طبعاً في عالم الانحرافات الجنسية بالذات، لكن عموماً الإنسان يُنظِّر للكرامة والحقوق وما إلى ذلك، لكنه يعيش عكس هذا تماماً، ويفعل عكس هذا تماماً، فهذا المسكين مُزدوَج الشخصية، عنده هذا الازدواج!
هل تظنون أن هذا الشخص الذي عنده هذه المُتلازِمة يقبل بالتسوية بين أعضاء المُجتمَع؟ أبداً، هذا الشخص نفسه شخصيته تُلخَّص بكلمتين: فرعون وشكوكو، هو نفسه فرعون شكوكو وشكوكو فرعون، معي ومعك هو فرعون، لأننا ضعاف ومساكين، نحن رعية! لكن مع هذا ومع ذاك من الكبار هو شكوكو، يصير شكوكو! فرعون نفسه هو شكوكو يا حبيبي، وشكوكو هو فرعون، شخصية مُعتَلة ومُتناقِضة ومُزدوَجة، هل هذا واضح؟ هذا هو طبعاً.
هل تظنون أن هذا الشخص المُتلازِم أيضاً يكون حريصاً على التسوية أو تضييق الهوة بين طبقات المُجتمَع وبين الناس؟ بالعكس، هذا يكون حريصاً جداً جداً أن يعيش بعض الناس فراعين وأن يعيش البعض الآخر شكوكوات، يعيش بعض الناس – كما قال جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau مرة – في غنى فاحش مُطغٍ، يسمح لهم أن يشتروا عباد الله، اليوم نسمع عن تجارة الجنس الأأبيض، أليس كذلك؟ من سنوات طويلة نسمع بها، النساء الآن صرنا يُبعَن، وغداً سنسمع عن الرجال أيضاً أنهم يُخطَفون ويُباعون، وهناك أناس قالوا إنهم يشترونهم، واللهِ قبل ثلاثة أيام استفتاني أحدهم عن هذا، لكن – الحمد لله – لا أُحِب أن أهين الناس، ضبطت أعصابي وجاوبته جواباً شرعياً وما إلى ذلك، لكنني كنت أغلي في الداخل، تستفتيني في ماذا يا رجل؟ أتغلبني على عقلي وعلى أخلاقي؟ شيئ يُصيب بالجنون! يقول لي هل هذا مُمكِن وما إلى ذلك؟ لأنه سمع أن هناك مَن يُبيعهن في الدولة الفلانية وفي الدولة العلانية، يا ويلنا لو كانت هذه الدولة دولة مُسلِمة، لفضحونا في العالمين! لكن حين يخطفون البنات ويبعوهن لا يتكلَّم أحد، باسم حقوق الإنسان لا يتكلَّمون، لكن لو كانت دولة عربية أو مُسلِمة لفضحونا في العالمين، وهذه الدول – ما شاء الله – مُتقدِّمة، يُبيعون البشر في الفاترينات، بعشرين وثلاثين ألف دولار، والمرأة مكتوب عليها سعرها، المسكينة تقف حية وتتمايل وعليها سعرها، ولك أن تتخيَّل هذا! هذا ما الذي يسمح به؟ لماذا هذه المسكينة وصلت إلى هذه الدرجة؟ البعض يقول أهلها، أهلها باعوها! أهلها باعوها يا أخي، لماذا؟ تفاوت رهيب، أصحاب مُتلازِمة المهانة يسمحون بهذا ويُحِبونه، واللهِ العظيم! ويعملون على توطينه وتأسيسه ومأسسته، الكرماء – اللهم اجعلنا من الكرماء الأحرار – يُبغِضون هذا ويلعنونه ويلعنون مَن طرَّق إليه سبيلاً، ولو أقصر سبيل! أليس كذلك؟ ولذلك – كما قال روسو Rousseau مرة – وما أجمل ما قال! – لا ينبغي أن يكون التفاوت بين الناس بحيث يسمح لأُناس أن يشتروا أُناساً وللآخرين أن يبيعوا أنفسهم لهم، قال هذا غير مقبول بالمرة، أليس كذلك؟ غير مقبول.
أختم أخيراً يا إخواني بكلمة، في يوم من الأيام كتبت السيدة الأولى في أمريكا – وهي كانت ناشطة سياسية واجتماعية مشهورة جداً – إلينور روزفلت Eleanor Roosevelt – أي آنا إلينور روزفلت Anna Eleanor Roosevelt – تقول لا يستطيع أحد أن يُرغِمك على تحمل الإهانة ما لم تسمح بهذا، أقول لكم انتبهوا، حتى لا ننخدع فقط بالاقتباسات، هذه المقبوسة أو هذه المقولة صحيحة ضمن ثقافة أُخرى، تعمل في ثقافة أُخرى، في ثقافتنا لا تعمل، قولوا لي لماذا؟ لأن ثقافتتا هي التي أسَّست للإهانة والمهانة، أنتم تعيشون ثقافة جميع طبقاتها الآن تعمل على هذا، لذلك أنتم لا تستطيعون أن تنجوا بأن تُواجِهوا شخصاً، لا تنجون إلا بعد أن تُواجِهوا ثقافة، وتُؤسِّسوا لثقافة جديدة، ثقافة الكرامة عوض ثقافة المهانة.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولَّنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (29/9/2017)
أضف تعليق