إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ۩ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ۩ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۩ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ۩ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۩ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ۩ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ۩ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ۩ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ۩ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
ارتحل عنا في هذا الأسبوع روحان كُبريان، روحانِ حرتان: نيلسون مانديلا Nelson Mandela في جنوب أفريقيا والشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم رحمه الله تعالى.
فؤاد نجم الذي فشل فشلاً ذريعاً ونهائياً أن يعرف كيف يُهادِن السُلطة وكيف يتملَّق السلاطين، وما أحوج هذه الأمة إلى هذا الضرب من الفشل، كثَّر الله أمثال هذا الفاشل ونفحنا مزيداً من هذا الفشل، ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجبرنا في مُصيبتنا في الناجحين الذين لا ينجحون إلا على حساب الجماهير والشعوب والأمم والأوطان والأديان والأخلاقِ والقيم.
فؤاد نجم الذي نعته الناقد المصري الكبير الدكتور الراحل عليّ الراعي بأنه الشاعر البندقية، الذي لم يكتب شعره ولم يُسجَّل له في البدايات بطريقة رسمية تتبناها الدولة، وإنما كان يشعر هكذا سفيراً للفقراء ومُلتزِماً بالمُهمَّشين ونصيراً للمُستضعَفين ولسان حال المظلومين، ويُغنَى شعره وتتحفظه الشعوب وبالذات الشعب المصري فيفعل أكثر من فعل السلاح، فأرَّقهم وأتعبهم وخافوا أن يقتربوا منه لأن كل مَن اقترب منه من الفاسدين افتُضِح على رؤوس الخلائق، وسجنوه ليُؤدِّبوه فلم يتأدَّب، لأن الرجل – رحمة الله تعالى عليه – مُلتزِمٌ بالشغب والمُشاغَبة، وكانت أمنيته التي يُكرِّرها باستمرار أن يُصلي في المسجد الأقصى وفي بيت المقدس وهو مُحرَّر.
فؤاد نجم الشاعر البندقية، الشاعر الذي شهد فيه لويس أراغون Louis Aragon – الشاعر الفرنسي الشهير – بأن فيه قوةً تُحطِّم الأسوار، حيث قال هو فيه قوةٌ تُحطِّم الأسوار وتُهدِّمها، وهى أقوى من قوى الجنود والعسكر والجحافل المُدجَّجة، ولكن شهد فيه الرئيس الراحل السادات – رحمه الله تعالى – بأنه الشاعر البذيء، وهذه مُشكِلة هذه الأمة، هذه مُشكِلة أمتنا عبر العصور بطواغيتها وهم الحكام الذين استحالوا إلى طواغيت وآلهة زائفة وبحكامها الذين لم ينحطوا إلى هذه الوهدة فيصيروا آلهة زائفة وطواغيت، فهم حكام فيهم وفيهم ولهم ولهم، والأمة بكل حكامها – بهؤلاء وهؤلاء – لا تحتمل أو لا يحتمل هؤلاء الحكام مَن يقول لهم لا أو مَن يقول لهم ماذا أو لماذا، فهى لا تحتمل مَن يتساءل في وجوههم، وهذه مُصيبة هذه الأمة، ولا تزال هذه الأمة غير مُعافاة، فليست أمتنا بخير إلى يوم الناس هذا، ولن تصير أو تُصبِح بخير في يومٍ واحد أو حتى في عمر جيل واحد، ولكن انتبهوا فهناك علامة ومُؤشِّر هام وهو يوم ترون حكام هذه الأمة وسلاطين وقادة هذه الأمة على الأقل يُغضون عن مُثقَّفيها وعن عظمائها وعن نبلائها وعن أحرارها مع أنهم ينتقدون نقداً لاذعاً ويتكلمون ويعترضون ويتساءلون ويشاغِبون ولكن يُغضى عنهم ولا يُنفَون خارج البلاد ولا يُداعون في غيابات السجون والزنازين ولا تُلهَب ظهورهم بالسياط ولا تُسلَّط عليهم أو يُسلَّط عليهم أوباش السُلطة لكي يقرضوا أديمهم ويهتكوا أعراضهم بالكذب والبهت وبالتكذُّب والبهت المُبين وأنهم كذا وكذا وكذا وهم عملاء لكذا وكذا وكذا – هذا لا يحصل – ويمتعض الحاكم ولكن يترك هؤلاء لحال سبيلهم فهذا يدل على أن الأمة بدأت تُصبِح بخير، لكن هذا لم يحصل وهو إلى اليوم غير حاصل تقريباً للأسف، فهم لا يحتملون مَن يقول لهم ثلث الثلاثة كم؟ هم يُريدون تسليماً عبودياً كأنهم آلهة وكأن الناس عبيداً تتعبد في محاريبهم للأسف.
أوروبا لم تكن بخير، كانت بشرٍ كثير، شر من العالم العربي والإسلامي بمراحل – أوروبا الوسيطة – ولكنها بدأت تتعافى، ويوم تعافت رأينا إمبراطوراً كبيراً – بلا شك هو كبير – وفاتح خطير وهو نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte – ومَن مثله في تاريخهم؟ – يُوظِّف مُوسيقاراً إيطالياً وهو زينجرلي Zingerle في البلاط الرسمي عنده، وهذا المُوظَّف وظيفته أن يُؤلِّف المقطوعات في المُناسَبات الرسمية التي يقترحها الإمبراطور، وشاء نابليون Napoléon مرةً أن يُتوِّج ابنه فرنسوا François ملكاً على روما، روما البابا، فماذا يفعل البابا؟البابا في السجن، فقد اعتقله نابليون Napoléon وأودعه في السجن، وهذه مُصيبة عند الكاثوليك، لكنه طلب من مُوسيقار البلاط أن يُؤلِّف قطعةً موسيقية يُخلِّد بها هذا الحدث الجلل – ابن نابليون Napoléon سوف يُصبِح إمبراطور على روما – فقال له لا، فانظر إلى الحرية أيضاً، هنا يُوجَد إمبراطور و حاكم ديكتاتور ولكن يُوجَد أيضاً رجال أحرار وليس طلَّاب عيش وخبز وطلَّاب مناصب وأموال وشهوات يُشبِعونها، فهو قال له لا، أنا لا أعترف إلا بالبابا ملكاً على روما ولا أعترف بأي أحد آخر، فغضب نابليون Napoléon لكنه لم يضربه ولم يصفعه ولم يسبه وإنما أحاله على المعاش مُبكِّراً ونقده خمسة عشر ألف فرنك فرنسياً وقال له مُشيِّعاً إياه اذهب إلى بلدك روما، وذهب إليها بخمسة عشر ألف فرنك مُعزَّزاً مُكرَّماً، فهنا يُوجَد احترام للموهبة، وهذا مُوسيقار وليس فيلسوفاً أو مُفكِّراً كبيراً، هو مُوسيقار فقط لكنه احترمه هذا الاحترام!
حدَّثتكم مرة من على هذا المنبر – وهذا أثَّر فىّ كثيراً – أن المُوسيقار العالمي الكوني بيتهوفن Beethoven – لودفيج فان بيتهوفن Ludwig van Beethoven – كان بصدد تأليف الأوريكا Eureka – الملحمة أو السيمفونية Sinfonia المُسماة بملحمة البطولة أوريكا Eureka – من أجل تخليد مَن؟ من أجل تخليد وتمجيد نابليون Napoléon الذي أعلن نفسه ابناً للثورة وحارساً لمبادئها وهى الحرية والإخاء والمُساواة، فبيتهوفن Beethoven كان يُؤلِّف الأوريكا Eureka ولكن بعد ذلك ينحرف الإمبراطور عن المسار السليم ويُعلِن نفسه إمبراطوراً وديكتاتوراً ومن ثم يتفاجأ الموسيقار العظيم ببيتهوفن Beethoven فيغضب ويمُزِّق إسم نابليون Napoléon من دفاترهويُغيِّر اسم سيمفونية Sinfonia الأوريكا Eureka ويُقدِّمها للجمهور على أنها للجمهور وليست للإمبراطور الخائن لمباديء الثورة والحرية ويُسمِّيها السيمفونية Sinfonia الثالثة، وهذا طبيعي لأنه حر، فبيتهوفن Beethoven رجل حر وليس عبداً، لكن العبيد لدينا كثر، مثل بعض أصحاب الأقلام وأصحاب المنابر وأصحاب كذا وكذا، فهم كثر وما أقل الأحرار من بينهم، وعلى كل حال هذا إلى الآن طبيعي، ففي السياق الأوروبي في ظرفه كان أمراً طبيعياً لأن هذا عصر الحريات ومجد الإنسان!
يلتقي نابليون Napoléon ذات يوم ببيتهوفن Beethoven وهو يتماشى مع الفيلسوف والأديب والمُفكِّر والروائي العظيم جوته Goethe – أديب ألمانيا الأول جوته Goethe – في الغابة السوداء الكثيفة الأشجار في ممر لا يتسع إلا لاثنين، وحين اقترب نابليون Napoléon وكان بغير حراسة – وهذا شيئ عجيب أيضاً، فنابليون Napoléon يتمشَّى بغير حراسة وحده وهو يستنشق الهواء العليل – وقف جوته Goethe إجلالاً له وكان مُعجَباً جداً بنابليون Napoléon، إلا أن بيتهوفن Beethoven لم يقف وواصل سيره، وعند مكان مُعيَّن لا يتسع الممر إلا لواحد لم يقف بيتهوفن Beethoven أيضاً، وقال لا أقف له، فوقف الإمبراطور ليمر المُوسيقار العظيم، ومر دون أن يُحيِّي الإمبراطور، فما كان من الإمبراطور إلا أن انحنى وحيَّا المُوسيقار العظيم، كأنه يقول له رغم كل ما حصل تبقى أنت بيتهوفن Beethoven وأنت عظيم بلا شك، فأنت موهبة إلهية كونية كُبرى، وعلى كل حال هكذا هم أباطرتهم وطواغيتهم، فهذا الديكتاتور – أي نابليون Napoléon – يعرف قيمة الموهبة وقيمة الشعر وقيمة الأدب وقيمة الفلسفة والفكر وقيمة المُوسيقى، لكن نحن لسنا كذلك، حيث يُراد لصاحب الموهبة أن يكون عبداً حقيقياً، فيا ويله إن نبس بربع أو بكسر بنت شفة مُعترَضاً على صاحب السُلطان، يُمسَخ في أسفل السافلين وفي سابع أرض، ولا يُعترَف لا بموهبته ولا بعظمته ولا بإنسانيته أبداً، يُصبِح كأنه شيطان في مسلاخ إنسان، وهذا شيئ غريب، ومن هنا هذا الانحطاط الذي نعيشه، فمثلاً وحده السادات – رحمة الله عليه – يصف أحمد فؤاد نجم بأنه الشاعر البذيء، وهو لم يكن بذيئاً، كان شاعراً إنساناً وإنساناً عظيماً – رحمة الله تعالى عليه – مُلتزِماً بإخوته البشر، بالأناسي المظلومين والمطحونين والمهضومين والمُهمَّشين والمُذَلين والمُهانين من أمثاله، والذي شاء أن يعيش وأن يموت بينهم ومثلهم صورةً وصوتاً ومنظراً وخطاباً فرحمة الله تعالى عليه.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
خُطبة اليوم ستكون تعقيباً وتعليقاً وصلةً بالخُطبة السابقة التي كانت قبل أسبوعين، الخُطبة التي اقتبست فيها واستشهدت بحديث أبي قلابة الجرمي في الصحيح والذي روى فيه حديث أنس على وجهه كما ورد في هذا الحديث الصحيح في العقاب الذي أنزله – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالمُحارِبين من عكل وعرينة، وهذا الحديث معروف بحديث العُرنيين، وقد ذُكِرَ فيه أن النبي فعل وفعل وسمر أعينهم، وقلنا معنى سمر – وتُروى سمل أيضاً – أعينهم أنه فقأها بحديدةٍ مُحماة وقيل بشوكة، فبعض الناس هالهم هذا جداً وحُقَ لهم أن يهولهم هذا، فهل محمد الرؤوف الرحيم يفعل هذا بالناس؟ هل محمد يسمر الأعين؟ وجعل بعض الناس على عادتهم أيضاً لا يعتذرون وإنما يعترضون فقالوا كيف تستشهد بهذا الحديث؟ وكيف كذا وكذا؟ لكن الطريقة العلمية التي يعرفها طلَّاب العلم وليس العلماء – طلَّاب العلم الذي شدوا في العلم حروفاً – تُقول بأن ليس من اللازم أن يقتبس أو يستشهد الكاتب أو المُتحدِّث أو الخطيب بنصٍ لأنه يُوافِق عليه أصلاً وفصلاً، وإنما بالذات في باب المُناظَرة وإفحام الخصوم وإلزامهم العادة والمُتبَع الذي يُدرَج عليه هو أنك تقتبس ما يُلزِم الخصم وما يُفحِمه حتى وإن لم تكن أنت تلتزمه، فمثلاً لو سألني سائل -والمفروض أن هذا واضح جداً من طريقتي عبر هذه الخُطب والدروس، فمن سنين واضح ما هو منهجي في هذه المسائل – هل أنت يا عدنان تعتقد بهذا؟ فإنني سوف أقول له لا أعتقد بهذا ولا أُصدِّقه ولا قيد أنملة، ولكن انتبهوا إلى أن ورد في بعض الروايات الصحيحة أن النبي سمر أعينهم لأنهم سمروا عيني الراعي – راعيه – أيضاً، فإن صح هذا وثبت فهذا قصاص، لأنهم سمروا العين وبالتالي تُسمَر أعينهم، وإذا جدًّعوا فإنهم يُجدَّعون وهكذا، وهذا إن ثبت أصلاً، كما ورد أيضاً في رواياتٍ صحيحة إنكار بعض السلف – وربما من الصحابة وربما من التابعين – أن النبي سمر أعينهم، فهم قالوا هذا الكلام غير صحيح لأن النبي ما سمر أعينهم، فلم يُوافِقوا على هذا الجزء من الحديث وأنكروه، كأنه لم يثبت عندهم أنهم سمروا أعين الراعي فيُنكِرون هذا ويقولون هذا غير ثابت أصلاً ولا نعترف به، فما القضية إذن؟
القضية – كما قلت في الخُطبة ذاتها – أن هذه هى مُشكِلة أحاديث الآحاد ومُشكِلة خبر الواحد، فهذا خبر واحد يرويه واحد عن رسول الله أو اثنان أو عدد لم يبلغ حتى حد الشهرة فضلاً عن أن يبلغ حد التواتر، وهذه مُشكِلة أحاديث الآحاد، حيث يعرض لها الخطأ والنسيان والسهو وأحياناً الدس في بعض الحلقات، علماً باننا لا نتهم الصحابة أبداً، فنحن لا نهتم صحابياً ولا حتى نتهم التابعين الأجلاء المشهورين، لكن فيما دون ذلك وبعد ذلك الأمر مُحتمِل، فالأمر يحتمل هذه الأشياء، وقد علَّق الإمام العظيم الإمام شمس الدين الذهبي على حديث أبي موسى مع عمر بن الخطاب في الاستئذان الذي لن أذكره لأنكم تعرفونه، فعمر يقول له لتُقيِّمن البينة – أي لتأتيني بشاهد – على أن النبي قال هذا أو لأفعلن بك وأفعلن، أي لأجعلنك نكالاً، وهذا أبو موسى الأشعري لكن عمر يستغرب من الكلام ويقول له من أين تأتيني بحديث عن رسول الله وتقول لي الرسول قال كذا وكذا في باب الاستئان؟ أنا لم أسمعه فمن أين أتيت به يا أخي؟ إذن هنا في هذا الفعل العمري – رضوان الله على عمر – يُوجَد مبدأ كامن، وأنا أقول لكم أن الصحابة أصفقوا وتتطابقوا على تقرير هذا المبدأ وهو أن التشريع ليس بالمُسارة، فالنبي لا يُسَر أحداً بالتشريع كأنه يقول له تعال لكي أقول لك تشريعاً في السر، فلا يُوجَد هذا الكلام أبداً لأن النبي مُشرِّع ومعنى كونه مُشرِّعاً أنه مُبلِّغ، قال الله بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۩، والتبليغ الطابع الأصلي الأصيل الرئيس له العمومية، فالنبي لا يُبلِّغ لواحد أو الثنين أو ثلاثة في مجالس خاصة وفي مجالس سمر، هذا لا يحدث أبداً، فإن كان ثمة تشريع يُريد النبي أن يُبلِّغه فإنه يُبلِّغه في العموم، يقف في الناس ويُبلِّغ هذا التشريع ويكون مُستوثِّقاً أن هذا التشريع سيبلغ أمته بطريقة تنتفي فيها الشُبهة، فلا تثبت فيها الشُبهة في الاتصال به – عليه الصلاة وأفضل السلام – أبداً، لكن ما هذا ما هذا التشريع الذي عندنا فيه شُبهة ونقول هل قاله أم لم يقله وشرَّعه أم لم يُشرِّعه؟ هذا يحدث لأنه المُؤتمَن عليه واحد واثنان، هذا غير معقول، فالتشريع ليس هكذا، أنا أستطيع أن أحتمل وأُصدِّق وأقبل أن النبي يتكلم مع واحد أو مع اثنين أو جماعة يسيرة في فضائل الأعمال وفي الأخلاق وفي الآداب العامة المُقرَّرة، وأكثرها قرَّرها غير النبي، ولذلك هو قيل له وقال إنما بُعِثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق، فهذه موجودة والأمة تعرف هذا الشيئ، فالناس يتعارفون مكارم الأخلاق، فهو قال هناط نواقص مُعيَّنة أردت أن أُتمِّمها وأن أُكمِلها فقط، فأنا لا أشرع الأخلاق أصلاً وفصلاً وإنما أُتمِّم ما نقص وأُصحِّح ما انحرف واعوج منها من سبيل الأخلاق، فهذا هو النبي إذن، وقد قيل له خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩، ما هو العرف؟ الذي يتعارفه الناس، فالنبي مأمور به لأن الله يقول له وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩، فالناس يتعارفون هذا، فهذا المعروف – هناك المعروف وهناك مُنكَر – وهذا العرف، لذا قال الله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩، أي الذي يتعارفه قومك ويتعارفه الناس الأسوياء وليس المُنحرِفين والشاذين عن سبيل السواء، فإذن هذه مُشكِلة أحاديث الآحاد، وعمر يقول لأبي موسى ما سمعتم إلى آخر الحديث، وطبعاً صحابة كثيرون سمعوا هذا – ولا يقوم معك إلا أصغرنا – طبعاً، فانتهى كل شيئ عند عمر وقال ما دام سمع هذا وهذا فأهلاً وسهلاً به، لكن لا تأتني بحديث وتقول لي أنا سمعته من النبي وهو يتضمَّن أحكاماً، أياً كانت هذه الأحكام، فمن أين لك هذا؟ إذا كان في الأخلاق أو في الآداب العامة أو في الفضائل أو الترغيب والترهيب فإننا نقول أهلاً وسهلاً ولا نُشدِّد حتى الضعيف، وهذا رأي الجماهير بشروط ثلاثة معروفة، فحتى الضعيف نأخذ به في هذه المسائل، فما رأيكم؟ نحن في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ومكارم ومحامد العادات والأخلاق نقول أهلاً وسهلاً، لكن في التشريع والحلال والحرام لا يُمكِن، فأخطر التشريع ما تعلَّق بالحرمات، لأنك تقول لي هذا يُقطَع وهذا يُقتَل وهذا تُسمَر عيناه وهذا يُجلَد وهذا يُقتَل من أصله، فهذا قتل لكن القرآن يقول أين هذا القتل؟ علماً بأن هذه من خُطبة المرة السابقة، فالقتل يكون بسببين، وفي الحقيقة يعودان إلى سبب واحد – وهذا هو العدل – وهو الحياة، فالحياة مُقابِل الحياة، علماً بأنني سأشرح هذا بُعيد قليل، لكن على كل كل الحياة تكون مُقابِل الحياة، فلا تُرفَع الحياة إلا للحياة، ما رأيكم؟ قال الله مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، قد يقول لي أحدكم ما معنى قول الله أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ۩؟ سوف أقول لك مع أن قلنا هذا من قبل، فنحن قلنا أن المسألة فيها مذهبان شهيران، أولاً مذهب مالك وفقهاء المدينة كابن المسيِّب وعطاء وغيرهم، فمذهب هؤلاء أن ( أَوْ۩) للتخيير، فيستطيع الحاكم والسُلطن أن يُنزِل من وجوه العقوبات المذكور في الآية ما شاء بمَن شاء من المُحارِبين، وهذا المذهب لا نرتضيه ولا نميل إليه، وثانياً مذهب جمهور العلماء وهو أن ( أَوْ۩) للتفصيل والتنويع، وقد ذكر القاضي العلَّامة الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن أنها سبعة أقوال وفي الحقيقة هى ستة لأن هذا كان خطأ منه، وعلى كل حال هناك ستة أقوال يتم فيها التنويع، فمَن فعل كذا فُعِلَ به كذا، ومَن فعل كذا وكذا فُعِلَ به كذا وكذا، وهكذا ستة أقوال، وحتى لا نُصدِّعكم بذكرها والوقت ضيق جداً نقول أن الجامع المُشترَك بينها – وهذا مُهِم جداً- في الستةِ الأقوال أن مَن لم يقتل لا يُقتَل حتى وإن كان مُحارِباً، فقط في الستة الأقوال مَن الذي يُقتَل وهذا هو العدل؟الذي قتل، كأن يكون قتل وانتهك العِرض أو قتل وأخذ المال أو قتل وقطع الطريق أو قتل وأخاف الطريق وهكذا، فالمُهِم هو أنه قتل، لكن لو لم يقتل لا يُقتَل، فالذي لم يقتل لا يُقتَل وإنما تُفعَل به خصال أخرى من المذكورة في الآية، وهذا هو العدل، ولذلك بحسب هاتين الآيتين – أي الثانية والثلاثون والثالثة والثلاثون من سورة المائدة – لا تُرفع الحياة – وهنا عظمة القرآن الكريم – ولا تُرفَع عصمة النفس المعصومة عنها ولا تُستحَل وتُستباح حُرمة النفس المُحرَّمة إلا بسبب واحد، فما هو؟ الحياة، فالحياة مُقابِل الحياة، إذا قتلت تُقتَل، هذا هو فقط، أما إذا لم تقتل فإنك لا تُقتَل، لكن هناك مَن قال لك أن شارب الخمر يُقتَل، وهناك أحاديث تُنسَب إلى النبي المُحمَّد -إلى رحمة العالمين – تقول هذا ويعلم الله أنه منها براء، فهم قالوا أن النبي قال من شرب الخمر فاجلدوه ثلاثاً، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه، لكن كيف يُقال اقتلوه؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ رجل شرب أربع مرات وجلدناه ثم شرب بعد ذلك هل نقتله؟ لا نقتله طبعاً، هذا كلام فارغ، لكنهم قالوا أن النبي قال فاقتلوه، وهذا غير صحيح، وقالوا أيضاً أن تارك الصلاة يُقتَل والخارج على كذا يُقتَل والذي كذا وكذا يُقتَل، وفتحوا لك أبواب كثيرة، لكن أين أنتم من كتاب الله؟ الله قال لك هو باب واحد فقط للقتل وهو الحياة مُقابِل الحياة، وهذا هو العدل، فقط مَن أهدر الحياة تُهدَر حياته، ومَن لم يُهدِر الحياة لا تُهدَر حياته، ثم أننا – الحمد لله – اليوم في عصر فيه الدولة المُتغوِّلة – الدولة الحديثة – وبالتالي في السجن مغنىً وكفاية، فاسجنه عندك سجن الأبد لكن لا تقتله، إلا القتل لكنهم حريصون بأوهى الأسباب وأوهنها على القتل، مُباشَرةً يقتلون ولذلك فقدنا جماعة من خيرة المُفكِّرين والعلماء في القرن العشرين المُنصرِم على يد هؤلاء الحكام الظلمة، لأن الواحد منهم مستعجل على القتل، لا يحتمل أن يسجنه وإنما يُريد أن يقتله وأن يقطع رأسه، فما هذا الحقد؟ ما هذه النفوس الضيقة؟ ما هذا الاستسهال والاسترخاص والاستخفاف بالدماء والجرأة على الله وعلى حرمات الله تبارك وتعالى؟
إذن هو بابٌ واحد في الحقيقة وهو الحياة مُقابِل الحياة، فلا تقل لي أن هذا من التشريع ورواه فلان وعلان أو رواه واحد واثنان وعن كل واحد منهم واحد وما إلى ذلك، لا تقل هذا تشريع والحديث صحيح ومُخرَّج في الصحيحين، فالمسألة أخطر من هذا بكثير، وفي هذا ما فيه من الإهدار لهداية الله في كتابه الكريم الذي يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ۩، علماً بأننا سنُوضِّح هذا لكن هذه جُملة سريعة وسنُوضِّحها فيما بعد، وعلى كل حال الإمام الذهبي يقول مُعلِّقاً على صنيع عمر مع أبي موسى لم يكف عنه حتى أتى بشاهد شهد معه أن النبي قال هذا، ثم قال وفي هذا دليلٌ على أن الخبر الذي يرويه ثقتان أقوى من الخبرِ وآكد الذي يرويه ثقةٌ، فأذن واحدُ – كما يقول الذهبي – يتطرَّق إليه السهو والنسيان والغلط، وبعيدٌ أن يتطرَّق مثل هذا إلى ثقتين لم يُخالَفا، وهذا صحيح، والاثنان لم يسمع أحدهما من صاحبه ولكن كلاهما سمعا من طرف آخر، كأن نفترض أنهما صحبيان وبالتالي هما سمعا من رسول الله، فمن الصعب أن اثنين يرويان عن رسول الله الشيئ نفسه وأن يكون قد تغلَّطا أو وهما أو وهلا أو غفلا أو نسيا أو أساءا الفهم أو السمع، أليس كذلك؟ ولكن الشخص الواحد قد يتطرَّق إليه هذا كله كما يقول الذهبي، ثم قال وكان أول مَن احتاط في قبول الأخبار هو أبو بكر الصديق رضيَ الله تعالى عنه وارضاه، فأبو بكر كان أول مَن احتاط حين أتته الجدة تطلب نصيبها من الميراث وقالت ورِّثني يا خليفة رسول الله، فقال لا أجد لكِ شيئاً في كتاب الله وسُنة الرسول، أي أنه لا يجد ما يقول أن الجدة تأخذ شيئاً، فالجد معروف ومشاكله كثيرة جداً لكن الجدة ليس لها شيئاً، فقام المُغيرة بن شعبة يشهد أن رأى الجدة تأتي الرسول تستورثه – تطلب ميراثها – فقضى لها بالسدس، فقال هل معك مَن يشهد لك؟ إذن هذه طريقة أبي بكر وهى طريقة عمر وطريقة عليّ وطريقة الصحابة الكبار الأجلاء – رضوان الله عليهم جميعاً – أيضاً، فهو يقول له هل معك مَن يشهد لك؟ لأنه لا يستطيع أن يفعل هذا، فهذا تشريع وشرع الآن، فهل أنت تُريد أن أشرع وأن آخذ من حقوق الناس وأعطي بعض الناس وأرفع وأضع بخبر واحد وتقول لي سمعت النبي؟ لكن أين نحن من هذا؟ وعلى كل حال قام محمد بن مسلمة فقال اشهد، لأن محمد بن مسلمة شهد الواقعة، وقال حين أتت الجدة تستورثه ورَّث لها السدس، فقضى لها الصديق – رضوان الله عليه – بالسدس، إذن هذه هى طريقتهم، ولكن هذه الطريقة كان ينبغي أن تستمر على نفس النهج، بمعنى أننا لا ينبغي أن نقبل في شرع حكمٍ رواية صاحب واحد مهما كانت جلالته، ويجب أن نشترط أن تتعزَّز الرواية برواية صاحب ثانٍ، ولكن انتبهوا إلى أن هذا لا يكفي بعد ذلك أيضاً، فكيف نعرف أن هذا مروي عن صحابيين؟ هم يقولون لك أن الرواة رووا عن فلان من الصحابيين لكن لابد على الأقل أن يروي عنهم اثنان، لكي نعرف مدى صحة هذا، فمن المُمكِن أن يكذب الذي يروي أو يغلط أو يسهو وإلى آخره، فكيف نعرف هذا؟ إذن لابد أن يروي عن كل من الصحابيين تابعيان، لكي نعرف أن هذا ثبت عن هذا الصحابي وهذا ثبت عن هذا، وكيف نعرف أن هذين رويا عنه؟ حين يروي عن كلٍ منهما اثنان، وهذا إسمه الحديث العزيز، فيا ليت العلماء اشترطوا هذا الشرط، وهذا ليس شرطنا وليس فلسفتنا في القرن الخامس عشر الهجري، ولكن هذا شرط أبي بكر وعمر، فهما اللذان اختطا هذه الخُطة ونهجا هذه النهج واشترطا هذا الشرط الجليل القوي المتين، وعلى كل حال هذا هو الشرط، وهذا إسمه الحديث العزيز، لكن العلماء يعلمون ولا يزالون يعلمون أن هذا الشرط – شرط العزيز – عزيز والوفاء به عزيز، ولو أردنا ألا نأخذ في باب الأحكام إلا بالحديث العزيز لما صح لدينا إلا أحاديث يسيرة جداً، وهذا أفضل طبعاً، لماذا؟ لأن النبي كان أصلاً حريصاً على الاقتصاد في التشريع، فالنبي لم يكن يُحِب أن يتوسَّع في التشريع ويُشرِّع لك في ألف باب وفي عشرة آلاف باب، حتى غدا بعض الفقهاء المُتأخِّرين – لن أذكر إسماً حتى لا ننال من العلماء الأجلاء رحمة الله عليهم أجمعين – يفخر ويتفاخر بأنه يحفظ من مسائل الصلاة عشرة آلاف مسألة، لكن ما حاجتنا بها؟ ما هذا؟ أين أنت من حديث الدارمي الذي يرويه عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين – والذي يقول ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – ما سألوه – يقول الصحابة هم أحسن مَن رأيت، فلماذا؟ ليس لأنهم كانوا يُصلوا كثيراً أو غير هذا – إلا عن ثلاث عشرة مسألة، حتى قُبِض، كلهن في القرآن، ومنهن يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ ۩، وهذه في البقرة، ومنهن وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۩، وهى في البقرة أيضاً، ثم قال في تتمة الحديث ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم؟ لذا هو قال أنهم أحسن ناس، فلماذا إذن؟ لأنه يعلم أن مبنى التشريع والاتجاه الذي كان يتجه إليه رسول الله والنزعة التي ينزعها هى التقليل من التشريع، ولذلك صح في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله تعالى وأرضاه – أن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً – أعظم مُسلِم مُجرِم وأكبر مسلم مُجرِم مَن هو؟ هو الذي أجرم في حق مَن؟ هل هو الذي أجرم في حق الكفار المُعتدين المُحارِبين؟ لا هو مَن أجرم في حق الأمة، في حق المسلمين، في حق إخوانه، فهو أعظم مُجرِم كما قال النبي، لأن النبي هو الذي قال أنه مُجرِم بل هو أعظم الناس إجراماً في المسلمين، علماً بأن الحديث في الصحيحين، في البُخاري ومسلم – مَن سأل عن مسألةٍ أو عن شيئٍ لم يُحرَّم على الناس فحُرِّمَ من أجل مسألته، ومن ثم أنت أكبر مُجرِم، وهذا ما يحدث اليوم، فالأصل في الأشياء الإباحة لكن يأتيك أحدهم بإسم الدين وبإسم الورع وبإسم التقوى ويبدأ يدعبس ويُنقِّر ويُفتِّش عن أي شُبهة، ويقول لك ما معنى هذا الرقم عى هذا المُنتَج Product؟ هذا قد يكون دهن خنزير أو دهن حيوان غير مذبوح أو كذا أو كذا، ثم يبدأ يضعها في المساجد، فتباً لك، لقد ضيَّقت علينا حياتك، ضيَّق الله عليك عيشك، هذا مُجرِم ويظن أنه بهذه الطريقة يخدمنا، لكن أنت لا تخدم أحداً يا أهبل، لقد دمَّرت حياتنا أنت، هل أنت تفهم الدين؟أنت لديك رغبة في السُلطة والتضييق على الناس خصوصاً بإسم الدين، فهم – والله العظيم – يُحِبون التضييق عليك في كل شيئ، ويقولون هذا حرام وهذا حرام وهذا حرام وهذا حرام وهذا حرام وهذا حرام، والواحد منهم يعتقد أنه يفهم – ما شاء الله عليه كل شيئ، لكن نحن نقول له لا كثَّر الله في الأمم من أمثالك يا أخي، وهداك الله – والله – وأصلحك، فهذا تماماً مثل العالم الذي كان ضريراً وكان يمشي مع أحد تلاميذه، وألقت سيدة منزل بماء، ولا ندري هل هو غُسالة أواني أو ماء صافي قراح سقط منها أو غُسالة الأطفال الصغار الرُضع، لا ندري هل هو ماء نجاسة أو ماء طهارة، لكن على كل حال جاء عليه هذا الماء، فقال تلميذه يا أمة الله ماء ماذا؟ قالت ماء غُسالة الأطفال، فقال له نجَّستنا، نجَّسك الله، أي أنه يقول له أنت الذي نجَّستني، نجَّسك الله يا بعيد، لأن لو ما سألت لقلنا أنه ماء والأصل أنه ماء طاهر، ومن ثم كنا سنمشي ونذهب لكي نصلي ونعطي درسنا، لكن أنت جئت لكي تتفلسف وقلت ماء ماذا؟ لذلك لما ورد عمرو بن العاص – أعتقد كان معه عمر بن الخطاب وكانا في سفر – على مقراة – المقراة حوض في الصحراء يُحتاز فيه الماء – وقال يا صاحب المِقراة أخبرنا هل ترد السباع على مقراتك؟ أي هل تأتي السباع إلى هذه المقراة لكي نعرف هل الماء طاهر أم نجس؟ قال له عمر يا صاحب المقراة لا تُخبِره فإنه مُتكلِّف، أي أنه يتفلسف فلا تُخبِره، لأن ما علاقتنا نحن بهذا؟ نحن لم نر شيئاً فإذن هذا الماء الصافي طاهر، لكنه يُريد أن يعرف هل تأتي السباع أم لا، وأي نوع من السباع التي تأتي، ومن ثم قال له يا صاحب المقراة لا تُخبِره فإنه مُتكلِّف، وقد أعاذ الله نبيه واستعاذ النبيُ أن يكون من المُتكلِّفين، فلا نتكلَّف إذن، لكن هذا هو مبدأ التضييق في التشريع.
لذلك أيضاً في حديث الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضهم أجمعين – قال النبي يا أيها الناس حجوا، أن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقام أحدهم وقال يا رسول الله أفي كل عام؟ أي هل فرض علينا أن نحج كل سنة؟ فغضب النبي ولم يُعجِبه هذا، لأن خُطته هى التقليل من التشريع والاقتصاد في التشريع، فنحن لا نُريد أن نضيق على الناس ولا نُريد أن نكثِّر الفرائض ولا نُريد أن نكثِّر المُحرَّمات، فاتركوا الناس على أصل الإباحة، ولذا النبي لم يُعجِبه هذا وقال ذروني ما تركتم – كأنه يقول له لماذا تُثيرني وتسألني هذه الأسئلة؟ أنا أقول لك حج، فلو حجيت مرة واحدة لكان هذا يكفي وينتهي كل شيئ، لماذا تقول لي هل نحج كل سنة؟ ذروني ما تركتكم، لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم – إنما أهلك مَن كان قبلكم كثرة مسائلهم وأختلافهم على أنبيائهم، فلا تسأل وتتفلسف كثيراً، ولذلك أنا ذكرت في خُطبة سابقة قبل بضعة أشهر أنه ليس من علامات المُعافاة وعلامات الخير أن تفتخر مُؤسَّسة رسمية أو دار إفتاء بأنها أفتت في خلال عشر سنوات مائة ألف فتوى، فهذا ليس جيداً وليس أمراً مُستحسَناً، لماذا تفرحون بهذا؟ هذه الأمة المسكينة تسأل عن كل شيئ وتقول هل هو حل أم حرام، ونحن لا نُريد هذا لأن دين الله أوضح من كل هذا.
إذن نعود إلى المُشكِلة الرئيسة للأسف وهى مُشكلة أحاديث الآحاد، فالصحابة كانوا واعين بهذا تماماً وكانوا يعرفونه، والذي أُحِب أن أُقرِّره اليوم في خُطبة اليوم هو مبدأ بسيط، وأسأل الله أن أكون مُصيباً في اجتهادي، وإلا فالخطأ مني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله والمسلمون من عند آخرهم – أولهم على آخرهم – أيضاً،
فهذا اجتهاد مني وربما سبق إليه تقريباً واحد أو اثنان في الأمة، فأنا نظرت فيه ووجدته الاجتهاد الراجح، حيث أنني وجدته رجيحاً مليحاً ومعقولاً جداً جداً جداً، وحتى المُشترِعون الوضعيون يأخذون به وبفحواه، إلا أن هذه الأمة لأجل ما ستسمعون لم تأخذ به، فاتسع الفتق أو الخرق على الراتق أو الراقع في مسائل مما يتعلق بالدماء وعصمة النفوس المُحرَّمة، وإنا لله، لكن ما هو هذا الموضوع؟ وما هى هذه المسألة؟ هذه المسألة هى أننا نزعم أنه لا يجوز فيه باب التشريع وبالذات في باب الحدود وفي باب الدماء وفيما يُزيل عن النفس عصمتها وفيما تُنتهَك به عصمة النفس وتُرفع به أو تُستحَل حرمتها سواء في باب القتل وباب الأعضاء وحتى باب الجلد وإهانة الإنسان إلا أن يُشترَط ثبوت التشريع فيه بصفة قطعية، فلا تأت لي بحديث آحاد هنا ولا يهمني أن تقول لي أنه في البُخاري ومسلم، فهذا لا أقبله عقلياً ومنهجياً، لكن هل تعرفون لماذا؟ ببساطة لأن حُرمة الإنسان ومعصومية النفس ومُحرَّمية النفس المُحرَّمة ثابتة بالقطع واليقين، بل قال أبو إسحاق الشطابي – علَّامة المقاصد – أنها ثابتة بالضرورة، فهذا معلوم من الدين بالضرورة، أي أن الكل يعلمه، فالأصل في النفوسأنها معصومة ومُحرَّمة ولا تُرفَع عصمتها ولا تُستباح حرمتها إلا بأسباب يسيرة جداً وأنا قلت لكم ما هى، فإذا أردتم العصمة في مُقابِل القتل لن يكون هذا إلا بسبب واحد يعود إلى إهدار حياة أخرى، وهذا سواء كان يقتل عمداً أو يقتل في الحرابة، قال الله أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ۩، فأنا أتيت بهذا من الآية القرآنية التي تقول مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، فلا تقل لي بعد ذلك شرب الخمر في الرابعة أو سرق في الخامسة أو ارتد عن الإسلام، ولا تُحدِّثني عن حد المُرتَد، فعن أي مُرتَد تتحدَّث يا رجل؟ كيف تُريد أن تقتل المُرتَدين؟ كتاب الله فيه مئات الآيات تُقرِّر حريتهم وتُؤكِّد خياراتهم وأن لهم أن يعيشوا مع ردتهم، وأنت تقول لي يُقتَل، فكيف هذا؟ أين رويت هذا عن رسول الله؟ والعجيب أنه لا يوجد لدينا إلا حديث واحد فقط صحيحٌ ولكنه ليس صريحاً كما يظنون في قتل المُرتَد، إذ طرقه التقييد من أكثر من جانب ودخله التخصيص من أكثر من جانب، وهو حديث مَن بدَّل دينه فاقتلوه، فهو حديث واحد فقط في حين أن أفعال رسول الله تُخالِف عنه، فإذا أخذت به كما أخذ به العلماء سوف تجد أن النبي نفسه لم يقتل كثيرين من المُرتَدين وتركهم يعيشون، والقرآن يُؤكِّد هذا أيضاً، إذن عليك أن تُعيد النظر في هذا الحديث الذي تقول لي أنه أخرجه البُخاري، فحتى مسلم لم يُخرِجه، مسلم يقدح فيه لأنه من رواية عكرمة البربري، ومسلم لا يتعرف بعكرمة والشافعي لا يعترف بعكرمة في حين أن الإمام مالك يعترف بعكرمة، ولذلك الشافعي رد هذا الحديث في كتابه الأم وقال هذا من طريق عكرمة، وعكرمة يُتجنَّب حديثه، فيُتحاشى حديث عكرمة البربري الخارجي – من الصفرية – لكن البُخاري أخرجه وهذه مُشكِلته، فما هذا الحديث الذي تقتل فيه الناس وتقول لي هذا حد الردة؟ وعلى كل حال القصة أوسع من هذا بكثير.
نعود إذن لكي نقول أننا في رفع عصمة النفوس المعصومة واستحلال حرمتها لابد أن يثبت التشريع الذي يُحِل لك هذه النفس المُحرَّمة ويرفع عنها العصمة بطريق قطعي، فلابد أن يثبت التشريع بطريق قطعي واضح عقلياً ومنهجياً، لأن عصمة النفوس ثابتة بطريق القطع والضرورة، فهناك ما يُسمى بالضروريات الخمسة في علم المقاصد أو في علم الأصول، والعلماء الكبار كأبي حامد في المُستصفى حين تحدَّث عن المُناسِب – أبو إسحاق الشاطبي وغير هؤلاء – هو وكل علماء المقاصد الأصوليين الكبار قالوا هذه الضروريات الخمسة تتعارفها الأمم – ليس فقط الأمة المحمدية وإنما كل الأمم – ولا تتساهل في انتهاكها، وهى الحفاظ على الأديان والمُتعقَدات، فكل أمة بتعتز بدينها وهذا كان أولاً، ثانياً الحفاظ على النفس المعصومة، فالنفس تأتي في المرتبة الثانية مُباشَرةً، ثالثاً الحفاظ على النسل وبعضهم قال العِرض، رابعاً الحفاظ على المال، خامساً الحفاظ على العقل، وهذا مُهِم في موضوع الخمر لكنهم وضعوه في آخر مرتبة، فإذا كان هناك مَن يسكر ماذا نفعل له؟ هذه كبيرة من الكبائر التي سوف يلقى الله بها، ولكنه لا يضرني وهو يسكر في بيته، فماذا أفعل له؟ وهذا بخلاف الذي يقتل وبخلاف الذي يعتدي على الدين وعلى عقيدة الأمة وبخلاف الذي يعتدي على أعراض الأمة ويطعن في الناس ويقول هذا زاني وهذا لوطي وهذا كذا وكذا – والعياذ بالله – أو يسطو على أموالهم ويُؤرِّق أمنهم، فهذه المسائل لا يُتساهَل فيها، علماً بأن لدينا تعليق على هذا الترتيب، ولكن على كل حال نُسلِّم الآن به مرحلياً، فحُرمة النفس تأتي في المرتبة الثانية، ومن ثم قال أبو إسحاق الشاطبي مُلاءمة هذا التشريع لشرع الله – تبارك وتعالى – غير مأخوذة من طريق آحاد الأدلة، فهناك أدلة كثيرة جداً في أبواب شتى وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، فإذا كانت عصمة النفس معلومة من الدين بالضرورة وثابتة بطريق القطع واليقين كيف تُزيلها أنت عن محلها بطريق فيه شُبهة وبحديث آحاد وتقول لي مَن بدَّل دينه فاقتلوه وأن هذا حد الردة؟ ما هذا التناقض؟ هذا الكلام غير صحيح، ولذلك وجدنا أن عالماً جليلاً وهو الإمام الشيخ أبو الحسن الكرخي – شيخ الأحناف في القرن الرابع الهجري وصاحب الأصول المعروفة بأصول الكرخي وصاحب المُختصَر الذي شرحه القُدوري، فهو شرح مُختَصر الكرخي على كل حال – يقول إذا كان الحد يندريء عن مَن اتُهِم به بالشُبهة فكيف تُثبِت أصل تشريعه بطريق فيه شُبهة؟، وهذا الرجل تقريباً هو الوحيد الآن الذي قال هذا وتبعه تلميذه أبو عبد الله البصري ثم عاد وبقيَ وحيداً برأسه، ونحن الآن نقول أن مذهبه الحق – والله تبارك وتعالى أعلم – إلا أن يثبت لنا العكس بالدليل، فالرجل قال الحدود وما يندريء بالشُبهة – في حديث عائشة في الترمذي مرفوعاً ورُوى موقوفاً وقيل الموقوف أصح قال عليه الصلاة وأفضل السلام ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم له مخرجاً فخلوا عنه أو خلوا سبيله، فإن الإمام أن يُخطيء في العفو خيرٌ من أن يُخطيء في العقوبة، وهذا إسمه مبدأ الدرء بالشُبهة، كأن يرتكب أحد جريمة من جرائم الحدود ولكن لم يثبت لدينا بطريق قريب من القطع فضلاً عن القطع أنه هو الذي فعل هذا وقامت شُبهة في البين، فإذن نُطبِّق نفس المبدأ الذي عرفه القانون الوضعي ولكن بعد مئات السنين ويُعبَّر عنه باللغة القانونية بأن الشك يُفسَّر لصالح المُتهَم، فكل شك في القضية وفي حيثيات القضية يُفسَّر لصالح المُدعَى عليه وليس المُدعي، أي أنه يُفسَّر لصالح المُتهم، وهذا هو مبدأ ادرءوا الحدود بالشُبهات أو مبدأ درء الحدود بالشُبهات، وهو قاعدة فقهية مُتسالِم عليها بين الفقهاء ولكن طبعاً مع تفصيلات بسيطة، فهم قالوا هذا في الحدود وفي جرائم القصاص ولكن ليس في جرائم التعازير، لكن في القانون الوضعي يتم تطبيقه على هذا كله، ففي كل الجرائم والجنايات تُدرأ الجناية بالشُبهة، ولذلك جنح المرحوم عبد القادر عودة – رحمة الله عليه – صاحب التشريع الجنائي الإسلامي – ويا له من كتاب، فجزاه الله خيراً – إلى هذا الرأي أن الحدود والقصاص وجرائم التعازير كلها – أولها عن آخرها – تُدرأ بالشُبهات، فهو – رحمة الله عليه – رجَّح هذا حتى في التعازير وقد يكون الصواب معه، فحتى في التعازير قال هذا خلافاً للفقهاء القدماء، وأبو الحسن الكرخي بالعقل المنطقي تماماً قال لك إذا كان الحد يندريء عن مَن اتُهِم به بالشُبهة فكيف تُثبِت أصل تشريعه بطريق فيه شُبهة وهو طريق الآحاد أو خبر أيه الآحاد الذي لم يتواتر عن رسول الله؟ أنا أقول لك أنه لم يتواتر ولم يشتهر عن رسول الله إذا أخذنا بتعريف الجمهور للمشهور، وهو الذي رواه ثلاثة وربما أكثر – لكن لم يبلغوا حد التواتر وهم ليسوا أقل من ثلاثة – عن رسول الله، وعن كلٍ من الثلاثة ثلاثة، وعن كلٍ ثلاثة وهكذا، وهذا المشهور لا يُوجَد مثله، فأبو حاتم بن حبان البستي صاحب الصحيح – صحيح بن حبان – قال لا يوجد حديث رواه اثنان عن اثنين مروي عن رسول الله إلى آخر السلسلسة، فببساطة لا يُوجَد حديث رواه اثنان وعن كل منهما اثنان وعن كل واحد من الاثنين اثنان حتى ينتهي الأمر، فهذا غير موجود، وهذا إسمه الحديث العزيز، فابن حبان قال أنا كإمام – هذا ابن حبان رحمة الله عليه – أقول لكم أن هذا غير موجود، فلن تجد في السُنة حديثاً بهذا الشرط، ونحن نسميه العزيز ونشترطه في الحدود على الأقل، وعلى كل حال هو قال هذا غير موجود، ثم قال فإذا ثبت بطلان هذا واستحال وجوده عُلِمَ أن الأخبار كلها آحاد، فلا تُحدِّثوننا عن المُتواتِر إذن، فهذا أكبر أكذوبة في تاريخنا، هم يقولون لك هذه أحاديث مُتواتِرة وهذا الكلام غير موجود أصلاً، فلا يُوجَد مُتواتِر ولا يُوجَد مشهور، وابن حبان يقول لك لا يُوجَد عزيز، وابن حجر العسقلاني أمير المُؤمِنين في الحديث – رحمة الله علي – قال هذا غير صحيح، فهذا كلام ابن حبان، وفي المُقابِل أبو عبد الله الحاكم – رحمة الله عليه – صاحب المُستدرج قال تقريباً مُعظم أحاديث البُخاري ومسلم من نوع العزيز، وهذه أكبر غلطة وقع فيها، فهذا غير صحيح بالمرة، لأن أين العزيز؟ هذا قليل جداً جداً جداً جداً إن وُجِدَ أصلاً، لكن الحاكم يقول هذا شرط البُخاري ومسلم، فما اتفقا عليه فهو هذا، ويرد عليه أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي صاحب أطراف الكتب الستة – رحمة الله عليه – ويقول هذا الكلام غالط، ولم يشترطا هما – أي البُخاري ومسلم – هذا الشرط – أي العزة، اثنان وعن كلٍ منهم اثنان وإلى آخره – ولا شُرِطَ عليهما، ويا له من شرطٍ حسن لو وُجِدَ في كتابيهما، فهو يقول يا ليت كان الأمر على هذا النحو، يا ليت روت الأحاديث بهذا الشرط، كان صار عندنا ثقة بل وربما حتى يقين بأن النبي فعلاً قال هذا أو فعل هذا، ولكن كلها أحاديث آحاد عن آحاد ويتطرَّق إليها الغلط من عدة جهات، وعلى كل حال الحاكم يقول هذا، وهذه أقوى رتب الصحيح، لكن ابن حجر قال أنا أُريد أن أتوسط بين ابن حبان وبين الحاكم، فالحاكم بلا شك كلامه غالط هنا، بل قال أبو بكر الحازمي صاحب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار وصاحب شروط الأئمة لو عكس القضية وحكم لكان أسلم، أي لو قال أن البُخاري ومسلم شرطا على أنفسهم إلا يُخرِّجا أي حديث عزيز لكان هذا هو الصحيح، فهو يقول له أين العزيز؟ ولكم أن تتخيَّلوا هذا، لكن أيهما أعظم مثابة في العلم: ابن حبان أم الحاكم؟ ابن حبان بإجماع العلماء أعلم بكثير من الحاكم، فالحاكم حاكم لكن أين هو من ابن حبان؟ ابن حبان أعظم، وهو صاحب الأنواع والتقاسيم، وعلى كل حال – كما قلنا – هذا قال ما قال وهذا رد عليه لكن ابن حجر توسط – ابن حجر هو أمير المُؤمِنين وصاحب الفتح – وقل يُوجَد عزيز، ففي الصحيحين تُوجَد أحاديث عزيزة، فإذن هل يُمكِن أن يأتي بخمسة أو ستة أو عشرة على هذا النحو؟ لا يُمكِن، فابن حجر لم يستطع أن يأتي ولو بحديث واحد، لكن هو قال هذا موجود، ونحن نقول له مثل ماذا يا حافظ الإسلام؟ قال مثل الحديث الذي أخرجه البُخاري ومسلم عن أنسٍ وعن أبي هريرة، ففي أول رُتبة عن رسول الله يُوجَد اثنان، وهذا مُمتاز، حيث قال صلى الله عليه وسلم لا يُؤمِن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، وهذا الحديث رواه عن رسول الله أنس وأبو هريرة، وهذا مُمتاز إلى الآن، لكن لابد أن يرويه عن كل أحد منهما اثنان بعد ذلك، فأين هذا؟ قال رواه عن أنس عبد العزيز بن صهيب وقتادة، ورواه عن قتادة على ما أعتقد أعتقد شعبة وابن المسيِّب، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن علية وفلان، ثم وقف ابن حجر بعد ذلك وانتهى الأمر، وأنا مُتأكِّد أن من أن أي أحد فيكم الآن سمع تعريفي وسمع هذا الكلام سوف يفهم وسوف يقول لابن حجر أين مثل هذه الطرق عن أبي هريرة؟ نحن نُريد أيضاً اثنين عن أبي هريرة، وعن كل ٍ نُريد اثنين، وهذا غير موجود، فحتى هذا ليس بعزيز، ولذا يبدو أن الصواب مع ابن حبان، فمن الصعب أن تجد العزيز كما قال له، فأنا الآن أُريد العزيز ولا أُريد المشهور، وطبعاً لا أُريد المُتواتِر لأنه مُستحيل، فأنا أُريد العزيز فقط لكي أتأكِّد من أن النبي قال هذا وفعل هذا، فهذا كله آحاد وهم يقولون لك نحن نقبل الآحاد، لكن نحن نُريد في الحدود وفيما يتعلَّق بقتل الناس وقطع الناس وذبح الناس العزيز على الأقل، ولن نقول أننا نُريد المشهور أو المُتواتِر، لكن أين هذا العزيز؟ هذا هو السؤال، وقد أجابوا عن الإمام الكرخي وقالوا هذا الكلام ضعيف يا أبا الحسن، لماذا؟قالوا لأن الأمة أجمعت على أن الحدود تُقام على مُرتكِبيها بشهادة اثنين، أي أنهم ردوا عليه، وطبعاً الاثنان آحاد أم مُتواتِر؟ هذا آحاد طبعاً، وهل الاثنان قطعي أم ظني؟ على كل حال الاثنان من الآحاد، فهو ليس مُتواتِراً، والإمام الكرخي يُريد المُتواتِر، لكن نحن سوف مُتواضِعين قليلاً وسوف نقول أننا نُريد العزيز في حين أنه قال أنا أُريد القطعي، فلكي تقول لي فلان يُقتَل والنبي قال بقتله عليك أن تأتي لي بشيئ قطعي مُتواتِر، فأنا لا أستطيع أن أقتل النفوس المعصومة الثابت عصمتها بالقطع وبالضرورة إلا بهذا، فكيف نرفع العصمة عنها بأحاديث آحاد وتقول لي أنها آحاد في البُخاري ومسلم؟ نحن لا نكتفي بهذا، لكن بماذاردوا عليه؟ قالوا في الحدود نفسها والقصاص لو جاء اثنان عدلان وشهدا على أحد الناس أنه قتل هل يُقتَل أو لا يُقتَل الآن؟ يُقتَل، ولو شهدا على أنه سرق هل يُقطَع أولا يُقطَع؟ يُقطَع، وكذلك لو شهد أربعة بأنه زنى سوف يُقام عليه الحد أياً كان، فهذا هو إذن، وهذا كله غير مُتواتِر، فهذا كله آحاد، لكن بماذا أجاب هو؟ هذا الجواب ذكي جداً جداً جداً، ولكن كأنهم لم يُريدوا أن يظهروا أنهم فهموه، لكن نحن نقول أننا فهمناه ونُريد أن نستدل له وأن نضـوِّىء – بإذن الله تعالى – ونُقوِّي جوابه، فهو قال إنما قبلنا بإقامة الحدود بالشهادة – شهادة اثنين أو أربعة – للنص في كتاب الله، أي أن الله – تبارك وتعالى – هو الذي قال هذا، قال الله فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ ۩، فهنا الله قال أربعة، وفي مرات أُخرى قال استشهدوا اثنين، أي أننا نقبل بهذا بسبب النص، وإلا بحكم العقل والمنهج والقاعدة لا نفعل، فنعود إلى الأصل إذن ولا تُرفَع العصمة إلا بقطعي، وأنا سُأضوِّىء كلام الكارخي بكلام – أزعم إن شاء الله أنه حسن ولن أقول بأحسن منه – آخر، فهل تعرفون ما هو؟ فرقٌ كبير بين مقام شرع الحكم – تشريع الحكم – وبين مقام تطبيق الحكم، لكن أيهما أغلظ وأخطر؟ شرع الحكم، بمعنى أن الناس الآن في سعة ونفوسهم معصومة مُقرَّرة الحُرمة إلا بسبب أو سببين يعودان إلى سبب في كتاب الله – مثلاً – بطريق القطع، فكيف تأتي الآن وتُريد أن تفتح باباً لسببٍ ثانٍ أو ثالث وتقول هذا يُقتَل به؟نحن نقول لك لابد أن يثبت هذا عن صاحب الرسالة وعن صاحب الشرع بطريق القطع، لأنه لو ثبت فتح هذا الباب وكان الطريق فيه شُبهة – أي أثبتناه بطريق فيه شُبهة – واتضح أنه غير صحيح في نهاية المطاف سوف تكون مُصيبة عظيمة جداً جداً وسوف تستمر على الأزمان، وسوف تبقى هذه الأمة المسكينة المرحومة تقتل في بعض الناس ظلماً بشيئ ما أنزل الله به من سُلطان، لأنك تقول هذا تشريع، وأنت تشرع ليس لقتل واحد أو اثنين وإنما لقتل ما لا يعلمه إلا الله إلى يوم الدين، وكل مَن ارتكب هذا الجرم سوف يُقتَل بإسم أن النبي قال هذا بطريق آحاد، وهذه مُصيبة طبعاً، لكن حين يقع الغلط والتجاوز في التطبيق سوف تقتصر المُصيبة على واحد فقط.
أدركنا الوقت فنكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ارحمنا فإنك بك راحم ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(بسبب ضيق الوقت وعدم اكتمال الفكرة هذه تكملة للخطبة ألقاها فضيلة الدكتور بعد الصلاة)
إذن الجواب هو أن هناك شرطاً العلماء تساهلوا فيه للأسف الشديد وما كان ينبغي أن يتساهلوا، وهو شرط ثبوت التشريع الذي يرفع العصمة ويستبيح الحُرمة بطريق القطع، وأنا أقول لكم ينبغي أن يكون قطعياً في ثبوته وقطعياً في دلالته، وهذا عندما تقول لي اقتل أو اقطع أو اجلد، فهذه حُرمة الناس التي يجب أن تُراعى، والإنسان مُحرَّم وهو خليفة الله في الأرض، فلا يُستسهَل بأبسط الأشياء قتله وذبحه وجلده، لابد أن يكون هذا بطريق القطع، لكن قد يقول لي أحدكم أنت أثبت الحد بطريق ليس فيه قطع وإنما بشهادة اثنين وشهادة أربعة، فكيف تقتل وتقطع وتجلد وتسجن وإلى آخره بهذا مثلاً؟ نحن نقول له يُوجَد فرقٌ بين مقامين: مقام الشرع أو التشريع ومقام التنفيذ ، فمقام الشرع أخطر بكثير لأنه ذو طابع عمومي مُمتَد في الزمان، فهذا شرع إلى يوم الدين هذا، فيُقال – مثلاً – مَن فعل هذا يُقتَل ومَن بدَّل دينه يُقتَل، وهذا شيئ خطير جداً، فلابد أن يثبت هذا بشكل قطعي، ولذلك يُوجَد مبدأ في القانون يُعرَف بمبدأ الشرعية أو مبدأ القانونية The Principle Of Legality، فما المقصود بكلمة Legality؟ مشروعية الجريمة – التجريم – ومشروعية العقاب، لكن ماذا يقول هذا المبدأ؟ عنده نص باللاتيني يعرفه دارسو القانون يقول Nullum Crimen, Nulla Poena Sine Lege، أي لا جريمة ولاعقاب قبل تشريع سابق بالعقاب، وإلى اليوم يُقال حتى بالإنجليزية Penal Law، أي القانون الجنائي، فهذا هو المبدأ إذن، وهذا إسمه مبدأ المشروعية، ومبدأ المشروعية يُضرَب حين نُشرِّع – بالذات في الجنايات – بطريق الآحاد، أي حين يروي واحد عن الرسول وقد يكون من المطعون فيهم، كأن يروي عكرمة أو غير عكرمة، فهذا لا ينبغي أن يصلح، ويجب أن يكون الأمر عن طريق القطع، ومن ثم قد يقول لي أحدكم هل هذا يحصل حتى في القوانين الوضعية؟ وأنا أقول له هذا يحصل تماماً، فالقوانين الوضعية تُشرَّع في البرلمانات ولا يُشرِّع اثنان مع بعضهما، بل يتم التشريع في البرلمان وقد يستغرق الأمر ستة أشهر أو سبعة أشهر أو سنة وهم يُناقشِون الموضوع، وأحياناً يُتابِع الناس هذا في التلفزيون Television وإلى آخره، وبعد أن يصدر القانون ويُشرَّع ويُسَن لابد أن يُعلَن عنه في الجريدة الرسمية العامة الخاصة بالحكومة، حتى لا يكون لأي أحد أي عذر، لكي لا يحتج ويقول أنه لم يسمع هذا، ولذا هذا ينبغي أن يكون بطريق القطع، فإذا وُجِدَ أي تشريع لابد من إعلام الناس به، ولذلك بالتأمل البسيط – بأدنى تأمل – نجد أن جرائم الحدود في شرع الإسلام – بفضل الله تبارك وتعالى – ثابتة بطريق القطع، وقد يقول لي أحدكم ما هى؟ هى معروفة طبعاً، فهناك القصاص، وسوف نعتبره جريمة حدية تساهلاً، فهناك فرق بين جرائم الحدود وبين القصاص وهو فرق واحد هو، فهى عقوبات مُقدَّرة والقصاص عقوبة مُقدَّرة لأن إذا قتل أحدهم سوف يُقتَل، لكن لماذا القصاص لا يعتبرونه حداً وإنما عقوبة وحده ويقولون جرائم القصاص والحدود؟ لأن القصاص لحق العبد، ومن هنا يجوز للعبد أن يسقطه ويعفو عنه، قال الله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ۩، أما جرائم الحدود – واختُلِف فقط في القذف وهل هو حق للعبد أم حق لله أم مُختلَط – فهى حق لله، فلا ينفع إذا أسقطتها عنه وتسامحت في حقك أن نُسقِطها نحن لوجود الحق العام، فنفترض أن أحدهم اعتدى – لا قدر الله – على آخر في عِرضه – زنا مثلاً – أو سرق ماله، وقال الآخر له أنا سامحتك، فأننا نقول له أنت سامحته ولكننا لم نُسامِحه، فهناك الحق العام ومن ثم سوف نقطع يده، أنت حر في أن تسامحه، فهذا بينك وبين الله، ولكن نحن لن نُسامِحه، لأن هذه جرائم الحدود،والأصل أن جرائم الحدود لا تسقط بالتوبة، فمن الجيد أن تتوب لكننا لن نُسقِطها عنك، لأن هذه من الحق العام، فإذا تُوبت فهذا بينك وبين الله ومن الجيد أن تتوب ولكنها لا تسقط، وعلى كل حال سنأتي الآن إلى جريمة القصاص في كتاب الله، قال وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ۩، وقال أيضاً وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ ۩، فإذن هذا كان أولاً، ثانياً هناك جريمة الحرابة، في الآية الثالثة والثلاثين من سورة المائدة يقول الله إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، وهذا في كتاب الله، أي أنه قطعي مُتواتِر لأنه في القرآن الكريم، ثالثاً هناك جريمة السرقة، قال الله في سورة المائدة السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۩، ولأنه في كتاب الله فهو قطعي، رابعاً هناك جريمة الزنا، قال الله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ۩، وهذا اعتقادنا فلا تقل لي الرجم، ونحن قلنا قبل ذلك أن الرجم نحله اليوم بنفس هذه الطريقة ونقول ائت لنا بحديث رجم عزيز، وقد رد علينا أناس من العلماء – بارك الله فيهم – وقالوا أنه مُتواتِر، ولكن أنا أتحداهم أن يثبتوا لي أنه عزيز، فنحن نقول فقط اثبتوا لنا أن في الرجم حديث عزيز، فكفى كذباً على الأمة وضحكاً على الناس وإهداراً لكتاب الله عز وجل، فكتاب الله بين أيدينا ومع ذلك نقتل ونرجم الناس وهذا غير صحيح، ومن ثم نحن نتحدَّى ونقول فقط ائت لنا بحديث عزيز في الرجم، وخذوا الكلام هذا مني واذهبوا به إلى العالم، فنحن نُريد هذا العزيز الذي يكون عن اثنين، وعن كل من الاثنين اثنان وهكذا، فهذا غير موجود لأن كلها آحاد، وهذه الآحاد مُعارِضة لكتاب الله، وهذا شيئ عجيب، فهذا الإسلام دخل فيه تحريفات كثيرة مثل غيرنا وأهدرنا كتاب الله، وعلى كل حال الله قال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ۩، وبعد ذلك تأتي جريمة أو حد القذف فتكون خامساً، فكم الله قال فيها؟ قال في نفس السياق من سورة النور ثَمَانِينَ جَلْدَةً ۩، أي يُجلَد ثمانين جلدة، والآن قد يقول لي أحدكم وماذا عن حد الخمر؟ لكن أنا أقول له ومَن قال لك أنه حد؟ أين في كتاب الله أن مَن شرب الخمر يُجلَد؟ ولذلك إلى اليوم وقع الاختلاف في عقوبة الخمران السكران، فهذا الخلاف موجود عند الأمة واختلفوا في هل النبى عزَّر فيه أم حد؟ وإذا كان حد فيه فما هو مقدار الحد؟ اختلفوا كثيراً جداً جداً جداً، والرأي المشهور أنه عزَّر ولم يحد، وأن الذين حدوا في الخمر هم الصحابة وليس الرسول، وهل عندهم الحق أن يحدوا ومن ثم تقول لي أنه حد شرعي؟ لا ليس عندهم الحق طبعاً في نهاية المطاف، فهذا تصرف إمامي، ومن ثم يجوز لأي أحد من بعدهم أن يقول أنا لا أُريد أن أُطبِّق هذا، فأنا أرى أن من الأفضل أن نجلده عشرين جلدة أو نسجنه أو نغرِّمه أو أي شيئ ثانٍ، فهذا تصرف إمامي وهم ليس عندهم حق التشريع، ولذلك في البُخاري ومسلم عن الإمام عليّ – عليه السلام – أنه قال ما كنت مُقيماً حداً على أحد فيهلك فأجد في نفسي إلا ما كان من صاحب الخمر، لأن رسول الله مات ولم يحد لنا فيه شيئاً، فهذا مُصرَّح به إذن، الإمام عليّ – عليه السلام – يُصرِّح بهذا في البُخاي ومسلم، فهو يقول لو جلدت سكراناً ثمانين جلدة ومات فإنني أجد حرجاً شديداً في نفسي، ثم هل تعرفون ماذا قال؟ قال إلا واديته، أي أدفع ديته حتى أخرج من ذنبه لأنه لم يكن حداً، لكن قد يقول لي أحدكم وماذا عن الأئمة الأربعة؟ ماذا قال إمامنا الشافعي؟ اسأل أي فقيه شافعي وقل له ماذا قال الشافعي في الأم عن الخمران؟ قال يُجلَد أربعين جلدة ولم يقل يُجلَد ثمانين جلدة، فالشافعي مذهبه أربعون، ومن ثم هم اختلفوا لأنه ليس حداً.
يُوجَد – سبحان الله العظيم – بين القصاص والحرابة والسرقة والزنا والقذف جامع مُشترَك، وهذا غير موجود في حد الردة أو في حد شارب الخمر، فما هو؟ هذه الحدود الخمسة القرآنية أو الجرائم الخمسة تُشكِّل عدواناً سافراً مُباشِراً على مَن؟ على الناس وعلى حيواتهم وعلى أعراضهم وعلى أمنهم وعلى أموالهم بشكل مُباشِر Direkt، فلا نقول قد يحدث كذا أو قد يتأدي إلى كذا بل هو يحدث بشكل مُباشِر، وهذا الخمران هذا لو شهد عليه اثنان بأنه سكران في بيته واعترف هل يُجلَد؟ هذا يرتكب مُحرَّم مثل سائر المعاصي وفي بيته، قالوا يُجلَد لأن من المُمكِن لو سكر أن يهذي، ولو هذى قد يقذف، ولكن أنا – أعوذ بالله من كلمة أنا – عندي كلام آخر، وأقول يا سيدي لما يثبت عليه أنه قذف يُجلَد، أليس كذلك؟ ما هذا الكلام يا أخي؟ لماذا لا تقولون أن السكران من مُمكِن حين يسكر يفقد صوابه ويقتل فإذن نقتله بالمنطق هذا؟ هذا ضعف في القياس هنا حتى وإن قال به الصحابة، فلا تقل لي أنه إذا سكر قد يقذف فنجلده حد القاذف، أنا غير مُقتنِع بها بصراحة، والإمام عليّ حتى لم يكن مُقتنِعاً به مع أنه هو الذي اقترحه في قول كما يُقال – والله أعلم – وقال في قلبي شيئ منه، لأن كيف بالاحتمالات تجلد الناس؟ فهذا هو الفرق إذن بين هذه الأشياء وبين هذه الأشياء، ولذا حدود الإسلام التي لا يُوجَد اختلاف حولها – بفضل الله تبارك وتعالى – ثابتة بطريق ماذا؟ بطريق القطع، بمعنى هل مبدأ مشروعية العقاب مُتوفِّر فيها ولا غير مُتوفِّر؟ مُتوفِّر ومنصوص عليها بكتاب الله، فهى منصوص على تجريمها بكتاب الله ومنصوص على عقوباتها بكتاب الله، وهذا الذي نُريد أن يتوفَّر في سائر ما يدعونه جرائم الحدود، أي أن تكون ثابتة بطريق القطع ثبوتاً ودلالةً، وبعد ذلك في التنفيذ – في مقام التنفيذ – لابد أيضاً أن يكون في شيئ من القطع أو غلبة الظن عندنا، ولذلك هم أصفقوا جميعاً – بفضل الله – واتفقوا على أن الحدود تُدرأ بماذا؟ تُدرأ بالشُبهات.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق