إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِوَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۩ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۩ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۩ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:
عن عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كانت خُطبتنا السابقة، فما الذي بقيَ من عمر؟ ما الذي بقيَ من عمر وإخوة عمر من الأئمة الهُداة ومن الحكّام العدول الذين هم على هُدىً من ربهم وعلى صراطٍ مُستقيم؟
قد يظنُ بعض الناس أن الذي بقيَ من عمر أمل، أملٌ أن يمنّ الله – تبارك وتعالى – على هذه الأمة هى كما هى بمثل عمر هو كما هو، فإن كانت الرسالة هكذا وصلت ولعلها تصلُ بعض الناس أو كثيرين منهم على هذا النحو فهى الرسالة الخطأ بل هى الرسالة الكارثة، أن نتحدَّث عن عمر وعن أبي بكر وعن عليّ وعن عثمان وعن الراشدين وابن عبد العزيز وغيرهم وغيرهم لكي نستحيي أملاً في أن يمنّ الله – تبارك وتعالى – على هذه الأمة المرحومة بأمثالهم وبأشباههم وبكسورهم وبأعشارهم فهذا فهمٌ كارثي، هذا بعض ما كرث هذه الأمة وهذا بعض ما جعل هذه الأمة تستقيل وتنسحب من الحياة ومن الدور، حيث غدا مُعظَم الناس لا دور له ولا رسالة له لأنه يُفكِّر بطريقة قدرية، فهو ينتظر القدر والغيب أن يكون فيُعوِّض كل شيئ، أما هو فلا دور له ولا مُساهَمة له، وهذه كارثة حقيقية، وإن أردنا أن نُجيب برسالة صحيحة عن سؤال ما الذي يبقى من عمر؟ فإننا سنقول أن الذي بقيَ ويبقى من عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – هو المبادئ والمُثل والقيم التي خدمها عمر وأكَّدها عمر وكرَّثها عمر، هذا ما يبقى فقط، فشخصه لا يبقى وعدله كشخص في نفسه لا يبقى، هذا الأمر انتهى، قال الله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ۩، ولكن هذه المبادئ وتأكيدها وتكريثها وخدمتها وتعزيزها واحترامها ورفع مثابتها في إدراك الأمة وفي ضمير الأمة وفي وجدان الأمة هو ما ينبغي أن يبقى، أما أن نبحث عن راعٍ أو أن نبحث عن عمر وعن عليّ وعن صلاح الدين وعن المُظفَّر محمود في ديار الهند وعن أمثال هؤلاء الهُداة المُبارَكين المبرورين فهذه كارثة لأن الله – تبارك وتعالى – ليس من سُنته ولا من طريقته أن يُصلِح الأمم على هذا النحو، هذا مُستحيل، ولم يُعلِّم التاريخُ هذا الدرس قطُ، ولكن أمةٌ واهمة أو أفرادٌ واهمون يطيبُ لهم أن يُفكِّروا على هذا النحو الواهم الذي لن يزيدنا إلا خبالاً وإلا خيبةً فوق خيباتنا.
في الفكر السياسي الشرقي القديم – الفرعوني والبابلي والعبراني والفارسي أيضاً – كان يُنظَر إلى الحاكم وإلى صاحب السُلطان الأعلى على أنه يُماثِلُ – أستغفر الله العظيم – الله، فالله كان يُلقَّب في هذا الفكر بالراعي، فهو راعٍ يرعى الكون وهذا يرعى أمته وشعبه، ولو تم له أن يرعى الشعوب كلها لتطابق إذن مع الله في ذهنية هؤلاء الوثنيين والعياذ بالله تبارك وتعالى، فمعنى الراعي ومعنى الرعية هذا معنىً وثني – والعياذ بالله تبارك وتعالى – ولذلك لم ترد هذه اللفظة وأي شيئ من مُشتَقاتها في كتاب الله، فأين في كتاب الله الرعية؟ لا يُوجَد رعية، وإنما يُوجَد ناس ويُوجَد أمة، قال الله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ۩ وقال أيضاً يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩ فضلاً عن أنه قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩، فالخطاب تكليفي تكريمي باذخ مجيد، فلا تُوجَد رعية أو قطيع من الأغنام والشياه والمعزة، لا يُوجَد هذا في كتاب الله، ففي كتاب الله لا يُوجَد مُصطلَح الراعي ولكن يُوجَد أولوا الأمر، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه يُوجَد مُصطلَح أولوا الأمر بصيغة الجمع لا بصيغة الإفراد، وهذا مطب كبير وقع فيه الفكر السياسي الإسلامي إلى الآن ويبدو أنه لم ينتبه إليه، أنا لم أجد مَن تنبَّه له إلى الآن وقد تنبَّهت إليه في ومضة حدسية هكذا، فالله لم يستخدم مرةً مُصطلَح ولي الأمر نفياً للاستبداد وامتلاخاً له من جذوره، وليس هناك بعد رسول الله وليُ أمر، لكن ما معنى ولي أمر؟
راعٍ – أي راعياً – من الرُعاة أيضاً يحكم بمزاجه ورأيه وقراره الفرد في هذه الأمة حتى وإن كان مُستقيماً في نفسه وعدلاً وصاحب فضائل ومزايا فهذا لا يهمنا لأنه قد يُشكِّل كارثة حقيقية في ومضة عين، هذا قد ينقلب إلى كارثة على أمته وأكثرهم انقلبوا إلى كوارث وبعضهم لم يكونوا أصلاً ذوي لياقات لكي يكونوا حكّاماً في أممهم وشعوبهم، لم يكن لهم هذه اللياقات ولكن هذا مُمكِن وهذا مُمكِن، ومن هنا يُحدِّثنا التاريخ – واقرأوا الطبري مثلاً – عن أبي جعفر المنصور، وهو أحد سفّاحي هذه الأمة وهو حاكم بالمعنى الميكافيللي الغرضي مُوفَّق تماماً، حيث فاستطاع أن يُثبِّت أقدامه وأن يعكس صورة إلهية لنفسه فقد أُشيع عنه أنه يُمثِّل ظل الله في الأرض، وهذا للأسف تسلَّل إلى الأدبيات الإسلامية السياسية وتقبَّله كثيرون من الفقهاء، وهو أن الحاكم ظل الله، فهذا ظل الله وسيف الله الذي ينتقم به الله مِمَن شاء، فلا تخرج على سيف الله وإلا فسيف الله مُعَد لك، وهذه كارثة ووثنية فكرية وسياسية حقيقية، لكن يُحدِّثنا الطبري وغير الطبري عن هذا الرجل الفاضل في نفسه الذي كان يُحافِظ على الصلوات في أوقاتها وكان يقوم الليل وينشر مُصحَفه كل صباح ويقرأ فيه ما شاء الله – تبارك وتعالى – والذي لم يعرف الهزل والمسخرة إلى حياته سبيلا، فكان رجل الجد والصرامة والعمل والمُثابَرة، وإلا كيف استطاع أن يضع نفسه على كل هذه الإمبراطورية التي صارت تُدعى بالعباسية؟ نسبةً إلى نسل العباس عم النبي، ولكن الرجل كارثة حقيقية لأنه كان ديكتاتوراً وكان طاغيةً من الطُغاة، فكم قتل من الأئمة وكم قتل من العلماء.
الفارس الورّاق أو الفارس بن الورّاق – لعل بعضكم لم يسمع به من قبل – هو أول عقلية سياسية إسلامية، أول مُفكِّر وفيلسوف سياسي مسلم هو الفارس بن الورّاق لكنه ذهب ضحية أبي جعفر المنصور لأنه عارضه بالفكر وانتقد بعض الأشياء وبعض المُمارَسات الخاطئة فمُباشَرةً لم يكن أسرع من أن يصدر الأمر فتُقط رأسه، طُوِّحَ بالرجل مُباشَرةً، فلا يعنينا أنه مُفكِّر وفيلسوف والأمة تحتاج إلى فكره، موجود هنا الواحد الذي يحكم بأمره، المُستبِد العادل أو المُستبِد المُستنير لأنه فاضل في نفسه، لكن لا يعنينا أن يكون فاضلاً في نفسه كثيراً، جيد أن يكون فاضلاً في نفسه ولكن هذا لا يعنينا كثيراً، فحين يكون فاضلاً في نفسه هذا يعنيه أمام الله تبارك وتعالى، لكن يعنينا أن يكون فاضلاً معنا لا كشخص أبداً – وأيضاً هذه كارثة – وإنما كنظام هو يُشكِّل فيه حجرة، موجودة في القمة نعم ولكن حجرة في بناء كبير إسمه نظام سياسي صالح ونظام سياسي فاضل، أما أن نُعطي أزمتنا ومقاداتنا طواعيةً وسماحاً لمُستبِدٍ عادل كونه فاضلاً في نفسه فهذه كارثة كُرِثنا بها ولا نزال نُكرَث بالتفكير على هذا النحو دون أن نستفيق كما استفاقت الشعوب الواعية والمُتقدِّمة التي استطاعت أن تسترد – هذا استرداد لأن هذه حقوق مسلوبة مسروقة – حقوقها من بين فكي أسود هؤلاء الطواغيت.
الماجنا كارتا Magna Carta صدرت في بريطانيا من قبل الملك جون John على الرغم منه، فالشعب أخذها والثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية وهكذا بالقوة من الاستعمار ومن الطواغيت ثم راكموا المُمارَسات وتعلَّموا من الأخطاء وأصبحوا راقين جداً ومُتقدِّمين جداً، فلا يُمكِن أن تُغتال حقوقهم بهذا الهون والبساطة وعن سماح ورضا ثم يأتي عالم الدين والمُفكِّر الديني ليُبرِّر للكارثة ويحرق البخاخير.
ملك فرنسا لويس السادس عشر Louis XVI في القرن الثامن عشر كان فاضلاً جداً كما يُحدِّثنا فيشر Fisher في تاريخ أوروبا الحديث، كان فاضلاً جداً وورعاً وتقياً وحسن الذوق ولطيف المعشر لأنه كان أديباً، لكن الرجل لم تكن له لياقات الحكم لكي يحكم صالحاً، فكان ضعيفاً ولم يهبه القدر ملكة البت السريع في الأمور، يقول فيشر Fisher “فترك الحبل على الغارب وترك نفسه لتيار الأحداث تُصرِّفه كيف شاء فكانت نهايته المأساوية”، علماً بأن الشعب كان يعيش في وضع مأساوي أيام لويس السادس عشر Louis XVI مع كونه فاضلاً في نفسه ومُؤدَّباً وتقياً ورعاً، لكن هذا لا يعنينا، فليست هذه المسألة!
وعمر – رضيَ الله عنه وأرضاه – نعم – والسؤال عن عمر والجواب عن عمر – كان فاضلاً في نفسه وكان ورعاً وتقياً وزاهداً وإلى آخره ولكن عبقريته في الحكم والسياسة والإدارة تجلّت بشدة، طبعاً لم يوف على الغاية ولا أحد يوفي على الغاية، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، لكن لماذا إذن؟ لأن كل نشاط بشري وكل فاعلية بشرية في أي حقل من الحقول لا يُمكِن أن تنتهي نهاية مُطلَقة، فلابد أن تبقى دائماً قابلةً للمُراكَمة الإيجابية باستمرار، يقول أحد فلاسفة الحرية في العصر الحديث “الشعوب التي تظن أنها استوفت حقها من الحرية هى شعوب جاهزة للاستعباد”، فاستحقاق الحرية هو أن تُطالِب بالمزيد منها باستمرار، بالمزيد من غير نهاية دائماً، لأن دائماً هناك تسللات لاغتيال حقوق الأفراد والجماعات بإسم أنواع مُختلِفة من السُلطات المعرفية والسياسية وغير المعرفية والسياسية، فعلى الشعوب دائماً أن تُواصِل نضالها وتُواصِل المُراكَمات، ولن نقول حتى تُوفي على الغاية لأنها لن تُوفي على الغاية والغاية مُستمِرة ما دامت السماوات والأرض وما دامت هذه المسيرة البشرية في اضطرداها وفي تكاملها المُستمِر، فعمر حاول ونجح إلى حد يُذكَر فيُشكَر وإلى حد مقدور حقيقةً ومُعجِب في زمانه وفي سياقه وفي وقته، فحاول أن يُفهِمهم أنني فردٌ كأي فرد آخر من الرعية لكن حملي أثقل و مُصيبتي بكم أعظم من مُصيبتكم بأنفسكم أو حتى بي، فهكذا كان يفهم، لذلك لم يستبد بالرأي عمر وهو ما يجب أن ننتبه إليه، فعمر لم يُفت فتوى ولم يقطع بقرار إلا عن شورى مجلسه – إلا عن شورى مجلس شوراه – لأن هذه كانت عادته في صغير الأمر وكبيره دائماً، وهذا أمر معروف، فكان لعمر مجلس شورى في زمانه يضم عليّاً وعثمان وابن عوف وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب ومُعاذ بن جبل ويُشارِك فيه أحياناً عبد الله بن عباس الشاب الصغير بوعيه لأن كان عنده وعي وعنده نظر، فيُشارِك والكُبراء مُتوافِرون من المُهاجِرين والأنصار.
أبو يوسف – رحمة الله تعالى عليه – الكُليني تلميذ أبي حنيفة في كتابه العظيم الخراج يُحدِّثنا كيف كان عمر إذا أراد أن يُعيِّن مأموراً يجبي الجبايات – كما نقول الضرائب اليوم – والخراج والعشور والزكاوات للمُصدِّقين كان يستشير أهل البلد، وهذا شيئ غريب جداً في عصره، فكان يبعث إلى أهل البلد المعنيين ويقول لهم نُريد أن نُعيِّن عليكم واحداً فاختاروا أنتم مَن ترضون، فأنتم تختارونه حتى لا يظلمكم وحتى لا يشتفي منكم وبكم لثأر قديم أو عصبية – فالقبليات كانت معروفة عند العرب – عرقية أو قبلية، فإذا اختاروه – كما يقول أبو يوسف – سيَّروه إلى عمر فيُقلِّده، وهذا شيئ غريب في زمان عمر!
قرأت قبل فترة يسيرة للمُفكِّر السوري الكبير برهان غليون كلاماً يتحدَّث فيه عن مُنجَزات الحداثة وعن المسيرة المُتلكئة للحداثة أو التحديث العربي، ثم استتلي قائلاً “والفرقُ بين الدولة الإسلامية في غابر عصورها وبين دولة القانون – الدولة الحداثية الحديثة – أن دولة القانون ليست تكتفي بتحكيم القوانين – أي أن هناك القانون الذي يحكم على الجميع – بل تخضع هى ذاتها للقانون من أعلى رأس إلى أدنى رأس”، فحتى الدولة نفسها تخضع، القاضي يخضع والسُلطان يخضع والرئيس والوزير يخضع ورئيس الوزراء يخضع، الكل يخضع للقانون، فلا أحد فوق القانون، والقانون يُمثِّل كما يقول فلاسفة القانون والديمقراطية في هذا العصر – وهذا حق -إرادة الشعب المشروعة، فهو يُمثِّل الإرادة أو ما سماه إيمانويل كانط Immanuel Kant بالتحديد الذاتي Self-determination، فالشعب هو الذي يُحدِّد نفسه وما يُراد له، فيقول أنا الذي أُحكَم وأنا الذي أُعاني، فإذن من حقي كشعب أن أُحدِّد القانون وشكل الحكومة أيضاً التي تُسيِّرني وتُسيِّر أموري، فأنا الشعب الذي يُحدِّد هذا وليس المُستبِد المُستنير أو حفنة تغتال وتسرق حريات أو حقوق الشعب وصايةً منها على الشعب بدعوى أنها أُوتيَت من الحكمة ومن نفاذ البصيرة ما يجعلها مُخوَّلة باتخاذ مثل هذه الخطوات اللصوصية، كلا فالشعب هو الذي يقوم بهذا، ولكن التفاصيل كثيرة طبعاً، فهنا تبرز لنا ديمقراطيات كثيرة وأفكار كثيرة ولكن كمبدأ هذا هو المبدأ صحيح، ولذلك الله يقول وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۩، فنحن الذين نختارهم ونحن الذين نختار نظام حكمنا ومَن يحكمنا، إذن هذه هى، الشعب له دور كبير جداً.
ثم أنني قلت بعد أن قرأت كلام غليون هذا أمر عجيب جداً، يبدو أن اطلاع البروفيسور Professor غليون منزور جداً جداً جداً على تراثه العربي والإسلامي، ألم يقرأ سيرة الراشدين؟ ألم يقرأ سيرة رسول رب العالمين الذي كان يقص من نفسه؟ الرسول نفسه وهو مُشرِّع مجازاً وعليه نزل التشريع كان يقول أنا أيضاً أخضع وأبخع لهذا الشرع مثلي مثلكم، فأنا بشرٌ مثلكم ولا أتميَّز إلا باختصاص إلهي، فمن الناحية التشريعية أخضع كما تخضعون، وهذا أمر عجيب جداً، لكن لم يتنبَّه البروفيسور Professor غليون وهو مُفكِّر واسع الاطلاع حقيقةً ودقيق في أكثر نظراته إلى هذه الحقيقة، فلم يتنبَّه إلى عمر وكيف كان عمر يقص من نفسه ومن ولاته، فعمر كان يُحرِّض على هذا، فعلينا أن ننتبه إلى أنه لا يُعلي شأن هذه القيم والمُثل فقط بل كان يُحرِّض على تكريسها في النفوس وفي المدارك وفي الوجدان بل ويغضب جداً إذا شعر أن الناس يستهينون بها أو لا يلونها الأهمية التي تليق بها، لأنها حياة الشعوب ولأنها الرئتان اللتان تتنفَّس بهما ومن خلالهما الشعوب والأمم، فهذه القيم والمُثل مُهِمة، مثل الحريات والكرامة والعدالة والمُساواة وقيمة الإنسان في أن يُعترَف به كإنسان، لذا عمر كان حريصاً جداً على هذا، وهناك قصة طويلة لا أُحِب أن أذكرها لأنها طويلة تدل على هذا، ولكن باختصار سأقول لكم أن كان هناك أحد الرجال تعرض للظلم، حيث ظلمه أميره أبو موسى الأشعري بغير حق حقيقةً، ولكن قبل أن نُكمِل القصة لابد هنا أن نفتح مُزدوَجين لنقول: هذا أبو موسى الأشعري وهو صحابي جليل وحافظ لكتاب الله، وقد أُوتيَ مزماراً من مزامير آل داود واشتغل بالقضاء لعمر وهو رجل عدل في ذاته ولكنه ليس معصوماً وليس نبياً، فيُمكِن أن يُخطئ وأن يستغل السُلطة الموكولة إليه استغلالاً سيئاً – وقد فعل – لمرة أو لمرتين أو لعشر مرات، وكلنا ذلكم الرجل، فأين النظام الصالح؟ وأين عمومية القانون التي تطال أكبر رأس؟ لا يُوجَد شيئ إسمه قائد سواء كان قائداً عسكرياً أو سياسياً، فالكل يخضع للقانون، ولابد أن يرى الناس هذا جيداً وليس أن يُنظَّر له في الدساتير وفي الصحائف فقط، بل لابد أن يروه على الأرض مُطبَّقاً، ولذلك حين جلد أبو موسى هذا الرجل ظلماً وحلق شعر رأسه أتى هذا الرجل من فوره إلى عمر، فعمر علَّمهم هذا ومحمد علَّمهم هذا – صلى الله عليه وسلم – والقرآن علَّمهم هذا، فترك كل شيئ وأتى إلى عمر وضرب صدر عمر بشعر رأسه المحلوق، وهذا شيئ غريب، فكيف تفعل هذا مع إمبراطور؟ لكن هذا ليس إمبراطوراً، هذا خليفة عادل، وعلى كل حال ضربه هكذا في صدره – كما يقول جرير بن عبد الله – وقال له والله لولا النار يا عمر …ولم يُكمِّلها تأدّباً، فكان ربما يُريد أن يستتلي أكثر من هذا، لكنه قال والله لولا النار يا عمر فقط، ففزع الصحابة، ما هذا؟ كيف يُواجِه عمر بهذه الصيغة الفظة الغليظة؟ فقال عمر صدقت، والله لولا النار، حكايتك، أي هات لي حكايتك أو قصتك، فقال له أبو موسى هو قائدي العسكري وأراد أن يُنفِّلني بعض سهمي فأبيت إلا سهمي كله، فجلدني عشرين جلدة وحلق شعر رأسي، فحلفت بالله قسماً مُعظَّماً ألا أغتسل وألا أدهن – أي وألا أدهن رأساً – حتى آتيك.
الرجل يُريد أن ينتصر لأن عمر علَّمهم هذا، وكان يصيح على المنابر – يا ليت لنا مثل منبر عمر المُتواضِع الذي منه اهتزت عروش الدنيا – ويُعلِّم الناس قائلاً أُحِب الرجل إذا سيم الخسف والذل أن يقول بملء فيه لا، فهكذا يُعلِّمهم ويقول لهم قولوا لا وارفضوا الظلم أياً كان الذي أوقعه وأنزله بكم حتى ولو كان عمر، فتعلَّموا هذا من عمر، ولذا جاء هذا مُباشَرةً وضرب عمر بشعر رأسه المحلوق وقال لا، كيف أُظلَم هذا الظلم؟ وعمر لم يغضب لنفسه لأنه ضُرِب بالشعر أمام الناس، بالعكس هذا العظيم سُرَّ – والله العظيم إنه لعظيم – وقال والله لو أن لكل الناس مثل صرامة هذا الرجل لكان أحب إلىّ من جميع ما أفاء الله علينا، أي أن المسألة ليست مسألة إمبراطورية وفتوح بلدان ونظم وشارات وأعلام خفّاقة، المسألة مسألة شعبٌ حر وإنسانٌ كريم يرفض الظلم والهضم، وهكذا قال فهذا أحسن من كل أنعام الدنيا، فعلينا أن ننتبه إلى أن عمر لم يقل أبداً – مثلاً – له أنت قليل الأدب وأنا من العشرة المُبشَّرين وأنا خليفتك وأنا صاحب الرسول، ولكنه قال أن هذا يُعَد شيئاً عظيم وأن هذا من حق الرجل، فهذا الرجل مُمتاز لذا تعلَّموا أن تكونوا مثله، وهذا شيئ عجيب، أين يحدث هذا؟ اليوم تجد صعلوكاً منا – وما أكثر الصعاليك في الناس – من الصعاليك إذا ديسَ على طرفه قليلاً قال للعدل أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ويظلم الناس كلهم ويظلم مَن داس على طرفه ولا يرعى إِلًّا ولا ذمة لأنه ديسَ على طرفه، فمَن أنت يا أخي؟ حتى لو ديسَ على طرفي ونيلَ من كرامتي سوف يبقى العدل هو العدل، فينبغي أن آخذ بالعدل حتى مع أعدى أعدائي، هذا هو الدين الحقيقي، وهو – والله الذي لا إله إلا هو – إن لم نفهمه هكذا فوالله ما فهمناه ولا أدركناه ولا تدينا ولا عرفنا الدين، فهذا هو الدين!
ثم كتب إلى أبي موسى “من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس – أبو موسى الأشعري – أما بعد – حمد الله وكذا – فإن أتاك – أو فإذا أتاك – كتابي هذا عزمت عليك بالله إن كنت فعلت بالرجل ما فعلت في ملأٍ من الناس إلا مكَّنته من نفسك ليفعل بك في ملأٍ من الناس مثلما فعلت به – أي يحلق رأسك ويجلدك عشرين سوطاً، الله أكبر، أين هذا يا أخي؟ واقرأوا التاريخ لتفهموا ماذا فعل مُعاوية بهذه الخُطة القرآنية النبوية الراشدية؟ لقد مسحها مسحاً وقال لا ورفض القصاص من الولاة، وهذا ثابت ومُتواتِر عن مُعاوية، فكل المُؤرِّخين والنصوص ذكرت هذا، وأقول هذا فقط لمَن يُدافِعون عن مُعاوية كأن مُعاوية فعلاً صحابيٌ جليل مُمتاز مثَّل الإسلام، والصحيح هو أن مُعاوية فرَّغ الإسلام من مضمونه وذبح الإسلام بعد أن فرَّغه، إذا أردنا أن نفهم وأن يكون لنا وعي يجب أن نُدرِك هذا، وإلا ينتهي كل شيئ، فالزمان لا يأسى علينا والحق لا يأسى علينا حتى نأسى على أنفسنا بحق-، وإن كنت فعلت ما فعلت به في خلاء – أي في خلوة بينك وبينه – إلا مكَّنته من نفسك ففعل بك مثلما فعلت به في خلاء من الناس، والسلام”.
جُملتان قصيرتان فقط، ثم وصل كتاب عمر – وعمر هو عمر – فجلس أبو موسى في مشهدٍ من الناس لأنه فعل به هذا في الجيش أمام الناس وقال أعطوه السوط، أي أنه سوف يبدأ بالجلد، فمن المُمكِن أن يُجلَد الأمير قائد الجيش، فالصحابي الجليل يُجلَد من رجل حتى إسمه لا نعرفه ولا نعرف إسمه، وهو من عامة المسلمين ولعله لم يكن صحابياً بل لعله كان من التابعين أو من عُرض الناس، المُهِم هو أن بعض الناس توسَّل إليه وقالوا يا عبد الله ألا تعفو عن أميرك؟ أي أن هذا الرجل هو أميرك فلا ينبغي أن يُضرَب هكذا، فقال لا والله ما كنت تاركها لأحدٍ من الناس، أي أنني لن أترك حقي من أجل عيونكم وسأنتصر لكرامتي، فيا ليت برهان غليون يسمع خُطبتي هذه لكي يفهم دولة القانون التي تُطبَّق على الكل من أعلى رأس إلى أدنى رأس، فلا يُطبَّق القانون على الناس دون الحكومة ورجالات الحكومة على الأقل، وهذا هو الإسلام الصحيح، لكن صحيح أن إسلام مُعاوية كان شيئاً مُختلِفاً وبالتالي يصدق عليه كلام غليون تماماً، فالقانون كان لا يُطبَّق لأن مُعاوية قال إني لا أقص من ولاتي، أي أن ولاتي إذا قتلوا أو قطعوا أو عملوا أي مُخالَفة لا أقص ولا أُقيد منهم، ولكن سوف نُرضي الناس ونُعطيهم مالاً، أما القصاص فلا.
أعوذ بالله من هذه الخُطة النُكر السوءة الشؤمة التي فرَّغت الإسلام – كما قلت وأُعيد – من مضمونه وروحه وجوهره، ووصفها شهيد الإسلام سيد قطب بأنها طعنة نجلاء في قلب الإسلام ومبادئ الإسلام وتشريع الإسلام وقال “الذي فعله بنو أُمية ثم بنو العباس من بعدهم وقد ساروا في آثارهم ولم يكونوا خيراً منهم بل كانوا مثلهم أو أسوأ يُعَد ذبحاً للإسلام”.
فهذا الرجل المظلوم قال لا والله ما كنت تاركها لأحدٍ من الناس، أي أنني سوف أجلده تحت أي ظرف، فتركه الناس، وأبو موسى هو القائد العسكري لكن هذه هى الشريعة وهذا هو القانون، فأخذ السوط ورفعه ليهوي به على رأسه أو على ظهره ثم وضعه ناظراً إلى السماء وقال اللهم إني أُشهِدك أني تركته لك، لا للناس!
فهو لا يزال أميري بردو ويُوجَد احترام له ولا أُريد أن يتجارأ الناس على أمرائهم وكُبرائهم، ولكن بعد أن مُكِّنت من حقي أتركه لله الآن أتركه، فلا أفعل هذا مُجامَلةً للناس.
الله أكبر، وكلكم تعرفون حتى حين كنا صغاراً قصة “اجلد ابن الأكرمين” من أجل قبطي مسيحي مصري يُهينه مَن؟ ابن عمرو بن العاص الفاتح العظيم، فهو فاتح مصر ورئيس مصر وهو الرجل الداهية الذي كان من دُهاة السياسة والفتوح، لكن فقط سأذكر جُملة واحدة هنا، وهى أين سر القصة؟
هناك شيئ لفتني وينبغي أن يلفت كل مُؤمِن حر، حيث قال أنس فأخذ وجعل يضربه – القبطي يضرب ابن عمرو بن العاص في محضر من الناس وفيه عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب – ونحن نشتهي أن يضربه.
كأنه يقول له كسِّر رأسه، فهذا الذي لفتني، لأن هذه أمة حرة تُحِب الحرية وتُحِب الكرامة، والمظلوم مَن؟ ليس صحابياً وليس مسلماً تقياً، المظلوم هو مصري قبطي ولكنه إنسان، هذا مُواطِن وليس رعية، مُواطِن وليس سوقة، مُواطِن وليس معزة أو شاة، مُواطِن وله كل حقوق المُواطِن وكل حقوق المسلمين، فكما قال النبي لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهذا ليس كلاماً وإنما هو تطبيق ومُمارَسة حقيقية!
إذن أنس يقول فجعل يضربه ونحن نشتهي أن يضربه، أي أننا فرحنا بضربه، يُريد أن يقول اضرب ابن هذا الصحابي الذي فتح مصر وكسِّر له رأسه حتى يتعلَّم أن لا أحد فوق القانون.
ثم أن عمر أرسلها كلمة دوَّت في مسامع الزمان ولا تزال ترن إلى اليوم وذلك حين قال له ألا يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!
فأنا مُعجَب بعمر – أُقسِم بالله – من كل قلبي، لكن هل تعرفون لماذا؟ لأن حتى على خلفية دراساتي السيكولوجية أفهم النفسيات بقدر ما أتاحه الله لي من فهم وأعرف أن هذا الرجل بارئ من العُقد – أُقسِم بالله – وبارئ من ازدواجية الشخصية، فأنا أُشهِد الله أنه ليس كذلك وكل سيرته تقول ذلك، فالذين يقولون “عمر له وجه وله باطن” لم يقرأوا – والله العظيم – النفس الإنسانية ولم يفهمونها، ومع ذلك يتهمون عمر بأن هو الذي اغتال سعد بن عُبادة، وهم – والله – لا يفقهون، فوالله العظيم عمر لا يفعلها، عمر رجلٌ جميع، باطنه كظاهره وظاهره كباطنه، فهذا الرجل كان رجلاً عجيباً في الصدق، ولذلك ينبغي أن تفهمه إذا فهمت هذا المفتاح في شخصيته، علماً بأن هناك بعض التساؤلات الحيرى لكنني لم آت اليوم لكي أتكلَّم فيها، وربما أُجيب عنها – إن شاء الله – في مرات أُخرى، لكن أنا أقول حتى في محافلي وفي جلساتي الخاصة مع إخواني أنني رجل أُحِب الحق بقدر ما أتاحه الله – عز وجل – لي، ويعلم الله ذلك، فلا أُجامِل أحداً ولا فئةً ولا مذهباً ولا أُجامِل نفسي ولا أهلي، وأعرف أن لدى إخواتنا الشيعة بعض الشُبهات وأعلم أنها شُبهات قوية ومُحيِّرة بصدد سلوك عمر إزاء عليّ بن أبي طالب وخاصة في موضوع الاستخلاف ولكن لدي جوابي حسب فهمي وحسب تحليلي عنها، وإلا حتى القضية مُحيِّرة في حد ذاتها، وإن شاء الله ربما نعود إلى هذا في مرات أُخرى حتى على الأقل نُقيم الحُجة على أنفسنا وعلى الآخرين أو نتحاجج ونتساجل في هذه الموضوعات الحرجة جداً، لأنها حرجة حقيقةً وفتنة ألقاها الله – لا إله إلا الله – بين الناس، ولكن يحتاج المرء إلى تصفية القلب وتصفية الذهن حتى يفهم الحقائق المُلتبِسة!
إذن يقول أنس فضربه ونحن نشتهي أن يضربه حتى اشتفى فاشتهينا أن ينزع عنه لكثرة ما ضربه، أي أننا رحمنا ابن عمرو بن العاص الآن لأنه ضُرِبَ ضرباً مُبرِّحاً، لكن في البداية اشتهينا أن يضربه وأن يزيد حتى اشتهينا أن ينزع عنه لكثرة ما ضربه، كأنهم كانوا يقولون له في أول الأمر كسَّر له رأسه!
فهذا هو إذن، هذا ما يبقى من عمر وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فالذي يبقى من عمر ليس شخص عمر ولا طول عمر ولا عرض عمر ولا زُهد عمر في ذاته وقوته على نفسه وأهله ولكن الذي يبقى هو المبدأ.
أنا قرأت للفيلسوف الألماني هيجل Hegel تحليلاً عميقاً جداً ويُوشِك أن يكون صحيحاً في جُملته للجدل الأكبر في الهيئة الاجتماعية، وهو ما سماه بجدل السيد والعبد، حيث قال هيجل Hegel وهو فيلسوف كبير بلا شك أن المُحرِّك الأكبر للتاريخ وللجماعات البشرية وللأفراد ليس طلب النصر المادي وليس طلب القوت والغذاء وليس طلب التوسّع، نعم هذه موجودات ومُحرِّكات ولكنها ليست المُحرِّك الأكبر، فالمُحرِّك الأكبر على مُستوى الجماعات والأفراد هو طلب الإقرار بالقيمة، أي أن تعترف بي وبكرامتي وبإنسانيتي وأن تحترمني، وهذا هو ما يُعرَف بطلب الاحترام والكرامة والاعتراف – Recognition – بها، فهذا هو المُحرِّك الأكبر، وهو الذي بسببه تنشب دائماً الصراعات بين الأفراد وبين الجماعات وبين الشعوب والأمم، فإذا ما اتفق أن أحد المُتصارِعين أبدى استخزاءً وخنوعاً تنشأ الجدلية المعروفة في التاريخ بجدلية السيد والعبد، فالذي يخضع هو العبد والذي يُخضَع له ويُبخَع له هو السيد، ولكن هيجل Hegel قال أن هذه الجدلية – Dialectic – لا تنتهي، فهى حلقة لعينة لذا تبقى تُفرِز دائماً أضدادها وفق الجدل الهيجلي، فلا السيد تم الاعتراف به تماماً ولا العبد طبعاً حصل نوع من الاعتراف به لأنه عبد، فيُستعبَد هذا بطريقة أو بأُخرى، ولذا هناك شعوب تُستعبَد، لكن علينا أن ننتبه إلى أن العبد مفهوم لماذا لم يتم به الاعتراف، وأما السيد فيختلف أمره، ومن هنا قال هيجل Hegel أن السبب في هذا هو أنه يرى نفسه مُتورِّطاً في الحاجة إلى العبد، فلا يستطيع أن يقضي شؤونه ولا أن يُنجِز أموره إلا اعتماداً على على العبد، فيبقى مُعتمِداً إذن ومُتوقِّفاً هو وكل حيثياته على هذا العبد وعلى طاعته وعلى استمراره في الطاعة والخدمة، وأحياناً يحصل العكس بأن يتمرَّد العبيد، علماً بأن التاريخ حدَّثنا عن سبارتاكوس Spartacus وعن ثورة العبيد في روما، وهى ثورة فظيعة جداً، وبالتالي من المُمكِن أن يتمرَّد هؤلاء، فتبقى حيثية السيد في خطر وتكون قلقة، وهذه هى باختصار جدلية السيد والعبد عند هيجل Hegel، ثم قال لم تنته هذه الجدلية إلا مع الثورة الفرنسية، وطبعاً هو انتقد الثورة الفرنسية في جوانب أُخرى ولكنه يقول انتهت، فكيف هذا؟ ذلك حين أقرت الثورة الفرنسية هذا على الأقل عبر رفع شعارات أربعة في البداية تتعلَّق بالإخاء والمُساواة والعدالة والحرية، وهكذا صار لزاماً على كل مُواطِن أن يقبل الاعتراف بكل آخر على أنه مُواطِن مثله تماماً، فيُحترَم كما أُحترَم، وله من الحقوق مثل ما لي من الحقوق على جهة السواء والعدل، فانتهت جدلية السيد والعبد، وتم الاعتراف على الأقل بهذا.
كهذا الرجل الذي تركها لله وترك جلد أميره لله لما اعتُرِف له بحقه، فمن حقي أن أضربه عدلاً كما ضربني ظلماً، فلما تم الاعتراف ولم يبق إلا التنجيز قال أنا أتركها لله، فهذا هو الإنسان، ولذلك الإنسان يشعر بالهضيمة وبالظلم والذل حين يُظلَم ولو أقل القليل من حقه، لكن لو أُعطيَ الحرية أن يُعطي سماحاً لأعطى ألف ضعفه عن سماح ولكن ليس عن ظلم واضطهاد، لأن هذا ما لا يقبله إنسان، وهذه هى الحرية التي كرَّم الله بها ابن آدم وهذه هى الأمانة، فالأمانة – إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ ۩ – هى أمانة الحرية، وأنتم تعرفون آية الأمانة، فالحرية هى هذه الأمانة، ولذا كم يُعجِبني في هذا السياق كلمة – تأمَّلوا فيها واحفظوها – للشاعر الهندي العظيم روبندرونات طاغور Rabindranath Tagore حيث أنه قال أنا أعبد الله وأؤمِن به لأنه أعطاني الحرية أن أكفر به، فما أعظم هذه العبارةن هذا هو فيلسوف الإيمان الذي يفهم تماماً الأمور في نصابها الصحيح ويضعها في نصابها الصحيح، لأنه لا قيمة ولا معنى أن تعبد الله وأن تُؤمِن به دون حرية، فتُرغَم على عبادته وإلا طبعاً تأخذك لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر وتضربك أسواطاً وتضعك في السجن وتُغرِّمك دُريهمات، فهذا كله يُعَد كلاماً فارغاً، ما هذه العبادة؟ الله لا يُريد هذه العبادة أصلاً، والله لم يطلبها يوماً، فما هذه العبادة الفارغة؟ هل هناك عبادة بالقوة؟ بالعكس طبعاً، لذا طاغور Tagore يقول أنا أعرف أن الله الحق – وهو الحق لا إله إلا هو – لأنه أعطاني حتى فرصة أن أكفر به ولم يُعاجِلني بالعقوبة، فجعل عقابي الصحيح وجزائي الأخير في الآخرة وليس في الدنيا، ففي الدنيا لم يمنعني رزقي حتى وأنا أكفر به، ولذلك أنا عرفت أن هذا الرب حق ومن هنا أنا أُؤمِن به وأعبده، وهذا شيئ عظيم جداً جداً جداً، فإذن أنا أعبد الله وأؤمِن به لأنه وهبني حرية أن أكفر به.
الله أكبر، هذا هو المُؤمِن الذي يعرف معنى الإيمان، فهو ليس مثل هذه الشعوب المغلوبة على أمرها والتي كل شيئ أُخِذَ منها بالاستلاب وبالسلب، ومع ذلك تُفهَم وتُوهَم أن لها حقوقاً تتصرَّف بها، فأي حقوق هذه؟ لم يبق شيئ، ومن هنا علينا أن ننتبه إلى أنك حين تُسلِبني حريتي فأنت لا تُبقي لي شيئ لكي أُعطيه ولا لكي أُفاخِر به أو أُجامِل به، فأنا فقدت كل شيئ.
إذن هذا الذي يبقى من عمر وأشباه عمر وإخوة عمر، فمثل هذه المبادئ هى التي تبقى، ولكن نعود لكي نقول الآن علينا أن ننتبه، فأن نُراهِن مُراهَنة قدرية على أن تنصلح الأمور وتستقيم الأوضاع ويكون رهاننا على أشخاص – أن ننتظر أشخاص يأتون – فهذه الطريقة حقيقةً كارثية في تفكيرنا ومع ذلك تزال سارية، وأعتقد أن كثيرين مِمَن يتحدَّثون عن عمر وعن غير عمر يُريدون أن يُفهِموا الناس هذا، ومن المُؤكَّد أن الناس تفهم هذا بطريقة خاطئة طبعاً، فيقول بعضهم نسأل الله – عز وجل – أن يمنّ علينا بمثل عمر، لأنهم يُراهِنون على شخص، لكن كم مثل عمر في التاريخ الإسلامي؟ هل كان كان عدد الذين هم مثل عمر أربعة أو خمسة مثلاً؟ إذن هم أربعة أو خمسة على الأكثر وانتهى كل شيئ، لكن كم مثل مُعاوية ومثل المنصور ومثل الطواغيت في الأمة الإسلامية؟ بالمئات، فمُعظَم حكّامنا طواغيت ومُعظَمهم ظلمة وفراعنة، ومن أواخرهم السادات رحمه الله وغفر له، حيث يقول أحمد بهاء الدين في مُذكِّراته دخلت عليه – على محمد أنور السادات – مرةً لكي أُناقِشه وأُباحِثه في موضوع تعديل الدستور وما هو إلا أن فجأني قائلاً “انظر يا أحمد، أنا لا أُريد ولا أحتاج دستوراً لكي أحكم الشعب المصري، من المُمكِن أن يحتاج غيري من الذين سوف يأتون بعدي دستوراً لكي يحكموهم ولكن أنا لا أحتاج إلى هذا، أنا وعبد الناصر آخر الفراعنة” وانتهى النقاش، ومن ثم علينا أن ننتبه لأن هذا ما سجَّله الأديب الكبير والمُفكِّر الشهير أحمد بهاء الدين رحمة الله عليه، والسادات – رحمة الله عليه – في بداية عهده بالسُلطة كان في نهاية كل أسبوع – في العطلة الأسبوعية – يذهب إلى قريته ويلبس الدشداشة أو الجلباب الصعيدي بكل تواضع لأنه شخص أصيل – هذه الأصالة العربية المصرية الصعيدية – ولكنه في أواخر أيامه – وأعلن عن هذا لبعض المُقرَّبين – فكَّر – ولكن عاجلته منيته رحمة الله عليه – أن يلبس الزي الفرعوني – أي أن يرتدي مثل الفراعنة – ويركب عربة فرعونية قيذهب بها إلى الأهرامات وأبو الهول فرعوناً يتهادى في زي الفراعنة كالطاووس.
فهذا هو الحكم الفردي وهذه هى لعنة الحكم الأوتوقراطي ولعنة حكم الفرد، ففكرة المُستبِد العادل للأسف الشديد التي أراد الإمام والمُصلِح الكبر محمد عبده أن يُسوِّق لها لعنة، ولذلك لا نتبع الأشخاص أياً كانوا حتى لو كانوا صحابة على أسمائهم، فلا يُوجَد إنسان معصوم إلا الكملة، لا يُوجَد معصوم إلا المعصوم، فالكل من المُمكِن أن يُخطئ، ونحن رأينا أبا موسى يظلم رجلاً ظلماً سافراً، فهذا يحدث إذن، وهذا شيئ طبيعي أن يحدث لأننا لسنا معصومين، فيكف الحال مع السادات وعبد الناصر وفلان وعلان؟ طبعاً طبيعي جداً أن يُخطئوا، والخطأ ليس منهم هم وليس في شخصياتهم بمقدار ما هو خطأ الأمة وخطأ المُفكِّرين وخطأ العامة – هكذا بالمُطلَق – التي كان ينبغي عليها أن تتخلّى عن هذه الفكرة الكارثية المصائبية، وهى فكرة الحاكم الصالح، فهى تقول نحن ننتظر الحاكم الصالح لعل الله يُصلِحه لأن الله إن أصلَحه أصلَح به الأمة، وهذا غير صحيح، هذه خُرافة وقد انتهت، ومن هنا عليكم أن تنتبهوا إلى أنكم سوف تجدون عشرات النقول والاقتباسات في تراثنا الأدبي الديني الحديثي والأثري والسياسي يقول فيها أحدهم – مثلاً – لو كان لي دعوة لدعوت بها للسُلطان – الله يأخذ السُلطان ويُريِّحنا منه – لأنه إذا انصلح ننصلح، وهذا غير صحيح، فماذا عن دورنا نحن؟ هل لا يُوجَد لنا أي دور؟
علينا أن ننتبه إلى أن هذه العقلية تنتمي إلى القرون الوسطى، فهذا ليس عيباً لدى المسلمين لكن هكذا كانت كل السياقات، وهكذا كانت بُنى المُجتمَع السياسية والاقتصادية والثقافية التي كانت تسمح بمثل هذا النظام ومثل هذه الطريقة في التفكير، فهذه هى طريقة الراعي والرعية، لكنك قد تقول لي ولكن النبي نفسه قال راعٍ ورعية، وهذا صحيح، فالنبي تحدَّث عن الراعي والرعية وقال كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، ولكنه فرَّغ مُصطلَح الرعي والراعي والرعية من مضمونه الشرقي الوثني بالكامل، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فلا ينبغي أن يأتي لي أحد الحمقى من أعداء الإسلام سواء كان من أبناء المسلمين أو غير المسلمين ويقول لي النبي نفسه قال راعٍ ورعية والنبي نفسه كان ينطلق من نفس البنية الفكرية ويتغذّى من نفس المُستنقَع – أستغفر الله العظيم – ولذا يقول راعٍ ورعية كما لو كانت الشعوب رعية وقُطعان، هذا غير صحيح، حاشا رسول الله هذا، فرسول الله أعدل من هذا بكثير، والرسول قال الإمامٌ راعٍ – أي الخليفة أو السُلطان – والرجل في أهله راعٍ والمرأة في بيت زوجها راعية والعبد في مال سيده راعٍ وكلٌ مسؤول عن رعيته، نهاية المطاف ختم الحديث بقوله فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، إذن أين مفهوم أنه مُعادِل – أستغفر الله – لله؟ أين مفهوم أنه مثيل الله أو مفهوم ظل الله في الأرض؟ هذا غير موجود، فحتى الحاكم في هذا السياق في الحديث المُتفَق عليه ليس مثيلاً لله، فهل تعرفون هو مثيل لمَن؟ هو مثيل للعبد ومثيل لربة الأسرة ومثيل لرب الأسرة ومثيل لكل أحد في الأمة بجامع واحد هو إقرار المسئولية وحفظ الأمانة وانتهى كل شيئ، فلابد من إقرار المسئولية وحفظ الأمانة، وهذا مفهوم جديد تماماً للراعي والرعية، ففقط النبي استخدم المُصطلَح وفرَّغه من مضمونه الوثني وأعطاه مضموناً ثورياً على خلفية دينية ترى العباد كلهم إخوةً مُتساوين، ولذا هى بارئة من كل ألوان العنصريات والعرقيات والتمايزات والتمييزات الباطلة أو الواهمة، فهذا هو إذن حتى نفهم الحديث بشكل جيد، ولكن عظمة القرآن هنا تمثل في أن حتى هذا المُصطلَح تحماه القرآن لأنه مُلتبِس، فالقرآن لم يقل رعية ولا راعٍ، وإنما قال – كما قلت لكم – وَأُوْلِي الْأَمْرِ ۩، واستخدمها بصيغة الجمع كأنه يقول لا يُمكِن لرجل واحد أن يحكم، ولكن هناك أجهزة ودولة هى التي تحكم، ولذا قال وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۩،ثم أن هذا لا يتم أيضاً بالمُطلَق، فهذه الأجهزة مُقيَّدة كما نقول الآن دستورياً، وبإصطلاحنا القديم مُقيَّدة بالمرجعية الإلهية وبالقرآن والسُنة، قال الله فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ۩، فمَن المُخاطَب هنا؟ الأمة مع أولياء أمورها، أي أن الله يقول لولي الأمر أو أولياء الأمر وللأمة فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ۩ أي أن الله يقول إذا حدث تنازع – والله يُحرِّض على هذا التنازع – لا تستلموا للحكّام ولا لأجهزة الدولة بالمُطلَق، فإذا رأيتم أنها لا تضمن مصالحكم وتحيف عليكم لابد أن تُنازِعوها، فإذن يحصل النزاع، ولكن كيف يُفَض هذا النزاع؟ بالعود إلى المشروعية العُليا، أي بالعود إلى الكتاب والسُنة وإلى مبادئ الدين التي جاءت من أجل الناس ومن أجل المُجتمَع ومن أجل الشعب وليس من أجل أفراد ولا عائلات ولا قبليات، ومن هنا علينا أن ننتبه إلى أن الله قال وَأُوْلِي الْأَمْرِ ۩ ولم يقل ولي الأمر، فلم يستخدم القرآن مرة واحدة كلمة ولي الأمر، وهذه مُلاحَظة عجيبة جداً!
إذن عمر حاول أن يُجسِّد هذا – كما قلنا – في كل موضوع، فحتى في موضوع طاعون عمواس أراد أن يعود بالناس لكي لا يُهلِكهم بإيقاعهم في الطاعون ولكنه استشار أيضاً، فجمع المُهاجِرين وجمع الأنصار وكان رأيهم على أن نعود بهم فعاد، ففي كل شيئ كان يستشير هذا الرجل وهذا شيئ عجيب، وحتى في الفتاوى كان يستشير ولا يُفتي من نفسه، فيجمع الصحابة ويأخذ رأي الأغلبية وما إلى ذلك، فانظروا إذن إلى هذه الخُطة العُمرية الباقية والتي ينبغي أن تُتسبقى وأن تُستحيا وإلى الفكر المُتخلِّف – هكذا أنعته وأستغفر الله – والمُنحَط أيضاً لبعض فقهائنا وبعض الأئمة الكبار، للأسف أسماء كبيرة قالت بهذا الفكر بالله العظيم، فالله يقول وَأُوْلِي الْأَمْرِ ۩ – لا يُمكِن أن يحك أي حاكم بمفرده أبداً – وهم يقولون تنعقد الخلافة لأي رجل ببيعة اثنين، بل أن بعضهم قال بيعة واحدن، فهذا يُمكِن لأي أحد عنده سيف فرعون وعنده ذهب المُعِز أو حتى سيف وذهب المُعِز مرة واحدة، وعنده قوة وعنده جبروت وعنده جسارة وحماقة على النار وجرأة على نار جهنم، فقال بعضهم إذا بايعه واحد فقط جاز له أن يُصبِح خليفة، فما هذا؟ هذا فكر فاشي، لكن هذا بعض تراث فقهائنا.
في العصر الحديث العلّامة المرحوم شيخ الدُعاة محمد الغزالي لما أراد أن يُفنِّد هذه الفكرة انتصب له بعض كبار رجال الفكر الإسلامي – لن أذكر أسماءهم ورحمة الله على الجميع – لكي يردوا عليه، فبماذا ردوا؟ بأقاويل يقتبسونها من أئمة قدماء مثل أبي بكر بن العربي وفلان وعلان، وهذا لا يعنينا، فنحن لا تعنينا الأسماء، هذه فاشية وهذا فكر سياسي مُجرِم، ولذلك يُمكِن للأمة أن تتمزَّق شر مُمزَق، وابن حزم يُحدِّثنا في إحدى رسائله تقريباً عن ثلاثة عشر أمير مُؤمِنين بُويَع لهم في يوم واحد بالأندلس، أي عن ثلاث عشرة خليفة في يوم واحد وهذه مهزلة، لكن طبعاً هذا حدث لأن هناك آراء فقهية تُجيز هذا وتقول أن أي أحد يستطيع أن يكون خليفة إذا بايعه شخص واحد، وبالتالي نحن الآن حوالي خمسمائة فمن المُمكِن أن يخرج منا بيننا – إن شاء الله – ما يقرب من مائتين وخمسين خليفة، والجميع سوف يتنعَّم بسُلطة أنه الخليفة وبسُلطة هذا اللقب الرمزي، وهو رمز الفاشية للأسف الشديد!
وبعضهم يُحدِّثك عن حكم المُتغلِّب، ويقول لك ما دام تغلَّب وهو فاضل في نفسه ويسد الثغور فلتُسلِّم له، ومن ثم تذهب الأمة وتُغتال الأمة – والله العظيم – وتموت كل طاقاتها، ولذلك – لكي نُلِّخص الموضوع – علينا ألا ننتظر عمر بل علينا أن نُفكِّر في النظام الصالح الذي نُحكَم به، وصدِّقوني في وجود نظام صالح لن يغدو ذا أهمية كبيرة أو كُبرى أن يكون الحاكم نفسه صالحاً في نفسه، لأن أول ما يبدو عليه السوء والانحراف سوف يُؤخَذ من أُذنه ويخضع لمحكمة وقد يقضي بقية حياته في السجن، فيذهب ويأتي غيره، ولكن للأسف ينتصب لك بعض الفقهاء للأسف الفاشيين – هذه فاشية – ويقول لك لا يجوز تقييد مُدة الحاكم، فالحاكم يأتي لكي يحكم مدى الحياة، وهذا غير صحيح، فمِن أين أتيتم بهذا؟ أين الدليل على الكلام الفارغ هذا؟ هذه أسبقيات تاريخية لا تعني شيئاً بالنسبة إلينا، وهى أسبقيات ليس لها أي قيمة تاريخية أو أي قيمة تشريعية على الإطلاق، فلو استظهر هؤلاء بالثقلين – والله العظيم – لعجزوا أن يدفعوا عن هذا الرأي السخيف، فلا يُمكِن أن يُقال أن الخليفة يحكم إلى أن يموت ويُزحزِحه عزرائيل عن عرشه، هذا غير صحيح، فمن المُمكِن أن نعزله بعد خمسة أشهر ونُحاَكمه.
تشرشل Churchill ذات مرة – انظر إلى مَن يقولون عنهم أنهم كفار – قال أنا اقترفت من المُخالَفات والجرائم – خارج بريطانيا طبعاً كمُستعمِر كبير ورئيس وزارة – ما لو اقترفت بعضه في بلدي لقضيت بقية حياتي في السجن، أي أنه يعرف أنه لو فعل هذا في بلده لوضعوه رغماً عنه ورغماً عن كرشه ورغماً عن السيجار الخاص به في السجن، فلن يحترمونه ولن يحترمون كرشه الكبير أو سيجاره، بل سوف يضعونه في السجن.
دخل مرة تشرشل Churchill إلى مبنى البي بي سي BBC – هيئة الإذاعة البريطانية – لكي يُلقي بيانه للأمة الإنجليزية في الحرب العالمية الثانية ضد النازي، وكان الوضع صعباً جداً جداً، فهو وضع الدماء والدموع كما وصفه، لكن تشرشل Churchill كرئيس للوزارة دخل المبنى ومعه السيجار الشهير الخاص به لأن كان يُدخِّن دائماً، فقال له المُوظَّف – المُوظَّف الذي يُسجِّل الصوت تقريباً أو المُوظَّف المسؤول عن الإضاءة – المُتواجِد في نفس المكان يا سيادة رئيس الوزراء من فضلك اطفئ سيجارك فليس مسموحاً بالسيجار هنا، فاطفأه من فوره بسبب كلمة هذا المُوظَّف البسيط الذي قد لا يُساوي شيئاً، ثم ألقى الرجل كلمته وهى كانت بياناً حربياً، ثم انسحب وألقى نظرة على المُوظَّف فأحس أن المُوظَّف داخله شيئٌ من وجل وقلق فعاد إليه لكي يُعزِّيه ويُؤنِّبه قائلاً أخائفٌ أنت؟ مما تخاف؟ أنت طبَّقت القانون وهذا ما ينبغي عليك فشكراً لك، ثم خرج!
ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن هكذا ينتصر هؤلاء وهكذا ننهزم نحن، فنحن ننهزم بالفرعون الذي يُريد أن يلبس لباس الفراعنة ويُريد أن يركب عربة فرعونية، فذهبنا إلى ستين داهية، في حين أن تشرشل Churchill قال للمُوظَّف أنت طبَّقت القانون وشكره على هذا، فمثل هذه الأشياء تُذكِّر بتراث المسلمين المجيد وبعمر وعليّ وأبي بكر، وهذا موجود في الغرب والحكايات عنه كثيرة جداً، لكن محمد عبده – رحمة الله عليه – للأسف أرادنا أن نقتنع بفكرة المُستبِد العادل وقال أين للشرقِ من مُستبِدٍ عادل يُنجِزُ ويُجري الله على يديه في خمس سنين ما لا يُنجَز على يد غيره في خمسين أو في خمسمائة سنة؟ وهذا كلام فارغ يا محمد عبده، فهنا زلّ محمد عبدة زلّة لا يُقال لصاحبها لعا، أي لا يُقال أقاله الله لأن هذه زلّة كارثية، فهل تعرفون مَن هو النموذج الأكبر في السياق الأوروبي للمُستبِد العادل؟ هل تعرفون ما معنى المُستبِد العادل؟ هذا كان يُعطي الأمة كشفَ ذمة – أي كشف حساب – ويقول لهم أنا ماذا أنفق وماذا أخذ، ويعرض أملاكه وأملاك أولاده وأملاك وزرائه بل ويطلب أن يُحاسَب.
فريدريك الأكبر Frederick the Great ملك بروسيا كان يُعرَف بقاهر الملكات – تغلَّب على كاترين الثانية Catherine II وتغلَّب على ماريا تريزا Maria Theresa وعلى ملكة إسبانيا فسموه قاهر الملكات – ولجأ إليه فولتير Voltaire – المُستنير العظيم وفيلسوف الاستنارة فرانسوا فولتير Francois Voltaire – وهو الذي سماه المُستبِد المُستنير أو المُستبِد العادل، وبالمُناسَبة كاترين الثانية Catherine II كانت مُستبِدة عادلة أيضاً وجوزيف الثاني Joseph II في النمسا كان مُستبِداً عادلاً وغوستاف الثالث Gustav III في السويد كان مُستبِداً عادلاً وغيرهم الكثير، لكن أشهر هذه النماذج للمُستبِد العادل فريدريك الأكبر Frederick the Great، فانظروا إلى خُطته وكيف بدأ وكيف انتهى، حيث قال في آخر حياته “لقد عقدت مع الشعب اتفاقاً أرضانا كلينا – أي أنا راضٍ به والشعب راضٍ به – وهو أنهم يقولون لي ما يشتهون وأنا أفعل ما أشتهي”، فهذا هو إذن المُستبِد العادل الذي يُقرِّر عنك ومن ثم عليك أن تنبه.
سوكارنو Sukarno – أحمد سوكارنو Ahmed Sukarno – هو الذي حرَّر إندونيسيا من الاستعمار الهولندي وأصبح رئيساً لزُهاء ثُلث قرن تقريباً، لكن هذا الرجل قال لا مجال للديمقراطية، هذه حماقة مثلما قال موسوليني Mussolini، فموسوليني Mussolini قال من الحماقة أن يكون عند كل أحد صوت له، هذه حماقة كُبرى، نعم الحزبيون عندهم صوت لكن الآخرون لا ينبغي أن يكون عندهم صوت، وهذا هو نفس الشيئ الذي قاله سوكارنو Sukarno حين تحدَّث عن الديمقراطية المُوجَّهة Guided Democracy، وطبعاً اقرأوا عن الديمقراطية الجديدة التي أعجبت عبد الناصر وألَّف فيها ديمقراطية جديدة إسمها الديمقراطية بالتحسّس، فانتبهوا إلى اللعب بالكلمات، فهم يُفرِغون الأشياء من مضامينها ويقولون – مثلاً – أن هناك شيئ إسمه الديمقراطية المُوجَّهة، وعبد الناصر تأثَّر بسوكارنو Sukarno كثيراً وسماها الديمقراطية بالتحسّس، فما هى الديمقراطية بالتحسّس؟ المقصود بها أننا لا نأخذ رأي الشعب ولا نستفتيه في أي شيئ ولا نستطلع رأيه حتى في الشارع، فليس لنا علاقة بهذا الشعب، فهذا شعب أهبل – هطلاوي كما نقول – لا ينبغي أن يفعل أي شيء سوى أن يأكل ويشرب فقط، لكن نحن الأوصياء الكبار الذين نتحسَّس إلى مكان مصلحة الشعب، فنبحث عن المكان الذي من المُمكِن أن يكون فيه مصلحة الشعب، ومن ثم نقوم بتدبير مصلحته بالنيابة عن الشعب والحمد لله رب العالمين.
هذه كارثة، ففي النهاية هذه الكارثة كُرِثَت بها الأمة المصرية والأمة العربية من بعدها، ولذلك لابد أن نعود إلى المعنى، والمعنى هو نظام حكم صالح، فعلينا أن نتعلَّم إذن، لكن ما هو هذا النظام الصالح للحكم؟ هذه مسألة طويلة مفتوحة وقابلة للأخذ والعطاء ولكن لن نتجاوز الديمقراطية، فعلينا أن نُناقِشها وأن نُفكِّر فيها كثيراً، لأنها بالنسبة لسياق آخر غير سياق المسلمين هى أبدع وأروع وأحسن ما تفقَّت عنه الذهنيات البشرية إلى اليوم، وتشرشل Churchill نفسه كان يقول ليست هى النظام الكامل ولكن هى أقل الأنظمة سوءً، وقد قارِنها بالثيوقراطي وبالأوتوقراكطي وبالأوليغارشي وبالأرستقراطي وبكل الأنظمة الأُخرى بل وبالأنظمة الديكتاتورية – Despotisms – وبالاستبداديات ووجد أن أحسن شيئ هى الديمقراطية، فعلينا أن نستفيد منها وأن نتعلَّم الكثير.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا وأن يُفقِّهنا في الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
سأل عمرُ سلمان الفارسي يوماً – حكيم هذه الأمة – قائلاً يا سلمان أخليفةٌ أنا أم ملك؟ لأنه لم يكن يُراهِن على الاشتباه الاصطلاحي ولم يضحك على الذقون بأن يُسمي نفسه خليفة ويسلك سلوك الملوك، كلا وإنما كان يُريد أن يكون صادقاً مع نفسه ومع اللُغة ومع المُصطلَح، فقال له سلمان يا أمير المُؤمِنين إن أخذت المال من وجهه ووضعته في وجهه – أو في حقه – فأنت خليفة، وإن أخذته من غير وجهه ووضعته في غير حقه فأنت ملكٌ مُسلَّط.
فهكذا كانت المفاهيم واضحة ولابد أن تكون المفاهيم واضحة، فالمسألة ليست مُجرَّد عنوانات ولافاتات نحملها فنتحدَّث عن دولة إسلامية وخلافة إسلامية وفكر إسلامي وفقه إسلامي وسُلطان إسلامي ومسلم دون مضامين ومُشتمَلات حقيقية، فلابد من هذه المضامين وهذه المُشتمَلات التي يجب أن تكون واضحة ومُحدَّدة تماماً حتى لا يحدث اشتباه تُغتَال به المعاني ومن ثم الحقوق ومن ثم الأمة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (28/5/2010)
أضف تعليق