طفو على السطح هذه الأيام جدال بين الشباب المتدين من محبي الدكتور عدنان إبراهيم، وبين الشباب المنتمي للمنهج السلفي. فقد يصبح بإمكان أي زائر لمواقع التواصل الاجتماعي أن يدرك حجم الجدل الذي يحدث بين الفينة والأخرى، والذي قد يتطور إلى ملاسنات وسباب ولعان وتكفير وزندقة. بين شباب أحب أن يتدين ولكن على طريق يراها مناسبة للأزمنة الحديثة باعتبار الإسلام رسالة عالمية متجددة . وبين شباب يرى البديل في الماضي في العودة لمنهج السلف، فلا تجديد إلا داخل منهج السلف .
وأنا بحكم أني كنت سلفيا أستطيع أن أفهم جيدا ما يقصده الفريقان، فقد نشأت على مذهب السلفية أحفظ القرآن وحصلت لي معرفة معتبرة في المعارف السلفية، وكذلك كنت، وبمنهجهم جادلت وخاصمت سنين عددا .
إن السلفية هي منهج أهل الحديث وسماها الحنابلة منهج أهل السنة والجماعة، فأخرجوا منها بهذا أهل الرأي والمعتزلة وسائر الفرق حجرا. والسلف هم طائفة من الصحابة و التابعين.
ظهرت هذه المدرسة والتصقت بالحنابلة وعلى قواعدها كانوا يعملون، فهي على ذلك حتى ظهور محمد بن عبد الوهاب والدولة في الحجاز، فهي اليوم مذهب الحنابلة. وحتى حين يريد شخص ما إخراجها من مذهب الحنابلة لا تستقيم ويبدو عوارها . فالسلفيون اليوم أمة واحدة لا يختلفون إلا في الحاكمية والجهاد وهذا مرده لعوامل سياسية جديدة.
يقع النص في المنهج السلفي بمثابة الساق، فالكتاب وما اعتبروه صحيحا من نصوص السنة والأثر هو الفصل والحكم. فهم يحملون النصوص على ظاهرها لا يؤولون وكذا أخبر إمامنا الغزالي في الفيصل قال : أبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل، فذكر أن من جملة ما عرفه أحمد من الحديث لم يؤول إلا ثلاثة أحاديث فقط.
ليس هذا وحسب بل إن الآليات التي تم اعتمادها في الذود عن منهج أهل الحديث من أيام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث هي المعتمدة إلى اليوم، بل تصبح آليات النظر والاستنباط لصيقة بالنصوص المعتمدة لا تقل عنها أهمية وكذا آراء الرجال . فقد يقول لك أحد الإخوة السلفيين من باب الجزل : كل يؤخذ منه ويرد. لكن الواقع يكذب هذه الادعاءات . فآراء الرجال في مذهب السلفية لها قداستها حتى لتجد أن ما أفتى به بن تيمية قبل قرون لا يزال معتمدا إلى اليوم بغير مراعاة شروط الفتوى وتغيرها في الزمن والمكان، أما ما أفتى به المتأخرون فتلك قصة أخرى.
ولهذا فالمشروع السلفي هو مشروع مكتمل في الزمن متحقق الأصول والغايات، ولهذا فأنت حين تريد أن تجتهد من داخله ستجد نفسك أوتوماتيكيا خارجه، ولهذا من الصعب جدا جدال السلفيين في مسائل جرت مجرى العادة وعقد عليها الرأي والاجتهاد. لأنهم سيسردون عليك ما حفظوه من الآراء . فالعلم بالمفهوم السلفي ليس تقدميا ولكنه انطلاقا أو دفاعا عن مشروع مكتمل أصلا متحقق في الزمن .
هذه المسائل ليست وليدة اليوم ولكنها قديمة تعود للعصور الأولى حين كان يسمى أهل الحديث بالحشوية لأنهم يستبعدون النظر والقياس ويعملون بالظاهر . فالخصومة بين أهل الرأي والقياس نلمسها في العصور المتقدمة بين الاسلامين . فنجد رأس مدارس الرأي الجاحظ مخاصمهم بالقول: وأنتم أملياء بالخرافات أقوياء على رد الصحيح وتصحيح السقيم، ورد التنزيل والصحيح والحديث المشهور إلى أهوائكم، وقد عارضناكم وقابلناكم وقارضناكم.
لقد كانت مدرسة الرأي بقيادة الجاحظ في خصام شديد مع مدرسة أهل الحديث بقيادة بن قتيبة حتى قال بن تيمية فيه : (يُقال هو لأهل السنّة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنّة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة)
ليس هناك من شك في أن الدكتور عدنان إبراهيم بتكوين سلفي، وقد استمر على هذا حتى سن متقدمة من حياته، فأنا استطيع أن أدرك هذه الأمور جيدا، وقد كان من الممكن أن يبقى سلفيا لو أنه كف عن النظر والقراءة. ولكن اطلاع الدكتور في بحوثه عن آراء المخالفين أخرجه عن المنهج، وهذه أشياء يعيها رؤوس السلفية جيدا، ولهذا يقضون ساعات في التحذير من الكتب ومن متابعة كلام المخالفين . فلكي تبقى سلفيا يجب أن لا تتعدى قراءة ما اجتمع عليه السلفيون وإلا خرجت عن المنهج.
قلت : فالذي حدث هو أن الدكتور طالع شيئا من الفلسفة القديمة والحديثة، وإن كانت معرفته بها ليست عميقة. لأن الدكتور عدنان إبراهيم لا يملك شخصية الفيلسوف المتحرر بالمطلق القابل لأي نتيجة كما هي عادة المشتغلين بالفلسفة. ولكن الدكتور أراد أن يحافظ على نفسه داخل منهج أهل السنة ليؤدي رسالته الدينية، قريبا من أهل الرأي منتصرا لبعض آراء الزيدية . لكنه على كل حال ظل على مسافة من مذهب الفلاسفة على طريقة مبرري العقائد في العصور الوسطى . فتكوين الدكتور الفقهي أراده أن يبقى فقيها مجتهدا ولا ينزلق إلى مذهب الفلاسفة. لقد نجح الدكتور في إعادة صياغة كثير من الآراء القديمة والجديدة عند مفكري الشيعة والسنة حتى لتسمعها تحسبها جديدة. فلقد نجح الدكتور في ضخ دماء جديدة في الجسد الديني الذي أنهكته حضارة الغرب.
إنني من خلال هذه المقدمة الطويلة أردت فقط أن أضع القاريء في الصورة لكي يعلم المتتبع أصل المشكل وفيم سيناظر الدكتور عدنان إبراهيم السلفيين. فالعلم الذي يحمله الدكتور هو الرأي والاستنباط والقياس. لكن العلم الذي يحمله السلفيون هو القدرة على حفظ واستيعاب أكبر عدد من النصوص والآراء المقرونة بقواعد أصولية معلومة ثابتة. ولهذا فعالم دين مثل الشيخ الددو الشنقيطي له قدرة رهيبة في استظهار النصوص والآراء قادر على إسكات الدكتور عدنان إبراهيم عشرات المرات بفعل استحكامه في السرد وإعادة السرد.
إن العلم عند مدارس أهل الرأي والمدارس الغربية الحديثة لا يعتمد الكم بقدر ما يعتمد القواعد لاستخراج المعرفة الجديدة، فالمعلومات موجودة في بطون الكتب ومهمة العالم العودة إليها متى أرادها لا الاشتغال بحفظها . إنه بحث عن القوانين تخضع باستمرار لاختبارات الصلاحية. بينما هو في العقل السلفي علم متحقق في الزمن ثابت، وعالم الدين الحقيقي هو من يحفظ أكثر .
إن مناظرة الدكتور عدنان للسلفيين لن تكون لها فائدة وجدوى مطلقا. لأن السلفيين يتعبدون إلى الله بما يعلمون. ولهذا فالسلفيون الذين يتبين لهم أن ما يدعونه ليس صوابا سيصبح لزاما عليهم أن لا يبقوا سلفيين وهذا محال. فلا يعقل أن تكون سلفيا وأنت تلعن معاوية بن أبي سفيان، فالعملية غير ممكنة مادام أن عندهم من الأحاديث الصحيحة ما يدل على فضله وقربه من الله. فالمناظرة تكون ممكنة عند أهل الرأي بينهم في مسألة انطولوجية متحررة من الزمن والمكان وليس مناظرة في أشياء تمت في الماضي، فاليقين لا يدفع بالرأي.
إن ما سيقوله عدنان إبراهيم للسلفيين هم يعلمونه جيدا، وهم مستعدون لرده وصده بما تحقق عندهم من الأصول، ذلك أن المنهج السلفي ليس بالمنهج الهين ولكن يستمد قوته من تبني آراء المتقدمين.
بل إنه منهج من الصعب جدا تدميره من داخله وبقواعده . إنه يمتلك حجية ضاربة في التاريخ أكسبته صلابة وتعنتا. فالسلفية تخشى أمرا واحدا وهو أن تفكر بغير قواعدها، أي النزوح بها نحو الواقعي. إنها بهذا تبدو ضعيفة ومدعاة للشفقة. أما مجادلة السلفيين بقواعدهم فهذا ضرب من العبث عقيم ولن تكون له أية نتيجة.
أضف تعليق