إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ۩ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ۩ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ۩ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ۩ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ۩ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
بعد أن كان من بني قينقاع – إحدى كُبرى قبائل اليهود بالمدينة المُنوَّرة – ما كان وأجلاهم رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بعد أن شفع فيهم حليفهم رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول لم يكف اليهود عن غلوائهم في مُعاداة رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ولم ينزعوا عن عادتهم، فكان من بني النضير مُؤامَرة أُخرى جديدة مُدبَّرة للتخلص من رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الذي آتاهم في ديارهم يستعينهم في فدية رجلين قُتِلا خطأً من قبل المُسلِمين، ولما كشف الوحي لرسول الله عن هذه النية المُبيَّتة السيئة في مُخالَفات أُخرى آتاها القوم حاصرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ست ليال ثم أجلاهم أيضاً، فانطلق جماعة منهم في مُقدِّمتهم مُقدَّمهم وكبير حُيي بن أخطب النضري – من بني النضير – إلى قريش يُحرِّضونهم ويحفزونهم ويُشجِّعونهم على شن هجوم كاسح على المدينة المُنوَّرة لاستئصال رسول الله والمُسلِمين من عند آخرهم، وظلوا بهم حتى أقنعوهم، وفد من اليهود فيه ثلاثة من كبرائهم في مُقدَّمتهم حُيي بن أخطب مع جماعة ذهبوا فاقتنعت قريش، ثم قصدوا بعد ذلك إلى غطفان وفتلوا لهم في الذروة والغالب حتى لانت مقادتهم واقتنعوا أيضاً أن يُظاهِروا قريشاً وحلفاءها من الأحابيش وغيرهم في شن هذا الهجوم الكاسح الماحق على رسول الله وجماعته ودولته وأتباعه في المدينة المُنوَّرة، وانطلقت هذه القبائل والعشائر حتى تجمَّع منهم زُهاء عشرة آلاف مُقاتِل، أكبر تجمع في تاريخ الحرب بين الوثنية والإسلام، عشرة آلاف مُقاتِل!
فلما قصدوا – أي تحرَّكوا مُنطلِقين إلى المدينة – نما الخبر إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فجمع أصحابه واستشارهم وكان مما أشار به سلمان الفارسي – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – الخندق، أن يحتفروا خندقاً في الجهة المكشوفة من المدينة المُنوَّرة، لأن باقي الجهات محوظة بالبنيان والمزارع، وفي إحدى هذه الجهات – الجهة الجنوبية – بنو قريظة، وكان بينهم وبين رسول الله عقد وعهد مُوادَعة ومُهادَنة، أن يدفعوا عن المُسلِمين وألا يُؤتى المُسلِمون من قِبلهم وأن يكونوا معهم على عدوهم، وقد كان بين رسول الله وبين سائر القوى في المدينة المُنوَّرة عهدٌ عام غير مُؤقَّت وغير مُحدَّد مما يدحض كل التقولات والافتراءات التي تزعم أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان مُبيِّت النية مُسبَقاً لتصفية الوجود اليهودي في المدينة المُنوَّرة، هذا غير صحيح، لو كان ذلك صحيحاً لوجب أن يجعل هذا العهد – وهو في موضع القوة – مُؤقَّتاً أو مُحدَّداً، وليس مثل محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي يخفر بذمة أو يخون أو يغدر، وهو القائل يُنصَب لكل غادر لواء يوم القيامة فيُقال هذه غدرة فلان ابن فلان، ليس المُؤمِن وليس رسول المُؤمِنين هو مَن يغدر، لماذا كان الأمر مفتوحاً؟ كانت هذه الصحيفة – صحيفة المُسالَمة والمُناصَرة – مفتوحة، غير مُحدَّدة بوقت مُعيَّن، وهكذا أمِن المُسلِمون من هذه الجوانب جميعاً واحتفروا الخندق في الجهة الشمالية، أعانهم الله – تبارك وتعالى – فاحتفروه في ستة أيام، جُهد جبّار بمقاييس ذلكم العصر وحتى بمقياس عصرنا هذا، لأن هذا الخندق كان بطول خمسة كيلو مترات ونصف الكيلو متر، ليس خندقاً بسيطاً، في عمق زُهاء ثلاثة أمتار ونصف المتر، وفي عرض زُهاء أربعة أمتار أو خمسة أمتار، شيئ مُخيف، اشتغل الصحابة ليل نهار، حتى الرسول كان يحتفر معهم وينقل التراب، عملية شاقة جداً وصعبة وجاءت مُفاجأة، وجاءت الأحزاب وأخذوا مواقعهم، في بعض الروايات أن منهم مَن أخذ موقعاً شرقي المدينة قريباً من أُحد، ومنهم مَن نزل بأعالي أراضي المدينة، فهذا تأويل قوله – تبارك وتعالى – إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ۩، وقيل غير هذا وسيأتي في وقته إن شاء الله تبارك وتعالى.
وطال الحصار أسابيع، زُهاء ثلاثة أسابيع أو أزيد في بعض الروايات، وجهد المُسلِمون جُهداً شديداً، نفذت منهم المُؤن، أي الأغذية، وأطفالهم ونساؤهم – أي ذراريهم بشكل عام – كانوا في الآطام، أي في أشياء مُرتفِعة شبيهة بالحصون غير المنيعة، وليسوا في بيوتهم، لكن الله – تبارك وتعالى – صد عنهم ودفع عنهم بهذه الحيلة التي لم تعرفها العرب كما قال أبو سُفيان وهي الخندق، ورضيَ الله عن سلمان الفارسي وأرضاه، هذه منة عظيمة أجراها الله على يديه الكريمتين.
المُهِم هذه أحداث معروفة ومأنوسة لكل مَن قرأ السيرة النبوية، ما يهمنا في هذا المقام موقف يهود قريظة، أي موقف القرظيين، جاء حُيي بن أخطب النضري – هذا من بني النضير، لو كان رسول الله ضرب عنقه مع مَن معه من كبار يهود بني النضير لما حصل ما حصل، هذا الذي ذهب وألَّب وحزَّب الأحزاب، هذا جزاء أن النبي عليه الصلاة وأفضل السلام قد عفا عنه وعن قومه بعد أن ائتمروا بقتله وعلى قتله – ليثأر من رسول الله الذي عفا عنه وعن قومه ولم يدق أعناقهم ويكسر رقابهم، هذا جزاء الإحسان، جاء هذا مرة أُخرى واستأذن على سيد قريظة كعب بن أسد القرظي، المُهِم جرت مُحاوَرة ومُفاوَضة طويلة فأقنعه في النهاية بأن يكون مع الأحزاب على محمد، رفض الرجل في البداية، قال لم أر من محمد إلا كل وفاء فكيف أغدر؟ فما زال يُخادِعه ويُخاتِله حتى أيضاً لان بين يديه ووافق، ونقضت قريظة عهدها مع رسول الله ومزَّقوا الكتاب الذي كان بينهم وبينه، أيضاً غدرٌ، ونما الخبر إلى رسول الله فحزبه الأمر جداً وحزب المُسلِمين جميعاً، هم في وضع لا يُحسَدون عليه، وضع من الخوف ومن السهر، كانت ذراريهم ونساؤهم لا ينامون إلا عُقبة، أي إلا تناوباً، ينام فريق ويسهر فريق على الحراسة، لأنهم كانوا في حال خوف، وأما المُجاهِدون المُرابِطون فكما قال خوات بن جبير كان ليلنا نهاراً، ينامون أيضاً بالتعاقب في النهار أما الليل فسهر، لا نوم، استمر هذا لأسابيع ونفد الزاد فضلاً عن البرد، كان الجو مُشتياً بارداً، وظُلمة وخوف وحصار استمر أسابيع عدة، فبعث النبي السعدين – سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، سعد بن مُعاذ هو سيد الأوس، وسعد بن عُبادة هو سيد الخزرج – في آخرين منهم خوات بن جبير لكي يستطلعوا الخبر فعادوا بحقيقة الأمر، قالوا وجدنا القوم على أخبث ما بلغنا عنهم، عضل والقارة يا رسول الله، مثل غدر هاتين القبيلتين في أصحاب الرجيع، فلم يجد له بداً إلا أن يُواجِه هذه الحالة الطارئة، وهجم النفاق وتجهر، وصف الله – تبارك وتعالى – هذه الحالة الشديدة التي لم يسبق ولم يلحق أن تعرَّض المُسلِمون لمثلها في العهد النبوي، لم يسبق ولم يلحق أن تعرَّض المسلمون لمثلها في عهده صلى الله عليه وسلم، قال – تبارك وتعالى – في أول سياق هذه الآيات وهي آيات طويلة – زُهاء عشرين آية، من الآية التاسعة حتى السابعة والعشرين من سورة الأحزاب – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ۩ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۩، الآن التفسير الآخر الذي نُرجِّحه أن المقصود بقوله جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ ۩ الأحزاب من المُشرِكين الوثنيين، أي قريش وغطفان والقبائل الأُخرى، والمقصود بقوله وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۩ أي من جهة الجنوب، يعني قريظة، لأن مُؤخَّرة المُسلِمين الآن صارت مكشوفة لقريظة، وقد بلغ النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن حُيي بن أخطب – لعنة الله تعالى على هذا الطاغوت الكبير – ذهب إلى قريش يُقنِعهم بأن يُرسِلوا معه ألف مُقاتِل ومن غطفان ألفاً مثلهم أيضاً ويذهب ليستبيح بيضة المُسلِمين، لأنها مكشوفة وقريظة معهم وستُساعِدهم، فلما بلغ النبي ذلك اشتد عليه الأمر، ما هذا؟ أصبح المُسلِمين مكشوفين من هذه الجهة التي كانت مأمناً لهم، أعني جهة بني قريظة، وكان بينهما عهد مُوادَعة لكن لا، انتهى الأمر، فأرسل – عليه الصلاة وأفضل السلام – اثنين: زيد بن حارثة على رأس ثلاثمائة ورجل أيضاً من بني عبد الأشهل على رأس مائتين، وأمر بهم أن يُجعجِعوا هناك وأن يستعلنوا بالتكبير حتى يصدوا مَن تُسوِّل له نفسه أن يأتي ليستبيح بيضة المُسلِمين، النساء والذراري الضعاف والشيوخ والعجزة، الوضع مُخيف!
وقد روى الحاكم أبو عبد الله عن حُذيفة قال – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أبو سُفيان وأحزابه من فوقنا وقريظة أسفل منا، ولقد أتت علينا ليلةٌ لم نر ليلةً أشد ظُلمة ولا ريحاً ولا برداً مثلها، وهذا يُرجِّح أن المقصود بقوله وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۩ قريظة، صاروا مأتيين من الجهتين، إذن قريظة لم تكتف فقط بأن نقضت العهد مع رسول الله وإنما انغمست بكل نذالة وسفالة في خوض الحرب أيضاً على رسول الله، ومعروفة قصة صفية أخت حمزة بن عبد المُطلِب عمة رسول الله – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، وصلى الله على رسول الله وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – وقتلها حين كانت في فارع – حصن حسان بن ثابت – يهودياً قرظياً جاء يطيف – أي يطوف – بالحصن لكي يعلم كيف يُمكِن الدخول إليه مع جماعة آخرين من ورائه، فاضطُرت المرأة أن تنزل، وضربه على رأسه بعمود فسطاط حتى قتلته، فهناك مُحاوَلات حقيقية، حتى المُستشرِقون المُتحامِلون يعترفون بأن جماعة أيضاً من مُقاتِلي المُسلِمين تعرَّضوا لزخات من سهام القرظيين، أحداث موجودة مُوثَّقة ومعروفة، هذه خيانة حقيقية وإن حاول بعض المُستشرِقين ومَن تابعهم أن يُشكِّك في هذه الخيانة وأن يقولوا قريظة وقفت على الحياد، هذا غير صحيح، انغمست في المُؤامَرة بشكل واضح وصريح، وسيأتينا البيان أيضاً تفصيلاً.
المُهِم يقول الله – تبارك وتعالى – إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۩، حتى بعض المُؤمِنين الصادقين ظنوا بالله الظنون، يقول الله هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ۩ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ – هنا كما قلنا هجم النفاق وتجهَّر، صار يستعلن النفاق والمُنافِقون والعياذ بالله – مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ۩، قالوا هذا غرور، قال معتب بن قشير كما رُويَ محمد يعدنا – لأنه وعدهم أيضاً وهو يحتفر الخندق حين اعترضته كُدية، أي صخرة كبيرة، وكان صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم واثقاً من عِدة الله إياه – كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يخرج لقضاء حاجته، لا يستطيع أن يقضي حاجته من الخوف والحصار الشديد، الوضع كان سيئاً جداً، لم يمر بالمُسلِمين وضع مثل هذا، وأكثر ما صعَّبه عليهم هو موقف قريظة الذين كشفوهم من الخلف، أي من ورائهم، في بيضتهم كما يُقال، هذه نُقطة ضعفهم، النساء والذراري والعجزة والشيوخ والكبار!
وصار بعض هؤلاء المُنافِقين يستأذنون النبي كجماعة من بني الحارث، أعني من مُنافِقي بني الحارث طبعاً، يقولون يا رسول لله ائذن لنا، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ۩، يستأذنون في الظاهرة وبعضهم في الليل، يقولون بيوتنا مكشوفة ونخشى على ذرارينا قريظة، قال تعالى وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ۩، كذَّبوا وصاروا يفرون، يلوذون بالفرار من شدة الخوف، أدركوا أنهم ممحوقون مهزومون، الوضع أصبح شديداً جداً بعض موقف قريظة بالذات، موقف الخيانة والنذالة على كلٍ، إلا أن الله – تبارك وتعالى – تأذَّن بأمرٍ آخر، والنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين بلغه ما كان من نقض قريظة عهدها غشى رأسه بثوبه كأنه ينتظر الوحي ثم قال الله أكبر، أبشِروا بنصر الله، انتهى الأمر لأنه بشَّرهم، لن نُهزَم ولن نُستأصل وسننتصر على الأحزاب وعلى قريظة، هذا ما ثبت عنه عليه الصلاة وأفضل السلام، قال الله أكبر، أبشِروا بنصر الله، إذا ضاقت فُرِجَت!
على كلٍ بعد كل هذه الأسابيع العصيبة الجاهدة الشديدة أرسل الله – تبارك وتعالى – في ليلةٍ مُظلِمة شديدة البرد والزمهرير ريحاً عاتية كفأت قدور المُشرِكين واقتلعت فساطيطهم أو خيامهم وأطفأت نيرانهم وجالت خيلهم بعضها في بعض فذُعِروا لأن الله قذف في قلوبهم الرعب، ذُعِروا وسمعوا التكبير، في بعض الروايات أن هذا التكبير كان من الملائكة، قال الله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ ۩، تكبير ملائكي خلع قلوبهم من مكامنها، فما كان من أبي سُفيان إلا أن قرَّر الإنشرار راجعاً إلى بلده – إلى مكة – وفعل، أخذ ناقته ثم قام، فلما رأت غطفان ذلك فعلت مثلما فعل، وهناك تفاصيل كثيرة بعضها يدل على مدى حنكة رسول الله السياسية وإحداثه هذه الفُرقة غير قصة نُعيم بن مسعود التي لم تثبت حديثياً، من جهة السند حديثياً قصة نُعيم بن مسعود ليست ثابتة، لكن مُفاوَضة رسول الله عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري الغطفاني – رئيس المُشرِكين في غطفان – صحيحة وثابتة عن رسول الله، بعث له النبي كتاباً يقول له ارجع عنا ولك ثُلث ثمار المدينة، يُحِب النبي أن يُخفِّف عن المُسلِمين، الوضع كارب وشديد، فبعث له إن جعلت لي النصف أو الشطر قدمت، بعد جولة من المُفاوَضة وافق عُيينة بن بدر الفزاري على الثُلث وجاء مع جماعة والكتاب قد أُعِد، كل شيئ مُجهَّزاً، وبعث النبي إلى السعدين سيدي الأوس والخزر ابن مُعاذ وابن عُبادة، فقالا يا رسول الله تجعل له ثُلث ثمارنا شيئ أُمِرت به أم شيئ تصنعه لنا، أي للتخفيف؟ هل هذا وحي من الله – إن كان وحياً فالتسليم – أم شيئ تصنعه لنا؟ قال بل شيئ أصنعه لكم، فقالا لا والله، لا نُعطيهم إلا السيف، رجال الأنصار! قالا لا نُعطيهم إلا السيف، فرجع عُيينة بن بدر، ولما سمعت قريظة بهذا وبالحري سمعت قريش بهذا فت هذا في أعضادهم وشعروا بقلق موقفهم والانكسار الذي حدث فيه، فقرَّر أبو سُفيان الرجوع، هذا ثابت وهو غير قصة نُعيم بن مسعود!
على كل حال عادوا مُنشمِرين – بحمد الله تبارك وتعالى – وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۩، ولم يسقط من المُسلِمين إلا آحاد فقط في مُبارَزات فردية ومُناوَشات بالنبل من بعيد، فقط هذا كل ما حدث، وعاد المُسلِمون وعادوا هم، أي الكفّار الذين نفدت أزوادهم وأغذيتهم لأنهم لم يُعِدوا لحصار طويل، لم يكن في بالهم أن يُواجَهوا بالخندق، ظنوا أنها ستكون هجمة كاسحة تنتهي في يوم أو بعض يوم، لكنهم لما مكثوا لفترة طويلة نفدت أيضاً أزوادهم ومؤنهم فاضطُروا إلى العودة بفضل الله – تبارك وتعالى – الذي كفى المُؤمِنين القتال، وعاد النبي إلى المدينة مع أصحابه ولم يكن في نيته أن يُعاوِد بالانتقام أو بالعقوبة، فلما كان الظهر جاءه جبريل مُتعجِراً بعمامة، قال يا رسول الله وضعت السلاح؟ قال نعم، قال أما إن الملائكة لم تضعها بعدُ، إن الله يأمرك بالمسير إلى قريظة، وإني سابقك إلى هناك فمُزلزِل بهم، أمر إلهي، لابد من الانتقال، انتهى الأمر، أما أن يبقى كما قال أحد المُؤرِّخين الأجانب المُنصِفين المُجتمَع والساحة الإسلامية في حرب للبقاء دائمة هذا غير معقول، غير معقول أن نتعرَّض كل يوم للغدر ولأمثال هذه السفالات والنذالات، هذا أيضاً غير مقبول، غير مقبول بأي شكل من الأشكال، فقال النبي مَن كان سامعاً مُطيعاً فلا يُصلين العصر إلا في بني قريظة، فانطلق مَن كان معه مِن أصحابه في الخندق، كم كانوا؟ اختلاف كبير، بعضهم يقول كانوا ثلاثة آلاف مُقاتِل ومُجاهِد، وبعضهم يقول كانوا تسعمائة، قال ابن حزم في جوامع السيرة هذا هو الصحيح والأول وهمٌ، قال تسعمائة، وقال ابن كثير في التفسير وقيل كانوا سبعمائة، انظروا إلى التفاوت، علماً بأن هذا مأنوس ومُتكرِّر باستمرار في كل التواريخ الوسيطة والقديمة، الأرقام تتضاعف! كم وقع من القتلى؟ أربعون، بل قيل أربعمائة، بل قيل ألفان، وهكذا! هذا في كل كتب التاريخ العربية والفارسية وغيرهما، فلا تأخذوا أي رقم على علاته وتُسلِّمون، والمُسلِمون أدرى بأعدادهم، ومع ذلك اختلفت الرواية جداً في عدد مَن كان مُجاهِداً في الأحزاب!
على كل حال انطلقوا إلى قريظة وحاصروهم، لا نُريد أن نذكر التفاصيل، قيل حاصروهم بضعة عشر يوماً وقيل عشرون وقيل خمسة وعشرون يوماً أو خمس وعشرون ليلة وقيل غير ذلك وفيما بين ذلكم، وفي النهاية لم يجدوا بُداً من أن ينزلوا على حُكم رسول الله، الوضع كان شديداً، وهنا طبعاً تذكر كل كتب السيرة قصة أبي لُبابة بن عبد المُنذِر من بني عوف وكان حليفاً ليهود قريظة، طبعاً بشكل عام يهود قريظة مع يهود بني النضير كانوا حلفاء الأوس، أما يهود بني قينقاع فكانوا حلفاء الخزرج، لذلك شفع فيهم الخزرجي رأس النفاق ابن سلول، أما قريظة وبنو النضير على ما كان بينهما بينهما من تعادٍ شديد جداً وتفريق حتى في الديات – وقد أمر النبي بأن تُوحَّد دياتهم، جمع دية – كانوا حلفاء للأوس، رئيس الأوس الآن ومُقدَّمهم هو سعد بن مُعاذ رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
على كلٍ تُورِد كل كتب السيرة قصة أبي لبابة بن عبد المُنذِر وكيف أنهم طلبوا أن يُسيِّره النبي إليهم فأتاهم فاستشاروه وجهش إليه النساء بالبكاء وسألوه هل ننزل على حكم محمد؟ فقال نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، قال فلم تزل قدماي حتى علمت أنني خُنت الله ورسوله… إلى آخر القصة، وهذه القصة تثور في وجهها تساؤلات كثيرة سنُفصِّلها – إن شاء الله – في مُحاضَرة السبت التي ستكون مُعدَّة لذكر تفاصيل هذه الحادثة الخلافية، سنعلم الآن أين تكن أوجه الخلاف في هذه الحالة، إلى الآن الموضوع عادي لا يُثير أي تساؤلات حرجة تبعث على اختلافات النظر، فلم يجدوا بُداً من هذا واستكانوا وبخعوا، فجاء الأوس – وهم حلفاؤهم، لم يكن كل الصحابة مُتشوِّقين للقضاء على قريظة، الأوس حلفاؤهم ولم يكونوا يُحِبون هذا أبداً، كانوا يُحِبون أن يعفو عنهم رسول الله كما فعل لإخوانهم الخزرج مع بني قينقاع – وقالوا يا رسول الله قريظة على ما علمت حلفاؤنا فاصنع بهم ما صنعت لإخواننا من الخزرج، يُشيرون إلى قصة بني قينقاع، كما عفوت عن هؤلاء اعف عنهم، وهذا طبعاً ربما لا يستطيع كثير من الشآنئين للإسلام من الغربيين والشرقيين أن يفهمه، لماذا؟ أليس يُقدِّم المُسلِمون دينهم على كل شيئ وهم الذين هُدِّدوا في دارهم وديارهم وأرضهم وحيواتهم بسبب خلاف هؤلاء القرظيين؟ ما لا يفهمونه هو ما أقر به بعضهم على تعصبه الشديد وهو أن العرب بشكل عام – وهذا عكس ما نتصوَّره الآن نحن، يبدو أننا أقل عربيةً من العرب الأقدمين، حتى من العرب الجاهلين – لم يكن لديهم نزوع شديد إلى الدماء، العربي بالعكس لا يُحِب الدماء، لا يُحِب التقتيل كما نظن، بالعكس العربي يُحِب السلام أكثر من الدماء، فكيف العربي المُسلِم المُحمَّدي؟ بلا شك هو يُحِب العفو والصفح أكثر من إراقة الدماء، ثم أنهم من جهة أُخرى حلفاؤهم، والعربي كائن وفي، المُسلِم أيضاً إنسان وفي، حتى وإن خانني هذا الحليف يبقى حليفي، لابد أن نذكر كما يُقال العيش والمِلح، هكذا كان، ليس كمُسلِم اليوم، ليس كعربي اليوم، هكذا كانوا، كانوا رجالاً، فأردوا العفو، النبي الآن في وضعٍ حرجٍ جداً، الآن إذا أصدر فيهم حُكماً هو يراه ربما يفقد تعاطف بعض الرجال من مُعسكَره من الأوس، ربما يحدث شرخ أو انكسار أو تمرد داخلي، بحنكته الإلهية قال – ألهمه الله حلاً وسطاً رضيَ به حتى يهود قريظة – ألا ترضون أن يُحكّم فيهم – يُخاطِب الأوس – رجلاً منكم؟ فقالوا بلى، ومَن سيُحكِّم؟ السيد طبعاً، أي سيدهم ورأسهم، وكان سعد بن مُعاذ قد أُصيب بجراح في كاحله في الأحزاب – في الخندق – وأمر النبي أن يُمرَّض في مسجده في خيمة لرفيدة التي كانت تحتسب مُداوة الجرحى وتحتسب أيضاً العناية بالضائعين من المُسلِمين، فُوضِعَ له حمارٌ ووُضِعَ عليه شيئٌ من أدم لأنه كان رجلاً جسيماً على وسامته وكان يُعاني من أزمة الجراحة ثم جيء به، على كل حال هناك تفاصيل كثيرة، قال احكم يا سعد، هؤلاء قومك، طبعاً لاذ به قومٌ من الأوس: يا سعد، يا سعد حلفاؤنا، يا سعد حلفاؤنا، أحسِن إلى قريظة، كلهم يحثه على أن يُحسِن فيهم، أي كُن رقيقاً، كُن عطوفاً، لا تكن صعباً، تسامح معهم، حتى أكثروا عليه فقال أما أنه قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم سأحكم فيهم بما يرتاح إليه ضميري المِلي أو الديني، سأحكم فيهم بالجزاء العادل الذي أراه يُكافيء ويكون وفاء أو عدل خيانتهم، أي بمقدار خيانتهم، العقوبة على قدر الجريمة، وافق الجميع على تحكيم سعد، فقال أحكم – بعد أن استرضى الرسول، الرسول رضيَ بحُكمه وهو لا يدري بماذا سيحكم سعد ولم يكن بين سعد والرسول أي مُفاوَضة، مَن قال هذا من المُستشرِقين فقد كذب وليس عنده أي دليل إلا قصة أبي لُبابة وسنرى القول الصحيح فيها غداً إن شاء الله تبارك وتعالى لأنها قصة إشكالية للأسف الشديد، هناك أشياء كثيرة نكتبها ونرويها ونُسيئ إلى أنفسنا دون أن ندري ودون أن نقصد مع أنها لا تصح وعليها إشكالات وتناقضات كثيرة – بأن تُقتَل المُقاتِلة – المُقاتِلون – وأن تُسبى النساء والذراري وتُقسَم أموالهم في المُسلِمين، المُقاتِلة يُقتَلون.
الآن ابن إسحاق – محمد بن إسحاق تلميذ محمد بن شهاب الزُهري وصاحب السيرة والعلّامة الكبير الذي أثبت سيرته ابن هشام رحمة الله تعالى عليه – يقول فاستنزلهم رسول الله إلى المدينة ووضعهم في دار بنت الحارث “امرأة من بني النجّار”، وفي رواية أُخرى – عند الواقدي في المغازي – وضع الرجال في دار بنت الحارث والنساء والأطفال في دار أُسامة بن زيد، أي في دارين، لكن عند ابن إسحاق في دار واحدة، الآن سوف نُقدِّر كم كانت عدتهم، بالآلاف طبعاً، ثم خندق لهم خنادق في المدينة، تحديداً في سوق المدينة، كم بين قريظة وبين مركز المدينة؟ من ست إلى سبع ساعات مشياً على الأقدام، طبعاً لم يركبوا، مُستحيل أن يكون تم ركاب زُهاء خمسة آلاف، إذا ذهب الجيش الإسلامي كله – إذا صح أنهم كانوا ثلاثة آلاف – مُستحيل أن تكون هناك مراكب لثمانية آلاف أو تسعة آلاف، مُستحيل! قطعاً جاءوا ساعين، أي يمشون، هؤلاء الخمسة آلاف قرظي أو الأربعة آلاف قرظي بالحري وبالقطع – حتماً – فيهم الكبار وفيهم المرضى والزمنى وفيهم المُعاقون، وهؤلاء الذين سيُبطئون سرعة السير، فبدل ست أو سبع ساعات ستأخذ زُهاء عشر ساعات، لماذا؟ سوف نفهم، هل كان وعي النبي الحربي اللوجستي كما يُقال يسمح بهذا؟ هذه الخُطوة بشكل عام غير مُبرَّرة وغير معقولة علمياً، لا يقبلها أي قائد عسكري، ليس لها معنى، سنُناقِشها بعد قليل!
يقول ابن إسحاق استنزلهم إلى المدينة في بيت بنت الحارث من بني النجّار، ثم أمر بخنادق، خُندِقَت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أُمِر بهم فأُخرِجوا أرسالاً – أي جماعات جماعات – لتُضرَب أعناقهم، وهنا روايات كثيرة طبعاً عن بطولة اليهود وعن استبسالهم، لم يحدث أن واحداً منهم غيَّر دينه وقد خيَّرهم سعد بن مُعاذ بأن مَن أسلم يُعفى عنه، يحقن الإسلام دمه، فلم يفعل ذلك إلا واحد منهم رفاعة بن السموأل القرظي، واستوهبته امرأة من المُسلِمين كانت خالة الرسول – يبدو من الرضاعة – الرسول، أي استوهبته الرسول، قالت يا رسول الله إن يزعم أنه سيُصلي ويأكل لحم الجمل، فالنبي وهبه لها، علماً بأنني وجدت النبي لم يحدث مرة أن استوهبه أحدٌ من أصحابه أو من الصحابيات رجلاً وإن كان أحل النبي دمه إلا وهبه له، النبي يُحِب العفو دائماً، يُحِب أن يعفو النبي، كلما استُوهِب أحدهم فإنه يهبه عليه الصلاة وأفضل السلام، واحد فقط أما البقية فلم يفعلوا، بقوا على دينهم، يقول الواقدي وقضوا ليلتهم في مُدارَسة التوراة، خيَّرهم حُيي بن أخطب حين كانوا في الحصن هناك في قريظة بين خيارات ثلاثة – سنُناقِشها غداً – فلم يقبلوا شيئاً منها، طبعاً هذا يُذكِّرنا بثورة المكابيين وبقلعة الماسادا، استبسال! استبسال يهودي رفيع عجيب.
الزُبير بن باطا القرظي شيخ كبير، كان قد منَّ يوم بُعاث – قبل الهجرة بخمس سنوات – على ثابت بن قيس بن شمّاس، كان قد منَّ عليه، فأراد ثابت بن قيس أن يجزيه بهذه المنة البيضاء فاستوهب النبي هذا اليهودي – الزُبير بن باطا – فوهبه النبي، قال له أنت ستحيا، قال ما حاجتي إلى العيش؟ ما حاجتي إلى العيش ولا ولد ولا نساء؟ فجاء مرة أُخرى واستوهب ولده ونساءه، فوهبهم النبي له، قالوا ما حاجتنا إلى العيش ولا أموال نُقيم عليها؟ أي نحن بلا مال وسنضيع، فعاد ثابت بن قيس – انظر إلى أي مدى بلغ كرم النبي وتسامح النبي – واستوهب النبي ماله وأرضه، فهوهبا النبي له، قال هي له، لا بأس، ليعش هو وأهله وأرزاقه أيضاً وأملاكه، فجاء فأخبره فرحان جزلا، أعني ثابت بن قيس، فقال ما فعل كعب بن بن أسد رئيس بني قريظة؟ قال قُتِل، قال ما فعل حُيي بن أخطب؟ قال قُتِل، قال ما فعل فلان وعلان من المُقاتِلة والمُجاهِدين الكبار من اليهود؟ قال قُتِلوا، قال لا أُحِب العيش بعدهم والله ولو قليلاً، أُريد أن ألقى الأحبة، واستحلف ثابتاً – أي ثابت بن قيس – باليد التي له عليه أو عنده أن يضرب عُنقه فقدَّمه إلى الموت، موقف بطولي رهيب، موقف تراجيدي مُمتاز، هذا يُروى في كتب المُسلِمين!
المرأة التي قتلت خلاد بن سويد بأن ألقت عليه الرحى في الحصن هناك وأمر النبي بقتلها تروي عائشة قصتها، قصة استبسال ومُلاقاة باسمة للموت، عائشة تقول لم أر أي امرأة مثل هذه، نُوديَ عليها للقتل وهي تضحك، كانت تشعر بالفرحة وتضحك، ثقة! ثقة بالدين ربما، أيضاً تعظيم للسبت وتعظيم للشريعة، وأبوا أن يُقاتِلوا وأن يُنازِلوا الرسول وأصحابه والمُحاصِرين لهم في السبت، لأنه سبت! أشياء كثيرة مثل هذه، وهي عجيبة جداً، تُروى هذه في كتبنا على أنها جُزء من الوقائع أو من الحقائق، فما حقيقة هذه الحقائق؟
المُهِم قُدِّموا – كما قلنا – جماعات جماعات فقُتِلوا، وجيء بحُيي بن أخطب النضري وعليه جُبة قد شقها من كل جهة قدر أنملة لئلا يُسلبها، مجموعة يداه إلى عُنقه، فنظر إلى النبي فقال والله ما لومت نفسي على عداوتك، كنت وما زلت ولست أستشعر الندم لأنني عادوتك، ولكن مَن يخذل الله يُخذَل، ثم نظر إلى اليهود القرظيين الذين ينتظرون ضرب أعناقهم وقال لا بأس، لا بأس، يُثبِّتهم ويُصبِّرهم، هؤلاء هم الأبطال، هذا بطل كبير! قال إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمةٌ كتبها الله على بني إسرائيل، ثم قُدِّم فضُرِبَت عُنقه، يقول ابن إسحاق وكانوا سبعمائة، والمُكثِّر لهم يقول كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة، وهنا يأتي كثيرون من الشرق والغرب مصدومين مذهولين، ما هذا المُحمَّد الذي يزعم أنه نبي ويقتل في يوم أو في أيام معدودة تسعمائة من البشر؟ مَن الذين قُتِلوا؟ في روايات كثيرة أن النبي أمر – لا ندري الآن هل هذا حكم سعد أم أن النبي أمر، الآن يقولون هذا كان أمر النبي، هذه تناقضات طبعاً – بأن يُقتَل كل مَن جرت عليه الموسى، أي الموس، بمعنى كل مَن أنبت شعر عانة، يُقتَل كل مَن له شعر عانة، هذه علامة على البلوغ، كل إنسان بلغ يُقتَل، حتى ابن الإحدى عشرة سنة لو كان بالغاً وأنبت يُقتَل، أمر النبي بقتل كل مَن جرت عليه الموسى، مع أن مذهب الإمام الشافعي – أبي عبد الله رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – في ناقضي وناكثي العهود والعقود أن الناقض لا يُعَد ناقضاً إلا إن نقض بالفعل وليس مَن لم ينقض وإن كان في جماعة ناقضين ناكثين، وهذا هو العدل، قال الله وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، لا يُوجَد في الإسلام حرب شاملة، ثم أن هذا الذي أنبت لعله أنبت قبل أسبوعين أو ثلاثة أو شهر، لم يحمل سيفاً ولم يطعن ولم يضرب ولم يُلق سهماً حتى على أحد، لكن يُقتَل، وهكذا قُتِل تسعمائة أو ستمائة أو سبعمائة أو ثمانمائة وفي روايات أُخرى أيضاً أربعمائة، أقل شيئ قيل كانوا أربعمائة، هذا في المشهور وليس في كل المصادر، في المشهور كانوا أربعمائة، ما الحقيقة؟ لذلك يُعانِد بعضهم كالاسكتلندي مونتجمري وات Montgomery Watt، في كتابه محمد في المدينة Muhammad at Medina يقول هذه الواقعة تُظهِر كم هو الفرق الكبير بيننا نحن الأوروبيين المُتحضِّرين المُتمدينين وبين عرب الجزيرة وفي رأسهم محمد، عنف دموي مُخيف، مجزرة، العنونة تأتي لهذا الحدث بعنوان The Massacre of the Banu Quraiza، أي مجزرة بني قريظة، للأسف بعض الكتّاب الإسلاميين أيضاً يكتب مجزرة بني قريظة، بعضهم يكتب إبادة بني قريظة، بعضهم يكتب تصفية الوجود اليهودي لقريظة، ما هذه العنوانات غير المسئولة وغير الدقيقة؟ هل تعرفون لماذا؟ الموضوع طويل لكن باختصار أيها الإخوة لأن الإنسان لا يتقبَّل الرواية أو الحكاية أو حتى الأسطورة التاريخية على أساس التحقيق التاريخي سنداً ومتناً، ظاهراً وباطناً، كلا!
أُحِب أن أقول أيها الإخوة باختصار إذا أردنا أن نُعيد النظر في بعض تقنيات مُحاكَمة الروايات لابد أن نضع قيداً جديداً، لابد أن ننظر إلى الراوي وإلى المروي وأيضاً لابد أن ننظر إلى المروي له، هذه الرواية تجري بين مَن؟ وتُروى لمَن؟ مَن الذي يتلقاها؟ الآن – مثلاً – مثل هذه الخُطبة أزعم أنها ستكون فاشلة تماماً – مُرشَّحة لأقصى درجات الفشل – في فلسطين وحُقَّ لهم، سيقولون يا أخي ليس هذا وقت أو زمان تبرئة الرسول حتى من روايات غير صحيحة أو من روايات مُتناقِضة مُختلَقة ونحن نتعرض لظلم هؤلاء القوم – اليهود – صباح مساء، ونُقتَل بالعشرات ولا أحد يبكي لنا، ولا أحد يذرف الدموع المُنافِقة طبعاً علينا، طبعاً أنا أيضاً سأقول من وراء هؤلاء القوم – من وراء قومي الفلسطينيين – هذا هو فعلاً، وأطرح سؤالاً أيها الإخوة – خاصة للمُستشرِقين بالذات ولأذناب المُستشرِقين – ماذا لو نجحت الأحزاب وقريظة في حربها الكاسحة المحاقة على مدينة رسول الله وقُتِل الرسول وطبعاً لم يكن ليستبقي هؤلاء فرداً من أفراد المُسلِمين إلا النساء وحتى أشك في أنهم يستبقون الصغار؟ وما قصة شهداء نجران من النصارى الذين خندق لهم بل خد أخدوداً كبيراً وملأه بالنار اللاهبة يوسف ذو نواس الحميري اليهودي بتحريض من يهود يثرب أنفسهم؟ انتبهوا إلى هذا، هذه حقائق تاريخية مذكورة في كل الكتابات الاستشراقية، فعل هذا بتحريض من يهود يثرب أنفسهم، خد أخدوداً وأحرقهم جميعاً، كم كانوا؟ قيل كانوا ألفين وقيل كانوا مائتين، انتبهوا إلى هذا، عشرة أضعاف! هذا في كتب التاريخ، قيل كانوا ألفين وقيل كانوا مائتين من شهداء نجران النصارى رحمة الله عليهم أجمعين، هؤلاء أصحاب الخدود في سورة البروج، أعتقد أنهم لن يستبقوا فقط إلا النساء، أما الأطفال الصغار الذين إذا كبروا سيُطالِبون بثأرهم فالحكمة ألا يُستبقوا، فربما كانوا سيُقتَّلون!
على كل حال من ضمن مونتجمري وات Montgomery Watt نفسه مع تناقضة الشديد جداً في كتابته لسيرة رسول الله يقول بالحرف ولو قامت قريظة – أي تشجعت وحزمت أمرها – بهجومها بنجاح على مُؤخَّرة المُسلِمين لقُضيَ على مُعسكَر محمد، لانتهى كل شيئ، لقُضيَ فعلاً قضاءً مُبرَماً، هم يعترفون بهذا، فالوضع كان حرِجاً وخطيراً جداً، ليست مسألة خيانة عادية وليست مسألة نقض للعهود وليست مسألة حياد، لم تكن كذلك أبداً، مسألة تهديد للوجود الإسلامي برُمته، أي عن آخره، باعتراف بعض هؤلاء، وهذه هي الحقيقة، أنا سأقول اللآن مُتسائلاً بماذا كان سيُعلِّق هؤلاء الكتّاب؟ أنا مُتأكِّد أنهم كانوا سيُعلِّقون بسطرين: وهكذا كان لابد أن تُوضَع نهاية للدجل وللدجّال الكبير الذي ادّعى النبوة والرسالة ولأتباعه من المُتعصِّبين العُربان الذين أرادوا بتعصبهم وجهلهم وأُميتهم أن يُغرِقوا العالم في ظلام وفي تخلف وفي رجعية، انتهى كل شيئ، وهذا قضاء وقدر عادل، ونهاية تاريخية مفهوم أن يُوضَع حدٌ للدجل والكذب. هكذا كان سيرثي هؤلاء لمحمد وأتباع محمد ولأمة محمد جميعاً، الذين يذرفون الدموع المُنافِقة الكاذبة – دموع التماسيح – على الخونة والغدرة!
نحن من وراء هذا الكلام أيها الإخوة نُحِب أن نقول الرواية ليست فقط رواية وراوٍ ومروي، تروي مَن أنت؟ في علم الاجتماع السياسي يقول العلماء الحقيقة التاريخية ليست نصية بل هي حقيقة اجتماعية، ما معنى اجتماعية؟ بمعنى أن المُتخصِّص في علم الاجتماع السياسي حين يُريد أن يُحاكِم أي حقيقة فإنه لا يُلقي ليتاً ولا يُلقي بالاً إلى موضوع الإسناد ومُحاكَمة المتن ظاهراً وباطناً – النقد الظاهر والنقد الباطن – وما إلى ذلك، لا يعنينه هذا، هذه صناعة المُؤرِّخ وهو غير مُؤمِن بها حتى، المُتخصِّص في الاجتماع السياسي يُؤمِن بأن معيار حقية الحقيقة هو مقدار تأثيرها في حياة الجماعة وفي أيديولوجيا الجماعة وفي مخيال الجماعة، مسألة معروفة، ولذلك هناك حقائق كثيرة بحسب علم الاجتماع السياسي هي حقائق لكن بحسب التوثيق التاريخي أساطير، أي كلام فارغ، لم تصح، المُشكِلة أن المسألة منهجية أيها الإخوة، وسأُعالِج هذا منهجياً أيضاً في درس السبت إن شاء تعالى، هذه مشاكل المنهج، هناك ثلاثة معايير عموماً يُمكِن أن ننظر من خلالها إلى الحقائق التاريخية أو الوقائع التاريخية أو الروايات التاريخية، مسألة منهجية مُعقَّدة جداً، على كل حال نعود الآن لكي نتساءل هل فعلاً سمح الرسول – ولا نقول أمر لأنه لم يُحكَّم، الذي حُكِّم سعد بن مُعاذ وهو من حلفائهم ورضوا بحُكمه، والرجل عاقل رزين وغير مُتهَم، غير مجروح رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، أي غير مجروح العدالة، رجل يصلح أن يكون حكماً، سيد عظيم – عليه الصلاة وأفضل السلام أن يُقتَل هذا العدد الكبير من قريظة في غداةٍ واحدة أو في غدوات يسيرات؟ هل حصل هذا؟ هل ثبت هذا أولاً؟ جاء بعض الكتّاب المُسلِمين الذين يكتبون في السيرة النبوية الصحيحة يتغيَّظون مُصِرين على أن هذه الحقيقة ولماذا نُجامِل يا أخي؟ لا نُريد أن نُجامِل، هذه هي الحقيقة! قبل أن تقول هذه هي الحقيقة لابد أن تُثبِت أنها حقيقة، لا بالمعيار السوسيو بوليتيكي – كما قلت قبل قليل – وإنما بمعيار النقد التاريخي العلمي، بمعيار المُحدِّثين وبمعيار المُؤرِّخين هل هذه حقيقة؟ سوف نرى!
أولاً نعود إلى الصحاح – إلى البخاري ومُسلِم بالذات – نجد أن الشيخين الجليلين البخاري ومُسلِماً رويا هذه الحادثة باقتضاب وبإجمال، ذكرا موضوع التحكيم وذكرا بالضبط أن سعداً حكم بأن تُقتَل المُقاتِلة، ليس هناك في البخاري ولا مُسلِم أي إشارة – أدنى إشارة – إلى موضوع مَن جرت عليه المواسي، أي الموسى لمَن أنبت، هذا غير صحيح، لم يثبت هذا عن رسول الله ولا عن سعد طبعاً، إنما قال المُقاتِلة، وهذا يفتح سؤالاً الآن ما المقصود بالمُقاتِلة؟ هل المقصود بالمُقاتِلة مَن كان يصلح للقتال – يتأتى منه القتال – أو المقصود منه مَن قاتل فعلاً ودخل في حرب مع المُسلِمين وثبت عليه ذلك؟ لابد أن يكون فُتِح التحقيق في هذه المسألة، هذه جريمة خيانة عُظمى – High treason – وأيضاً جريمة حراب على المُجتمَع، جريمة حربية حقيقية، أي جريمة حرب! فهذا يفتح سؤالاً لكن ليس هناك إشارة إلى موضوع مَن جرت عليه المواسي، هذا لم يرد في الصحيحين فانتبهوا، وهذا كان أولاً.
ثانياً البخاري ومُسلِم لم يذكرا عدداً مُطلَقاً، لا أربعمائة ولا أربعين ولا أي شيئ، فقط هذا هو فانتبهوا، إذن أين جاء هذا العدد؟ جاء في روايات ليست تستند، ليست لها سند صحيح، ابن إسحاق يرويها في السيرة تعليقاً، ويروي بعضها بلا أسانيد أصلاً ويتساهل، وأنتم تعلمون أن في العصور القديمة والعصور الوسيطة كانت كل الأمم بما فيها الأمة العربية والإسلامية تنزع إلى تكثير عدد قتلاهم – أي قتلى عدوهم – وليس إلى تقليلها، ينزعون إلى تكثيرها، يفتخرون بهذا، يقولون قتلنا منهم ألفاً ويكونون قد قتلوا عشرة أو سبعين، يقولون قتلنا ألفين وقد قتلوا مائتين، فهم ينزعون إلى هذا، بالنسبة لليهود أنفسهم عندهم المنطق الذي يُسمى بالروحية الاستضحائية، يُحِبون هذا ويكتبون هذا، ونتأمل في الأحداث هنا فنجد أن كل عناصر المأساوية والاستضحائية اليهودية موجودة في هذه القصة تماماً: أولاً تم قتلهم جميعاً – عن آخرهم، مَن جرت عليهم المواسي، أي الذكور جميعاً – كضحايا، ثانياً الموضوع كان بسبب خيانة حصلت وإلا لكان الانتصار، لكن حدثت خيانة، خذلتهم قريش وغطفان وانسحبوا فتركوهم لمصيرهم، وهذا في كل كتبهم، اقرأوا كل تاريخ مذابح اليهود وسوف تجدون أن نفس العناصر تتكرَّر، وسوف يُبادِرني أحدكم بسؤال قائلاً هل تُريد أن تقول أن هناك يداً يهودية صابت هذه الحكاية أو جُزءاً منها؟ نعم، لماذا؟ هذا ليس احتمالاً، هذا موضوع يشهد التحقيق به لأول وهلة، نعود إلى ابن سعد ونعود إلى ابن إسحاق ونعود إلى الواقدي نجد في إسانيدهم عطية القرظي، مَن هو عطية هذا؟ هذا من الناجين من بني قريظة ويروي مأساتهم، وهو الذي يروي بشكل واضح: وأمر النبي بذبح كل مَن جرت عليه المواسي، اليهودي عطية القرظي هو الذي قال هذا، لا تقل لي أسلم وما إلى ذلك، فكِّر بطريقة علمية، لا تستطيع أن تُسقِط قيمة الانتساب وحرارة الدم أيضاً وعمق المأساة والمرارة، لا تستطيع، هؤلاء الأوس والخزرج حتى آخر يوم بينهم مُعادَلة ومُرَاهنة مُستمِرة، فعلوا كذا وفعلت لهم كذا فافعل لنا كذا،موجود هذا في الإنسان، لا تنظر نظرة مثالية ملائكية للأمور، مستحيل أنه اسلم فانتهى الأمر، هذا غير صحيح، أيضاً نجد في أسانيدهم أيها الإخوة المسور بن رفاعة القرظي، من بني قريظة، والمسور بن رفاعة يروي عن عمه ثعلبة بن أبي مالك القرظي، وثعلبة بن أبي مالك القرظي مِمَن نجا، لا نستطيع أن أقول أنه كان صغيراً لكنه نجا، كان من الناجين وهو قرظيٌ آخر، وأخيراً نجد في أسانيدهم محمد بن كعب القرظي التابعي والزاهد الجليل، هذا موجود!
إذن هناك صنعة ونفس يهودي واضح في الحكاية خطط لنسج الجانب الدراماتيكي التراجيدي من الحكاية، أي الجانب التضحوي، أيضاً تبرز البطولة، البطولة دائماً في الماسادا وفي الميكابيين، بطولة حُيي بن أخطب حتى آخر لحظة الذي قال ما لمت نفسي على عداوتك، إلى آخر لحظة كان بطلاً كبيراً وكان يُثبِّت قومه قائلاً لا بأس، لا بأس، موقف باسل أمام الموت، ونجد أيضاً بطولة الزُبير القرظي، أي ابن باطا القرظي، بطولة عظيمة جداً جداً، فضَّل أن يُضحي بنفسه على أن يعيش بعد أن فنيَ أحبابه وقادته، قال لا، نحن لا نقدر على العيش بعد هؤلاء، نجد أيضاً مُدارَسة التوراة في آخر ليلة، كانوا يدرسون التوراة، نجد أيضاً أيها الإخوة رفضهم أن يُقاتِلوا في السبت رغم أن هذا كلام فارغ ولا يصح على طريقة اليهود في فهم دينهم، لا تجد الآن حبراً في العالم يقول لك إن القتال دفاعاً عن النفس في السبت مُحرَّم، هذا غير صحيح، وخاصة من ثورة المكابيين، بالعكس هو واجب، القتال دفاعاً عن النفس في السبت في شرعهم واجب، وهذا يُؤكِّد أن هناك كذباً حتى على اليهود هنا، اليهود لم يقولوا هذا ولم يفعلوه، الذين نسجوا الرواية كذبوا لأنهم غير دارين وغير عارفين بدقة بشريعة اليهود، طبعاً هناك أشياء أكثر من هذا، أشياء تفصيلية دقيقة لابد أن تُناقَش بطريقة علمية!
للأسف أدركنا الوقت وهناك الكثير الذي يجب أن يُقال، لكن باختصار – عوداً على بدء – لماذا يستنزل النبي كل هذه الآلاف الكثير من حصونهم ويسير بهم أو يُسيِّرهم زُهاء عشر ساعات إلى المدينة – انتبهوا – لكي يحجزهم في دار واحدة عند ابن إسحاق؟ انتبهوا إلى هذا، ما حجم هذه الدار التي ستسوعب خمسة آلاف أسير؟ هذا لا ينفذ في العقل أبداً، أكبر مساحة مفتوحة كانت في أيام النبي هي مسجده، سبعون ذراعاً في ستين ذراعاً، ما يُساوي خمسة وثلاثين متراً في ثلاثين متراً، هذا المسجد النبوي، لم تُوجَد أي دار بحجم المسجد، حتى هذا المسجد – أقل من ألف متر مُربَّع تقريباً – لا يتسع لخمسة آلاف أسير، مُستحيل! وخاصة أن النبي لم يكن ليسمح أن يختلط الرجال بالنساء في هذه الحالة الزرية، قال حجزهم في دار، دار بنت الحارث! مَن هذه المليارديرة التي عندها دار بمساحة تتجاوز ألف متر مُربَّع؟ كلام فارغ، كلام غير معقول فانتبهوا، لكن نحن نقرأ ونُسلِّم على العلات للأسف الشديد.
ثالثاً وخندق لهم خنادق، هذه عند ابن إسحاق وابن هشام طبعاً مُؤلِّف السيرة، عند الواقدي وخد لهم أخدوداً، قطعاً هنا كان يستحضر رواية الواقدي قصة شهداء نجران والتعامل بالقصاص، تسببتم أنتم في خد الأخدود لشهداء نجران من النصارى الأبرياء الذين نعاهم القرآن فلتُلاقوا ولتشربوا من نفس الكأس ولتُلاقوا نفس المصير، انتبهوا إلى هذا، مرة خد أخدوداً ومرة خندق لهم خنادق.
رابعاً يُخندِّق لهم خنادق أين؟ في سوق المدينة، حتى لو فرضنا أن هؤلاء كانوا أصحاء يبقى خطر انتشار الأمراض خاصة البكتيرية موجوداً، واسألوا أي طبيب مُختَص وخاصة في هذا الحقل، موجود جداً جداً، لماذا يفعل النبي هذا؟ الأكثر من هذا أن الخندق العظيم الذي خندقه المُسلِمون في شمال المدينة كان موجوداً، لماذا لم يأخذهم النبي إلى ذلك الخندق ويضرب أعناقهم هناك ويُهيل عليهم التراب؟ أنا أتساءل، شيئ عجيب يا أخي، أشياء مُتناقِضة وغير معقولة، غير معقولة بالمرة، يُقال خندق لهم خنادق جديدة في سوق المدينة حتى تأتي بعض العوافي وبعض سباع الطير وتنبش – وهي تفعل هذا دائماً – وتأكل من الجثث وتنتشر الأمراض – ما شاء الله – في المدينة المُنوَّرة، النبي ليس عنده لا من الفهم ولا من الحنكة ما يجعله يفهم هذا الموضوع، مُستحيل، كل هذا غير معقول!
طبعاً هناك استنتاج قفزنا إليه قفزاً، غداً – إن شاء الله – سنذكر البيّنات والأدلة والنقاشات بالتفصيل في مُحاضَرة مُسهَبة مُطوَّلة، وهذا الموضوع حقيق أن يُعاد فيه النظر، وسأكون صريحاً معكم، حين قرأت السيرة وكنت غلاماً حدثاً صغيراً وقرأت لعبد السلام هارون تهذيب سيرة ابن هشام وقرأت هذا الرقم – يشهد الله وأنا على منبر الجمعة – شعرت باشمئزاز داخلي، وأنا صغير ومُحتَل – شعرت بشيئ أتعبني وأرقني، هل النبي يسمح بهذا؟ أيتم قتل المئات هكذا؟ أيُقتَل كل مَن أنبت؟ شيئ غير معقول، يُوجَد شيئ غير طبيعي هنا، وليس هذا من عادة رسول الله، على كل حال الاستنتاج أيها الإخوة هو:
الرواية الصحيحة التي من جهة الصناعة الحديثية هي صحيحة – بحمد الله – ومُتصِلة الإسناد ولا مقدح ولا مطعن في واحد من رواتها وهي رواية الإمام حُميد بن زنجويه صاحب كتاب الأموال رحمة الله عليه – إمام عادل ثقة بإسناده وفيها ابن شهاب، محمد بن شهاب الزُهري رضوان الله تعالى عليه – تقول – بعد أن تذكر قصة التحكيم – وقُدِّموا وضُرِبَت أعناقهم وكانوا أربعين، هذه الرواية ذاتها بإسنادها الصحيح الرجيح ذكرها الإمام العلّامة أبو عُبيد القاسم بن سلّام في كتاب الأموال وكُتِب فيها وصُرِّف – للأسف لا ندري مَن الذي تصرَّف هذا التصرّف، إنه المخيال الإسلامي العام الذي يُحِب أن يتشفى، وليُقتَل منهم تسعة آلاف، لماذا لا؟ بعض المُسلِمين يتعاطف مع هتلر Hitler ويقول يا ليته قتلهم جميعاً، هكذا فينا هذا المنطق للأسف، لكن هذا ليس منطق القرآن، ليس منطق الشرع، ليس منطق محمد عليه السلام الرؤوف الرحيم ورحمة العالمين، هذا غير صحيح، لابد من العدالة، قال الله وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ ۩، حتى مع عدوك لابد من العدل، ليس في الحُكم وإنما في الفعل، في الذبح يا حبيبي وفي السلخ، مجزرة يقولون – وكانوا كذا وكذا، جاء المُحقِّق ليقول في نُسخة ابن بادي – النُسخة المصرية للأموال – كانوا أربعين، وفي النُسخة الأصلية كانوا أربعين، هناك مَن حرَّف هذا الرقم، لأنه غير مرتاح، هو مُرتاح لرقم تسعمائة وليس لأربعين!
الآن بالعود إلى حُكم سعد أن تُقتَل المُقاتِلة يترجَّح لدينا – وهذا هو العدل – أن الحُكم كان مُتعلِّقاً أو مُصَباً على مَن مارس التحريض على الخيانة وخان وقاتل حقيقةً، واحد من هؤلاء يُقتَل، أي القياديين والوالغين المُنغمِسين في الخيانة والحرب، وهؤلاء طبعاً غير بعيد أن يكونوا أربعين أو زُهاء أربعين، هذا معقول ومقبول جداً، ومعقول ومقبول أن يكون قد اقتيد هؤلاء إلى المدينة هناك لتجري لهم مُحاكَمة ليست صورية وإنما مُحاكَمة عادلة مع تحقيق مُطوَّل مع كل أحد – ماذا كان دورك وماذا فعلت وماذا عن كذا وكذا – بدقة، هذا مُمكِن، لكن لا يُقاد خمسة آلاف إلى المدينة إلى آخر القصة الخُرافية، أسطورة!
والحمد لله البخاري ومُسلِم لم يذكرا شيئاً من هذه التفاصيل الأسطورية، ذكرا الحُكم وبدقة، أنه قال المُقاتِلة، وكفا عن موضوع الاستنزال وعن موضوع الأخاديد وعن موضوع العدد وعن كل هذه التفاصيل غير الدقيقة التي جعلت موقف الرسول مُريباً وجعلته حرِجاً بل عند بعض الناس جعلته مُلطَّخاً، كتب أحد الكتّاب يقول وهذه بلا شك تُعَد لطخة سوداء في تاريخ محمد!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
وبعد، أيها الإخوة والأخوات:
قبل أن أُغادِر هذا المكان المُبارَك الكريم نُحِب أن أطرح سؤالاً ونُجيب عنه، هل كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعلاً قاتلاً سفّاحاً أو ما يُسمى باللغة الأجنبية Mass murder؟ هل كان الرسول Mass murder يقتل بالجُملة المئات والآلاف؟ أحسن جواب عن هذا السؤال كالتالي، ولا أدري لماذا الذي يهرفون بما لا يعرفون من المُستشرِقين وأذنابهم يذكرون هذا وينعتونه عليه السلام بهذا الوصف المُجافي لكل الحقائق، كان لابد أن يسألوا هذا السؤال: كم عدد أولئك الذين تسبَّب رسول الله برسالته كلها – لأنه جاء رسولاً وقطع مع تاريخ الوثنية والكفر – في قتلهم من أتباعه ومن أعدائه على السواء؟ مشهور عند بعض الكاتبين – وذكرنا هذا مرة – أنهم كانوا زُهاء ألف وثلاثمائة، وهذا غير دقيق، بالعودة إلى المصادر وإلى الأسانيد الصحيحة والإحصاء الدقيق وُجِدَ أنهم كانوا ثلاثمائة وستة وثمانين فقط، مائتان وثمانية من مُعسكَر الوثنيين والمُشرِكين والبقية مائة وثمانية وسبعين كانوا من مُعسكَر المُسلِمين، مائة وثمانية وسبعون فقط، بل إن العلّامة المُوثِّق الكبير حميد الله رحمة الله تعالى عليه – وهو فعلاً بلا شك علّامة كبير ومن أكبر المُوثِّقين على الإطلاق لتاريخ المُسلِمين في القرن العشرين والذي كان يُجيد إطلاقة مُطلَقة لخمس لغات – وثَّق هذا بطريقة علمية في كتابه الذي وضعه بالأُردية – لُغته الأم – ميادين القتال في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وذكر أن الرقم الدقيق أنهم كانوا زُهاء مائة وخمسين فقط من الكفّار والمُسلِمين، لكن من غير احتساب قتلى قريظة، لأن الخلاف يدور حولهم فعلاً لمعرفة كم كانوا، وهؤلاء لم يُقتَلوا في معركة ولم يُقتَلوا كمُقاتِلين وإنما قُتِلوا بجريمة الخيانة العُظمى، خيانة الوطن! وهي إلى وقت قريب جداً جداً جداً – ولا تزال عندنا في بعض الدول – يُعاقَب عليها بالإعدام، الخيانة العُظمى – High treason – قديماً كانت هي العيب في الذات الملكية والآن تُسمى شيئاً آخر، مصلحة الوطن وتسليم معلومات، وهذا ليس تسليماً للمعلومات وإنما انغماس في حرب حقيقية ضد الوطن وضد المُواطنين من أبناء هذا الوطن!
إذن من مائة وخمسين إلى أربعمائة! كم يبلغ عدد قتلى اليهود في الكتاب – في أسفار العهد القديم الكثيرة – وكم يبلغ عدد الضحايا الآخرين أيضاً الذين قُتِلوا بسبب معارك اليهود؟ هل تعرفون كم؟ أما الآخرون – وهذا بالعود إلى الكتاب المُقدَّس، إلى أسفار العهد القديم كلها – بلغ تعدادهم مليون وستمائة وخمسين ألفاً وزيادة، هذا ما تُعطيه التوراة وأسفار العهد القديم، أما ضحايا اليهود أنفسهم في الحروب الداخلية وفي قتالهم مع غير اليهود بلغ تعدادهم ثلاثمائة وخمسين ألفاً، إذن المجموع زُهاء اثنين مليون!
لا أدري لم فقد الناس الحياء! مَن عنده مثل هذا التاريخ المُوثَّق في كتابه المُقدَّس لا يُمكِن أن يأتي ليُهيل التراب في وجه نبي كل الذين ماتوا بسبب دينه ورسالته وحروبه ومغازيه – محمد نبي السيف، الضحوك القتّال، نبي الملحمة – كانوا مائة وخمسين أو أربعمائة بل ضع معهم يا سيدي أربعمائة أيضاً من بني قريظة أو حتى ألف – ضع ألفاً – وسوف يكون الناتج ألف وثلاثمائة، وليس اثنين مليون!
مَن هو الأحرى بلُغة سفك الدم والقتل الجماعي؟ محمد؟ لم لا يستحي الناس؟ هذا السؤال الذي أختم به، يبدو أنهم لا يستحيون، ليس عندهم ماء وجوه حتى يستحيوا!
اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا 08/02/2008
في مذبحة خانيونس سنة 1956م تم قتل 660 شهيد في ساعة واحدة على يد اليهود المعتدين