إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم وذكره الحكيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۩ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ۩ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
الآيات الجليلات – أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩، إلى آخر السياق الكريم – في سبب نزولها يذكر السادة العلماء أن نفراً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بمكة المُكرَّمة – أي حين كانوا بمكة، قبل الهجرة – جاءوا إليه – عليه الصلاة وأفضل السلام – يطلبون إليه ويطلبون منه الإذن في مُناجَزة القوم، في أن يُقاتِلوا هؤلاء المُشرِكين العُتاة الذين ساموهم الخسف وصنوف العذاب والتباريح، فأبى النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لأنه لا يُشرِّع من لدن نفسه، إنما هو مُبلِّغ، عليه الصلاة وأفضل السلام، قال لا، لا تُقاتِلوا القوم فإني أُمِرت بالعفو، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ۩، الله – عز وجل – أمره أن يعفو، قال لا تُقاتِلوا القوم فإني أُمِرت بالعفو.
فلما هاجروا وفرض الله القتال كان مِن بين هؤلاء – ليسوا جميعاً، لكن من بينهم – مَن نكص وكع، وكأنه رأى الآن أن الأمر جد، هذا ما تتمناه، وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩، هذه أخف، الموت لما يحل بساحتهم، وإنما مُقدِّمات الموت، مُكامَعة الكفّار، مُجاهَدتهم، وقتالهم، قالوا ليس في وقته، لو أُخِّر قليلاً لكان أحسن، أين الحماس؟ أين الاستعجال؟ أين الاستنجاز؟ لماذا تراجعتم الآن؟
هذه الآية آية خطيرة في تشخيص أدواء الأمة وحال الأمة في كل زمان، في كل زمان وفي كل وقت! ولها نظائر كثيرات أو كُثر في كتاب الله تبارك وتعالى، من نظائر هذه الآية قوله – سُبحانه وتعالى من قائل – وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ – أي سورة يُذكَر فيها القتال والجهاد – فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۩، تشخص أبصارهم، يشخص أحدهم ببصره كما يشخص بصر الميت الذي يُنزَع ويُحتضَر، يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩، الله يقول فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩، أي أهلكهم الله، معنى فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩ هنا على الأرجح أنها ليست من باب التفضيل، أحق بهم وأجدر كذا وكذا، لا! هذا تفسير آخر موجود، وهذا أصح، فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩ أي الهلاك أصبح أدنى منهم، أهلكهم الله، ولذلك تُختَم بها الآية، فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩، ثم يستأنف مُبتدئاً فيقول طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩، إلى آخره! فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ۩ أهلكهم الله، دعا عليهم سُبحانه وتعالى، انتبهوا الآن، تفكَّروا يا إخواني وأخواتي في دعاء الله هو الذي يدعو به، الله داعيه! قطعاً هذا لا أقول مقبول، لأن الله هو الداعي وهو الفاعل، لا إله إلا هو!
لذلك انتبهوا إلى هذه اللفتة، في كل مقام وفي كل موضع من كتابه العزيز إذا رأيتم الله يدعو فالأمر جد خطير، إذا رأيتم الله يُسمي أو يصف فالأمر جد خطير، انتبهوا! جد خطير، فالله – مثلاً – يقول الآتي، لكن نحن أحياناً لا ننتبه إلى هذه اللفتات الحسّاسة في كتاب الله والمُذهِلة أيضاً، يقول الله – سُبحانه وتعالى – مُعلِّماً لنبيه ولأمة نبيه – مثلاً – قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۩ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ۩ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۩ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ۩ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ۩، مثلاً هذا شيئ خطير، الله هو الذي وصف، وصف هذا الحاسد، وقرنه في سياق واحد مع الأبالسة والشياطين والشرور، فتستطيع أن تعرف منزلتك وما لك عند الله بتأمل كلامه، انتبه! إياك أن تكون مِمَن دعا عليهم سُبحانه وتعالى، إياك أن تكون مِمَن ينضوي تحت وصف مقيت وصف الله به أعداءه أو أصحاب القلوب العليلة أو أصحاب التردد والتذبذب أو أصحاب الشك والريبة أو أصحاب الشهوات والأهواء، إياك! المسألة خطيرة جداً، والمعيار هنا إلهي، ليس كما تُعيِّر أنت، كما يقول هو، وكما يصف هو، هو سُبحانه وتعالى من واصف ومن قائل، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩، هو – سُبحانه – وصف أمثال هؤلاء بأنهم مُنافِقون، هذه صفة من صفات النفاق، يتحمَّس الإنسان ويطلب ويُبدي استعداده، فإذا جد الأمر نكص وكع، من صفات المُنافِقين!
لذلك قال عبد الله بن عمر خُلف الوعد ثُلث النفاق، وصدق الوعد ثُلث الإيمان، وما ظنكم بخصلة جعلها الله – تبارك وتعالى – كرامةً لأوليائه وفخراً لأنبيائه؟ فقال – سُبحانه من قائل – وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ۩، هكذا كانوا يتدبَّرون القرآن، ليس كما نفعل نحن، نحن نلهو ونلعب، أكثر تدبرنا لا معنى له أصلاً، ويُدعى تدبراً! هم يتدبرونه ليعملوا بحقائقه، ليتجوهروا ويُعيدوا بناء أنفسهم، بهذا الكتاب العزيز، وبهذا سادوا، وبهذا قادوا، وبهذا ارتفعوا وارتقوا، وكانوا مُتميِّزين حقاً واستثنائيين، ليس بالتنظير الفارغ البارد الجاف الذي لا معنى له ولا روح فيه، قال هذا هو! الذي يُخلِف – والعياذ بالله – استحوذ على ثُلث النفاق، إلا أن يكون مغلوباً على أمره، هذا شيئ آخر طبعاً، هذا معذور عند الله ومعذور عند الكرام من الناس، لكن الذي يُعطي الوعد أو الموعدة وفي نيته أنه لا يفي هذا ثُلث مُنافِق والعياذ بالله، فإن اجتمع إليه الكذب أصبح ثُلثي مُنافِق، وهكذا إذا اجتمع إليه الصفة الثالثة – والعياذ بالله – وهي الغدر أو الفجور في الخصومة – والعياذ بالله -، طبعاً في روايات هناك أربع خصال، على اختلاف في واحدة.
المُهِم هكذا كانوا يفهمونه، فالله – تبارك وتعالى – وصفهم بأن قلوبهم مريضة، أنهم مرضى، معلولون، ومُنافِقون، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۩، يشخصون بأبصارهم لأنهم مُنافِقون، إذن هذا من علائم النفاق ومن سيم المُنافِق والعياذ بالله، نسأل الله أن يُعيذنا ظاهراً وباطناً، والأمر حسّاس جداً، الصحابة كانوا يخافون منه، لكن نحن آمنون، ما شاء الله! كلنا آمنون، لا نتخوَّف من النفاق على أنفسنا، لا أدري لماذا، أتحدَّث عن نفسي أولاً، لا أدري لماذا، نسأل الله العافية وأن يُبصِّرنا بأنفسنا، من علائم النفاق – قالوا – أن يختلف السر والعلن والقول والعمل، قالوا هذه علامة النفاق، السر شيئ والعلن شيئ آخر، القول شيئ والعمل شيئ آخر، الله وصف أيضاً في نظيرة أُخرى – آية أُخرى مُناظِرة – لهاتين الآيتين أمثال هؤلاء بأنهم حمير، انتبهوا الآن! هنا الخطورة، الله هو الذي وصف هؤلاء، قال هؤلاء حمير، ما بالكم برجل قد يكون شيخاً مُلتحياً مُعمَّماً، قد يكون عالماً، قد يكون شيخ طريقة صوفية، قد يكون داعياً إلى الله وعالماً ومُفكِّراً إسلامياً، قد يكون عابداً مُتنسِّكاً، وقد يكون مُسلِماً عادياً يدّعي التُقى، وهو عند الله حمار؟ انتبهوا!
وهذا سيبدو له يوم القيامة، الله سيقول له أنت حمار، أنت عندي حمار، وهو ينتظر أن يكون عند الله من المُقرَّبين المُزدلِفين، لكن الله سيقول له لا، أنت مكتوب عندي حمار والعياذ بالله، ألم تقرأ كلامي مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۩؟ ألم يأتك نبأ قول مُصطفاي وحبيبي وخيرتي من خلقي في الحديث الصحيح الذي خرَّجاه – أعني البخاري ومُسلِم – في الصحيحين ومُتفَق عليه من حديث أُسامة بن زيد – الحب ابن الحب، رضيَ الله عنهما -؟ قال سمعته – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يقول يُؤتى بالرجل يوم القيامة، فيُلقى به في جهنم، فتندلق – تخرج بسرعة، الاندلاق هو الخروج بسرعة – أقتابه – وفي رواية أقتاب بطنه، جمع قِتب بالكسر، وهي الأمعاء، القِتب هو المِعى، الأقتاب هي الأمعاء، فتندلق أقتابه أو أقتاب بطنه – فيدور بها – والعياذ بالله – كما يدور الحمار في الرحى، الحمار! صلى الله على مَن تأوَّل القرآن، صلى الله على مَن تعمَّق القرآن وفهم القرآن، النبي لا يأتي بتشبيه فقط لأجل التغليظ وليس له أصل حتى في كتاب الله، هذا موجود في كتاب الله، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۩، النبي لم يأت بها من عنده، ولو جاء بها فهي خير ونعمة أيضاً، لأنه المُوفَّق المعصوم المسعود المبرور الأطهر – صلى الله عليه وسلم – الأبر، لكنه يتأوَّل كتاب الله، يقرأه ويفهم.
لذلك الإمام الشافعي في الرسالة رأى أن سُنة محمد – صلى الله عليه وسلم – جميعاً لا تعدو أن تكون فهمه – صلى الله عليه وسلم – للقرآن وفي القرآن، الشافعي قال هذا، قال هو يفهم القرآن ثم يُشرِّع، ثم يُفسِّر، ثم يقول، كله من القرآن! فالقرآن فسطاط العلوم، والسُنة مُنضوية فيه بالحري، قال كما يدور الحمار في الرحى، فيلوذ به الناس، أي الجهنميون- والعياذ بالله -، أهل جهنم، لا يُصدِّقون ويقولون هذا كان شيخاً، هذا كان بلحية وبعمامة، له مُؤلَّفات في الشريعة ومشهور، هذا كان عميد كلية الشريعة في كذا، كان يخرج في الفضائيات كل يوم، ويعتلي المنابر أو صهوات المنابر، لا يُمكِن! كيف يا فلان؟ ألست فلاناً الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكَر؟ فيقول بلى، بلى أنا هو، لكني كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المُنكَر وآتيه، فهذا الذي صيَّره، انتبهوا! هذا الذي صيَّره إلى ذاكم المصير الأغبر العاثر الأسود والعياذ بالله، في الدنيا عالم وفي الآخر حمار جهنم، انتبهوا! حمار جهنم، رحاه هي أمعاوه، يدور بها والعياذ بالله، الله يقول هكذا! هناك بعض الناس عندكم علماء وأولياء وعندي حمير، شيئ خطير! حين فكَّرت في هذا قلت شيئ مُخيف هذا ومُزلزِل، وأنت لا تستطيع أن تُغيِّر وصفك عند الله بالأماني، التي هي رؤوس أموال النوكى والحمقى، تقول لا، أتمنى أن أكون كذا وكذا، إن شاء الله أنا عند الله لي منزلة، ليس هكذا! إياك أن تُعيِّر نفسك بنفسك، عيِّر نفسك بالقرآن، إياك أن تخلق معاييرك بنفسك، قال تعالى وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، إياك أن تفتري وتتمنى وتُصدِّق نفسك، ستهلك في الدنيا والآخرة، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩.
ولذلك احتقبوا واحتطبوا في حبل المعاصي كل صغير وكبير، كل دقيق وفاحش، ظناً منهم أن الله قرَّبهم وانتجاهم وأحبهم، وهو في يوم القيامة إن عاقبهم فليس أكثر من أربعين يوماً بخطيئة العجل، ثم يسعدون إن شاء الله، الله قال وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، كذّابون! هم تأملوا في هذا، أوهام خلقوها، أنا لم أقلها لهم لا في توراتي ولا إنجيلي ولا قرآني، يكذبون على الله تبارك وتعالى، فانتبه وعيِّر نفسك بمعيار الله، لا بما تُريد أنت، كُن قاسياً مع نفسك، كُن قاسياً جداً مع نفسك، إياك أن تُجامِل نفسك.
والله العظيم هذا أكثر الأشياء أهمية يا إخواني، لذلك قال بعضهم النفس أحق بالمُحاسَبة الشديدة من مُحاسَبة الشريك الشحيح لشريكه، الشريك – مَن دخل في شركة تجارية مثلاً – البخيل جداً كيف يُحاسِب شريكه؟ على القطير والنقير والقطمير، أليس كذلك؟ بالسنت! لأنه لئيم، نفسك أحق أن تُحاسِبها هذا الحساب وأشد، لأنها ألأم، ولأنها أحق بالمقت في جنب الله، هي التي تُزيِّن لك – والعياذ بالله – حتى الفواحش، وتُمنيك أن الله يغفر لك، ترتكب الفواحش وتُمنيك أن الله يُحِبك، أليس قد رزقك هذا الرزق الواسع قبل أيام – مائة ألف يورو يا أخي – مع أنك كنت – والعياذ بالله – في الخمارة أو كنت في البار Bar؟ إذن يُحِبني! يا أخي لا يُحِبك، إنه يستدرجك، إنه يمقتك، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ۩، قال سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۩ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ۩، انتبه! افهم عن ربك يا رجل، يا عبد الله الأمر جد، الأمر مُخيف جداً يا إخواني، وليس بينك وبين أن تُعاين حقيقة الأمر إلا ماذا؟ إلا ماذا؟ إلا أن يُطالِعك عزرائيل بوجهه، حين يدخل عليك ويأتيك تعرف كل شيئ، انتهى كل شيئ، كل شيئ انتهى!
كان هناك والٍ في البصرة – أيها الإخوة والأخوات – اسمه محمد بن سُليمان العباسي، من وجوه بني العباس، وليَ للمنصور وللهادي وللرشيد، وليَ البصرة والكوفة ومرةً جُمعتا له، أي البصرة والكوفة معاً، كان عنده خمسون ألف عبد، ما شاء الله على أمة محمد، ما شاء الله يا رسول الله على أمتك من بعدك، ما شاء الله! في القرن الثامن الهجري، ما شاء الله وتبارك الله، خمسون ألف عبد، والناس تموت من المسغبة، ولذلك ثارت ثورات – حتى ثورة الزنج – من الجوع والعطش والمسغبة، يقولون هؤلاء من نسل العباس، من نسل رسول الله، ما شاء الله، ما شاء الله! خمسون ألف عبد، وغلته يومياً مائة ألف درهم، تخيَّلوا بالله عليكم، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – يموت ودرعه مرهونة عند يهودي في خمسة أوسق من بُر أو شعير، النبي يموت ورهنيته عند يهودي، لأنه لم يكن الشعير حتى يشتريه بحُر ماله، أين مالك يا رسول الله؟ أعطاه لمَن يستحق ولمَن لا يستحق، للأمة! يتألفهم لأنهم لا يستحقون، يتألَّفهم! وأعطاه لمَن يستحق، كان جواداً كريماً، هذا هو القائد، يبيت طاوياً ساغباً والناس شبعى مستورين، نُكمِل قصة ابن سُليمان بعد قليل.
في البخاري ومُسلِم – اسمعوا هذا الحديث الجليل – يقول جابر بن عبد الله بن حرام – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات مرة يا جابر لو جاء مال البحرين – لو جاء ماذا؟ المال من البحرين، النبي موعود به وينتظره – لأعطيتك هكذا – هذا معنى هكذا، أي الحثوة، غرفة بيديه، لم يذكرها الراوي، لكن السياق بعد يُفسِّرها – وهكذا وهكذا، كم حثية إذن؟ ثلاث حثيات، قال جابر فقُبِض – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ولم يأت من البحرين، فأتت أيام أبي بكر، رضيَ الله عن أبي بكر وعن عهد أبي بكر الصدّيق، صدّيق الأمة! الذي أيضاً كان يبيت طاوياً ويلبس المُرقَّعة كإخوانه عليّ وعمر، ويقسم ماله في المُسلِمين، ويُتوفى الصدّيق – خليفة المُسلِمين، بلُغة الغربيين إمبراطور المُسلِمين – ويُعيد نقوداً – دنانير – إلى بيت مال المُسلِمين، يقول لا أحتاجها، ليست لي، ويُكفَّن في ثوبه الذي مات فيه، أبو بكر لا يُشترى له كفن بدرهم، يقول الحي أبقى وأولى من الميت، أفٍ لنا وتُفٍ! قال يأتي مال البحرين في عهد أبي بكر، فيقف على المنبر – الله أكبر يا أخي، الله أكبر على الرجال، على الأخلاق، على الوفاء، وعلى القيم – ويقول أيها الناس مَن كان له عند رسول الله دين أو موعدة فليأتنا، أنا أحق بأن أفي عن رسول الله أيضاً، قال هذا عيب، في حقنا عيب أن الرسول يموت وربما وعد بعض الناس شيئاً ولم يُنجِزهم، حال بينه وبين ذلك القدر، مثل وعد جابر، انتبهوا! وإذا كان هناك مَن عنده دين فليأت أيضاً، قال جابر فأتيت فيمَن أتى، وقلت يا أبا بكر قال لي – صلى الله عليه وسلم – مرة لو جاء مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، صدَّقه، لأنه يعرف جابر بن عبد الله، صحابي جليل، ناسك، عابد، ومُجاهِد ابن مُجاهِد شهيد، قال فحثى لي حثية، حثية كبيرة، قال فعددتها فإذا هي خمسمائة، ثروة! قال خُذ مثليها أيضاً، لأن النبي قال هكذا وهكذا وهكذا، الوفاء! مع أن الرسول معذور العُذر كله، لم يُنجِز ما وعد – وقد أنجز حُر ما وعد – لأن الموت حال دونه ودون ذلك أو حال بينه وبين ذلك، أبو بكر جاء ليُوفي عن رسول الله، وهكذا كان يكون الحُب والإخلاص أيضاً والمُتابَعة، أنا يا رسول الله سأُوفي دينك، سأقوم بعدتك.
إذا قُلْتَ في شيئٍ نعمْ فأتمَّهُ فإنٌ نعمْ دَيْنٌ على الحرِّ واجبُ.
وإلا فَقُلْ لا تَسْتَرِحْ وتُرْحْ بها لئلا يقولَ النَّاسُ إنك كاذبُ.
قال إذا قُلْتَ في شيئٍ نعمْ فأتمَّهُ، إياك أن تفعل غير هذا، إياك! قالوا نحن ظاهرة صوتية، أحقاً؟ أحقاً نحن ظاهرة صوتية؟ هل شجاعتنا كلام؟ يبدو، هل كرمنا كلام؟ يظهر، هل وعودنا كلام؟ هذا ما نراه، هل عفتنا كلام؟ هذا ما يتبرهن، هل نحن حقاً أصبحنا إذن ظاهرة صوتية؟ هل نحن ممقوتون إذن لأجل هذه المعاني؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، وندعو دائماً في التراويح وليلة القدر ارفع مقتك وغضبك عنا، هل ترونه يستجيب ونحن لم نستجب له؟ وهو القائل اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۩، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩… اسمعوا الآية، نحن دائماً نأخذ نصفها، الله يقول أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۩، يا أخي أين النصف الآخر؟ قال فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩، لماذا هكذا نفهم الدين؟ كما نُريد! كما قلت نُعيِّره كما نُريد، نعم يُجيب إذا أنت أجبته، قال صُهيب ما أكرم ربنا لو أطعناه ما عصانا! جرِّب، جرِّب – كما يُقال – وامش تحته عادلاً مُقسِطاً مُستقيماً، وانظر كيف سيُعامِلك، تمن ما تُريد بعد ذلك، هذا هو! لكن لا تمش كيفما تُريد ثم تقول وعدني بالإجابة، عن أي إجابة يا عبد الله تتحدَّث؟ عن إجابة المغرورين الذين افتروا على الله وهم يعلمون أو يعلمون.
ونعود إلى محمد بن سُليمان العباسي، هذا الذي عنده خمسون ألف عبد أو رأس عبد، كانوا يُعدونهم بالرؤوس، خمسون ألف رأس – طرش غنم – من البشر، من عباد الله، جاء الإسلام لتحرير العبيد، لكن هؤلاء حوَّلوا الدنيا مزرعة عبيد للأسف، ثم يُقال هذا تاريخنا، لا يُمثِّل قرآننا هذا، لا يُمثِّل روح محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا رسالته، يُمثِّل جنون هؤلاء، يُمثِّل انفلات، طماعية، شهوانية، ودنيوية هؤلاء، مائة ألف درهم كل يوم، شيئ عجيب! العجيب أنه كان يخطب، وكان ذا فصاحة ولسان، كان منطيقاً الرجل ومُبيناً، وكان كلما اعتلى صهوة المنبر يأمر بالعدل والإحسان، عدل ماذا؟ أهناك عدل مع خمسين ألف رأس عبد؟ أهناك إحسان مع مائة ألف درهم كل يوم تُصَب في خزينتك؟ عدل ماذا؟ وإحسان ماذا؟ وظلم وجور في العامة والخاصة، كان ظالماً جبّاراً، فاجتمع نفر من نُسّاك البصرة، والبصرة معروفة بنُسّاكها، يُقال فقه كوفي وعبادة بصرية، معروفة! فيها نُسّاك وعُبّاد، فاجتمع نفر من زُهّاد وعُبّاد البصرة، قالوا ألا ترون إلى ما نحن فيه من هذا الظالم الجائر؟ ويأمرنا بالعدل والإحسان! قالوا ما هذه المُفارَقة؟ ما هذا الجنون الذي نعيشه نحن؟ هل مجانين نحن؟ هل نحن فعلاً أغنام ومعز؟ أيفعل كل ما يفعل ثم نسمح له أن يقول إن الله يأمرل بالعب والإحسان؟ ما هذه الحالة الفصامية التي نعيش؟ عُبّاد ثوّار إذن هؤلاء، انتبهوا! هؤلاء صوفية لكنهم ثوّار حقيقةً، لا يرضون بهذه الأوضاع المقلوبة المعكوسة المنكوسة، نكَّست رأست الأمة وعزها وشرفها، فقالوا ليس له إلا أبو سعيد الضبعي، العالم والراهب الجليل – قدَّس الله سره الكريم – أبو سعيد الضبعي.
وكان أبو سعيد يوم الجُمعة يُصلي قبل أن يشرع الإمام كمحمد بن سُليمان العباسي في الخُطبة، فإذا صلى لا يشعر بأحد، حتى يُحرَّك، حتى يبدأ الإمام يخطب ولا يدري، لأنه يكون مع الله في صلاته، يغيب عن العالم، فيُحرَّك ويُقال له يا شيخ، يا شيخ، فيعود إلى وعيه، معروف عنه هذا، فكان يُصلي – قدَّس الله سره، أي الضبعي – هكذا، فاعلتى ابن سُليمان المنبر وجعل يأمر بالعدل والإحسان، العدل والإحسان والأخلاق والقيم يا جماعة، يا ناس الإسلام وتراث محمد والسُنة والصلاح، فحرَّكوه، فقال ماذا؟ قالوا يا أبا سعيد محمد بن سُليمان يأمر بالعدل والإحسان، وأنت تعرف، فقام مُباشَرةً وقال يا محمد بن سُليمان – قاطعه مُباشَرةً، وهذه قد تُكلِّفه رأسه، لأن رؤوساً كثيرةً طاحت وطُوِّح بها، قُطت قطاً – أما سمعت إلى الله – تبارك وتعالى – يقول في كتابه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ۩ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ۩؟ يا ابن سُليمان إنه ليس بينك وبين أن تتمنى ألو لم تُخلَق إلا أن يدخل ملك الموت من باب بيتك، يأتيك ويدخل عليك، قال أول ما تراه ستتمنى أنك لم تُخلَق، فخنقته العذرة، أي ابن سُليمان، رحمة الله عليه، فيه خير، استجاب المسكين حين سمع هذا المنطق، وهذا المنطق من القلب، ليس حتى يُقال إن أبا سعيد قام فقال كذا وكذا، لا! هذه لله، ولا يقدر عليها إلا ذو حظ عظيم، كما قلت لأنها قد تُكلِّفه رأسه، هذا لا فكَّر لا في رأسه ولا في قدميه، فقط يُعظِّم مقام الله المُستهزئ بكلامه على المنابر، هذا استهزاء بكلام الله يا أخي، أتسير في مسيرة الفراعنة والجبّارين وتأمرنا بكلام الصالحين وكلام رب العالمين؟ غير مُمكِن، استهزاء بالله هذا وبالدين، استهزاء بنا أيضاً وبعقولنا، أبو المعري قال هذا كلام له خبيء، هذا ليس له خبيء، هذا كلام له ظاهر، معناه ليست لنا عقول، وليس خبيئاً له.
فخنقته العذرة ولم يستطع أن يُكمِل حديثه، وجلس المسكين، فقام جعفر بن سُليمان إلى جانب المنبر بحذائه وأكمل، يقول المُؤرِّخون والرواة فأحبه النُسّاك، أحبوا محمد بن سُليمان، وزعموا أنه مُؤمِن مُخبِت، لأن عنده إيمان على الأقل، بكى من خشية الله، حرَّكته الموعظة، وهو سُلطان، يستطيع أن يقتل هذا الرجل الصالح، عنده خمسون ألف عبد، ويأخذ مائة ألف كل يوم، ملك هذا، ملك! لا أعتقد أن ملك الروم أو إمبراطور بيزنطة كان يدخل عليه كل يوم مائة ألف درهم، والله العظيم يا إخواني حالنا هي الحال من ألف ومائتي سنة، نفس الحال! لم تتغيَّر، حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، كيف؟ ما معنى هذا؟ معنى هذا أن الله – عز وجل – اصطفى هذه الأمة في أرضها، في مواردها، وفي إمكاناتها، بأن فتح عليها فتوحاً لم يفتحها على غيرها من الأمم يا أخي، ملايين! ملايين لديها، كل دقيقة يُفتَح من خزائن الأرض لنا يا أخي، عندنا الذهب الأصفر والذهب الأسود وغير ذلك، مليارات كل يوم! وتعيش هذه الأمة في فقر وفي قُل وفي أُمية، أقل أمة مُتعلِّمة الأمة العربية، نقرأ ست دقائق في السنة، ليس عندنا كتابات، أكثرنا أُميون، يُوجَد مائة مليون أُمي عربي، يُوجَد مائة مليون لا يفكون الخط، أمة جاهلة، وتدّعي أنها أمة مُتحضِّرة وكان لها حضارة، شبابها وشوابها عزّاب وعوانس، لا يجدون ما يتزوَّجون به، لأنهم فقراء يا إخواني، الناس في مصر وفي غير مصر تعيش في المقابر وعلى كورنيش النيل بالملايين، بالملايين! أين أموالنا؟ أين ملياراتنا؟ نفس ما فُعِل بها قبل ألف ومائتي سنة يُفعَل بها الآن، نفس الشيئ! ماذا سنقول لربنا؟ هل لنا معذرة نعتذر بها بين يدي الله؟ هل يحق لنا أن نعتب على القدر أم نعتب على جُبننا وخوارنا ونفاق علمائنا وريائهم، الذين شبعوا ويشبعون من أموال هؤلاء ويُعطونهم الفتاوى؟ بالعكس! ويُنشئون مجامع وما إلى ذلك لتحليل حتى مُعامَلات اقتصادية مُعيَّنة يا أخي، تكلَّموا في شأن العامة، تكلَّموا في حال الأمة يا أخي!
نعيش هنا في النمسا، وهي بلد صغير، النمسا بالنسبة للبلاد العربية الغنية بلد فقير، فقير مُقتِر، ليس عنده موارد! أين موارد النمسا؟ هناك بعض الخشب وبعض الصناعات، أي إنها مُتواضِعة، ليست كالبلاد العربية، أين موارد النمسا؟ لا تُقاس بألمانيا، ليس عندها شيئ، لكن نحن هنا – نحن أربعمائة ألف مُسلِم، نفتخر بهذا العدد، أربعمائة ألف مُسلِم – كلنا مكفولون بضمانات اجتماعية وصحية وغير ذلك، وهناك مُساعَدات للأطفال وللبيوت، أموال كثيرة تُعطى لهم، الذي لا يعمل يعيش مُعزَّزاً مُكرَّماً، في بلد ليس عربياً وليس مُسلِماً، ونقول لكن يبدو أن هذا هو جوهر الإسلام، وأن ما عندنا هو جوهر الفرعونية والقارونية، وإن زُعِم أن الإسلام – ما شاء الله – بخير في بلادنا، وقيل الإسلام يُطبَّق، والإسلام يُخطَب به على المنابر، منابر الجهلاء ومنابر – أكرمكم الله – المُستغنَمين أو الغنم، أين أمثال الضبعي؟ أين أمثال نُسّاك البصرة؟ لماذا لا يستعلن الناس بهذا؟ لماذا لا يتكلَّمون؟ هذا هو! ما هي الحُجة التي كانت كالسيف المُسلَط السمهري التي قطع بها الضبعي؟ آية من كتاب الله، لا يستطيع أحد أن يضرب لا في صدرها ولا في عجزها، لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ۩، ويعلم ويعلم الكل أنه يقول ما لا يفعل، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ۩.
هناك رجل آخر اسمه المُحِب أبو خِيرة أو خَيرة، أيضاً هذا عابد زاهد درويش، كان درويشاً، اتهمه بعضهم بالجنون، وليس بمجنون، عابد وعالم أيضاً وناسك، هذا مصري، مات في الثُلث الأول من القرن الثاني الهجري، قام مرة الحوثرة – والي مصر، معروف الحوثرة، اسمه مشهور – يخطب، نفس الشيئ! مثل ابن سُليمان هذا، يُذكِّر الناس بالخير وبالمُواساة وبالعدالة وبالإنفاق وبالصدقات وبالتراحم وبالتآلف وبالتحابب وبالعطاء، إلى آخره! فقام له المُحِب يصرخ وا محمداه، يستغيث برسول الله، وا محمداه، قم وارفع رأسك، وانظر ما فعلت أمتك بعدك، يا أي هذا الرجل، قال له يا أي هذا الرجل اتق الله، قال للوالي اتق الله، أما سمعته يقول لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ۩ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ۩؟ قال خُذوا المُنافِق، ابن سُليمان كان خيراً منه، قال هذا مُنافِق فخذوه، فأخذوه وأتوا به وهو على المنبر، أتوا به إلى الأمير الحوثرة على المنبر، فقالوا له – الناس يُحِبونه، رجل صالح ودرويش – هذا مجنون، هذا مجنون، قال مجنون؟ أجن مني مَن يقول ما لا يفعل، قال دعوه فإنه مجنون، أي عرف أنه سيفضح أمره وسيُؤلِّب الناس عليه حتى يبدأوا في أن يتكلَّموا بهذه اللهجة وبهذه اللُغة، تجرأ عليه ولم تهمه حياته، قال مجنون؟ هل أنا أُتهَم بأنني مجنون؟ مَن المجنون؟ المجنون الذي يقول ما لا يفعل.
يا أحبابي هذه كلها في آية قلنا إنها نظيرة، هناك الكثير أيضاً، قوله – تبارك وتعالى – أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩، سلب الله منهم ماذا؟ العقل، هناك قال إنهم حمير، هنا قال إنهم لا عقل لهم، أي إن شئت توسَّع، حمير، بغال، وتيوس، ماذا تُريد؟ حشرات، وديدان، الله قال لا عقل لهم، لا عقل لمَن يأمر بالخير ولا يتفقد نفسه، ولا يُرجى له الخير لنفسه، أين عقلك يا حبيبي؟ لماذا؟ نعوذ بالله أن يكون الناس أسعد بعلمنا ونكون نحن الأشقى به، نعوذ بالله من هذا المقام السوء، ومن هذا المقام النكد، هذه آية مشهورة وهي في النظائر!
قوله – تبارك وتعالى – أيضاً على لسان العبد الصالح شُعيب – عليه السلام – وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۩، أنا لا أنهاكم عن شيئ ثم أُراوِغ وأفعل هذا الشيئ، لا يُمكِن! الذي أنهاكم عنه سأنتهي عنه، والذي آمركم به سأأتمر به قبلكم، وَمَا أُرِيدُ – نفس النظير، هذا نظير – أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۩، الله أكبر! هذا منطق الصادقين البارئين من الزيف والنفاق والكذب والرياء والاعتلال النفسي والعقلي.
جاء رجل كما روى البيهقي في شُعب الإيمان وابن الشجري في الأمالي الشجرية بإسناده، جاء رجل – عن الضحّاك – إلى ابن عباس، وقال يا أبا العباس أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكَر، فما تأمرني؟ أي انصحني، قدِّم لي بضع نصائح، فقال أوبلغت ذلك؟ أي ما شاء الله، قال له أنت مُمتاز، هل أنت فرغت من نفسك وتُريد الآن أن تُعلِّم الناس؟ أتُريد أن تتصدر للناس وتأمر وتنهى؟ أوبلغت ذلك؟ قال إن شاء الله، أي نأمل أن نكون هكذا، قال – اسمعوا المنطق العباسي النبوي الرباني – إن لم تخش أن تُفتضَح بثلاث آيات – أو قال بثلاثة حروف بكتاب الله – فافعل، قال له أمامك معايير ثلاثة، معايير فواضح، ثلاث آيات فواضح، يُمكِن لكل واحدة منها أن تفضحك على رؤوس الخلائق، إن لم تخش أن تُفتضَح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، اذهب مُر وانه، قال ما هي؟ يبدو أن هذا المسكين تراجع، ما هي هذه الأحرف؟ قال قوله – تبارك وتعالى – أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩، هل أحكمت هذه الآية؟ قال لا، انظر إلى الصدق، لو حدث هذا اليوم لقال أحدهم نعم طبعاً، طبعاً عرفتها وأقرأها، ما بك؟ هل أحكمتها؟ هل تحقَّقت بها يا حبيبي؟ هل تخلَّقت بها؟ هل تحقَّقت بها حقاً في صغير أمرك وكبيره؟ ما معنى أنك تعرفها؟ حتى هذا الطفل الصغير يعرفها، يتحدَّث ابن عباس عن الإحكام، يقول أحكمت، هل أتقنتها؟ هل جوَّدتها سلوكاً – ظاهراً وباطناً – في حياتك؟ الرجل صادق، قال لا، اللهم لا، لا!
روى الإمام أحمد وغيره من حديث أنس، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ومررت ليلة أُسريَ بي برجال من أمتي تُقرَض شفاههم بمقاريض من نار والعياذ بالله، تخيَّلوا هذه الصورة البشعة المُخيفة الراعبة، مقاريض من نار جهنم تُقرَض بها شفاههم، ثم تعود طبعاً، تنمو وتنبت، ثم تُقرَض، باستمرار! هذا عذابهم، فقلت يا أخي جبريل مَن هؤلاء؟ عذاب بئيس! فقال هؤلاء خُطباء أمتك، اللهم لا تجعلنا منهم، والله نخشى أن نكون منهم، نخشى خشية كبيرة، اللهم لا تجعلنا منهم، قال هؤلاء خُطباء أمتكم، الذين يقولون ما لا يفعلون، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟ جبريل يقول له هذا، يقول هذا عذابهم، قرض بالمقاريض! لماذا الاستعجال إذن؟ ولماذا الحرص؟ السعيد مَن كُفيَ بأخيه، السعيد مَن كُفيَ بأخيه إن كانت هناك كفاية والله.
قال هذا الحرف الأول، فما الثاني – قال – يا أبا العباس؟ قال الثاني قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، أحكمت هذه الآية؟ أي أأحكمت هذه الآية؟ أحكمت هذه الآية؟ قال اللهم لا، لم أُطبِّقها تماماً، لا! قال فما هو الثالث؟ قال قول العبد الصالح شُعيب لقومه وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۩، أحكمت هذه؟ قال لا، قال فبنفسك فابدأ، أولى بك، ابدأ بنفسك يا أخي، لماذا تجعل نفسك خطيباً وعالماً وواعظاً ومُؤلِّفاً ومُذكِّراً وأنت تحتاج إلى هذا؟ أوحى الله إلى عيسى بن مريم أن يا عيسى بن مريم عِظ نفسك أولاً، فإن اتعظت فعِظ الناس، وإلا نفسك أولاً، ابق مع نفسك في الأول، رب نفسك، هكذا!
أيها الإخوة والأخوات:
هذه المعاني كانت راسخة رسوخاً حقيقياً في أمتنا الأولى، عدا مَن تعثَّر وخذله الله تبارك وتعالى، وكانت تُشكِّل قيماً اجتماعية كالعملة المُتداولة، الكل يُصادِق عليها ويُقِر بها ويُعيِّر بها، حتى كان الخليفة لو خالف في أمر كهذا يُعاب عليه، يُقال وعظ ولم يف، قال ولم يفعل، يُضحَك عليه، يُصبِح ضُحكة، اليوم ليس الأمر كذلك، اليوم الناس – إلا مَن رحم الله – لا يستحييون، تجد مَن يقول ليس عندي مُشكِلة، أكذب وأعد وأخلف، هذا لا يهمني، يهمني أن فلوسي في جيبي، يهمني أنني سعيد في نفسي، ما هذا؟ لأن الناس ما عادوا يحرصون على جوهر الشخصية وعلى الكرامة.
أمس قلت لأحد إخواني هل تعرف ما هو الإنسان عندي؟ في تعييري – طبعاً عند كل العقلاء والحُكماء – ما هو؟ قال ما هو؟ قلت ما يكونه في قبره، بمعنى نح عنه لباسه، لباسي هذا ليس أنا، مُستحيل! هذا يلبسه حتى قرد، أكرمكم الله، أليس كذلك؟ هناك قرود يظهرون في التلفزيون Television وفي هوليوود Hollywood، يلبسونها جاكيتات Jackets وكرفتات Cravats وما إلى ذلك، هذه الأشياء يلبسها قرد ويلبسها أي إنسان آخر، كافر، مُنافِق، زنديق، لا تُوجَد مُشكِلة! هذا اللباس ليس أنا، ولست أنا هذا اللباس، لست أنا رصيدي في البنك، شيئ مُختلِف هذا، ولا يدخل معي في قبري، لست أنا المال، لأن المال قد يذهب، فهل أذهب؟ لا، أنا باقٍ، لو احترق، لو غرق، ولو خسر، أيضاً أنا باقٍ، لست المال، لست اللباس، ولست بيتي وقصري وسيارتي، كل هذا قد أخسره وأبقى أنا، حين أبقى أنا كما أنا – كما يعلمني الله وكما أدخل قبري وحُفرتي ورمسي – هل يبقى في وعندي ما يستأهل الاحترام من الناس، المحبة من الناس، التوقير من الناس، والدعوة الصالحة لي بظهر الغيب من الناس؟ إن كنت كذلك فأنا إنسان، أنا إنسان وأحمد الله على هذه المنّة، إن لم أكن كذلك فأنا صفر، أنا هواء، بالون، انتبهوا! بعض الناس هكذا.
حدَّثت أخي هذا الفاضل بقصة الرجل النمساوي – قصة وقعت هنا في النمسا، تقريباً قبل بضع عشرة سنة – الذي كان من أصحاب الملايين المُملينة، وكان شاباً لما يُكمِل الأربعين من عُمره، أعلن عن افتتاح أعظم فيلا في الحي التاسع عشر، وجاء الناس وجاء الــ ORF والصحافة والإعلام وما إلى ذلك، فضلاً عن بعض الشخصيات ذوات الهيئة، ووضع الشريط الأحمر للتدشين والافتتاح، وجاءوا بالمقص، والكل مُستعِد للتصوير، وإذا بالرجل يصدم الجميع بأن أخرج مُسدَّسه وأطلقه على رأسه فوقع، المليونير! قال لي لماذا فعل هذا؟ قلت له يُريد أن يُسيِّر رسالة إلى هؤلاء الحمقى، إلى فاقدي الحكمة والمعنى، أنا أتعاطف مع هؤلاء المُنتحِرين، أنا مُتأكِّد أنهم بشر وبشر أسوياء، ولكن في مُجتمَع أو في ظروف أحياناً غير سوية، هو وجد – أنا مُتأكِّد – عبر سنة وخمس عشرة سنة وعشرين سنة أن كل مَن يكتنفه ويحتوشه لا يُحِبه لذاته ولا يحترمه لذاته، كلهم نهّازون كذّابون، كل ما يُريدونه جيبه ونقوده، وهو كإنسان ناضج وواعٍ يُريد أن يُحَب لذاته، أن يُحترَم لنفسه، ليس لأمواله ولا لقصوره ولا لمنافعه، لنفسه! هذا هو الإنسان، لذلك أنا مُتعاطِف مع هذا المُنتحِر حقيقةً، أتعاطف مع هؤلاء، ويبكي لهم قلبي، هؤلاء ناس عظام، لكن لم يُفهَموا، لأن البشر أصبحوا ماديين، أصبحوا حُثالة وزبالة، ليس هكذا الإنسان، الإنسان أكرم وأعظم من هذا.
الإنسان أكرم وأعظم من الدنيا كلها، ما رأيكم؟ بدليل الحديث الصحيح، أن الله لم يرض هذه الدنيا كلها جزاءً لأسوأ عباده الصالحين، أسوأ واحد مُؤمِن! فكيف يرضاها جزاءً لأحسن عباده وهو محمد – صلى الله عليه وسلم -؟ لا يرضاها الله، لا يرضى كل هذه الدنيا، أنت أكرم يا أخي على الله من كل هذه الدنيا – والله – وملكها، لا ترض أن تفقد شخصيتك وجوهرك واحترامك لنفسك من أجل شيئ من هذه الدنيا القليلة أبداً، لأنها لا تستأهل، أنت أعظم من هذا وأكرم من هذا.
قلت هذا المعنى، وهو حدَّثني بقصة طربت لها، قصة حسبما حدَّثها مُحدِّثه الأخ التركي حدثت قبل ربما عشرات السنين، أي ليست بعيدة، هناك رجل كان غنياً في تركيا، وكان من أصحاب أيضاً الملايين، إلا أنه كان من الصالحين، يُقيم الصلاة، يُؤتي الزكاة، يتفقد الحوائج، ويسد الخلل، كان من الطيبين المُحسِنين، معروف! رحمة الله عليه رحمة واسعة، لكنه ختم حياته بوصاة عجيبة جداً، كتب وصاة أو وصية في ظرفين، وقال وصيتي الآن – شفاهاً – ألا يُفتَح الظرف الأول إلا حين أموت، وألا يُفتَح الظرف الثاني إلا عند قبري، أي عند شفير قبري، علماً بأنه إنسان حكيم، وكما أقول دائماً أعظم الناس عقلاً أكثرهم صلاحاً، ولذلك الإمام أبو المعالي الجويني – قدَّس الله سره، أذكى أذكياء علماء المُسلِمين إن لم يكن أذكى البشر في وقته، رحمة الله عليه، كان باقعة من بواقع الدهر، معروف! أستاذ أبي حامد الغزّالي – سألوه وقالوا له يا أبا المعالي، يا إمام الحرمين، لو أوصى رجل بثُلث تركته لأعقل الناس، لمَن تُعطى هذه التركة إذن؟ فقال للعُبّاد الصالحين، لأولياء الله، لأنهم أعقل الناس، أعظم الناس عقلاً الذين عرفوا الله تبارك وتعالى، أعظم الناس عقلاً وأصفاهم لُباً وجوهراً هم الذين تعرَّفوا إلى الله وعلى الله كما تعرَّف هو إليهم عبر كتابه وعبر ذكره وعبادته وعبر تشرعهم بشرعه وبأمره ونهيه، أعقل خلق الله! وكلما ابتعدت عن هذا أو كلما ابتعد الأبعد عن هذا كان أحمق، مهما كان! حتى لو كان يحمل عشر شهادات دكتوراة.
زكي مُبارَك مثلاً – رحمة الله عليه، الأديب مصري الذي كان يُسمى الدكاترة زكي مُبارَك، عنده عدد من شهادات الدكتوراة – عاش ومات أحمق طبعاً، هذا في نظري وفي نظر كل العقلاء، هل تعرفون لماذا؟ قتله الإدمان، كان مُدمِناً على الكحول، وقتله الإدمان، كابن سينا! قتله الإدمان، وهو كان يعرف هذا، وقال سيقتلني الخمر والنساء، وقُتِل! لأنه أحمق أيضاً، ليس عاقلاً، فيلسوف نعم لكنه ليس عاقلاً، العاقل هو المُؤمِن، العاقل هو العابد والعارف بالله، اللهم اجعلنا من العقلاء، قال أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩، حتى وإن كانوا أحباراً وكتبوا خمسين مُؤلَّفاً في التوراة والتلمود، هم – الله قال – كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩، انتبهوا! معايير الله غير معاييرنا نحن، وغير شهاداتنا وكلامنا – كلامنا الفارغ هذا -.
فالمُهِم فلما فتحوا الظرف الأول وجدوا وصاة عجيبة جداً، قال أنا أُوصي أنا أُدفَن بجواربي، هذه كلها وصيتي، ألبسوني جواربي لأنني أُريد أن أُدفَن بها، لم يُصدِّقوا، ظنوا أنه سيُوصي بشيئ مثل بناء مسجد أو بناء مُستشفى وما إلى ذلك، طبعاً هو أعطى الكثير في حياته، قالوا ما الوصية الجديدة هذه؟ سألوا بعض الملالي والمشايخ، قالوا لا، هذا لا يجوز، ولم يحصل هذا قبل، وغير مأثور عن السلف، كيف ندفنه بجواربه؟ هذا ليس بصحيح، كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ۩، فقط قطعة الكفن، لكن هذا لا، فلم يدفنوه، تأثَّر بعضهم وقال هؤلاء علماء، وهذه فتوى من الملالي، فلما صاروا عند شفير قبره قالوا افتحوا الظرف الثاني لكي تعرفوا وصيته الثانية، ففتحوه – رحمة الله عليه، وقدَّس الله سره الكريم – فإذا فيه ها قد رأيتم، حتى جواربي لم أدخل بها قبري، أنظرتم إلى حكمته؟ علم أنهم لن يفعلوا، هم سيسلبونه حتى جواربه، لن تدخل حتى بجواربك، بواحد يورو أو بنص يورو أو بعشرين سنتاً، لن تدخل! ستدخل أنت كما أنت، فإياك والشُح، إياك والطمع، إياك وعبادة الهوى، إياك وركوب المعصية، إياك والمُقاتَلة من الدنيا، إياك! لا تستأهل، أُقسِم بالله لا تستأهل ولا تستحق، إياك أن تُخلِف موعداً أو موعدةً وعدتها إنسان، لأجل أيضاً الشُح بالدنيا، تقول لا، هذا كثير وأنا توقَّفت، إياك! لأنك ستكون ألأم من بخيل، قالوا البخيل يُعاد عليه بمذمة واحدة – مذمة اللؤم! واللؤم هو البخل -، أما مَن وعد وأخلف فتناله ثلاث مذمات، مذمة الكذب – لأنه كذّاب -، ومذمة الخُلف، ومذمة البُخل، فإياك! هذا ألأم من البخيل.
قال أحد الحكماء الصالحين كانوا يفعلون ولا يقولون، قال هذا عن السلف الصالحين، أي لم يكن الأمر عندهم يتعلَّق بالكلام، كلام ماذا؟ لا تسمع كلاماً، والحياة علَّمتني كما علَّمتكم جميعاً – أعتقد – وعلَّمتكن – والله علَّمتني الحياة هذا، أستطيع أن أقول فعلاً هذا علَّمتني إياه الحياة – أن الذين يتكلَّمون كثيراً لا يفعلون تقريباً إلا قليلاً أو لا يفعلون شيئاً، والذين يُحسِنون الصمت طويلاً أكثرهم من الفعّالين، عرفت هذا! حُكيت لي قصة عن رجل كان له صديق – قبل أيام هذه القصة بلغتني -، هذا الصديق دائماً يُفديه بروحه، يقول له أنا أفديك بروحي، أفديك بدمي، مهما احتجت من شيئ أنا حاضر، أنا سأفعل، أنا لو فتح الله علىّ سأكفيك بإذن الله تعالى، فأنت أعز من أخ، أعز من ابن، وفتح الله عليه فتوحاً عظيماً، لم يُعطِه شيئاً ذا بال، ولا كأنه كان هناك موعد، قال لي مُحدِّثي وتعرَّف رجلاً آخر مِمَن يُحسِنون الصمت على هذا الرجل – أي الصديق الموعود – ليومين، ورأى أنه رجل كريم وفيه صفات استثنائية، دون أن يتكلَّم معه ودون أن يعده بشيئ فعل له الآتي، دون أن يتكلَّم! وهو لاحظ صمته، قال هذا الرجل مِن أقل مَن رأيت في حياتي كلاماً، لا يتكلَّم، ما له؟ ألا يُعجِبه الحديث؟ ألا يُعجِبه العلم؟ ألا يُعجِبه كذا وكذا؟ لكن هو صمّيت سكّيت، النبي قال إذا رأيتم الرجل وقوراً رزيناً يُطيل الصمت فادنوا منه، فإنه يُلقَّن الحكمة، انتبهوا إلى الظاهرة الصوتية التي نحن فيها الآن، تصويت وكلام فقط على الفارغ وعلى الملآن كما يُقال، لا! قال لي مُحدِّثي هذا الرجل الآن هو شارع في إعداد مشروع بناء فيلا لهذا الرجل دون أن يقول له حتى، سيبنيها ثم يُهديها إليه، تفضَّل، هذا بعض ما تستحق، عجيب! الصمت والصدق، لذلك الحُب الصادق والنية الماضية والعزم الماضي يعرف الصمت طويلاً، أما الكلام الكثير هذا فلا يُجدي.
لذلك السلف الصالحون كان كلامهم قليلاً، كله فعال! يقول هذا الرجل الحكيم الصالح من أسلافنا، يقول كانوا يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ويفعلون، والله هذا جيد، هذا مُمكِن، يا ليت الله يُكثِّرهم أيضاً! هؤلاء يفعلون، يقولون ويفعلون، قال ثم صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون، فزعم أنهم ضنوا بالكذب بعد أن ضنوا بالصدق، حتى أنه لن يُعطيك موعداً لكي يُفرِّحك به كذباً، لن يُعطيك لأنه ليئم، ألأم من ذلك، لا يُعطيك شيئاً، يقول لك ليس عندي، لن أعمل، لن أفعل، ليس لي علاقة، كل هذا لا يهمني، تقول له يا أخي الإسلام أو الجالية أو أمتك أو دينك أو أهلك في فلسطين وفي العراق، فيقول لك كل هذا لا يهمني، نفسي نفسي، لا يُعطيك حتى الكلام كذباً، لا يُعطيك وعداً كاذباً، فزعم أنهم ضنوا بالكذب بعد أن ضنوا بالصدق أيضاً، حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، أهكذا انحطت هذه الأمة؟ ثم نزعم أننا أخلاف هذه الأمة وأن هؤلاء أسلافنا، والله أنا أستحي، أُقسِم بالله، أستحي أن أقول أسلافنا، هل هؤلاء أسلافي وأسلاف أمثالي؟ لا، ليسوا أسلافنا نحن، هم أسلاف لأناس آخرين، وإن أردنا أن ندّعي ونتسلى ونتعزى بالانتساب إليهم نعم فهم خير أسلاف لشر أخلاف، لنكن واقعيين، إلا مَن رحم الله، وقليل ما هم، كثَّرهم الله تبارك وتعالى، هذا هو! قضية القول والفعل، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩.
كما قلت هذه كانت قيماً عامةً، يُحاسَب عليها حتى الخليفة، سأحكي لكم قصة تروقكم عن أبي جعفر المنصور، للأسف هو كان مشهوراً بأنه مُدبِّر واقتصادي إلى حد البُخل، ولذلك كان يُلقَّب بأبي الدوانق، يُعطي بالدانق، والدانق سُدس الدرهم، تخيَّلوا! كما يُقال اليوم يُعطي بالسنتات أو بالبنسات، وهو خليفة، المُهِم يُقال كان مُدبِّراً ويُقال كان بخيلاً، على كل حال تُروى عنه قصص إلى حد ما تختلف، أعني أبا جعفر المنصور، ماتت أم ولد للهذلي – الشاعر المشهور -، وأم ولد تكون هذه جارية، وتكون قد علقت منه بولد، فتُسمى أم ولد، إن مات تتحرَّر، هذه أحكامها باختصار في الفقه، تُسمى أم ولد، فماتت أم ولد كان يعلقها، أي يُحِبها، كان يعلقها! فماتت وحزن عليها، فسيَّر إليه أبو جعفر المنصور وزيره الربيع، وأمره أن يُعزيه، بأن يقول له أبو جعفر يعدك بجارية حسناء وضيئة ذات أدب وجمال – أي لديها فهم وعندها شعر، تفهم جيداً وتُحِب الأشياء هذه -، وإلى ذلكم تُسليكم عما فقدت، وإلى ذلك يا هذلي بصلة وكسوة ومركوب حسن، والله مُمتاز! تسلية مُمتازة من الخليفة، وجعل الهذلي يتحيَّن الإنجاز، لكن المنصور نسيَ أو تناسى، لا ندري، لم يأت شيئ، أنت خليفة وأنت تستطيع يا أخي!
وبالمُناسَبة سأقول لك قاعدة، انتبه وإياك أن تعد إنساناً وليس في نيتك الوفاء جزماً، أنت تنسى، الذي يعد دائماً ينسى، الذي يُوعَد لا ينسى، ما رأيك؟ والله ولو بعد عشرين سنة، يقول قال لي مرة لو فتح الله علىّ سأعطي وأعمل كذا وكذا، ولم يفعل، وتبقى في نفسه، ويعلم أنه ليئم، وأنه أخلف موعدته، انتبه! إياك أن تعد ثم لا تفعل، مهما كلَّفك هذا، احتراماً لنفسك، وهرباً من مقت الله وغضبه، هرباً من مقت الله! كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ ۩، انتبه! أبو بكر وفى كما رأيت بعد وفاة رسول الله، انتبه! فالموعود لا ينسى، المسكين لا ينسى، الذي يعد ينسى، المنصور نسيَ، فحج المنصور ذات مرة، وقدم في البداية المدينة، جاء إلى المدينة ومعه الهذلي – الشاعر -، فقال ذات ليلة أحب أن أطوف بالمدينة المُنوَّرة، فلو التمست لي مَن يُطوِّفني، أي مثل دليل سياحي لكي يُعرِّفني بالأشياء، يقول هذا هنا وهذا قبر فلان وهذا بيت فلان وهذا كذا، هذا هو التطواف، قال أنا لها يا أمير المُؤمِنين، وانظروا إلى جميل الاستمناح وذكي ولطيف التذكير، شاعر! رجل أديب، قال أنا لها يا أمير المُؤمِنين، قال على بركة الله، فخرجا، وجعل يُعرِّفه، هذا قبر فلان، هذا مكان فلان، هذا كذا، هذا موقع، وهذا كذا، إلى أن جاء على بيت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، ولم يسأله المنصور عن هذا البيت، بيت عادي! قال يا أمير المُؤمِنين وهذا بيت عاتكة، الذي قال فيه الأحوص – الشاعر الأحوص -:
يَا بَيْتَ عَاتِكَة َالَّذِي أَتَعزَّلُ حَذَرَ العِدَى، وَبِهِ الفُؤَاد مُوَكَّلُ.
أَصْبَحْتُ أَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي قَسَماً إِلَيْكَ، مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ.
فلم يُعجَب المنصور بهذا، لماذا أنت تُحدِّثني عن الأحوص وعن عاتكة وعن بيتها وأنا لم أسألك؟ فاستاء في نفسه، لكن أدرك أن هناك رسالة من الشاعر الهذلي، قال لماذا؟ لماذا حدَّثني عما لم أسأله؟ وليس هذا من الأدب مع السلاطين، يُوجَد ذكاء، كانوا أُناساً أذكياء يا أخي، هذا الشاعر ذكي، وهذا المنصور مُصيبة من المصائب أيضاً، ليس مثل الحمقى اليوم، إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ۩، المُهِم أنهم حمقى، حتى الكلام أحمق، تسمع كلاماً أحمق يا أخي، انظروا إلى المنصور، لم يكونوا أُناساً عاديين، فلما عاد أمر على قلبه القصيدة كلها، يحفظ القصائد! يحفظ القصائد والدواوين لأنه مُثقَّف، وإلا يُهجَّن، يُقال خليفة جاهل، لا يعرف أي شيئ، لا يعرف لا السُنة، لا القرآن، لا الشعر، ولا أي شيئ، لا يعرف! أمر قصيدة الأحوص على قلبه، فارتطم ببيت، فإذا فيها:
وَأَرَاكَ تَفْعَلُ مَا تَقُولُ، وَبَعْضُهُمْ مذقُ الحديثِ يقولُ ما لا يفعلُ.
قال هذه هي، مُباشَرةً أنجزه ما وعده واعتذر إليه، قال له أنا أعتذر، أنا مُتأسِّف فعلاً، اغفر لي واسمح لي، والله لقد نسيت يا أخي، وهذا كل ما وعدت! ما هذه الأمة يا أخي؟ أمة تستطيع أن تتعامل معها حتى، أليس كذلك؟ مهما كان هؤلاء ظلمة يُوجَد عقل، يُوجَد أدب، يُوجَد فهم، وتُوجَد حسّاسية نفسانية، أليس كذلك؟ هذا هو، قال لماذا؟ أكيد هنا يُوجَد شيئ، جاء وأمر القصيدة على قلبه، فوجد بيتاً يقول:
وَأَرَاكَ تَفْعَلُ مَا تَقُولُ، وَبَعْضُهُمْ مذقُ الحديثِ يقولُ ما لا يفعلُ.
قال يقولُ ما لا يفعلُ، وهذا يعني ثقافياً وحضارياً أن هذه القيم كانت حاكمة حتى على أعلى رأس، يُعاب على الخليفة والسُلطان أن يكون من القوّالين وليس من الفعّالين.
روى الإمام ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر في تاريخ دمشق أن عبد الله بن رواحة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، الصحابي الشاعر الشهيد في مؤتة، روَّح الله روحه في أعلى الجنان – كان يأخذ بيد النفر من أصحابه – الصحابي الجليل – ويقول لهم هيا نذكر ربنا ونزدد إيماناً، بالذكر! كأن هذا جواب الشرط، أي نزداد إيماناً، هيا نذكر ربنا نزدد إيماناً، هيا نذكر ربنا بالطاعة والشكر، ليذكرنا – سُبحانه وتعالى – بالمغفرة، فكانوا يهشون للذكر، ما المعاني هذه؟ ما نعم الله؟ ماذا أعطانا الله؟ ماذا فعل الله؟ وكذا وكذا، فكانوا يهشون ويتشوَّقون، حتى قالوا مرةً وفيهم عبد الله بن رواحة اللهم لو كنا نعلم أحب الأعمال إليك لعملناها، يا رب أين أحب عمل لكي نعمله؟ ما العمل الذي تُحِب أن نعمله؟ سنعمله لك، ونبقى عليه إن شاء الله، فأنزل الله – تبارك وتعالى – سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ ۩… إذن ما هو أحب الأعمال؟ الجهاد في سبيله، لرفعة دينه ونُصرة أوليائه المُستضعَفين من مُوحِّديه، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ۩، صدق الله العظيم.
هذا الحديث رواه كثيرون كما ذكرنا مرة، قال عبد الله بن رواحة فلا أزال حابساً نفسي في طاعة الله حتى أُستشهَد، انتهى! ظل يرقب الجهاد، ويحبس نفسه في طاعة الله ليل نهار، حتى يُبلِّغه الله منازل الشهداء، لأن الشهادة أحب الخواتم، والجهاد أحب الأعمال إلى الله، المُهِم فلما كان يوم مؤتة – تعلمون قصته حين تأخَّر قليلاً وما إلى ذلك – رفع صوته جهيراً وقال يا أصحاب المجلس – أي مجلس؟ الذي تمنوا فيه تلكم الأمنية، لا ينسى، وربي ليس ينساه – أين ما وعدتم به ربكم؟ هذا أحبه إليه، ثم تقدَّم فقاتل حتى قُتِل، قدَّس الله سره الكريم، صدق! فهذا خرج – الحمد لله – من العُهدة، لا تنطبق عليه الآية، قال وفعل رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.
اللهم اجعلنا فعّالين أكثر منا قوّالين، قال أكثم بن صيفي فضل القول على الفعل دناءة، احفظوا هذه الجُملة العبقرية، فضل القول على الفعل دناءة، أي إنسان يقول كثيراً ويفعل قليلاً هذا دنيء، دناءة هذه، دناءة وسخافة لا تليق بالرجال ولا بالنساء الحرائر والأحرار، قال فضل القول على الفعل دناءة، وفضل القول على الفعل – قول قليل وأفعال كثيرة – مكرمة.
اللهم أكرمنا بأن نكون مِمضن يفضل فعلهم على أقوالهم.
أقول هذا القيل وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:
هل يعني ما ذكرنا أو بعض ما ذكرنا أن يحبس الإنسان نفسه عن فضيلة بل عن واجب الجهاد في سبيل الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر إذا لم يكن كاملاً في نظر نفسه؟ لا، كل الفقهاء تقريباً قالوا لا، ليست هذه العدالة الكاملة شرطاً في أن تأمر وأن تنهى، وإلا لكان أسعد الخلق بهذا إبليس، سمع الحسن البِصري مرةً رجلاً يقول إن فلاناً يقول مَن لم يكمل في نفسه ولم يأتمر بكل معروف ولم ينته عن كل مُنكَر فلا يسوغ له أن يأمر غيره أن ينهاه، قال تلك التي ود إبليس لو حظيَ بها منا، إذن – ما شاء الله – هذه المعلومة وهذه الأفكار النظرية إبليس يُحِبها، قال ولو كان ذلك – يقول الحسن البِصري – لما وجدت مَن يأمر ولما وجدت مَن ينهى، لا يُوجَد شخص كامل، وإبليس يُحِب هذا.
ولذلك الصحيح أن الإنسان حتى لو آنس من نفسه تقصيراً أو ذنباً أو جُرماً أو كذا وكذا لا يمنعه هذا من ألا يقع في معصية التقصير بترك الأمر وترك النهي، فمعصية أحسن من معصيتين، قال سعيد بن جُبير لو لم يأمر ولم ينه إلا مَن لم يكن فيه شيئ – أي كامل – لما أمر أحد، قال الإمام مالك وصدق، قال ابن الحاج في مُدخَله وذلكم أن معصية أهون من معصيتين، قال ابن حزم – رحمة الله عليه – في كتابه الأخلاق والسير في مُداواة النفوس وذلكم أن الله – تبارم وتعالى – افترض على عباده المُوحِّدين أن يتعلَّموا وأن يعملوا، فمَن أخذ بالخصلتين فقد حاز الفضل كله – عالم عامل أو مُتعلِّم عامل -، ومَن لم يفعل – تعلَّم ولم يعمل – فقد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أحسن بالتعلم وأساء بترك العمل، ولنعم ما قال ابن حزم، هذا صحيح، ولكن مثل هذا الذي يأمر الناس ولا يأتمر ولو ببعض أمره، وينهاهم ويحتقب ولو بعض ما ينهى عنه هل تظنون أن موعظته وكلامه يقع من الناس موقعاً عظيماً؟ لا، في مثل هذا ورد أن موعظته تزل عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا، عن الحجر الأملس، قال مالك بن دينار إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا، نسمعها ولا نعبأ بها، نرى أنها ليست حقيقية، ليست معيشة، ليست من روح نابضة بها، لا! لذلك قال أبو الأسود – رحمة الله عليه – وأحسن ما شاء:
يا أيها الرجل الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ.
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ.
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ.
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْك وَيحصل التسليمُ.
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ.
رأى أحدهم ابن عُيينة – شيخ مكة، شيخ أحمد والشافعي – يعظ الناس وكان من الحسدة، والإمام ابن عُيينة معروف مَن هو علماً وعملاً، رحمة الله عليه، فأراد أن يشنأه، فأنشد جهارةً – أي بصوت جهير – أمام الناس:
غَيْرُ تَقِيٍّ – وتُروى وَغَيْرُ تَقِيٍّ – يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى طَبِيبٌ يُدَاوِي وَالطَّبِيبُ مَرِيضُ.
فرد عليه لفوره، قال:
اِعمَل بِعِلمي وَإِن قَصَّرتُ في عَمَلي يَنفَعكَ عِلمي وَلا يَضرُركَ تَقصيري.
هذا المعنى – كما قلنا – مقبول إلى حد ما، ولكن الكمال والفضيلة الحقة أن نقول وأن نفعل، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُحقِّقنا بالقول الحسن والفعل الحسن.
اللهم اجعل قولنا حسناً، اللهم واجعل فعالنا حسنة، اللهم اجعل ظاهرنا صالحاً وعلانيتنا طيبةً، اللهم واجعل سريرتنا وباطننا أصلح وأطيب، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت!
اللهم ارحمنا في هذا الشهر الكريم، اللهم واغفر لنا ذنبنا كله في هذا الشهر العظيم، اللهم واعتق فيه رقابنا من نار جهنم، برحمتك يا أرحم الراحمين، والمُسلِمين والمُسلِمات معنا بفضلك ومنّك أجمعين، بفضلك، لا بأعمالنا، فإننا ضعفاء، اللهم فقوّ في رضاك ضعفنا، وخُذ إلى الخير بنواصينا، وهب لنا الجد في خدمتك، والصدق في طاعتك، والنفاذ في محبتك، إلهنا ومولانا رب العالمين.
واكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أُخرانا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
____________
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(5/10/2007)
أضف تعليق