إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين، وكل عام وإن تأخَّرت إخواني وأخواتي وأنتم والأمة المُسلِمة جميعاً بألف خير ونعمة وفضل، وتقبَّل الله منا جميعاً الصيام والقيام وعمل الصالحات والمبرات.
إخواني وأخواتي:
الذي يصوم لا يحتاج إلى مَن يُحدِّثه عن حكمة الصوم، لأن بعض الناس في هذه الأيام جعل يُردِّد السؤال عن حكمة الصوم، وهذا السؤال أتفهَّم صدوره من غير صائم، ولا أتفهَّم أن يصدر من صائم، لأنك إن صُمت – والمُطلَق يُراد به الكامل كما يُقال في علم أصول الفقه، المُطلَق يُراد به الكامل – لم تحتج إلى مَن يُخبِرك ومَن يُحدِّثك عن حكم الصوم، بل ستصير أنت أحد الذين يتكلَّمون وبعُمق التجربة عن حكمة الصوم، ويعلم هذا مَن صام حقاً، لا مَن صام ظاهراً، والصوم الحق على درجات – إخواني وأخواتي -، درَّجها إمامنا حُجة الإسلام الغزّالي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.
هناك صوم العامة، وهو صوم عن المُفطِرات أو المُفطِّرات الظاهرة من الأكل والشرب وإتيان الأهل، غير أن الامتناع والإمساك عن هذه المُفطِّرات وحدها دون أن يترتَّب على هذا الامتناع عن الآثام، عن المظالم، وعن التجاوزات في حق الله وفي حق عباده، لا يُغني صاحبه شيئاً، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر.
ولذلك – إخواني وأخواتي – الصائم صيام الحق لا يكون يوم صومه ويوم فطره سواء، لا يستويان، لا يستويان كما قال جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجاه في الصحيحين فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، وفي رواية إني امرؤ صائم، فليقل إني صائم، إني صائم، مرتين! هذا هو الصوم الذي يحتل الدرجة الثانية، إنه صوم الخاصة، إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن قول الإثم كما قالوا – ورضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم، أعني أصحاب رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -.
بل إن من العلماء مَن قال الآتي، وفي رأسهم فيما يُحكى عنها أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها، وهو مذهب الإمام الأوزاعي، وهو مذهب الإمام أبي عليّ بن حزم – رحمة الله ورضيَ عن الجميع -، مذهبهم وقولهم أن المعاصي والمآثم تُفطِّر الصائم، عائشة بالذات والأوزاعي ذهبا إلى أن الغيبة – الغيبة فاكهة البطّالين، فاكهة العاطلين من الخيرات – تُفطِّر الصائم، مَن اغتاب امرأً أفطر وعليه أن يقضي هذا اليوم، هذا مذهب عائشة، ومذهب الإمام الأوزاعي – إمام أهل الشام، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، أما ابن حزم فذهب إلى أبعد من هذا، فقضى بأن كل معصية يأتيها الصائم ذاكراً لصومه، عامداً إليها – أي مُتعمِّداً لها -، تُفطِّره وعليه القضاء، كل معصية! ليست الغيبة فقط، كل المعاصي، كل ما عُصيَ به الله يُفطِّر الصائم، هذا مذهب الإمام ابن حزم، وانتصر له وأقام عليه ما شاء من الأدلة في كتاب العظيم المُحلى شرح المُجلى، فالقضية خطيرة، لكن هذا صوم الخصوص، صوم الخصوص أن يصوم منك السمع والبصر واللسان، الجوارح!
وبلا شك هذه حكمة عظيمة، هذه الطريقة في مُمارَسة ضبط النفس والتحكم فيها وزمها وقيادتها وأخذ مقادتها بقوة يحتاج إليها كل البشر، ليس المُسلِمون وحدهم، كل البشر يحتاجون إلى أن يروضوا أنفسهم هذه الرياضة وأن يشعروا بالتمكن عبر المُمارَسة والتريض والمُجاهَدة بتمكنهم من قيادة أنفسهم، ولا تكون النفس كالفرس الشموس الحرون، إذا شاءت أن تذهب يمنةً ذهبت، وإن شاءت أن تشاءم فتذهب يسرةً فعلت، ولا يملك من أمرها شيئاً صاحبها، لا! هذه حكمة جليلة، وفائدة عظيمة من فوائد الصوم.
ثم بعد ذلك هناك صوم خاصة الخاصة، إذن صوم العامة، صوم الخاصة، وصوم خاصة الخاصة، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، ولن نكون منهم إلا بعد أن نجوز مرحلة ومثابة الخاصة، مُستحيل غير هذا، لابد أن تمر بصوم الخاصة، فمَن كان لا يتحقَّق فيه وصف خواص الصوّام فمُستحيل ومُحال – هذا بعيد جداً يا إخواني، بل يستحيل – أن يرتقي إلى مصاف خاصة الخاصة، الذين أدركوا الحقيقة الزوالية لهذا العالم، بكل ما فيه من شخوص وأعراض وأشياء ومعانٍ، كل هذا زائل، باطل، وخيال، إما زلت عنه، وإما زال عنك، وهذا سيكون قريباً، وربما أقرب مما تتصوَّر، فيجعلون وُصلتهم الوثيقة وتعويلهم كله على رب العالمين، فكأنهم صاموا عن هذا العالم وما فيه، وإن كان بعض هذا الذي في العالم بين أيديهم، لكنه لا يحتل قلوبهم، لأنه ليس في القلب إلا الله – تبارك وتعالى -.
بهذا المعنى – إخواني وأخواتي – يتحرَّر الصائم، يتحرَّر من أشياء كثيرة الناس مُستعبَدة بها ولها، طبعاً الناس تستعبدهم الشهوات، يستعبدهم الغضب، الكره، الحقد، إرادة الأخذ بالثأر، التميز، الهيمنة، السيطرة على الآخرين، التميز المادي أو التميز المعنوي الرمزي، الناس عبيد لهذه الأشياء، عبد الله حقاً، رجل الله، وولي الله حقاً لا يكون مُستعبَداً لأي من هذه الأشياء، قد ارتقى فوقها – بإذن الله -، تحرَّر! والذي يتحرَّر يستطيع أن يخبر معنى الحُب ومعنى الرحمة ومعنى العبودية الحقة لله – لا إله إلا هو -، تحرَّر! تحرَّر لأن لا يُمكِن أن تكون عبداً لله وأنت عبد لشهوتك، يستحيل! انس هذا، لا يُمكِن أن تكون عبداً لله وأنت عبد لإرادة الهيمنة على الناس والتميز عليهم أو التميز من بينهم، أنني مُختلِف، ومعنى ذلك ماذا؟ أنكم عبيد لي، لا يا سيدي، الكل عبيد بين يدي الله، هذه أولى مبادئ الإيمان والإسلام، لكن نحن للأسف ابتذلناها، نتلفظها، نحكيها حكياً وكلاماً، ولا نصدر عنها في سلوكاتنا، ولا حتى في مُعتقَداتنا الجوانية الداخلية والتي تُحرِّك سلوكاتنا، لا نصدر! لا نُؤمِن بهذه الأشياء على أنها الحقيقة.
قد يأتي بعض الناس بإيراد فيقول يا أخي ولكن أليس بين الناس ثمة تفاوتات كثيرة في العلم، في المال، في السُلطة، في القوة، في النسب، في الجاه، في الجمال، وفي الحيثيات؟ اللهم بلى، طبعاً موجودة هذه، مُن يُنكِرها؟! موجودة، لكن كل هذه الفروقات لا قيمة لها مهما بلغت ومهما تناءت ومهما تمادت، أي ائت أو ائتنا بأعلم علماء أهل الأرض، لو كان هناك واحد يصح أن يكون هكذا، وعلى فكرة لا يُوجَد واحد يُمكِن أن يُقال عنه إنه أعلم العلماء، مُستحيل! لأن العالم في شيئ جاهل في غيره، انتهى! أي هذا مطلب مُستحيل، أن تقول لي هذا الأعلم، قد يكون الأعلم في بابه، من المُمكِن أن يكون الأعلم في بابه والأعلم في تخصصه، من المُمكِن أن يُسلِّم له كل أهل التخصص بأنه الأعلم في بابه، لكن لا يُوجَد الأعلم هكذا بالمُطلَق، ولذلك يبقى قوله – والحق ما قال، لا إله إلا هو – وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩، لا يُوجَد إلا هذا، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩، ائت بأعلم الناس يا إخي واجعله مُقابِل أجهل الناس، أي الذي لا يفك الخط كما يُقال، وفهمه بطيء ورديء جداً جداً، وذهنه بليد، انظر إلى هذا، الفرق هائل بين هذا وهذا، إذا جعلت الله – تبارك وتعالى – في الجهة الأُخرى – وأعوذ بالله من زلات اللسان – استويا مُباشَرةً، وساوت بينهما العبودية لله، لماذا؟
الفرق بين هذا وهذا مليار يا سيدي، مليار في العلم! لو عملنا نوعاً من المُدرَّج هكذا لكي نقيس به ليس الحرارة وليس الزلازل وإنما العلم والجهل – أي لو افترضنا أننا نجحنا في هذا – لوجدنا أن بين هذا وهذا مليار درجة على مقياس الجهل والعلم، على ريختر Richter العلم والجهل – إن جاز التعبير- هناك مليار درجة، صحيح! هذا فرق كبير، المليار ألف مليون، والمليون ألف ألف، لكن هناك واحد على ما لانهاية إزاء الرب – لا إله إلا هو -، الذي لا يتناهى علماً وقدرةً ورحمةً ووجوداً – لا إله إلا هو -، حصل على واحد هذا الجاهل، هذا المسكين أخذ واحداً، على ما لانهاية يُساوي صفراً، مليار على ما لانهاية يُساوي صفراً، استويتما! أمام الله استويتما، ومن هنا على فكرة نضج شخصية المُؤمِن، أعني المُؤمِن الحق، وطبعاً مثال هذه الشخصية بالمُطلَق وبلا تردد رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، أعظم المُؤمِنين وأقرب العارفين إلى رب العالمين.
ما التواضع العجيب الذي كان عنده هذا؟ لا يُميِّز نفسه من أحد، يتواضع للأرملة، للعجوز، للخادم، وللصبي الصغير، ينام بين إخوانه في المسجد، ينفخ وهو نائم، يأكل معهم، يجلس كما يجلس العبد، ويركب الحمار، شيئ غريب! لماذا؟ فقط لأنه عبد لله، لكن نحن كذبة، نحن نقول نحن عبيد، ونحن لم نتحقَّق بالعبودية لله، مع أن جوهرنا العبودية والافتقار إلى الله، لكننا لم نفهم، لم يُنضِجنا الإيمان، الإيمان لا يُنضِجك بمُجرَّد الإعلان عنه: أنا مُسلِم، أنا مُؤمِن، أبداً! الإيمان ليس قراراً كما قلت مرة في خُطبة، هذه الخُطبة التي شاء بعض الناس أن يُشوِّش فيها وبها وعليها، وهي خُطبة ذكرت فيها أن الإيمان بالمعنى الشرعي – أن تُؤمِن بالله وملائكته وكُتبه… إلى آخر أركان الإيمان – امتياز إنساني، ليس يُعرَف إلا للبشر، والقرآن يشهد بهذا، وبهذا المعنى الشرعي للإيمان حتى الملائكة ليست مُؤمِنة، إيمانها بالله وحده لا يجعلها مُؤمِنة الإيمان الشرعي، وهذا لا يعني أنها كافرة، لكن ليست مُؤمِنة الإيمان الشرعي، منطقياً هذا، لأن من أركان الإيمان أن تُؤمِن بالملائكة، فهل تُؤمِن بنفسها؟! من أركان الإيمان أن تُؤمِن بالرُسل، وهي سفيرة الله إلى الرُسل، فهذا غير مفهوم، ولذلك الإيمان بهذه الغيوب كلها وبهذه الابتلاءات كلها خصيصة إنسانية، شرف للإنسان، وهو شرف روحي.
يقول إمامنا الغزّالي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كل حاسة وكل ملكة أودعها الله – تبارك وتعالى – في عبده تطلب حقها، تطلب حقها! لا تنتهي إلا إلى غاية واحدة، وهي حقها، حق الشهوة أن تُقضى رغبتها، حق الغضب أن ينتهي إلى الثأر، غضبان ويُريد أن يثأر، لا يعفو، حق العين أن تُبصِر المُبصَرات، وخاصة ما يُستحلى ويُستملَح منها، حق الأُذن أن تسمع المسموعات، وهكذا إلى آخره، ثم قال إمامنا الغزّالي وحق الروح أن تعرف الله – لا إله إلا هو -، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، هذا الإيمان! ولكن هل تتأتى معرفة الرب – لا إله إلا هو – بخُطوة واحدة، في يوم واحد أو في سنة واحدة؟ مُستحيل، مهما قضيت أعماراً إلى وفوق عمرك لا تزال سائراً في الصراط المُستقيم، إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، ولن تبلغ هذه الغاية، لكنك تقترب مع كل خُطوة، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ۩، تقترب… تقترب… تقترب… ومن هنا ينضج إيمانك.
ومهما نضج الإيمان – هذا بحسب درجة نُضج الإيمان أيضاً، ضعها على مُدرَّج مُعيَّن، هذه الدرجة الأولى وهذه الدرجة الألف – نضجت شخصية المُؤمِن، شخصية حامل الإيمان، وهذا النضج له علامات، لا نتحكَّم بتحديد هذه العلامات، وإنما نستلهمها ونستوحيها من كتاب الله – تبارك وتعالى -، في رأس هذه العلامات الصبر، الصبر بما أراد الله، كل ما لم يحدث لك عن وعي منك وتخطيط وإرادة – أي غُلِبت عليه، القدر ساقه إليك، أو ابتلاك به – سلِّم به لمُقدِّره، واعلم أن الخير في التسليم، ولا تضجر، ولا تسخط، لأنه ما عوَّدك إلا الخير، كم عمرك الآن؟ ستون سنة أو خمسون سنة أو ثلاثون سنة أو عشرون سنة، مُعظَم حياتك على الإطلاق – ولست أتحدَّث عن الحالات الاستثنائية التي لله فيها حكم وحكم، هذا موضوع آخر، وإنما أتحدَّث عن الحالات المعيارية العادية – في صحة وعافية وأمن ودعة، أليس كذلك؟ مُعظَم حياتك! فلماذا إذا ابتلاك وإذا أراد أن يختبرك أو أراد أن يختبر نضج إيمانك وصدق حُبك وحقيقة دعواك – أنك عبد له، مُوالٍ له، أنك من أوليائه، والمفروض أن كل مُؤمِن هو من أولياء الله، والكافرون لا مولى لهم – تضجر؟ إذا أراد أن يختبرك فالجواب المُتوقَّع أن تَسلم، أن تُسلِّم وتَسلم من الاعتراض والتسخط، وبعد التسليم يأتي ماذا؟ الرضا، أن ترضى.
وكما قلت مرة الرضا هو بحيث أنك لو استقبلت من أمرك ما استدبرت وخُيِّرت في أمرك ما اخترت لنفسك إلا ما اختاره الله لك، من موت ولد أو خسارة صفقة أو إصابة في عضو أو حاسة أو… إلى آخره من وجوه وضروب المُصيبات، أي المصائب، هذا الرضا! هذا علامة على ماذا؟ ومن نتائج ماذا؟ من نتائج نضج الشخصية، أنت إنسان ناضج، بنضج الإيمان، تحرَّرت أنت، تحرَّرت من الحاجة إلى استبقاء حتى النعمة وإلى الاستزادة من النعمة، تحرَّرت من كل الحاجات التي استعبدت ولا تزال تستعبد البشر.
قال أحد العارفين بالله – عرَّفنا الله جميعاً به ودلنا عليه دلالة الصادقين – لكل شيئ في الوجود غاية وهدف، وطبعاً نحن نُعادِل بينهما، وهذا خطأ، أي الغاية غير الهدف تماماً، الغاية هي المحطة الأخيرة، بتعبير عامي بسيط جداً الغاية هي المحطة الأخيرة التي ينتهي إليها السائر في سيره، هذه الغاية، لكن ما الهدف؟ لماذا أنت تغييت هذه الغاية؟ لماذا قصدت إليها؟ لماذا قطعت كل هذه المراحل المُرهِقة المُتعِبة الطويلة؟ لماذا؟ يُوجَد هدف إذن، فالهدف غير الغاية، الهدف غير الغاية! وهذا كلام جميل وعميق لعارف بالله، قال لكل شيئ في الوجود غاية وهدف، أما الغاية فهي النضج، أن ينضج، وأما الهدف فهو أن يتحرَّر، كلام عجيب والله! هذا يُمكِن أن يُشاد على أساسه – أي على أساس هذه المقولة البسيطة لهذا العارف بالله، من عُرفاء هذه الأمة المُحمَّدية، صلى الله على محمد وآله محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً – فلسفة كاملة والله يا إخواني، فلسفة كاملة وجودية، وجودية مُؤمِنة! بناء على هذه العبارة البسيطة.
ثم ضرب هذا العارف بالله – قدَّس الله سره الكريم – مثالاً رائعاً، قال غاية الثمرة على أمها أن تنضج، الشجرة تُزهِر ثم تُثمِر، ثم تبدأ هذه الثمرة تقطع المراحل إلى ماذا؟ الاستواء والنضوج، قال غاية الثمرة أن تنضج، فإذا نضجت ظهر الهدف، تتحرَّر، تسقط من على أمها، تستقل، حتى الحاجة إلى أمها تختفي، هل هذا واضح؟
ولذلك إذا نضج المُؤمِن تحرَّر من كل شيئ، إلا مما لا يتأتى لأحد أن يتحرَّر منه، من الله – تبارك وتعالى -، كل شيئ في قبضته، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، حتى إن أردت أن تفر وأن تهرب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۩، ستفر منه إليه، لكن أنت ستُلفي نفسك عبداً جميعاً، عبداً غير مُفرَّق، غير مُشتَّت، غير مُمزَّع، غير مُشعَّع، عبد جميع، كتلة واحدة في العبودية، لمَن؟ وستُلفي نفسك حراً من كل شيئ عدا الله، العبودية لله هي جوهر الحرية، لأن هذا السيد – لا إله إلا هو – ورب الأرباب لا يُريد من كشيئاً لذاته، يُريد منك كل ما أمرك به أن يكون عائده وثمرته لك أنت، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۩، من أجلك أنت، هذا من أجلك أنت! أين تجد مثل هذا السيد – لا إله إلا هو -؟! الذي مهما طلب أو أراد منك شيئاً أو نهاك عن شيئ فإنما فعل هذا لأجل مصلحتك أنت، لأجل تحريرك أنت، لأجل انضاجك، سعادتك، وإروائك، لكن – كما قلنا – الانضاج هو الغاية، وهناك هدف بعد هذا، وهو أن أتحرَّر، ومعنى التحرر التحقق من العبودية المُطلَقة، والاستعلاء على كل ما يشد البشر ويستعبدهم ويُبهِظهم ويُثقِلهم ويُذِلهم، ويُذلِهم! قد تجد كبيراً في قومه وفي رأيك هو كبير جداً على أنه ذليل أو كالذليل، ذليل بماذا؟ ذليل من حيث حاجته إلى أصوات الناس، أن يُصوِّتوا له، أن يدعموه، وأن يُصفِّقوا له، لا! المُؤمِن لا يكون حتى ذليلاً بهذا المعنى أبداً، لأنه مُتحرِّر من كل هذه الأمور، من قديم قطعها وتحرَّر منها، هذه أُلهية، يتلهى بها الصبيان والصغار، هل هذا واضح يا إخواني.
في معنى النضج سأحكي – طبعاً هذا رمضان، لابد أن أرحم نفسي وأرحمكم، فهذه خُطبة رمضانية – أو سأقص عليكم حكاية ولا أروع كما يُقال، ولا أروع! عن أحد سلاطين بني عثمان، وبين قوسين طبعاً أقول حتى يكون الكلام واضحاً (لا تستغربوا ما سيُتلى على مسامعكم الآن، مَن يقرأ كُتب التواريخ وكُتب الطبقات يعلم أن سلاطين العثمانيين وسلاطين المغول في شبه القارة الهندية لهم مواقف كهذا الموقف، وهي بالعشرات، بل بالمئات، معروف تقربهم من أهل الله ومن أولياء الله ومن أهل العلم والصلاح، شيئ عجيب، تقريباً لم يُعهَد مثله في عالم العرب، عندهم هذا، عندهم الخشوع والبخوع والتطامن والتواضع بين أيدي أولياء الله وعلماء الشرع، وهذا أيضاً يدل على عقلهم وعلى فهمهم، فلا تستغربوا هذا، والقصص كثيرة جداً).
فهذا السُلطان – رحمة الله عليه – أتى ذات يوم إلى مجلس يقوده شيخ من أولياء الله – تبارك وتعالى – بمُريديه، شيخ من أهل الله، من أهل الذكر، ومن أهل العرفان، طار له صيت في السلطنة، أنه رجل صالح ورجل حكيم، أوتيَ الحكمة وفصل الخطاب، فالسُلطان قال ماذا؟ لأزورنه، أُريد أن أرى ماذا عنده، فلما زاره وجلس سويعة بين يديه أعجبه كلامه، كلام ينضح بالحكمة، مُجلبب بالنور، يتشعشع بالوضاءة، فأعجبه هذا، فعاد الثانية والثالثة، واعتاد في كل مُناسَبة أن ينضم إلى هؤلاء المُريدين الفقراء البُسطاء بين يدي الشيخ الجليل، وهو سُلطان يحكم عشرات البلاد، شيئ غريب.
وطبعاً الكل في الطريق إلى الله عبد، لا امتياز بين سُلطان وبين سوقة، جمعتهم العبودية، فإن كان ثمة تفاضل فبالسبق إلى الله، مَن أسبق إلى الله؟ تماماً كما جمعت هذه العبودية أصحاب رسول الله وساوت بينهم، وإن كان ثمة تفاضل وهو موجود فكان بالسبق، أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيُدلى في قبره كل الآخر وقد استُشهِدوا جميعاً في معركة واحدة بين يدي رسول الله، فقط! أيهم أكثر أخذاً للقرآن، ليس أيهم ابن مَن؟ ليس هذا من أي قبيلة أو فخذ أو عشيرة، ليس أيهم أكثر مالاً ونشباً، لا! أيهم أكثر أخذاً لكتاب الله.
على كل حال وهكذا مرت الأسابيع والشهور، وبعد شهور وقد قام السُلطان يستودع الشيخ لينصرف قال له يا مولانا، يا سيدي الشيخ، لقد أعجبني كلامك، ونفعني الله ما شاء أن ينفعني بحكمتك وتعاليمك، وأنا أرجوك إن كان لك طَلِبة أو حاجة أياً تكن فلا تستحي من أن تطلبها مني لألبيها لك من فوري، فنكَّس الشيخ الصالح رأسه، ثم قال نعم أيها السُلطان المُعظَّم، ثمة حاجة واحدة وحيدة لي، وأرجوك أن تُلبيني فيها، قال تفضَّل، فرح السُلطان، وقال لعله يطلب – مثلاً – مكاناً أوسع أو خانقاه أكبر، تُلحَق بها ربما حديقة عظيمة، أي الأشياء هذه، قال له هو ألا تعود إلى هذا المكان مُجدَّداً، لا أُريدك في هذا المكان مُجدَّداً، فصُعِق السُلطان، وقال يا سيدي هل أتيت إليك أو إلى أحد مُريديك شيئاً كسر بخاطرك أو بخواطرهم؟ هل أسأت الأدب؟ هل تعديت طوري؟ قال كلا يا سيدي السُلطان، العلة ليست فيك، العلة فيهم هم أنفسهم، العلة في المُريدين الفقراء عندي، العلة ليست فيك أنت، قال لم أفهم! قال يا سيدي السُلطان قبل أن تعتاد حضور مجلسنا كانت بهلتهم – ابتهالاتهم – ودعوتهم ورغبتهم إلى الله ورهبتهم من الله، لا يرفعون حوائجهم إلا إليه، لكن بعد أن عوَّدتنا مجيئك الميمون هذا انصرفت همم قلوبهم وأرواحهم إلى عطاءاتك أنت وأفضالك أنت، يا سيدي لسنا ناضجين بالقدر الذي يسمح أن تكون بيننا الآن.
يا الله! ما هذا؟! قال له لسنا ناضجين بالقدر الذي يسمح أن تكون بيننا الآن، استخدم هذه العبارة بالضبط، قال له لسنا ناضجين، لم ننضج إيمانياً بعد، هؤلاء مُريديون طيبون وادعون، لكن مساكين، في أول الطريق، ظنوا أنهم يُريدون وجه الله، ويبدو أنهم إلى الآن لم يُريدوا وجه الله، يُريدون أن يتوسَّلوا الله وسيلة لقضاء مآرب الدنيا، وهذا شرك، شرك! وظهر هذا، ظهر بحضور السُلطان.
ولذلك لما سُئل الإمام الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم – يا حُجة الإسلام هل يُغيِّر المال قلب العالم؟ قال مَن غيَّر المال قلبه ليس بعالم أصلاً، يا سلام! هذا هو السؤال، وهذا هو الجواب، سُئل هل يُغيِّر المال قلب العالم؟ فقال مَن غيَّر المال قلبه فليس بعالم أصلاً، ليس بعالم! أنتم ظننتموه عالماً، فلما غيَّره وحرفه المال برهن لنا بأوضح بُرهان وأسطعه أنه لم يكن أصلاً عالماً، خدعنا أو خُدِع بنفسه.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعرِّفنا به، وأن يزيدنا فقهاً وعلماً ورشداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
من علامات نضج المُؤمِن في شخصيته وإيمانه أنه يسهل ويسلس ويشف ويرق للعباد جميعاً، يُزايله التنمر، يُزايله الغضب والحقد والرغبة في الثأر، لا يكون كذلك أبدأ أبداً، يُصبِح هيّناً، وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ ۩… أول صفة! قال وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ ۩، انظر إلى هذا، الذين تحقَّقوا بالعبودية، يعني ماذا؟ نضجوا، يعني تحرَّروا، تحرَّروا! ليسوا كالذي يقول مَن أنت لكي تقول لي أنا كذا وكذا؟ أي هناك أنت وهناك أنا، لا! لم ينضج بعد، أي إنه حصرم، هذا مُتحصرِم، يقول مَن أنت لكي تقول لي أنا كذا وكذا؟ مَن أنت؟ ومَن أنا؟ أنا الخاصة بإبليس هذه، يقول أنا لأنه يرى نفسه، لا! وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ۩، أول صفة هذه، فلماذا بدأ بها الله؟ شيئ غريب يا أخي، قبل الصلاة، وقبل الرغبة، وقبل الرهبة، وقبل الخشية، فهذه أول صفة على نضج الشخصية بالإيمان.
أجمل ما قرأت إلى الآن في عمري الطويل هذا – وقد عمَّرني الله عمراً طويلاً، نسأل الله أن يختمه بأحسن ما يرضاه منا ولنا، هذا أجمل ما قرأت في عمري الطويل ولا أقول القصير – هو الآتي، لم أقرأ أجمل من هذه الأبيات التي تُرجِمت لأنها شعر غير عربي لأحد العارفين بالله، قال ولي الله أو رجل الله هو كومة تراب منخول، التراب إذا لم يُنخَل وُجِد فيه شوك، وُجِدَ فيه قطع زجاج، ووُجِدَت فيه أشياء تُؤذي، لا! هذا منخول، ناعم، وجميل، مثل تراب البحر، ولي الله أو رجل الله هو عبارة عن كومة تراب منخول، رُش هذا التراب بقليل من الماء، رُش هذا التراب بماء قليل، لم يصر طيناً، لا! انظر إلى هذا، هذا تراب ديث كما تقول العرب بقليل من الماء، قليل من الماء! مثل ما فعل الله بتُربة بدر، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ۩، بقليل من الماء، بحيث غدا لا يُؤذي أخمص القدمين، ولا يترك وراءه أثر غُبار، الله! قال هذا ولي الله، هذا ولي الله.
ولذلك أختم، حين يصير واحدنا أو واحدتنا ولياً أو أمةً وليةً لله تبارك وتعالى – صيَّرنا الله ذلكم الولي وتلكم الولية الصالحين من عباده – يُدرِك تماماً أن الاقتراب من الله لا يمر إلا بعباد الله، الانقطاع وعدم الاهتمام وعدم الاحساس بالآخرين مُستحيل أن يكون طريقاً إلى الله، سيكتشف صاحبه الذي ضُلِّل – المسكين ضُلِّل، ربما ضللته فلسفة مُعيَّنة أو تعاليم غير صادقة، غير صالحة، وغير مُجرَّبة – بعد حين يطول أو يقصر أنه تحرَّك دائرياً، بدأ بنفسه وعاد إلى نفسه، كحمار الرحى – أعزكم الله -، بدأ المسكين بنفسه وقطع أربعين سنة لتكون النهاية ليست هي الله، ليست أعتاب الله، وليست الحضرة القدسية، إنما النفس، وحضرة النفس، بكل ما فيها من ضعف وحاجة وافتياق وعلل وأدواء قاتلة، ولذلك الطريق لابد أن يمر بعباد الله، باستمرار!
أحمق – أعزكم الله إخواني وأخواتي – مَن يظن أنه بخدمة ملك من الملوك يستطيع أن يفعل الآتي مهما بالغ في تجويد وتحسين هذه الخدمة وتأديتها على وجهه، خدمته فوق المأمول، لكنه يظن في الوقت ذاته أنه إن مس أو عرض لأحد عيال الملك – أولاده أو أحفاده أو أزواجه أو حتى خدمه – بشيئ من الأذية أو شيئ من الاستكبار أو شيئ من كسر الخاطر، أن الملك سيرضى هذا منه، انتبهوا! هذا حال الذي يُحسِن فيما يظن في عبادة الله والإقبال على الله والصلاة والضراعة والبكاء والخشية والذكر والصيام والقيام، لكنه ماذا؟ يُؤذي عيال الله، والخلق عيال الله، يُؤذيهم، يكسر خاطرهم، يفتري عليهم، يكذب عليهم، يمنعهم، يمنعهم حقوقهم، لا يرحمهم، ولا يشعر به، ويظن أنه واصل إلى الله وأن الله يتجاوز عنه ويرضى منه هذا، أحمق! هذا من أحمق الحمقى.
ولذلك سأختم بقصة أُخرى رائعة جداً، ومعناها ورد في الحديث الصحيح لدينا في صحيح مُسلِم، ولن أذكره مرة أُخرى، لأنه معروف للجميع، عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي استطعمتك فلم تُطعِمني… إلى آخر الحديث الجميل، من أجمل الأحاديث على الإطلاق.
فيما يُحكى أن جماعة من بني إسرائيل أتوا إلى كليم موسى – عليه وعلى نبينا الصلوات والتسليمات -، وقالوا يا نبي الله أنت كليم الله، فنرجوك ونتوسَّل إليك كلِّمه لكي يحل بنا ضيفاً، قال ماذا؟ قالوا ضيفاً على مأدبة غداء، نُريد أن نُكرِم الله الذي أكرمنا دائماً، لم نعلم منه إلا الكرم، لم نر منه إلا الكرم، ونُريد أن نُكرِمه، هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ۩، فاستبدت ثورة غضب بموسى، وقال كلا، كلا! صهٍ أيها الجهلة، أيها المُجدِّفون، الله غني عن الطعام والشراب، ولا يحضر المآدب، وانصرف مُغضَباً – عليه الصلاة وأفضل السلام -.
فاتفق أنه بعد أيام صعد الطور، وخاطب الله – تبارك وتعالى -، جرى بينهما حديث، ثم إن الله – تبارك وتعالى – عرض له بالعتب، عاتبه! قال يا كليمي أنا عاتب عليك، فقال لِمَ يا رب؟ قال لأنك لم تُخبِرني أو لم تُبلِغني دعوة عبادي لي إلى مأدبة غداء، فقال يا رب أنت أعلم، أنت أعلم وأحكم، أنت غني عن الطعام والشراب، أنت أعرف هذا، وأنت تعرف هذا، قال يا موسى هذا بيني وبينك، لكن إن عُدت إلى عبادي فأخبرهم أني لبيت دعوتهم.
احتار موسى واستبدت به الحيرة، كيف هذا؟ قال له كوني لا آكل ولا أشرب وأنا غني هذا معروف، وهو بيني وبينك، هذا احتفظ به لنفسك الآن في المرحلة، ولكن أخبرهم أني لبيت دعوتهم، فنزل موسى مُتحيِّراً ساهماً واجماً، ماذا يفعل؟ لكن لم يكن بُد من أن يصدع بأمر الله، فصدع به، قال الله لباكم، ففرحوا فرحة عظيمة، زغاريد ورقص وما إلى ذلك، فرحوا! الله سيحل علينا ضيفاً على مأدبة غداء، لنجعلنها مأدبة لم تكن من قبل.
وفعلاً في اليوم المضروب موعداً – وليكن بعد الغد – جعل موسى يشتغل معهم في إعداد فاخر الصنوف والألوان من المطاعم والمشارب، مأدبة أُريد لها ألا يكون قد سمع أحد بمثلها، وبين هم مُستغرَقون في الإعداد والطُهاة يطهون ويُحرِّكون إذ عرض لهم شيخ واهن عجوز بأطمار بالية، قد جهده الجوع جهداً شديداً، وقال يا إخواني، يا عباد الله… وذكر من حاله كذا وكذا، أي أنه ربما مر عليه كذا وكذا يوم ولم يذق ذواقاً، وأنه الآن أُجهِد جهداً شديداً، ويكاد يُغمى عليه، فلو بلَّغتموني بشيئ، فقالوا كلا، كلا، ليس الآن، ليس الآن، ليس الآن، الطُهاة قالوا ليس الآن يا رجل، عُد بعد سويعيات، لدينا مأدبة عظيمة، وستأكل معنا – إن شاء الله -، لكن بعد سويعيات، عند الظهيرة، ولكن إن أردت أن تجعل نفسك مُفيداً فخُذ هذه الأواني واستق لنا من البئر ماءً، أي إذا أردت أن تكون مُفيداً وإيجابياً فاذهب وائت بالماء، ساعد!
فعل الرجل هذا ولم يُعطوه شيئاً، أرجأوه إلى الظهيرة، وجاء وقت الظهيرة، ووقت الظهيرة انقضى، واقترب وقت المغرب، ثم دخل الليل ولم يحضر الإله، لم يحضر الرب هذه الدعوة، فغرق موسى في عرقه حرجاً وخجلاً، ومن صبيحة اليوم التالي ذهب إلى الطور، قال يا رب أحرجني الموقف أمس حرجاً شديداً، حتى صرت مظنة تكذيب في أخباري، أنا أخبرتهم أنك لبيتهم وأنك ستأتي، الآن مهما قلت من شيئ كذَّبوني، وهؤلاء بنو إسرائيل، وتعرفون كيف كانوا يُعامِلون موسى، أي يقفون له على النقرة كما نقول بالعامية، يُريدون أي غلط، ما شاء الله عليهم، ولذلك الله أحبهم كثيراً، انظروا إلى الخلائق – خلائق البشر – وكيف كانوا، على النقرة!
فقال له الله – تبارك وتعالى – ولكن يا كليمي كيف؟! كيف لم تلتفت أنت بالذات؟! قد لبيتكم وحضرت، قال يا ربي لم يأت أحد، حضور الإله سيكون شيئاً مُخيفاً جداً ومُرعِباً، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ۩، كيف؟! قال ذاك الشيخ الواهن المسكين – والعجوز تُقال للمرأة على فكرة – الذي جاء واستطعمكم، أما إنكم لو عجلتم طُعمته وأطعمتموه لكُنتم بمثابة مَن أطعمني، مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۩، الله يستقرض، لا يستقرض لنفسه، أعط الفقراء والمساكين والمُحتاج، تكن كأنك أعطيت الله، لا تقل لي أنت تُجدِّف وهذه إسرائيليات، إن كان هذا تجديف فالحديث أيضاً فيه تجديف، عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي استطعمتك فلم تُطعِمني… إلى آخر الحديث، وفيه كسوة، وفيه سُقيا، وفيه كل هذا، نفس الشيئ!
قال لو أطعمتموه لكنتم بمثابة مَن أطعمني، ثم قال – جل جلاله – لموسى يا كليمي إن لم تكن سماواتي وأرضي وسعتني فيسعني قلب عبدي المُؤمِن الصادق، هذا الولي الصالح المسكين الفقير المُسلِّم بأمر الله ولأمر الله أنا سأكون في قلبه، ولو أضفته أو ضيَّفته لكنت كأنما ضيَّفتني أو أضفتني، وكذلك لو أطعمته، لو سقيته، لو كسوته، لو أعطيته، ولو جبرت خاطره، الله أكبر يا أخي، ثم نتحدَّث عن رحمة يحتاجها الدين الإسلامي، هذا دين الرحمة، كله رحمة، مبدأه رحمة، هو رحمة حتى الجوهر والقلب والنُخاع منه.
اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة التي رحمت بها كل شيئ برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحمنا في هذا العشر الأول من رمضان، واغفر لنا في عشره الثاني، وبلِّغنا عشره الثالث، واجعلنا فيه بفضلك ومنّك وكرمك ورحمتك من عُتقائك من نار جهنم، نحن وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المُسلِمين والمُسلِمات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، برحمتك يا أرحم الراحمين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً.
اللهم أغننا عمَن أغنيته عنا من عبادك، أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمَن سواك، وبك عن جميع خلقك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ألهِمنا رُشدنا وأعِذنا من شر نفوسنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.
نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، إلهنا ومولانا رب العالمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (25/5/2018)
أضف تعليق