إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
وَالْفَجْرِ ۩ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۩ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ۩ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ۩ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۩ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۩ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ۩ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ۩ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ۩ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ۩ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ۩ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۩ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ۩ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا ۩ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ۩ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ۩ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ۩ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۩ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ۩ فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۩ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ۩ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۩ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ۩ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۩ وَادْخُلِي جَنَّتِي ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
ليس من العاسير أن يُدري امرؤٌ انتدب للوقوفِ على آياتٍ إلهية تحث على المحبة والرحمة، ينداح بها الأفق الإنساني وتتخصب بها إنسانية الإنسان وتثرى، مسألة سهلة جداً من أسهل ما يكون لكن في المُقابِل لا يشق أيضاً على أنفار من الناس أن يقعوا في كتاب الله – تبارك وتعالى – على آياتٍ يفهمونها – هكذا تقع في وعيهم – على أنها إذنٌ بنتهاك الآخر وبإقصاء الآخر وبشطب الآخر، ثم يجعلون هذا من صميم الدين ومن جوهر رسالته ومُهمِته، فالمسألة تتوقف على قاريء النص من جهةٍ وليس من جميع الجهات بلا شك لأن هناك موضوعية يُمكِن للراصد المُحايد الموضوعي الذي له ثأرٌ يأخذه وليس له غرضٌ يُريد أن يبلغ إليه من أي طريقٍ كانت أن يُدرِك موضوعية هذا النص ضمن شروطه الاتساقية الخاصة به، فهذه المسألة ليست مُستحيلة علمياً وإن كانت صعبة وشاقة جداً على المُؤدلَجين الذين افترستهم الإيدولوجيات والأنماط الفكرية الجاهزة المُعَّدة المُقولِبة والمُقولَبة، فالأمر لجهةٍ ما – ليس من كل جهة – يعتمد على قاريء النص الذي يذهب إلى النص يستشيره ويُسائله ويتساءل معه ويبحث فيه أيضاً ويستنصحه!
بلا شك أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان قارئاً مُجوِداً لآيات الله وكان حافظاً دقيقاً جداً – كان حافظاً بطريقة تفاصيلية إن جاز الجمع والتعبير – لكتاب الله تبارك وتعالى، يُقال – وهذا لا يبعد – أنه كان يتمكن من قراءة أي سورة بالمقلوب، أي من الخلف حيث يأتي بالآية الأخيرة ثم التي سبقتها وهكذا إلى البداية، كأنما يقرأ في المصحف وهو أمامه، وهذا شيئ عجيب، وحتى على الذي يقرأ هذه المُهِمة صعبة جداً، فالحجاج بلا شك كان له حال مع المصحف الشريف، أي مع القرآن الكريم، فهو كان صاحب قرآن ويحفظه جيداً ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فهو له قراءة إذن في المصحف الشريف، وجلال الدين الرومي – مولانا كما يُقال رضوان الله عليه – له قراءة في القرآن الكريم بلا شك وهى واضحة في كل تراثه الشعري والنثري الروحي، فهذه قراءة لمسلم وهذه قراءة لمسلم باديء الرأي وباديء النظر لكن الفرق بين القراءتين مهول ومُرعِب!
قراءة الرومي قراءة عنت لها جباه عُظماء ونُبلاء في الفكر والروحانية والفلسفة حول العالم من المسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين فضلاً عن المسلمين، عنت لها الجباه وبخعت لها وسلمت لها بالأستاذية وألقت إليها مقادة المُعلِمية، قراءة الحجاج عانت الأمة المسلمة منها أشد المُعاناة وأمره ، عشرات ألوف البشر – ومن بينهم نساء – قضوا في سجون الحجاج وأيضاً على النطاع، والنطع هو الجلد الذي كانت تُضرَب عليه الرؤوس، لم تكن المقصلة موجودة – الابتداع الفرنسي الثوروي الشهير – وإلا لكانت وفرت عليه الكثير، لكن هذا لم يخطر له على بال.
اتساع الرومي للبشر ولإخوته في الإنسانية مُستوحاً مُستلهَم من كتاب الله تبارك وتعالى، تضيق أفق الحجاج الإنساني بسبب وقوعه فريسة سهلة لأنانيته البالغة التامة المُستحكِمة، الرجل كان همه ليس خدمة بني أمية ولا خدمة المشروع الأموي وإنما همه خدمة ذاته، أن يكون هو شيئاً وأن يُصبِح هو شيئاً ما، فقط هو هذا، وفي سبيل هذا ضحى بكل شيئ، وطبعاً ضحى بنفسه وخسر آخرته – والعياذ بالله – خسر نفسه ومن ثم يُذكَر باللعنات، وطبعاً هناك بعض المُمجِّدين المُقدِّسين حقيقةً الذين يأبون إلا أن يخلعوا هالة التقديس على تاريخ البشر، لكن نحن بشر وهذا تاريخ بشرـ والحجاج من هؤلاء البشر، فكيف يغدو مُقدَساً؟ بأي ذريعة وبأي معنى يُمكِن أن تُسوِل لكم أنفسكم أن تُدافِعوا عنه وأن تُبيِضوا صحيفة هذا المُجرِم الأثيم وهذا القاتل المُبير؟ لماذا؟ ولا يزالون طبعاً يفعلون هذا بطريقة أو بأخرى، وعلى كل حال هو إجمالاً وفي العموم حين يُذكَر يُذكَر باللعنات، وحقيقٌ به وأجدر به أن يُذكَر باللعنة هو وأمثاله، لأنه كان عذاباً مُرسَلاً مُمتَداً على البشر وعلى الناس وعلى أهل دينه وعلى أهل التوحيد في زمانه – والعياذ بالله – مُستنِداً في ذلك إلى القرآن، فهو قرأ القرآن ووجد أن هؤلاء الذين يعدهم خصوماً له يستحقون ما فعل، وفي الظاهر هم خصوم للدولة الشرعية وللخلافة الأموية لكن هم خصوم له شخصيين طبعاً، لأنه لو لم يتعامل معهم كما ينبغي سوف يفقد منصبه، فهذه هى الطريقة وهذه هى المُعادَلة بكل بساطة فقط، هذا هو المتن وماعدا هذا حواشٍ وتهميشات فارغة لا قيمة لها، والآن يُبرِر بها ويُريد أن يدخل التاريخ كعظيم وكقائد من قواد الدولة الأموية لأنه حافظ على استقرارها، لكن هو حافظ عليها كما أقول مرة أخرى أو ثالثة ليس لأنها الدولة الأموية أو الخلافة الشرعية أو خلافة راشدة أو خلافة عادلة أبداً وإنما فقط ليحتفظ بمنصبه ولكي يبقى هذا الخواء العدمي شيئاً، لأنه كان خواءً، وكل هؤلاء الذين يفقدون الأفق الإنساني ويفقدون المعنى الإنساني من أجل أن يكونوا بزعمهم هم خواء، هؤلاء هم الرجال الخواء، الرجال الجُوف الذين ضاعوا ضياع الأبد ولم يتعرفوا على أنفسهم، هم يفتقِرون إلى الحد الأدنى من الوعي بالذات، أي مَن أنا؟ ثم ما أنا؟ وما الذي أُريد؟ أطلب ماذا؟ فالواحد منهم لا يعرف هذا، والجوابات في كل هذه المسائل خاطئة، كلها خاطئة وهو لا يُدرِك هذا، لا يُدرِك أنه يُجيب الجواب الخطأ ويعيش الخيار الخطأ، حياته عبث وموته عبث، حياته خطأ وموته خطأ، وكل شيئ خطأ، وأعتذر لأن ربما يكون موته هو الشيئ الصحيح فقط، أي أن تتخلص منه الحياة وينجو منه الأحياء، لكن الموت ليس خياراً له، الموت ضرورة قدرية، هو اليوم الموعود الذي ينتظر الجميع، محطة واحدة لكل الخلق، قال الله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۩ وقال أيضاً كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ۩، فهذه محطة واحدة ويوم واحد وحدث واحد ينتظر الجميع فلا يُمكِن أن يُوصَف بأنه خطأ، بالعكس الموت ليس خطأً وإنما الخطأ حياة أمثال هؤلاء.
الحجاج حين قرأ القرآن وسَاءَلَهُ واستشاره واستلهمه وجد أن القرآن يقول له هؤلاء لا يستحقون أقل من السيف، فلهم التباب ولهم اللعنة، هيا تخلص منهم، وكان ضميره مُرتاحاً وكان يشعر بأنه يُؤدي واجبه ويقوم بما عليه، لكن جلال الدين الرومي وأمثاله على العكس، وهم ليسوا بالقلة وإن كانوا غير حاضرين في وعينا وفي ثقافتنا وفي مناهجنا التربوية، فالحاضر حقيقةً وبفقاعة – أي حاضر بشكل فاقع – الحجاج وأمثاله، لكن الرومي غائب فانتبهوا، ولذلك علينا ألا نتساءل كالمُستغرِبين وكالمدهوشين كأننا أمام أحجية لنجمة أو لغز كبير ونقول لماذا؟ كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ مِن أن يأتي كل هذا الكره وهذا الحقد وهذا القتل وهذا الدم؟ من مناهجنا زمن طرق تفكيرنا المعطوبة المضروبة حتى الجذور وحتى الأسس، لكن نحن لا نقف لكي نُسائلها لكي نُعريها ولكي نكشفها، وبصراحة لأننا في الإبان حين نفعل هذا وإذ نفعل هذا نكشف عن أنفسنا أيضاً، سنرى أننا أيضاً نتعرى وننكشف، لن ينجو منا أحد، لا أنا ولا أنت ولا هو ولا هى، كل واحد سيجد نفسه مُلطَخاً لكن بين مُقلٍ ومُكثِر، هذا مُلطَخ بلطخة وهذا مُلطَخ بلطختين وهكذا، كله عبار عن لطخات، وهذا طبعاً لأننا نشأنا في هذا الفضاء وفي هذا الجو، فتسممنا بهذه الأفكار وبهذه المناهج وبهذه الطرق التي عُمِّدت ولا تزال تُعمَد وتُكرَّث على أنها دين ومُقدَس وشيئ شريف ونبيل وطريق الله، فيُقال هذا ما يُرضي الله وهذا ما يُريده الله – تبارك وتعالى – للأسف افتراءً على الله وكذباً على الله ورسله ورسالاته!
جلال الدين الرومي حين اتسع لإخوته في البشرية ولإخوته في الإنسانية وعامل الكل نظر إلى الكل وتعاطى مع الكل من منظورٍ ومن زاوية لا يستوعبها الآخرون مُباشَرةً ويُعادِلون بينها وبين الزندقة، يقولون لك أنه زنديق، هو زنديق لا يأبه بشأن الدين وبشأن التوحيد وبشأن الرسالة، هو لا يهمه هذا لأنه زنديق، وهذا طبعاً لأن منظوره أوسع بكثير من منظورهم الضيق الحصري ومن ثم لا يستوعبونه، فبالحري يقذفونه بهذه الوصمات للأسف، ولو كان حياً مُباشَرةً لباشروا قتله، لما ترددوا لحظة عن تخليص الأمم من هذا الخطر المُحدِق ومن هذا الزنديق الكبير اللعين، وعلى كل حال هذه قراءة وهذه قراءة!
حين تذهب إلى كتاب الله – تبارك وتعالى – تُريد أن تقرأه انتبه، بأي إرادة وبأي نية وبأي مُسبَقات تذهب إليه ولأي غرض؟ أن تقول لي أذهب بلا نية وبلا مُسبَقات وبلا أغراض بل أذهب عالماً عقلياً مُجرَداً من كل التحيزات فهذا كذب واضح ولا يُصدِقه أحد، لا أحد ليس له أغراض وأهداف وغايات، ولا أحد يذهب خالي الذهن من أسئلة ومن علامات استفهام، أليس كذلك؟ لا أحد يذهب خالي الذهن من إشكالات، وهذا معنى أن تكون إنساناً، أن تكون لديك فراغات وأن تكون لديك غيابات وأشياء غائبة ،وأشياء لم يُجَب عنها وتساؤلات وإلحاحات تُعذِبك حتى العذاب – تساؤلات تبلغ بك حد العذابِ – لأن إذا لم تكن كذلك فأنت لست إنساناً، لكن في الحقيقة أنت إنسان، فأنت كذلك رغماً عنك سواء وعيت هذا أم لم تع هذا، فحين تذهب إليه انتبه، جيد إن كان قصدك فعلاً أن تُخصِب وأن تُري إنسانيتك، أنت سعيد بإنسانيتك وسعيد بالقدر الضئيل الذي تحظى به من الإنسانية وبما تعني الإنسانية من حب الخير للجميع ولإخوانك في البشرية وفي الآدمية، أي لأبناء أبيك ولأبناء أبويك آدم وحواء هكذا من حيث أتوا.
لا تخلطوا لأن المسلم تعوَّد على أن يخلط إلى حد التشويش، والمسلم المُعاصِر بالذات يخلط إلى حد التشويش، فهو لا يُشوِش فقط على صورة دينه وعلى موقف الأخرين المُحتمَل بل يُشوِش على فهمه هو، فيضيع المسكين ويتيه، لكن مِن أين يأتي ويتأتى هذا التشويش؟ هو يخلط بين المقامات مُباشَرةً، فمثلاً لماذا لم يخطر على بال أكثرنا – أنا مُتأكِد أيضاً باطمئنان أنه لم يخطر على بال وعلى خاطر كثيرين منا، فحتى أكون مُتواضِعاً مع الحقيقة سأقول أكثرنا، علماً بأنني لا أحب أن أتملق – أن نستلهم مثل الحكاية الأكثر شهرة في كتاب الله – أول ما قص الله علينا من قصص في كتابه – وهى حكاية أبوينا آدم وحواء؟ في هذه الحكاية أن الله – تبارك وتعالى – أعطى النظرة وأنظر اللعين إبليس الذي جادله ورد عليه أمره ودافع عن خطيئته وودافع عن غلطه القاتل المُهلِك، وأبى أن يُذعِن لحُجة الله وقال لا، وكأنه – أستغفر الله العظيم – يقول لله أنت المُذنِب، وهو – أستغفر الله – قال هذا حين قال بِمَا أَغْوَيْتَنِي ۩، ويُريد بقوله بِمَا أَغْوَيْتَنِي ۩ أنك الذي غلطتني، ولذلك أنا أتحداك – أستغفر الله العظيم – لأفعلن ولأفعلن ولأفعلن لكن أنظرني، قال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ۩، ما معنى هذا؟ لماذا لم نقف عند هذه النظرة وعند هذا الإنظار لكي نستخلص ببساطة وبضربة واحدة أن الخطأ والخطأ القاتل – الخطأ المُهلِك وليس الخطأ البسيط – هو خطأ إبليس؟ لا يُوجَد ما هو أعظم من خطأ إبليس لعنة الله عليه، هذا أم الأخطأ وكل الأخطاء تناسلت من هذا الخطأ اللأولي، أليس كذلك؟ كل الخطايا خرجت منه، والخطأ المُهلِك القاتل هو الكفر بالله والإلحاد في الله – تبارك وتعالى – وفي أسمائه وصفاته والكفر به وإنكار وجوده وإنكار صلوحية أمره أن ينطبق علىّ وأن ينطبق على غيري، وهذا المنطق الإبليسي يقول هذا لا ينطبق علىّ وما ينبغي أن يُتوجَه إلىّ أنا، كأنه يُريد – أستغفر الله – أن يُعلِّم الله إلى مَن تتوجه وإلى مَن لا ينبغي أن تتوجه، فهو يقول أنا لا يُتوجَه إلىّ بهذا الأمر، أستغفر الله، هذا أمر عجيب، مَن العبد؟ مَن الرب؟ هذا إبليس وهذه النزعة الإبليسية، وكل مُتلاعِب بالدين – كل مَن تلاعب بالدين – وكل مُعيد للدين تأويلاً بطريقة تُفيد هذا المعنى – أن هذا ليس لي ولا ينطبق علينا وإنما ينطبق على غيرنا – هو إبليس، هو أحد الأبالسة بمعنى أو بآخر في العمق، وعلى كل حال هذه الواقعة العجيبة الفريدة قبل الزمان كانت وقبل أن ينزل أبوانا إلى هذا الكوكب وإلى هذا البسيط إذا قلنا بأنهما كانا فعلاً في عالم علوي لأن المسألة خلافية بين علماء الدين من قديم أيضاً، هذه الواقعة تعني – كما قلت لكم – بخطوة واحدة وبضربة واحدة أن الشر له وجود وله الحق في العيش وفي الحياة، فالشر وإبليس ووجهة نظر إبليس وسعي إبليس له الحق أن يكون، هكذا بنى الله خُطة الخلق أصلاً، خُطة الخلق المبنية على الابتلاء والامتحان والاختبار لا تكون إلا بإتاحة الفرصة للشر أن يكون وأن يوجد، ليس أن يتعايش حتى مع الخير بل أن يتمازج، وحقيقة فلسفة الخير والشر وصعوبة مُعضِلة – هى مُعضِلة حقيقية – الشر أنه مُمتزِج بالخير والتخليص صعبٌ جداً، ليس في العالم خيرٌ محض وبالتالي ليس في العالم شرٌ محض، لذلك ليس في العالم تعاسة محضة وليس في العالم سعادة محضة، ليس في العالم نجاح محض وليس في العالم إخفاق محض، ليس في العالم حزنٌ محض وليس في العالم بهجة محضة، هذه هى طبيعة العالم الامتزاجية، من حقه أن يكون وأن يُوجَد لا إلى جانب الشر بل أن يمتزِج به وأن يُمازِجه – علماً بأن هكذا يعيش الشر مع الخير والعياذ بالله – وأن يكون له صوت، وأعلى الأصوات هو أول الأصوات وهو صوت إبليس، وتلته ملايير الأصوات من حمّلة الشعلة، أي شعلة الشر والتهديم والتحريق.
القرآن يقول من حق الشر أن يُوجَد ومن حق الكفر أن يُوجَد، أليس كذلك؟ كم مرة القرآن ذكرّنا ولفتنا لكننا لم نتذكر ولا نُريد أن نلتفت إلى أن الله هو الذي يحكم ويفصل بين عباده ويوم القيامة ليس في الدنيا؟ هناك مسائل كثيرة يا أحبابي تفوتنا ليس لأنها صعبة أو لأنها شديدة الغموض أو الالتباس ولكن فقط لأننا لا نُريد أن نراها، فنحن لا نُريد ولا نُحِب أن نراها ولا نُحِب أن نلتفت إليها، والقرآن غاص بهذه الأشياء التي غيبناها عن عمد على رُغمِها لأننا لا نُريد أن نُواجِهها، فكم مرة القرآن ذكرّنا ولفتنا إلى أن الله – والله وحده لا إله إلا هو – هو الذي يحكم ويفصل بين عباده ويوم القيامة ليس في الدنيا؟ الدنيا دار ابتلاء ليست دار فصل، وبما أنها دار ابتلاء إذن ما في مجال أن تفصل بين المُؤمِن والكافر فتقول هذا يُقتَل أو هذا يُفنَى أو هذا يعيش، هذا غير صحيح، وأعلم أن كلامي هذا على وضوحه سيُشوِش بعض الناس، ليس لأنه مُشوِش بل لأنهم هم مُشوَشون، فمن الأصل الواحد منهم مُشوَش المسكين، والآن سيزول بعض هذا التشوش، كيف؟ سيتشوش كثيرون مِمَن يسمعون هذا الكلام ويقولون أين الجهاد؟ أين القتال؟ أين لتكون كلمة الله هى العليا؟ أين الولاء؟ أين البراء؟ لأن الواحد منهم مُشوَش المسكين، فهذا مقام آخر يا سيدي، هذا مقام آخر وواضح انفصاله وتميزه من المقام الأول في عشرات الآي القرآنية في كل مورِد، وأنا ذكرت عشرات المرات أن لديك المئات من آيات الله – تبارك وتعالى – التي تتجارى إلى تقرير حقيقة واحدة هى التي فرغت للتو من تقريرها أو اللفت إليها، لكن لديك عشرات الآي – إن شئتم عشرات الآي لكن قد لا تبلغ أن تكون عشراتٍ – أو بعض الآيات تقول لك بلسان الله عز وجل هذا الذي أعطيته الحق أن يكون وأن يكون إلى جانبك وأن تُرعَى حُرماته وحقوقه بما فيها حقه في أن يكفر وأن يرفضني وأن يتنكر لي ولرسالتي ولوحيي، وله الحق أن يعيش ويُرزَق أيضاً، ومُكرَماً دون أن يُجار عليه، هذا إن أبى إلا أن يختلط سيفه وأن يُجرِّد سيفه لكي يقطع حلاقيم كل من يُخالِفونه من مُوحِدين ومن المُؤمِنين، ففي هذه الحالة مأذونٌ لك بل أنت مأمور أن تدفع عن نفسك، لكن هذا مقام آخر مُختلِف تماماً، ما علاقة هذا المقام بالمقام الأول؟ ذاك مقام تقرير الحريات من حيث الأساس والأصل، وهذا مقام رد العدوان، انتهى إذن الأمر، فلماذا نخلط؟ لماذا ندعي أن هذا المقام هو الأساس والأصل في التعامل مع كل البشر وعلى خلفية الاختلاف المُعتقدي الديني؟ هذا كذب، أشهد بالله أنه كذب على الله ورسوله وكذب على كتاب الله، لذلك نحن أمعنا في تشويه كلام الله – عز وجل – في أذهاننا أولاً ثم في مخيال الآخرين، وإلا كيف الآن الآخرون يتلقون القرآن ويعرفون محمداً والدين؟ نحن أمعنا في هذا، نحن المُذنِبون إلى حد بعيد جداً ولا زلنا مُصِرين.
إخواني وأخواتي:
خُطبة اليوم في الأساس ليست عن هذه الموضوعات ربما التي قد تلقيتموها بشكل غير دقيق، لكن خُطبة اليوم عن موضوعة مُختلِفة تماماً عما ذهب إليه وهلكم ووهمكم، فهى ليست دفاعاً عن الإسلام وليست بحثاً لموضوع الجهاد والقتال وحريات والحقوق، هى ليست هكذا، خُطبة اليوم تطرح تحدياً ذكرته لأحبابي وإخواني أمام المسجد في آخر خُطبة خطبتها في هذا المسجد قبل أسبوعين، وهو تحدٍ من نوع خاص، أيضاً هذا التحدي أكثرنا لم يفطن إليه إلى الساعة، تحدٍ لا أقول أكبر تحدي لكن من أكبر التحديات التي تُواجِه الفهم المسلم والخطاب المسلم، فما هو؟ هل نذهب إلى الدين وهل نذهب إلى النص لنقرأه ونُعيد تأويله؟ طبعاً كل تأويل هو إعادة تأويل باستمرار، وهناك تأويلات مفتوحة كثيرة جداً، وهى بمعنى كبير أيضاً إعادة انتاج، والنص حين يُأوَل أحياناً يُصبِح غيره ويُصبِح نصاً آخراً، لأنه من خلال منظور تأويل آخر يقول لك النص لم يقل هذا أبداً، النص لم يذهب إلى هذا في رأيي، أنت خلقت نصاً آخراً، أنت تتعامل مع نص آخر في مخيالك أنت لكنه غير موجود، ويحدث تطاحن للآراء والتأويلات، ولا بأس لكن أهم شيئ أن يكون ظرف الحرية مُوفَراً للجميع، أهم شيئ ألا تُقطَع الحلاقيم والبلاعيم في سبيل إعلاء قراءة على قراءة ونصر قراءة على قراءة.
قبل أيام كنت سعيداً بإنزال عمل علمي كبير للإمام الدماميني – رحمة الله عليه – وهو شرحه على البخاري في بضع عشرة مُجلَدة، وهذا شيئ جميل، ثم التفت بعد مُطالعتي لبعض الأبواب إلى الحقيقة التي تُحزِنني دائماً، فعشرات من شروحات البخاري لدي في مكتبتي الإلكترونية والورقية وحين أذهب إلى مشكلة ما في بعض الأحاديث وأقرأ في هذا وفي هذا وفي ذاك وفي ذاك وفي كذا – في سبعة أو في ثمانية أو في عشرة أو في اثني عشر شرح وبعضها في مُجلَدات كبيرة – أجد نفس الشيئ، فالذي يُقال هنا يُقال هنا ويُعاد هنا وهناك باستمرار، فأدركت حجم وفداحة وضريبة عقاب الاجتهاد وعقاب الحرية الفكرية، وأنا أدين الله وأُشهِده على أن ظني ومُعتقَدي في نفسي وفي أمثالي أن هؤلاء الذين الآن أتوجه إليهم بالنقد من الأئمة أذكى منا عشرات المرات، لن أُبالِغ أكثر من هذا لكن هم أذكى منا بلا شك، نحن نقرأ عنهم وعن إنتاجهم العلمي وعن محفوظاتهم وعن قدراتهم وعن لياقاتهم العلمية وعن العلوم التي حصلوها وأتقنوها جداً والفرق بيننا وبينهم واسع وشاسع جداً، نحن لا نزال شُداة، نشدو العلم حروفاً، وهؤلاء أئمة عظام تخطوا الحد، لكن للأسف الشديد لا تكاد تقع على إبداع حقيقي ولا تكاد تقع على ثراء حقيقي، ما يقوله واحد كالذي يقوله خمسون، فما السر؟ السر هو مُعاقَبة الاجتهاد، كان الذي يجتهد يُعاقَب والذي يُغرِد خارج السرب يُعاقَب طبعاً، الذي يأتي بالجديد يُثرَب عليه، فالعلم أصبح لتاً وعجناً وطحناً للمطحون وطبخاً للمطبوخ حتى شاط كل شيئ واحترق، وأمللونا – أشعرونا بالملل – أيضاً، وهذا عقاب لعدم وجود حرية، لكن لو كانت هناك حرية ويُكافأ الاجتهاد ويُكافأ الإبداع وتُكافأ الأصالة الفكرية ما حدث هذا، ولذلك لا تُوجَد أصالة، وطبعاً هذه الكتب أنت تقرأ فيها وتشعر مُتحسِراً على هذه الأدمغة والعقول والطاقات العلمية الهائلة كيف ضيعت الأصالة، فهم ليس عندهم أصالة، لكن كيف تكون مُفكِراً وعالماً أصيلاً وأنت تُكرِر ما قاله غيرك؟ أين الأصالة؟ أين الإضافة؟ أين الإبداع؟ لا يُوجَد إبداع، فقط هو يحفظ كأنه جهاز كمبيوتر Computer، حاسوب يحفظ الكثير وعنده قدرة بحثية على أن يستحضر وأن يأتي وأن يقص ويلصق بشكل هائل طبعاً بلا شك ومُعجِب، لكن في النهاية بلا أصالة، وثقافتنا في عصور الانحطاط كذلك، ولن نقول على مدى العصور حيث تُوجَد عصور كان فيها إبداع وعطاء وفعلاً أسست لعلوم وأبدعت علوماً وفجرت أنهاراً وعيوناً، وبعد ذلك أكثر من ثمانية قرون ران عليها الجمود والخمود والتقليد، فهى – كما قلنا – فقط تُعيد إنتاج ما أُنتِج ولا تُضيف جديداً، وتُحارِب الاجتهاد وتُحارِب حرية التفكير وحرية التعبير وتُحارِب مزاج وعقلية وروحية الابتكار والإضافة والتفرد والاستقلالية التي يقول صاحبها هذا رأيي واجتهادي، فيقول لك أحدهم مَن أنت؟ مَن أنت حتى تقول رأيي؟ مَن أنت لكي تحشر نفسك بينهم؟ ويبدأ مُباشَرةً في التحطيم، حتى لو كان إماماً كبيراً هذا ممنوع وتبقى داخل السرب، والسلطة السياسية يُعجِبها هذا جداً فانتبهوا، قاتل الله السياسة، علماً بأن هذا كلام فكري وليس كلاماً سياسياً لأننا طلقنا السياسة ثلاثاً إن شاء الله، فالسياسة دائماً تُحارِب الحرية، هى لا تُحِب الحرية حتى في بلاد الحرية هنا، لو كان الأمر بيدها لفعلت هذا، لأن من الأفضل أن يُحَد من سُبل الحرية، والسياسة – كما قلت أكثر من مرة – تجد نفسها في المنع، والسلطة عموماً – كل سلطة وليس فقط سلطة السياسيين بل وحتى السلطة المعرفية وسلطة الكهان والأحبار والمشايخ وأي سلطة – تجد نفسها في الضبط وفي المنع والتحديد وليس في الإباحة، هذا مُستحيل وإلآ لا تكون سلطة، بطبيعتها السلطة هى لا تكون سلطة إلا في الضبط والتحديد والمنع والرقابة، لذلك هؤلاء الذين همهم وهاجسهم أن يضبطوا وأن يُراقِبوا وأن يتحكموا لا يُحِبون أن تبرز قرون استشعار للفوضى، ف الحرية يُسموناه فوضى ومُشاكسة وغلاسة وقلة أدب وتعكير الصفو العام وأي شيئ، لأنهم لا يُحِبون هذه الأشياء، فقرون الاستشعار يقطعونها مُباشَرةً، والذرائع موجودة مرة بإسم الدين ومرة بإسم الوطن ومرة بإسم الشرف ومرة بإسم كذا وكذا، أشياء كثيرة ولا تنتهي اللائحة، فهؤلاء يُحارِبون كل إبداع، ونحن لم نكن بدعاً في تاريخنا، للأسف ثقافتنا في قرون جمودها وخمودها انحطاطها لا تحتوي حتى على أدبيات يُمكِن أن تُلهِم الإبداع والابتكار، فهذا يُعاقَب بل بالعكس الذي يُمكِن أن يُشجِع عليه هو فقط الاجترار، أي ثقافة الاجترار والمحفوظات!
في العالم العربي – لا أدري كيف حال العالم الإسلامي لكن حاله أيضاً ليس أفضل بكثير، وهذا واضح من الإنتاج ومن الثمرات، قال السيد المسيح عليه السلام من ثمارهم تعرفونهم، لكنني أتحدَّث عن العالم العربي – إلى اليوم هناك خروقات منهجية وهناك أخلال منهجية رهيبة في مناهج التعليم لدينا، وبقدر ما يُدعى أن هناك مُراجعات وأن هناك تحديثات بقدر ما نحن للأسف في المكان، أي مكانك سر، فلم نشهد ثورة حقيقة في الإنسان العربي، في أخلاقه وفي روحيته وفي مزاجه وفي طريقة تفكيره وفي إبداعه، كل شيئ كما هو، وأحياناً يُوجَد تأخر أيضاً، في الفترة الأخيرة فقط في آخر شهر جاءني اتصالان من شخصيتين كبيرتين على المُستوى السياسي، وإحدى هاتين الشخصيتين تقول أنا لي علاقة مع أعلى رأس في السلطة لكن يا دكتور نرجوك قل لنا كيف نُصلِح نظام التعليم؟ كيف نُصلِح كذا وكذا؟ بدأ الحديث والحديث ذو شجون هنا بالذات، وأنا سأذكر هنا نُقطة لها علاقة بحُطبة اليوم، وإلى الآن الموضوع وأُفق الخُطبة أو المُحاضَرة غُير واضحاً إلى الآن!
حين تأتي إلى النص وحين تذهب إلى النص تذهب إليه بأي غرض وبأي إرادة وبأي نية؟ هل تذهب إليه بغرض وبهاجس التحكم والرقابة مثل السلطويين؟ أنا أقول لك إن ذهبت إليه بهذه الطريقة فأنت ضيعته، وطبعاً ضيعت نفسك وضيعت أمتك، والنص لن يبخل عليك من هذا المنظور أن يُعطيك بعض الإيحاءات بتبرير وتمرير فنيات وتقنيات التحكم والضبط والرقابة والعقاب أيضاً الذي يصل إلى قطع الرؤوس وذبح الناس بالنص، أما إن ذهبت إلى النص بنية أنك تُريد أن تفهم نفسك والآخر فتفهم الإنسان وتفهم البشر سيختلف الأمر، علماً بأن هذا أكبر فارق يُمكِن أن يُذكَر في التفريق بين الخطاب اللاهوتي أو الخطاب الديني أوخطاب رجال الدين – من كل الأديان طبعاً وليس فقط في الإسلام وإنما في كل الأديان – وبين خطاب الأدباء والروائيين والحكّائين العظام والفنانين – مثلاً – ثم علماء النفس بعد ذلك، فعالم النفس يستحيل إلا أن يكون كذلك، ولذلك الناس يدفعون نقوداً كثيراً لكي يجلسوا إلى هذا المُعالِج وإلى هذا الطبيب وهذا المُحلِل النفسي لكي يستريحوا من العناء الذي يرزحون تحت نيره ولكي يفضفضوا ويتكلموا، لماذا؟ يشعرون انهم إزاء شخص هاجسه أن يفهمهم وأن يُساعِدهم، مُستحيل أن هاجس عالم النفس أن يدمغك وأن يقول لك أنت منهم فاغرب عن وجهي وتباً لك، هذا مُستحيل مهما فعلت، تذهب إليه وتقول له بأنك مارست كذا وكذا ووقعت في كذا وكذا وعملت أشياء لا تُعمَل وإبليس يقشعر بدنه منها لكنه يتعاطف معاك ولن تزايله ابتسامته وربما يبكي من أجلك ويُحاوِل أن يضع قدمك على طريق العودة وعلى طريق النجاة ويُحاوِل أن يُساعِدك وأن يدلك كيف تتخلص وكيف تستعيد إنسانيتك، لذلك أنت ترتاح، فأنت تدفع له المال فقط من أجل أن يسمعك، لكن هل تعرفون مَن الذي يقوم بهذا الدور بطريقة أحسن من هذا المُعالِج أو هذا الطبيب؟الأديب والروائي والحكّاء الناجح، ومن هنا قد تقول لي أنت ذكرت الروائي والحكّاء ومن ثم دخلنا في الحكايات والدراما والتلفزيون Television والسنيما Cinema، فما القصة إذن؟ ما علاقة هذا بما نقول؟ له علاقة طبعاً، لأن هذا الجزء بالذات لم نتلقه في مدارسنا على أي نحوٍ مرضي، وأنا أقول لكم – وكلكم تعلمون هذا وكلكم درستم هذا – حين عُلِّمنا الأدب ودرسنا الأدب قرأناه ودرسناه وعُلِّمناه بالطريقة الفنية التقنية الجافة، فالمناهج العربية تقوم على حشر وضخ أكبر قدر مُمكِن من المعلومات في ذهن الطالب، وهى معلومات جامدة وغير نسقية وطبعاً ليس فيها نسغ الحياة وليس فيها ماء الحياة، لأنها معلومات ميتة، فإذا حدثوك عن امرؤ القيس يُحدِّثونك كما يحدِّثونك – مثلاً – عن رامبو Rimbaud أو دوستويفسكي Dostoevsky أو أنطون تشيخوف Anton Chekhov، أي نفس الشيئ، يقولون وُلِدَ في كذا ومات في كذا وله من الأعمال كذا وكذا وقال فيه فلان كذا وقصائده وحكاياته ورواياته تُصنَف ضمن الاتجاه الفلاني والنزعة الفلانية والمدرسة الفلانية، واحفظ وستُسأل عن هذا، وطبعاً أنت حين تقرأ هذا الأديب وهذا الحكّاء العظيم تكرهه وتكره معلوماته وتكره الحكاية، وحين تتلقاها تتلقاها حكاية أيضاً مُفكَكة كاذبة، علماً بأن أي رواية تقرأها وتعرف أنها كاذبة هى ليست رواية ناجحة، أي هى رواية خائبة، فالروائي الناجح حين تقرأه تقرأه حياً ولا تستطيع مهما ذَكَّرَتَ نفسك بأنها رواية – مُجرَد رواية – أن تمنع نفسك من أن تبكي وأن تبكي مرة ومرتين وعشرين مرة، وتتأثر ولا تستطيع أمام الروائي الاناجح والرواية الناجحة إلا أن تكون كذلك، وأنا أقول لك أنني أتحداك – افعل هذا ثم قل لي يا عدنان أنت تكذب – أن تقرأ أي رواية ناجحة ثم تعود بعد قرائتها كما كنت قبلها، ستقول لي أثَرتَ فضولي، كيف سأعود؟ ستعود أحسن إنسانية وأكثر إنسانية، ستقول عجيب هذا العالم، فتحت لنا باباً مُختلِفاً، ما هذا؟
الآن هل تعلمون لماذا بعض الأذكياء من الرجال والنساء من المسلمين وغير المسلمين وهم كثيرون حول العالم يقرأون الروايات؟ علماً بأن أكثر كُتب تُستهلَك في العالم الروايات، وأنا بصراحة أقول لكم أن في الفترات الأخيرة تُستهلَك للأسف أكثر من الكتب المُقدَسة، فما رأيكم؟ إلى وقت قريب كان يُقال الكتاب المُقدَس – مثلاً – أكثر النُسخ تُباع منه، وحتى لو سلمنا بهذا هل تُقرأ؟ هل تُؤثِر في الناس؟ هل تُغير حياتهم؟ تفعل هذا بقدر ضئيل جداً جداً جداً، لكن الروايات يختلف أمرها، لن اذكر لكم الآن لأننا لسنا في صدد أيضاً ضخ معلومات والكل يعرف هذا الأديب الفلاني الذي بيع من رواياته مائتي مليون نُسخة، ومن هنا قد يقول أحدكم يا حسرتنا، أنا لم أقرأ في حياتي رواية، طبعاً لأنك عربي ولم تتعلم ما معنى الأدب وما معنى الفن، أنت لم تتعلم هذا، لم يُعلِّموك هذا في المدرسة، علموك أنه هذا علك فارغ وكلام فارغ وأن هذه الناس تتخيَّل أموراً وتكتب، فلم نتعلم ما هو الفن وما هو الأدب وما معنى القصة وما هى الرواية بالذات، لم نفهم هذا ولم نفهم ما أهداف هؤلاء الروائيين، وأدخلونا طبعاً في فوضى وفي صراع النظريات مثل الفن للفن أو الفن المُلتزِم وإلى آخره، لكن ليست هذه القضية، في نهاية المطاف كل أديب هو مُلتزِم بمعنى أو بآخر، وهذا التيار الأغلب الذي يفرض نفسه حتى على الذين تنصلوا منه إلا العبثيين فقط منهم، فكل أديب يخرج من رحم الواقع ثم يثور على هذا الواقع ويُريد أن يُحرِرنا من ظلام هذا الواقع ومن بذاءات وقيء ووساخة وتعاسة وبؤس هذا الواقع، لكن بطريقته ليست الوعظية وليس كما أفعل الآن لأن هذه طريقة غير مُحبّبة وإنما بطريقة ولا أروع، وكل أديب له رسالة لا يُمكِن أن تصلك بالطريقة الوعظية أو التقريرية كما كانت تفعل الأفلام المصرية للأسف أيام البدايات البسيطة الكسيحة التي بالأسود والأبيض ثم يكتبون لك قبل النهاية عدداً من الأسطر ويأتون بآية وبحديث، وطبعاً هذا عمل كسيح جداً جداً وبريء من الإبداع تماماً، لكنهم تجاوزوه وإن كان في أكثر الأحيان نحو الأسوأ أيضاً للأسف لأنهم ضائعون، هذه الأمة تضيع الآن، لكن بالعكس أنا أقترح – واقترحت هذا من قبل – لعلاج نزعات الكره والحقد والغضب المُهلِك المُدمِّر لهذه الأحماض ولهذه السموم التي سممتنا وأذابتنا ونتلاشى بها للأسف نحو العدم العلاج بالأدب والعلاج بالفن، وقد قلت هذا قبل لكن كثير من الناس لم يستوعب حتى اقتراحي، كيف؟ في أي اتجاه يعمل هذا الاقتراح؟ كيف يُمكِن له أن يُنتِج؟ أنتم – كما قلت لكم – جربوا هذا، كل أحد يُجرِّب وحده أنا يقرأ عملاً أدبياً لأدباء إنسانيين عالميين، وأنا مُتحيز إلى حدٍ ما بحسب تجربتي الفنية والشخصية البسيطة للأدب الروسي، قرأت الفرنسي والإنجليزي ومُعجَب بهما أيضاً لكن الروسي مُتميز، علماً بأنه عند الإنجليز وعند الفرنسيين وعند غيرهم مُتميز بإنسانيته، فمن الصعب أن تجد أدباء في قامة دوستويفسكي Dostoevsky أو ليف تولستوي Lev Tolstoy أو أنطون تشيخوف Anton Chekhov أو جوجول Gogol صاحب المعطف الذي قال فيه دوستويفسكي Dostoevsky كلنا خرجنا من معطف جوجول Gogol، وهذه الجملة فيها مجازان، كما يقول العرب خرجنا من عباءة فلان، مجاز صحيح لأن جوجول Gogol أستاذ الأساتيذ، لكن المعطف رواية أيضاً لجوجول Gogol، وهى رواية قصيرة جداً أشبه بالقصة، أربعون صفحة من أعجب ما يكون تتحدث عن بطلها وهو شخص عادي يعمل كاتباً في مُؤسَسة حكومية، فهو شخص عادي جداً جداً، لم يتزوج ولم يُنجِب وهو مسكين وأصلع وفقير ومحدود الحاجات وضئيل المطالب وإسمه أكاكي أكاكيفتش، فهذه الرواية فقط عن هذا، وهذه روعة الأدب الروسي، لا يُحدِثنا عن أبطال الملاحم الهومرية وعن أمثال أخليس Achilles – آخيل – وإنما يُحدِثنا عني وعنكَ، فأبطال هؤلاء الروس يُمكِن أن تراهم في المرآة، الأبطال أنتَ وأنتِ وهو، هم العاديون الذي يمشون في الشوارع والذين يعيشون في البيوت البسيطة وحتى في البيوت الصفيح، هم هؤلاء لذا هم أبطال بلا بطولة، لكنهم الأبطال العاديون، وهؤلاء الروس العظام مَن ذكرت ومَن لم أذكر يأتون إلى أحداث عادية جداً – أنت قد تراها عادية ومُبتذَلة – ويُمثِّلون بها جوهر الشرط الإنساني، ومن ثم وتستغرب أنت، صدقني سوف تسترغب كيف أحياناً تقرأ قصة من ثلاث صفحات في ثلاث دقائق ثم تبكي وتقشعر ويحدث عندك تغير دراماتيكي في أشياء مُعينة وتقول ما الذي حدث؟ ماذا فعل هذا الرجل بي؟ فقط من خلال ثلاث صفحات وأنا لا أُبالِغ وإنما أتحدث عن تجربة، وتجربة بطول عمري طبعاً لأن هذا الذي يحدث من صغري، فنحتاج في المدارس إذن وفي الكليات أن نتعلَّم الأدب بالطريقة ذاتها التي ينبغي أن نتعلَّم بها القيم!
أجمل في الحياة وأنبل ما في الحياة وأقدس ما في الحياة الحبو الرحمة، الجود والكرم، حس الشعور بالآخرين والحرص على إسعاد وخير الآخرين، الحس بالآخر والشعور بالآخر، أي أن تشعر بالآخر، فحين تعود ابنتك أو ابنك من المدرسة في مُناسبَات مُعينة تكون سعيداً أنت بحديثه المكرور عن إنجازاته، يقول لك اليوم يا بابا كان عندنا اختبار – Test – وحصلت على المركز الأول، فتقول له ما شاء الله وتُعطيه ربما بعض النقود أو الحلوى، أو يقول لك يا بابا اليوم كان عندنا امتحان حقيقي وحصلت على المركز الثاني، وهذا ما يحدث باستمرار وهو شيئ جميل، لكن هناك ما يُقلِق، ومن ثم أنا أقول انتبه لأن هناك ما يُقلِق، إذا كان يدور حديث أولادك على هذا النحو دائماً فهناك ما يُقلِق حقاً، لأن الغياب يُقلِق، يُوجَد شيئ غائب هنا، والغيابات تُقلِق أكثر من الحضور، حضور الإنجاز والعلامات والنجاح والتفوق والتشجيع مُمتاز لكن هذا ليس كل شيئ، وإذا بقيَ وحده فإنه يُؤذِن ويُشير إلى شيئ غير مُطمئن بالمرة، لماذا لا يتحدث ابنك – مثلاً -عن كيف اهتم بـ وانهم بمُساعَدة زميله الوافد الجديد – مثلاً السوري المُهاجِر – إلى المدرسة والذي لا يُتقِن الألمانية وكيف أنه اقتطع له من وقته على مدار خمسة أيام من الأسبوع كل يوم ساعة ونصف بعد الدوام لكي يُعلِّمه الألمانية؟ هذا شيئ عظيم جداً جداً، هذا أفضل من أن يحظى ابنك بالدرجة الأولى في الامتحان لو كنت تعلم، لكن هذا يعتمد عليك أنت وعلى مُدرِّسيه أيضاً وعلى المسجد الذي يرتاده وعلى الثقافة التي يستنشقها ويتنفسها، لماذا لم تتحدَّث ابنتكِ إليكِ عن أنها حزينة من أجل مرض والدة صديقتها؟ وحين سألتيها لماذا تبدين هكذا محزونة مكسورة؟ انخرطت في البكاء فأخذتيها وضممتيها إلى صدرك وربتي عليها، وحين سُر عنها قالت يا أمي زميلتي فلانة أمها مريضة وبمرض عضال Terminal Illness، فأنتِ كأم ينبغي أيضاً أن تبكي، لا تبكي كاستجابة لوعظي هذا وإنما ينبغي أن تبكي لأنكِ إنسانة، فطبيعي أن أبكي لأنني أشعر بهذه الطفلة، فتبكي أنتِ أيضاً وهذا إثراء عظيم أفضل من ألف مُحاضَرة تأتي فيها بعشرين آية عن الرحمة وثلاثين حديثاً، الأفضل أن تبكي وأن ترى ابنتكِ الدموع في عينيكِ فتبكي لبكائها على صديقتها التي أمها في المُستشفى الآن تُعاني من مرض عضال، هذا مُهِم جداً.
حين ندرس الأدب ونُدرِّسه في المدارس والكليات ينبغي أن نُدرِّسه – كما قلت – بالطريقة التي نعيش بها الحياة، بالحب والرحمة والكرم والجود وإرادة الخير للآخرين، وهذه المعاني صدقوني يُفسِدها – إن لم يُفسِدها بالتمام والكمال ينقص من قدرها ومن تأثيرها ومن تسلطها الطيب طبعاً والجميل علينا – تحليلها وتفكيكها ومُحاوَلة منطقتها وعقلنتها، علماً بأن هذه إحدى لعنات الغرب الآن، أي عقلنة كل شيئ ومن ثم ظهور النزعة العقلانية – Rationalism – أو التعقيلية، فهم يُحِبون أن يُعقلِنوا كل شيئ، لكن الإنسان يسير في طريق مُختلِف عن طريق العقلنة والترشيد، فإذن أُتيحوا للتلاميذ والطلاب بعد ذلك في الكليات أن يعيشوا هذا الادب وأن يعيشوا هذا الفن، فيجب أن يعيشوه لا أن يحفظوه معلومات مُفكَكة تقنية كأن يُقال لهم هذه مدرسة كذا واتجاه كذا والناقد الفلاني قال كذا، وهذا أمر معروف، وأكثر شيئ كان يضر ولا يزال يضر بالإبداع لجهات كثيرة طبعاً وليس من كل الجهات أيضاً النقد، فالنقد يعمل حتى تعويقاً أحياناً للإبداع والابتكار الذي يُكَسِّرالأنماط ويُكسِّر الحدود!
الآن تحضرني عبارة لدوستويفسكي Dostoevsky من أروع ما يكون، يقول دوستويفسكي Dostoevsky الخطأ الأصيل أفضل من الصواب المُقلَّد، وهذا شيئ عجيب، هل تُريد حفزاً وإلهاماً بالإبداع أكثر من هذه العبارة؟ يقول حين يكون خطأك طازجاً فريش Fresh أصيلاً لكنه خطأك أنت ومن خلال تجربتك ومن خلال معاناتك فإن هذا الخطأ الأصيل أفضل بكثير من صواب مُقلَّد ومحكي ومكرور، وهذا مُهِم لكي نفهم كيف نتدين أيضاً وكيف نستقيم وعن أي استقامة تُحدثني وعن أي ضرب من ضروب الاستقامة وبأي مفهوم للاستقامة تُحدثني، هذا مُهِم جداً حتى نروز ونُعيّر ديننا، فإذن ينبغي أن نعيش هذا، وسانت أوغسطين Saint Augustine يقول أعظم دعوة للحب أن تبدأ أنت أولاً بالحب، ليس أن تعظ بالحب لأن الحب لا يُوعَظ به وإلا يفسد، كما قلت لكم سوف تنقص قيمته وينقص ويخبو ألقه وبريقه، وكذلك الرحمة والكرم والاتساع للبشر وللإخوة في الإنسانية، هذا يُوعَظ به لكن ينبغي أن نعيشه، وعالم الرواية يُدخِلك هذا العالم لكي تعيشه، فهو يُدخِلك فيه لكي تعيش هذه الأشياء لأنك سوف تعيشها ولو تخيلياً.
إذن التحدي – موضوع الخُطبة اليوم – هو هل نفهم الدين على النحو الذي يُبرِّر ويُمكِّن من الهيمنة والتسلط؟ وأنا أقول اللهم نعم إلا ما رحم ربي، فمُعظم المُتدينين من كل الأديان يفعلون هذا إلا ما رحم ربي، يُريد الواحد منهم فقط أن يُهيمن بطريقة أو بأخرى، هيمنة مُلغَزة وهيمنة صريحة جهيرة، وهذه إسمها إرادة الهيمنة، لكن هذا يُفسِد إنسانيتك ويُفسِد كل شيئ، هل تعرف لماذا؟ لأنه يقودك مُباشَرةً إلى أقصر طريق وهو دمغ الناس والحكم على الناس، فتقول هذا فاسق وهذا ضال وهذا مُستقيم وهذا مُنحرِف وهذا كذا لكن أنا دائماً المركز وأنا الذي أحكم وأنا القاضي، طبعاً يُوجَد هنا شعور بالتعالي وبالاستعلاء وبالمركزية، وهذا يُحوِّلك شيئاً فشيئاً إلى شيئ وليس إلى إنسان، هل تعرف لماذا؟ لأن هذا شيّأ الآخر وحول الآخر إلى موضوع، في الآخر أصبح موضوعاً أو ملفاً أو حالة Case، لكن أنت ذات تُمارِس دراسة الموضوع لتحكم عليه فقط ولكي تدمغه بطريقة أو بأخرى، وبهذه الطريقة بعد حين إذا استمرت وامتدت سوف تفقد إنسانيتك وتتحول إلى شيئ، في حين أن التعامل مع البشر كبشر ينبغي أن يتم دون أن يكون في هاجسك أو في واردك أن تحكم عليهم أبداً، وإنما أن تفهمهم وتفهم الشرط الإنساني خاصتهم، قال الله كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ ۩، علماً بأنني تكلَّمت عن هذا قبل ذلك لكن جديد اليوم أنني أفتح باباً فقط لفاعلية الأدب، أُريد هذا بشكل واعٍ، وأُريد هذا وأدعوا إليه بشكل جهير أيضاً، فينبغي أن نتعالج بالأدب، وطبعاً سيقول لك المُتدين السطحي البسيط كأن الدين لا يكفي، لكن يا سيدي الدين لم يُلغ الأبواب الأخرى لإثراء إنسانيتنا، الله تحدَّث عن الحكمة في كتاب الله، تُوجَد حكمة ولقمان لم يكن نبياً في أرجح الأقول وهو مِمَن أُوتى الحكمة، والحكمة يُؤتاها مَن شاء الله – يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ ۩- وليس فقط الأنبياء، ولما نحن قرأنا أقاويل السادة المُفسِرين وهى كثيرة وجدنا أن أفضلها وأرجحها في تعريف الحكمة هى الإصابة في غير نبوة، ليس شرطاً أن تكون نبياً ولا تباعاً لنبي لكي تُصيب الحقيقة، يُمكِن أن تُصيب الحقيقة لأنك إنسان ومفطور على الخير بإذن الله، وأنت مفطور على الشر أيضاً لكن انتبه إلى الامتزاج، فأنت مفطور على الخير ويُمكِنك بالوعي الذاتي وبإرادة أن تفعل هذا، تولستوي Tolstoy مرة كتب يقول – الآن نحن بدأنا نقتبس لأدباء كأنهم فلاسفة عظام – عليك ألا تهتم بتنمية الحقيقة، فقط نقها من الشوائب، تماماً عاملها كما يُعامَل الذهب، أن يبقى لدي قليل من الحقيقة المُذهَبة الذهبية أفضل من كثير من الحقيقة المشوبة بالأخلاط والأغلاط والأغراض والأمراض النفسية والروحية، فهذه لا نُريدها، فقط نقها كما يُنقَى الذهب من شوائبه، لا تهتم بتكثيرها وإنما اهتم بتكريرها حتى تُنقيها.
إذن إذا ذهبت إلى النص وإلى الدين بهذا الهاجس وبهذه الإرادة سوف تفشل إنسانياً، ولك أن تتخيَّل هذا، وهذا الدين للأسف سيُصبِح أحد العوامل في إفشالك وإعجازك إنسانياً، ستُصبِح عاجز إنسانياً، أي بإنسانية كسيحة، لأنك بدأت البداية الغلط ودخلت إليه من المُدخَل الغلط، أما حين تذهب إلى الدين وإلى النص وإلى الله ورسوله وتُحاوِل أن تستنجده لكي تفهم أخاك الإنسان تتعاطف معه.
تعريفات الإنسان كم؟ بالمئات، انتبهوا فهى بالمئات، بعض الكتب المُتخصِصة أوردت خمسين تعريفاً، فهى كثيرة وهذا أمر مُمكِن لمَن يتتبع، لكن النبي عرَّف الإنسان أيضاً تعريفاً ولا أروع حين قال كل ابن آدم خطاء، وخير الخطَّائين التوّابون، فذا تعريف قدَّمه النبي وقال هل تُريد أن أُحدِثك عنك وعن الإنسان؟ أنت إنسان فإذن أنت خطّاء، كلنا ذلك الخطّاء، كلنا نغلط ونُخطيء ونقع في الخطأ وفي الخطيئة، أي الخطأ بالمعنى المدني والخطيئة بالمعنى الديني أيضاً، فكلنا ذلك الخطّاء، لكن خير الخطَّائين التوّابون ، وهذا لا ينزع عني إنسانيتي، أي أنني أجرمت وأنني أخطأت وأنني جنحت وتجاوزت، وفي الحديث لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم، فما هذا الحديث؟ هذا أمر عجيب، هل وقفنا أمام هذا الحديث كثيراً؟ هل وقفنا أمامه؟ هل تساءلنا كيف؟ هل استلهمنا هذا الحديث؟ هل فهمنا ما الذي يستجره هذا الحديث من توالٍ ومن نتائج؟
إخواني وأخواتي:
حين نذهب إلى النص ونحن نُريد أن نفهم الآخر – أن نفهم أخانا الإنسان وأن نفهم البشر – ففي هذه الحالة فقط سيفتح لنا هذا النص الإلهي سره وجوهره، لأن هذا النص حين نزل وحين أُوحِى به إنما أُوحِى به لمصلحة البشر ولخير البشر ولإسعاد البشر كصيغة أعلى – Ultimate – نهائية للتوفيق بين البشر ولفض النزاعات المُستعصية الأذلية بين هؤلاء البشر، وللأسف درس التاريخ يُعلِّم أنه لم يُفلِح إلا لُماماً في هذا، والعلة ليست في النص بل العلة في إرادة الهيمنة التي لا تُفشِل فقط رسالة النص بل وتُدمِّر الأسر وتُدمِّر العائلات، فإرادة الهيمنة تُحوِّل ما تحت سقف الأسرة الواحدة إلى جحيم يتلظى آله بنيران عبر الأربع وعشرين ساعة بسبب إرادة الهيمنة منه أو منها أو منهما جميعاً، في القرآن الكريم إِنْ حِسَابهمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ۩ وفي القرآن الكريم أيضاً مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ۩، فالأنبياء لا يُحاسِبون البشر وكانوا يُقرِون بهذه الحقيقة ويقولون الحساب ليس إلينا وإنما الحساب إلى الله وعلى الله، فهل تعرفون لماذا؟ الذي له الحساب هو القادر على أن يفصل في القضية والقادر على أن يحكم هو الله، لأن مَن الذي يحكم ما يُريد؟ الله وحده، إذا لم تكن قادراً على أن تحكم على أخيك الإنسان تماماً وأن تضعه في المكانة التي يستحقها وتستحقه فإذن لا تدعي أنك مُوكَل بحسابه، لكنك قد تقول أنا لا أدعي أنني مُوكَل بحسابه، فإذن أنت لا تصلح مُلطقاً للحكم عليه، ومن هنا يُمكِن أن نفهم بعمق – عمق جديد أيضاً – الكلمة الأساسية في الخطاب الصوفي وفي الخطاب الروحاني لدى كل العرفاء العظام والأولياء الكبار التي تقول دع الخلق للخالق، فولي الله القديس أو الولي أو الصالح أكثر شيئ يرتجف منه ويخاف منه هو الحكم على البشر والحكم على الناس، لا يود مُطلقاً أن يتورط في هذا، عمر حين حاكم على حاطب بأنه مُنافِق وقال دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المُنافِق كان واضحاً بالنسبة لعمر من هذه الحيثيثة أن الرجل نافق لأنه يكتب إلى أهل مكة ويخون الرسول ويخون سر الدولة وسر النبي، لكن الرسول كفه وقال له وما يُدرِيك يا عمر – كيف حكمت أنت؟ أنت حكمت من حيثية واحدة، فهل استخضرت كل الحيثيات؟ – لعل الله أن يكون اطلع على أهل بدر – وهذا بدري – فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ أي هذا له سابقة وأنت لا تدري فكيف تحكم على الشخص أنت؟
أختم هذه الخُطبة بحكايتين، حكاية قصيرة والأُخرى طويلة، واليوم تحدثنا عن الحكي فربما تكونان هاتان الحكايتان أجمل ما في هذه الخُطبة التي تُعلِّمنا ألا نُبادِر وألا نتسرع في الحكم على الآخرين لأننا لا ندري مُجمَل شروطهم ولا ندري مشروطيتهم ومظروفيتهم، فنكل أمرهم إلى الله ونتعاطف معهم، هذا هو الأساس الذي لا ينبغي أن يُخطيء ولو مرة واحدة.
في قطار يتجه من بلدة إلى بلدة أخرى جلس شيخٌ كبير مع ابنه الثلاثيني، وفي الجوار زوجان، أي رجل وزوجته أو زوجه، وهذا الشاب الثلاثيني بدأ يتكلم بطريقة غريبة، طبعاً كان جالساً ووجهه يطفر بالسعادة، عيناه فضوليتان تلتهمان كل شيئ بفضول طفل غِر صغير، فينظر إلى كل شيئ بفضول، وبعد لحظات صرخ صاح بصوت عالٍ وهو يقول لأبيه كالطفل يا بابا الأشجار تسير إلى الوراء، هى تسير خلفنا، فاستغرب الزوجان، ما هذا؟ هل هذا يركب القطار لأول مرة؟ من المُمكِن أن يكون قروياً ولأول مرة يركب قطار، فهو قال الأشجار تسير خلفنا لكنهما لاذا بالصمت، وأبوه أكد له أنها تسير بالخلف فعلاً، أي أكد له انطباعه أنها تسير بالخلف مع ابتسامة، وبعد قليل وهو ينظر إلى كل شيئ ولا يكاد يقر له قرار قال انظر إلى تلك البركة – بركة المياه – ما أجمل الطيور التي تسبح عندها؟ هى جميلة جداً بابا، ما أجملها، فأكد له أبوه أنها جميلة بالفعل، ومن ثم إزداد استغراب الزوجان، ما هذا؟ وهو يصيح أدركا أنه معتوه وفيه خبل وحمق، بعد قليل أخرِج يده وهو يعبث ويستلذ بضرب وبلسع الهواء لها، ثم قال يا بابا إنها تُمطِر، لقد رأيت حبات المطر تنزل على يدي يا بابا، فلم يبق في قوس الصبر منزع وقال الزوج يا سيد أليس من الأفضل أن تذهب إلى طبيب لكي تبحث عن علاج لابنك هذا المسكين؟ فصُدِمَ الأب للحظات أو لبُرهة ثم قال بالفعل يا سيدي نحن قادمون للتو من المُستشفى، لقد كان ابني لفترة طويلة في المُستشفى، وبحمد الله – تبارك وتعالى – استرد بصره الذي فقده من سنين طويلة، فشعر الرجل بالعار، الآن أنت وقعت على بعض شرط هذا الإنسان، من حقه أن يفرح هذه الفرحة الطفولية، من حقه أن ينط وأن يقفز وأن يصيح لأنه يرى الدنيا ويرى ألواناً ويرى المخلوقات ويرى الماء، وهذا شيئ غير عادي، لكن بالنسبة لنا هذا شيئ عادي لأن الابتذال فرغ حياتنا، فكل شيئ أصبح مُبتذَلاً، الألوان والطعوم والأشياء والمعاني والقيم الجميلة والحب والكرامة والوفاء والصداقة والزوجية والدين وكل شيئ، حتى – أستغفر الله – ما يتعلق بالله أصبح مُبتذَلاً لدينا، فكل شيئ مُبتذَل، والابتذال عدو الحياة.
القصة الثانية وبها أختم وهى أروع من الأولى لكنها أطول قليلاً هى قصة طبيب مشهور في الغرب إسمه تيدي ستودارد Teddy Stoddard، فالدكتور تيدي ستودارد Teddy Stoddard مشهور جداً وهو طبيب ناجح وكبير لكنه لم يبدأ ناجحاً أو لم يبدأ بداية ناجحة، تيدي Teddy الصغير وهو في الصف الخامس الإبتدائي كانت تدخل مُعلِّمة الفصل السيدة تومبسون Thompson فتُلقي التحية على أبنائها التلاميذ وتقول لهم بصدق مُفعَم يا أبنائي أُحبِكِم جميعاً، وكانت في قلبها تستثني تيدي Teddy وتقول في داخلها إلا هذا، فهى تقول هذا في قلبها فقط ولم تُواجِهه به، وتيدي Teddy كان طفلاً إنطوائياً كسولاً، فلا يُنجِز واجباته البيتية، وهو على الدوام تقريباً مُتسِخ الملابس ومُشعَث الشعر ولا يستجيب لأشياء كثيرة تُقال له من المُعلِّمة، ومن ثم تُعبِّر المُعلِّمة قائلة لقد وصلت إلى درجة صرت أشعر ببعض المُتعة وأنا أضع بالخط الأحمر علامة الغلط على جواباته، فهو دائماً ما يغلط ولا يُحسِن شيئاً لأنه أخرق، ثم تُعطيه علامة الرسوب – أي خمسة التي تعني أنه راسب – كنوع من الانتقام المُبطَّن لكن بحق، وبعد فترة جاء تكليف من إدارة المدرسة بأن تقرأ السيدة تومبسون Thompson هى وجميع مُدرسي الفصول طبعاً السجلات السابقة، فانظروا إلى هذه الأساليب البيداغوجية الهامة لفهم الشرط الإنساني أيضاً، فهى ينبغي أن تعرف الشرط لهذا التلميذ ولكل تلميذ، ومن ثم يجب أن تقرأ هذه المُدرِّسة سجلات هؤلاء التلاميذ في الصف الخامس السابقة، أي من الصف الأول إلى الصف الرابع، فأرجأت تيدي Teddy إلى آخر المشوار وجعلته الأخير لأنها لا تُحِبه ولا تستظرفه – هذا المُشعَث الوسخ المُهمِل الإنطوائي البليد المُتبلِد – أبداً، وفي النهاية فتحت سجل تيدي Teddy ووجدت أن مُعلِّم الصف الأول يكتب تيدي Teddy طفلٌ موهوب ويُؤدي واجباته بشكل مُنظَّم ودقيق، فاستغربت من هذا، كيف يكتب تيدي Teddy موهوب؟ وفي سجل الصف الثاني يُلاحِظ مُعلِّم الصف الثاني ويكتب تيدي Teddy طفلٌ مُحبَب إلى زملائه ولديه حس الفكاهة وروح مرحة، فاستغربت كيف يكتب تيدي Teddy عنده حس الفكاهة وروح مرحة؟ من أين له هذه الروح؟ يُكمِل مُعلِّم الصف الثاني قائلاً لكنه مُضطِرب قليلاً بشأن أو بصدد مرض أمه العضال، فأمه مُصابَة بمرض عضال جعل الولد يضطرب، فالتقطت الخيط إذن، ويكتب مُعلِّم الصف الثالث في سجل تيدي ستودارد Teddy Stoddard تيدي Teddy وقع عليه نبأ وفاة أمه وقع الصاعقة فشوش أمره تماماً، بذل جهوداً جبارة في البيت لكي يبقى كما هو – أي مُتفوِقاً وناجحاً واجتماعياً – لكن أباه لم يكن ليهتم، أبوه أيضاً رجل مُقصِّر وغير مهتم به وغير مُدرِك المأساة التي يعيشها الابن الذي فقد أمه في الصف الثالث، فهو فقد أمه وهو ابن تسع سنوات للأسف، مُعلِّم الصف الرابع لا يدري بهذه الشروط فيكتب تيدي Teddy طفلٌ بليد وينام أحياناً في الفصل ولا يُشارِكنا في شيئ ويُعرِب عن امتعاضه، فحين قرأت هذا تأثرت جداً وشعرت بالعار وبالخجل من نفسه، كيف ظلمت هذا الطفل النجيب الموهوب الذي لم تفهم شرطه ولا ظروفه؟
في يوم عيد الميلاد الذي يسبق رأس السنة – كما تعلمون – هنا جاء الأطفال كُلٌ بهديته، وهذه الهدايا كانت ملفوفة بالورق الصقيل الجميل والأشرطة المُلوَنة الزاهية إلا هدية تيدي Teddy التي لفها بورق خشن بني مأخوذ من البقالة – ورق بقالة –
فجعل الأطفال يتضاحكون ويسخرون من هذه الهدية التي لفها بورق، لكنها عمدت إلى هدية تيدي Teddy وفتحتها مُبديةً الإعجاب وقالت واو Wow هذه هدية عظيمة، وكانت عبارة عن دمْلجُ – سوار Bracelet – من حجر مُعين من الأحجار الكريمة نوعاً ما، ولكنه ناقص بعض الأحجار، أي أن هذا الدمْلجُ أو السوار ناقص في بعض المواضع أيضاً، فضلاً عن زجاجة عطر لم يبق منها إلا الربع – ربعها فقط – بمعنى أنها غير كاملة، لكنها قالت جميل جداً ورشت من العطر وفوحت نفسها بهذا العطر، وقالت ما أجمله وما أحلاه ثم اعتنقته فوقف الأطفال عن التضحك!
لم يعد تيدي Teddy في ذلك اليوم إلى البيت بسرعة كما يعود كل يوم بل انتظرها حتى انصرفت من المدرسة ثم وقف وقال لها مُعلِّمتي أُحِب أن أقول لكِ شيئاً، رائحتك اليوم ذكرتني برائحة أمي، لقد استعطرت بهذا العطر في آخر عيد ميلاد جمعنا وانصرف، فوقفت هى تبكي، كتبت قائلة بكيت لأكثر من ساعة، أي انخرطت في البكاء لأكثر من ساعة، لكنها بعد ذلك آلت على نفسها إلا أن تُعيد إلى هذا الولد المسكين المُعذَّب ثقته بنفسه وإيمانه بنفسه، فصارت تُعامِله مُعامَلة خاصة وتُشجِعه وتحفزه وتُلهِمه، وهذا كان في شهر ديسمبر – الشهر الثاني عشر – فلم يأت شهر يونيو – الشهر السادس – حتى كان ضمن المراكز الأولى في الفصل ضمن المُتفوِقين،
فاجأها في العطلة برسالة وضعها تحت باب بيتها وكتب فيها ضمن ما كتب اسمحي لي أن أقول إنكِ أعظم مُعلِّمة لقيتها في حياتي، وهو كان في الصف الخامس وليس عنده القدرة على التعبير أكثر من هذا فتأثرت جداً، وبعد ست سنوات جاءتها رسالة أخرى – تيدي Teddy طبعاً ذهب إلى الإعدادية ثم إلى الثانوية – يُخبِرها بأنه أنهى الثانوية العامة وحظيَ بالمركز الثاني، ولقيَ مُعلِّمين ومُعلِّمات كُثراً لكنها مع ذلك لاتزال أعظم مُعلِّمة لقيها في حياته، ثم بعد ذلك تتلقى رسالة يُخبِرها فيها أنه تخرج من كلية الطب بتميز مع مرتبة الشرف، وأيضاً لا تزال أعظم مُعلِّمة لقيها في حياته، وبعد أربع سنوات من التخرج تأتيها رسالة منه يقول لها فيها لقد التقيت بنصفي الآخر، بالأنسة فلانة الفلانية، لقد أحبتها وأحبتني واتفقنا بحمد الله وتوفيقه على الزواج والاقتران، يُسعدني جداً ويُشرفني أن تحضري حفل الزفاف في المكان الفلاني في الساعة الفلانية باليوم الفلاني لكي تجلسي في المقعد المُخصَص دائماً كما هى العادة لأم العريس، أي أن تلعبي دور أمي، فمُباشَرةً لبته وقالت له هذا يُشرفني ويُسعدني، وبالفعل جاءت وقعدت في المجلس الذي كانت تقعد فيه أو ينبغي أن تقع فيه أمه لو كانت حية، ثم قامت بعد ذلك في الإبان فأخذها واعتنقها وأسر لها في أذنها قائلاً اسمحي لي أن أُعبِّر عن امتناني العظيم وشكري لكِ يا سيدة تومبسون Thompson لأنكِ آمنتِ بي، كان عندك إيمان بأن من المُمكِن أن يخرج مني شيئ ما وأنني لست إنساناً فاشلاً ولست إنساناً مُحطَّماً، ثم أضاف قائلاً أنتِ آمنتِ بي وأعدتِ لي الثقة بنفسي، لولا فضلكِ عليا لما كنت ما أنا عليه اليوم، فهو طبيب مشهور جداً وهو طبيب نابغة وأصبح شخصية اجتماعية كبيرة، بكت وقالت له يا تيدي Teddy أنت مُخطيئ في ذلك كله، أي أنت مُخطيء في كل ما قلت، عبر كل هذه السنين لم أكن أنا التي علَّمتك وألهمتك، كنت مُعلِّمة لا أعرف كيف أُعلِّم ولم أعرف معنى التعليم وكيف أُعلِّم إلا بعد أن جئت أنت في طريقي، فلكَ الفضل لأن أنت الذي صيرتني مُعلِّمة ناجحة.
إذن هذه القصة قصة واقعية حقيقية فيما يُقال وتُؤكِد أنه ينبغي ألا نتسرع في الحكم على الآخرين، ينبغي أن يكون هاجسنا – مرة أخرى ونحتم بهذا – أن نفهم الآخرين ، إذا حاولنا أن نفهمهم سوف تثرى إنسانيتنا وتتخصب بإذن الله ونسعد جميعاً، أي نحن وهم.
إذن أحد أكبر التحديات أمام الفهم الإسلامي والخطاب الإسلامي – هكذا أُلخِص – أن نفهم الدين بطريقة تُمكِننا من فهم الآخرين عوض ما نفعله الآن بضراوة وشراسة، لأننا نفهم الدين ونُنتِجه بطريقة تُمكِننا باستخفاف وبسهولة من دمغ الآخرين ومن الحكم على الآخرين.
للأسف أدركنا الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسلمياً كثيراً.
اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم وفي هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مديناً إلا قضيت دينه ولا حاجةً لنا من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضاً إلا قضيتها ويسرتها بمنّك وتوفيقك مولانا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (13/11/2015)
جزاك الله خيرا كثيرا يا والدي الدكتور عدنان ،،ونفع بكم الأمة
ومنحكم الصحة والسعادة انت وأهل بيتك اجمعين ..
لكم مني داءما حظا وافرا من الدعوات
اساله تعالى ان يقبلها .
ابنتكم ام ريان