إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ ۩ إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ۩ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ۩ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ۩ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لّا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۩ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
وعدٌ من الملك الجليل الذي إذا قال صدق وإذا وعد وفَّى وذلك في قوله وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ۩
وهناك عدد من المسلمين والمسلمات يُحيِّرهم ويُبهِظهم سؤال: فما بالنا والحال هذه لا يُستجاب لنا ونحن ندعوه سبحانه وتعالى صباح مساء؟!
ندعوه في شهر رمضان وفي الأيام المُبارَكات وندعوه في وقت الاضطرار وفي وقت الضيق، ندعوه في العشرة الأواخر من رمضان بحرم الله الشريف بمكة – صانها الله وشرَّفها – وملايين يُؤمِّنون ويُرسِلون الدموع السخية الحارة، فما بالنا لا يُستجاب لنا؟!
ومن ثم تسوء أحوالنا وتزداد همومنا وتتوالى علينا الهموم والكوارث والمصائب، فما الذي يحدث؟!
سؤالٌ بلا شك له قدره وله أهميته ولابد أن نُحاوِل الجواب عنه مُستفصِلين ومُتضوِّئين بأنوارِ كلام الله – سبحانه وتعالى – وكلام رسوله المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه أجمعين -، فأول ما نُجيب به عن هذا السؤال هو قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده من حديث عبد الله بن عمرو – رضيَ الله تعالى عنهما – حيث قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الشريف “القلوب أوعيةٌ وبعضها أوعى من بعض، فإذا دعوتم الله أيها الناسُ فادعوه وأنتم مُوقِنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيبُ لعبدٍ دعاه عن ظهر قلبٍ غافل”، فأشار – صلوات ربي وتسليماته عليه – بقوله “القلوب أوعيةٌ وبعضها أوعى من بعض” إلى سر المسألة، فما علاقة حقيقة كون القلوب أوعيةً وأن بعضها أوعى من بعض بالاستجابة للدعاء من عدمها؟!
النبي هنا وضع إصبعه الشريف على سر المسألة ووضَّحه في آخر الحديث بقوله “فإن الله لا يستجيبُ لعبدٍ دعاه عن ظهر قلبٍ غافل”، وسنشرح هذه الجُمل علماً بأن العناوين كما هو مُقرَّر ومُمهَّد لا تُغير الحقائق، فلو سميت الباب نافذةً لم يستحل الباب إلى نافذة وبقيَ باباً، لو نعت العالم بالجاهل لم يصر جاهلاً لمُجرَّد نعتك وإنما يبقى عالماً على ما هو عليه والعكس صحيح، ومعنى هذا القول أننا حين ندعو الله – تبارك وتعالى – ليس المُهِم أن ندعو إسمه هو فنقول “يا الله، يا جبَّار، يا قهَّار، يا رزَّاق، يا خلَّاق، يا عليم، يا حليم، يا مُحيي” وإلى آخره لأن هذا لا يجوز عند الله – تبارك وتعالى – ولكن لابد أن ندعو ونحن واعون بالحقيقة، فليس المُهِم أن ندعو ونُناجي إسمه وصفاته، إنما المُهِم هو أن نكون عارفين به – لا إله إلا هو – فإذا دعوناه دعونا مَن نعرف وليس إلهاً آخر قددناه وفصَّلناه على قدر أهوائنا وأمزجتنا ومصالحنا وفهمنا السقيم وأغراضنا المُلتاثة ومصالحنا المهزولة ثم عُدنا بالخيبة فتحيِّرنا وتهوَّكنا وقلنا: ما بالنا لا يُستجاب لنا؟!
وهل دعونا الله؟!
فالله تبارك وتعالى لا يتعامل مع الظواهر، مع الكسوات، مع العناوين والألفاظ، مع اليافطات، ولكن يتعامل مع الحقائق، فهو هكذا – لا إله إلا هو – لأنه لا يحتاج إلى لغة كما نحتاج نحن، فعلينا أن ننتبه إلى أن اللغة هذه علامة على ضعف الإنسان الذي يُحاوِل أن يتخطى ضعفه بالتواصل اللغوي، وهذا التواصل ليس تاماً بل هو تواصل منقوص من وجوه كثيرة ولكن هذا مبحثٌ آخر، الله هو القائل – سبحانه في عليائه – إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩، وكما شرحنا هذا يتم في لا زمان ومن هنا قال الله وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ ۩ ولا يختص هذا فقط بتغيير حال إلى حال أخرى أو خلق مُفرَدة من مُفرَدات الوجود، بالعكس هذا يتعلَّق بالساعة كل الساعة، وذلك ينطبق على كل شيئ في الكون وصولاً إلى طي بساط الأمور، فالله يقول كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ ۩ فهو أقرب بكثير إلى ما لا نهاية، إلى لا زمان، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن الله لا يُوسِّط شيئاً كما نظن نحن، الله لا يتوسَّل أسباباً، وما نظنه واسطة وما نحسبه سبباً مخلوقٌ بأمر مُباشِر من رب العزة حتى ولو كان واسطة ولذلك عند الله هذه ليست وسائط فكل شيئ يدين لله بالخلق المُباشِر، ثم نأتي نحن بعد ذلك بوعينا البطيء ووعينا النسبوي ووعينا الوسائطي ونرى هذا واسطةً لهذا وهذا سبباً في هذا وكأنه يستقل بإحداثه، وهذا غير صحيح فهو لا يستقل بإحداثه ولا يستقل بخلقه.
المُهِم هو أننا إذا أردنا أن نقول إن لله لغة فهى لغة تكوينية ليست لغة لفظية تصويتية كما نظن نحن، ويلفتنا – سبحانه وتعالى – في غير ما موضعٍ من كتابه الأجل إلى هذه الحقيقة مثل قوله وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ۩، فهو لم يقل لهم قولاً مُباشِراً ولا ربما حتى على لسان نبي، إنها قولة تكوينية كما يقول لفلان “كُن عزيزاً” فيعز، ” كُن ذليلاً ” فيذل، وهذا القول لا يسمعه أبداً فلان أو غير فلان لأنه قول تكويني ولذلك هذا القول لا ينثني عن مقصوده وعن غايته، يُنفَّذ مُباشَرةً بلا فاصلة زمانية.
وأُحِب أن أستخلص من هذا معكم ومعكن أنه – سبحانه وتعالى وجل ومجده وتبارك في عليائه – يتعامل ويتعاطى معنا بالحقائق، ولتقريب هذا المثل – ولله المثل الأعلى دائماً أبداً في السماوات والأرض – نضرب مثلاً فتقول: لو أن شخصاً أتاه الله – تبارك وتعالى – معرفة حقائق البشرثم أتاه أحد هؤلاء من الملقين المُدهانين وقال له “إني لأُحِبك”، هو سيسمعها “إني لك مُبغِض” مُباشَرةً رغم أنه يقول له “إني لأُحِبك”، وهو سيقول “هو يقول لي إني لك لمُبغِض”، فلماذا؟!
لأنه لا يتعامل مع الكسوة، مع الظاهر وإنما يتعامل مع الحقائق، مثلما قد يأتيه أحدهم ويُؤكِّد على ما لديه من خشوع فيلعب دور الخاضع بسبب الإيمان والتُقى، ولكنه يراه عتياً، لأنه يرى الحقيقة ولا تجوز عليه الظواهر، لا يجوز عليه التمثيل، ومن هنا قال أحدهم للإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – أنت وأنت وأنت وبالغ فيه وغالى – هذا هو الظاهر فهو يمدحه ويغلو فيه بل يُفرِط في نسبته إلى الكمالات والمزايا والخصائص – لكن يرد عليه إمام الحقائق والإمام الرباني أبو الحسن – عليه السلام – فيقول له “أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك”، فما هذا الموقف؟!
ما هذه الجُملة؟!
ما هذه المقامات؟!
لأنه إمام الحقائق – عليه السلام – فهو الإمام عليّ بن أبي طالب، أي ليس رجلاً مُمثِّلاً في المُمثِّلين، لو كان مُمثِّلاً منهم لجاز عليه الكلام ولاغتر به ولانتفخ رأسه كما تنتفخ رؤوسنا بكلام المُنافِقين المَلقين المُداهِنين، كلا!
فإذا كان هذا حال أحد أولياء الله وهم كثيرون – كثَّرهم الله وباركهم وباركنا بهم – فكيف بحال رب الأولياء ورب العباد؟!
إذن لا يجوز ولن يجوز عليه أن تقول “يا الله” وتبدأ تبكي وتسفح الدموع لأنه يقول لك “اجعل هذا الذي دعوته يُلبّك، أنا لا أُلبّيك لأنك ما عرفتني، أنت ما دعوتني، أنت تُنادي إسماً لا تعرف حقيقته” وذلك لأنك ناديت الله الذي تتخيّله أنت وليس الله الذي تعرَّف إلينا في كتاب العزيز – لا إله إلا هو – ومن ثم اذهب إليك فليُلبّك، فأنت – مثلاً – حين تقول “يا عليم علِّمني” فأنت لا تسأل العليم بل تسأل إلهاً آخراً أيضاً قددته على هيئتك وعلى قدر أوهامك وظنونك، فسبحان مَن لا تُدرِكه الظنون وسبحان مَن لا تُدرِكه العيون ولا تُخالِطه الظنون، الله فوق وهم الواهمين وأجل وأقدس من خطور الخاطرين وتظني الظانين وأكبر من هذا سُبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ ۩، ولذلك إذا أحببنا أن نتحدَّث عن الدعاء – الدعاء لخاصة النفس أو الدعاء إلى العامة – فعلينا أن نبدأ من هذه النُقطة وهى المعرفة، فالنبي أرجعنا إليها حين قال “القلوب أوعيةٌ وبعضها أوعى من بعض”،
إذن هو يقول ولهذا يُستجاب لبعضها ما لا يُستجاب لبعضٍ آخر، والاستجابة تكون على مُستويات ودرجات بحسب الوعي، فهو وعي عرفاني يعني أنك تعي حقائق الإيمان لا أن تنطقها كما أفعل الآن باللسان ولكن أن تتحقَّق بها.
وحتى حين ندعو – وهذا وجهٌ آخر للجواب – أخشى أن نكون أكذب ما نكون حين نفعل هذا إلا ما رحم ربي، وذلك حين ندعو الله للأمة، لأمة الإسلام ولإخواننا في الدين والعقيدة، لأهل بلد كذا وأهل بلد كذا، لأن أعمالنا إذا فتشناها ووزناها وعايرناها نرى أن المُقدَّم فيها والملحوظ أبداً هو الذات أي كل منا يُفكِّر قائلا: ماذا لي وبماذا سأرجع أنا من هذا؟!
يا ليت أننا ندعو للأمة كما ندعو لأنفسنا، وفي كلتا الجهتين إن دعونا مَن لا نعرف وإن دعونا الله غير عارفين به لن يعبأ بنا ولن يسمعنا، فالله يتعاطى مع الحقائق ليس مع الألفاظ وعلينا أن ننتبه إلى هذا فهذه مُشكِلة كبيرة، ولذلك ارجعوا إلى كتب الأحاديث والآثار تروا العجب من سرعة تلبية المولى – لا إله إلا هو – من أوليائه من أصحاب رسول الله ومن التابعين وتابعي التابعين، فهناك أشياء لا تُصدَّق علماً بأن الصحابة أكبر بكثير مما نظن، فهناك مئات الأحاديث والأخبار عن سرعة استجابة الله لهم، استجابة عجيبة غريبة وفي أمور من أعجب ما يكون، فكانت الاستجابة سريعة وأحياناً لحظية ووقتية، وهذا هو برهان الإيمان لأنهم يختلفون عنا تماماً، ولكن بماذا ندعو نحن؟!
هل تُريد أن تعرف مقامك عند الله – تبارك وتعالى – وتُريد أن تعرف حالتك الإيمانية والعقدية الروحية؟!
هناك أبواب كثيرة ووسائل كثيرة لمعرفة ذلك ولكن من بينها ومن أنجعها هو أن تُجري تحليلاً على أدعيتك، حاول أن تكتب ما تدعو به ربك في مُعظم الحال، وستجد أنك لا تعدو الأفق الهابط جداً لأنك تدعو الله بالقوة وبالصحة وبالمال وبالجمال وبالأولاد وبالشهادات وبالعلم فقط، فالعلم دنيوي كله وحتى علم الدين نطلبه من أجل الرفعة حين نُصبِح مشائخ وعلماء وأئمة ومن ثم تُقبَّل أعتابنا وأيدينا، فهل ندعو الله فعلاً راغبين في الآخرة ليس أكثر رغبتنا في الدنيا؟!
هل مُعظمنا يفعل هذا؟!
أشك في هذا رغم أنني لست مُطلِعاً على قلوب الخلائق ولكن أعمال الخلائق تُبين عن نفسها، يكذب على نفسه وعلى الآخرين مَن يزعم أنه راغبٌ في الآخرة رغبته في الدنيا ولا أود أن أقول أكثر من رغبته في الدنيا وإنما سأقول يرغب في الآخرة رغبته في الدنيا بل يُضحّي الآخرة لرغبة محقورة جداً من رغائب الدنيا، فهل الذي يأكل ويفعل الحرام – مثلاً – يُريد الآخرة؟!
كذّاب.
هناك مَن يُصلي الجمعة والجماعات ويمنع الزكاة ويحتال عليها لئلا يُخرِجها مثل أن يقول لزوجته قبل أن يحول الحول بيوم أو يومين “خُذي مالي ديناً عندكِ” ومن ثم يقول “أنا ليس لي مال فأنا أعطيته ديناً”، وبالتالي يحول الحول وهو ليس عنده – على مذهب من المذاهب – ما يُزكي به فإذن لا يُزكّى وفقاً للمذهب الذي قال بهذا، ولكن بعد شهر أو شهرين يأزف ويقترب موعد زكاة مالها فيقول لها “أعطني مالكِ ديناً” فتُعطيه فيُسقِط زكاتها، ويُصلون ما شاء الله لكن لا علاقة لهم بالإيمان ولا بالإسلام ولا بخشية الرحمن!
الذي يُعطي زكاة ماله فقط ويقتصر عليها ليس عنده خيرٌ كثير، هو إنسان لا يُحِب الله ولا يرغب في ما عند الله، وإن قال هذا فهو كذّاب فليس هناك ثمة صدقات أو تبرعات أو إعانات لأن لا يُوجَد حُب للدرجات في الآخرة، هو فقط يرغب في الدنيا وليس في الآخرة، يُريد درجات في الكونتو Konto في البنك Bank، هذه هى الدرجات التي يُريدها فقط لأنه لا يُفكِّر في درجات الآخرة، ومع ذلك يدّعي أنه يرغب في الآخرة ويقول “اللهم أعطنا الجنة”، جنة ماذا؟!
أنت تكذب لأنك فقط تعلَّمت أدعية تدعو بها هكذا تلقائياً بطريقة ميكانيكية فارغة، فأين أنت من أصحاب رسول الله ومن أولياء الله في كل زمان ومكان؟!
يأتي أبو طلحة يقول”يا رسول الله إني سمعت الله – تبارك وتعالى – يقول لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ ۩، وإن أحب مالي إلىّ بيرحاء فخُذها يا رسول الله وضعها حيث أراك الله”، فلم يقل “خُذ لك ألف دينار أو خمسة آلاف دينار” بل قال “فخُذها يا رسول الله وضعها حيث أراك الله” حتى يكون من مصاديق قوله – تعالى – لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ ۩، فهذه الناس آمنت بالله وباليوم الآخر، آمنت بالجنة وبالنار وبالشفاعة وبالصراط وبالحساب وبالموازين، فليسوا كالكذبة المُمثِّلون بالدين وبالكلام في الدين، كلا!
أبو الدحداح نفس الشيئ وتعرفون قصته حين أخرج زوجه أم الدحداح وأولادها من البستان قائلاً “قومي فقد أقرضته ربي تبارك وتعالى” أي أنه أقرض البستان كله – وهو يُساوي عشرات آلاف الدنانير الذهبية – لله.
أحد الصالحين ذات مرة اشترى بقرة وفرحت زوجته جداً بها فقالت “ادع الله لها” فقال “اللهم بارك فيها” فسقطت ميتة، قالت: ما هذا؟!
قال “استجاب الله، فإن كنت تُريدين البركة فالبركة أن تبقى عند الله، أن يبقى أجرها”، اخلف علينا في مُصيبتنا خيراً منها، فمِن أين هذا تعلَّم هذا الصحابي أو هذا الصالح الولي؟!
من رسول الله الذي ذُبِحَت له شاة فتُفرِّقها الصديقة بنت الصديق عائشة – رضوان الله تعالى عليها – كلها إلا الذراع، وهكذا كان شأن عائشة – لمَن يتكلَّمون في عائشة – التي عاشت وماتت ويدها كيد أختها أسماء فلا تُمسِك شيئاً، هى زوج رسول الله في الدنيا والآخرة وأم المُؤمِنين في الدنيا والآخرة – قدَّس الله روحها الكريمة – ولكنها ليست معصومة، واقرأوا عن صدقات عائشة في الكتب، يبعث إليها ابن أختها ابن الزبير مائة ألف في يوم واحد وهى صائمة وحين تأوب الشمس – تغرب – تقول لجاريتها بريرة “يا بريرة ائتني بفطوري” فتُجيبها مُكتاظة حانقة: وهل أبقيتي لنا من شيئ؟!
أي أنها تقول لها كان لديكي مائة ألف ولم تُبقي لنا حتى درهماً واحداً نشتري به فطور للصائمين، وأنت صائمة ونكنك أنفقناها كلها، فقالت “لا تُعنِّفيني يا بريرة لو ذكَّرتيني لفعلت”، فرضيَ الله عنها وأرضاها.
اللهم أحيي قلوبنا بحُسن الظن بأولياء الله في كل عصر وخاصة أصحاب رسول الله وأمهات المُؤمِنين، فأسوأ شيئ أن يسود قلب المُؤمِن على إخوانه وعلى أهل الله، فالمُهِم والشاهد هنا أن السيدة عائشة فرَّقت الشاة كلها إلا الذراع، وهكذا كانت طريقة علماً بأنها كانت تسرد الصوم، فتصوم كل يوم إلا الأيام المُحرَّمة لأن النبي أوصاها بهذا حين قال لها “يا عائشة أديمي قرع أبواب الجنة بكثرة الصيام”، وبعد أن فرَّقتها إلا الذراع عاد – عليه الصلاة وأفضل السلام – فسألها ما فعلت الشاة؟!
قالت “ذهبت كلها إلا الذراع”، فنهاها أن تقول هذا وقال “بل قولي بقيت كلها إلا الذراع”، أي بارك الله لنا فيها فبقيت مُبارَكة لأنها ذهبت إلى دار الأبد.
هذا هو الإنسان الذي يعبر الدنيا، فرسول الله وأصحابه وأتباعه كانوا يعبرون الدنيا الدنية، يعبرون هذا الوهم وهذا الحجاب الكاذب بعين البصيرة لا بعين البصر إلى الآخرة الباقية المُؤبَّدة، ويشتغلون على هذا النمط – يشتغلون حقيقةً – دون أن ينتظروا ثواباً أو جزاءً أو مدحاً من أحد من عباد الله، لا يُريدون هذا ويستسرون بأعمالهم – اللهم اجعلنا منهم واسلك بنا سبيلهم – ومن هنا قال الرسول للسيدة عائشة لا تقولي هكذا ولكن قولي بقيت كلها إلا الذراع، وهذا الصالح قال “اللهم بارك لنا في بقرتنا” فماتت فاشترى أخرى فقالت له زوجه مرة ثانية “ادع وأُريد أن تبقى” فقال “اللهم أبقها لنا” فبقيت، ولكن لو قال “بارك لنا فيها” لماتت، وهو دعاء مُستجاب فهو يفهم ماذا يدعو ويعرف أنها ستموت إذا قال بارك لنا فيها، فهذه هى البركة وليس بركة الدنيا وبركة الشيئ القليل الذي يزول عنك أو تزول أنت عنه وتنخلع منه أو يذهب هو عنك، هذا هو حال الدنيا فكل شيئ راجعٌ إلى الله تبارك وتعالى.
وعمر بن الخطاب يعمل في بستان له، حيث كان عند عمر الفقير صاحب المُرقَّعة حائض – وربما هذا كان في عهد الصديق رضيَ الله عنهم وأرضاهم – فيلتفت ذات مرة فإذا بصلاة العصر قد دخل وقتها ومن ثم يخرج مُسرِعاً ويترك كل شيئ فإذا بالناس قد عادوا من المسجد وذهبت الجماعة، فتصدَّق به لوجه الله.
ولذلك يُستجاب لهم في دعواتهم لأنهم أرادوا الآخرة، ولكن كيف يدعون؟!
إذا دعا للدنيا مرة واحدة يدعو للآخرة ألف مرة، ومن هنا علينا أن نتنبه فنحن كل دعائنا للدنيا – كما قلت لكم – وللمال وللصحة وللجمال وللنساء والأولاد والشهادات والكلام الفارغ، وإذا دعونا للآخرة كنا كاذبين لأننا نكذب على أنفسنا وأعمالنا تُؤكِّد أننا نكذب، وحين نُرجِّج دائماً الدنيا تكون هى الأرجح فكل شأن حقير من شؤون الدنيا أرجح لدينا، فإذن هذا الدعاء يصدر عن قلب غافل ولاهٍ وساهٍ، عن قلب كاذب يطلب الآخرة بلسانه وهو مُستهلَك في طلب الدنيا ومُستغرَق فيها لأنه يعبدها من دون الله، يعبد الدينار والدرهم والشهوات والمصالح والحيثيات والكلام الفارغ، إذن نحن نكذب أيها الإخوة!
قال الله تعالى وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، وهذه الآية نُورِدها مورد حديث ابن عمرو، فما معنى وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ۩؟!
هذه الآية تدريجٌ لنا في مراقي المعرفة الإلهية، هذه الآية تدريج وترقية في مراقي وفي سلم العرفان والمعرفة الإلهية، فالله يقول وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ۩، أي حاول أن تقترب وأن تتحقَّق وأن تتخلَّق وأن تفهم شيئاً من حقيقة وحقائق بل من المُحيط الثجَّاج الطمطام العجَّاج المُختَص بكل إسم وبكل صفة، حاول أن تفهم هذا لأنك إذا عرفته – تبارك وتعالى – عبر هذا الإسم ثم دعوته به لبَّاك مُباشَرةً، ولذلك الدعاء فيه حذاقة عرفانية وليس حذاقة لسانية وأسجاع نتحفظها على قافية النون وقافية الهاء وقافية الكاف، وإنما حذاقة عرفانية تتعلَّق بالمعرفة، فأنت عرفت الله بهذا الإسم لأنك عرفت شيئاً من حقائق هذا الإسم، فأنت عشته وتعرفه، وكل واحد منا يسمع كل فترة وأخرى بفلان الذي مات مثل جار له قديم أو صديق لأحد أصدقائه، فماذا تكون ردة فعلك حين تسمع مثل هذا؟!
تقول”إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ۩، رحمة الله عليه يا أخي” وتبدأ تواسي أخاك وانتهى الأمر!
ولكن حين تسمع عن عمك أو عن أبيك أو عن أخيك أو عن قريب ودود لك أنه مات كيف تكون ردة الفعل؟!
تُصعَق إلا إذا أكرمك الله واسترجعت فإنما الصبر عند الصدمة الأولى، لكنك تُصعَق وترفض وتأبى وتقول هذا مُستحيل ثم تبدأ تتساءل:هل هذا صحيح وصادق؟!
مَن قال هذا؟!
متى حدث هذا؟!
الله أكبر، وتبدأ وتبكي، فلماذا؟!
لأن الشوق والمحبة والحُسن والحُزن والصدمة على قدر ماذا؟!
المعرفة، فهناك فرق بين إنسان لا أعرفه وبين إنسان أعرفه، فصديق صديقي – مثلاً – قد أكون رأتيه عشر مرات في حياتي أو أكثر وليس بيني وبينه خُلطة ولا مُعامَلة وليس له علىّ يد ولا فضل فضلاً عن أني لم أضحك معه ولم أبك معه ولم أسافِر معه ولم آكل معه، لأنني لم أُلابِسه ولم أُفتِّشه، فلماذا أبكي؟!
طبيعي !
وهذا شيئ طبيعي، فهكذا هو الإنسان، لكن حين تسمع عن ودود أو عن حبيب أو عن خالص من خلصانك تُوفيَ ستُصدَم طبعاً، كذلكم – ولله المثل الأعلى – العلاقة برب العزة – لا إله إلا هو – حيث أن حُبك له – لا إله إلا هو – وشوقك إليك وتعلقك به وحُزنك على التقصير في جنبه وحسرتك على التفريط في جنبه – لا إله إلا هو – وكل أولئكم المعاني تكون على قدر معرفتك به وليس على قدر أنك تقول “الله، الله” وأنت تُكبِّر بإسمه وتُنادي بإسمه، ليس هذا أبداً، ولذلك كلما تعمَّقت المعرفة تشجَّر هذا الحُب وتولَّع وتوهَّج هذا الشوق وعظمت الخشية وأُفرِدَ – لا إله إلا هو – بالرجاء والإحساب والتوكل والاعتماد، فكان هو الثقة وحده – لا إله إلا هو – من بين الخلق أجمعين، وحده فقط فلا مكان للأسباب الظاهرة ولا الباطنة، فقط هو – لا إله إلا هو – ومن ثم هذه هى بداية المعرفة الإلهية.
وبعد ذلك ادع وستر الإجابة إن شاء الله، فيجب علينا أن نفهم هكذا لا أن نأتي ببلاهة وندعو، فحقيقةً وحقاً إنها لبلاهة، حيث يأتي لك مَن يُقصِّر في صلواته ويمنع زكاة ماله وينتهك الأعراض ويأكل الحرام ويجتريء على الله وينسى ذكره ويكفر نعمته ومع ذلك يقول لك “دعوته ولم يستجب يا أخي، دعوته وبكيت في مكة”، مكة ماذا ومدينة ماذا؟!
أنت مسكين وأهبل وأبله، دعوت مَن أنت؟!
دعوت مَن لا تعرف أو دعوت مَن تعرف مِمَن هو ليس من الله بسبيل، دعوت إلهاً آخر يختلف تماماً عن رب العالمين، أنت لم تدع رب العالمين الذي تعرَّف إليك في كتابه وعلى لسان نبيه، لم تدعه وإنما دعوت شيئاً آخراً مُختلِفاً تماماً، دعوت إلهاً لا تخشاه ولا تُحِبه ولا تُوقِّره ولذلك أنت تعصيه، هذا إله آخر وليس الله، لو عرفت الله – لا إله إلا هو – كما تعرَّف عليك ما اجترأت على محارمه وعلى عصيانه بل ولتآكلتك الحسرات أكلاً حين تُقصِّر في جنبه.
ولكن انظروا الآن للناس فلربما خرجوا من المسجد أو صلوا جماعة ثم ذهبوا إلى الكبائر وانتهكوها وهم يضحكون ويأكلون ويشربون، ثم يعتبون على رب العالمين بالقول: لماذا لا يستجيب الله لنا؟!
لماذا يُسلِّط على الأمة أعداءها؟!
يستكثرون على الله دموعهم الكاذبة المسفوحة في مكة وفي المدينة وفي المساجد، ولذلك الله قد يُلبّي عبداً واحداً صالحاً يعرفه حق المعرفة ولا يُلبّي أمة من مليار لا يعرفونه هذه المعرفة .
روى أبو نعيم في الحلية من حديث أنس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن رسول الله – صَلَىَ الله عليه وآله وأصحابه وسَلَّمَ – قال “في آخر الزمان يدعو المُؤمِن ربه – تبارك وتعالى – للعامة – كأن يقول اللهم انصرنا، اللهم اجبرنا، اللهم أعطنا وارزقنا وأعزنا وارحمنا وادفع عنا مقتك وغضبك وإلى آخره – فيقول الله – تبارك وتعالى – ادع لخاصة نفسك استجب لك أما العامة فإني عليهم ساخط”، كأن الله يقول: لماذا أستجيب لمَن لا يعرفني، لمن يكفر نعمتي وينسى ذكري، لمَن يختل الدنيا بالدين؟!
فالدين أصبح شبكة يصطادون المصالح بها، وفي حديث الترمذي – رحمة الله عليه – عن أبي هريرة وهناد بن السري في الزُهد وابن المُبارَك عنه – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال عليه الصلاة وأفضل السلام “يخرج أناسٌ في آخر الزمان – اللهم لا تجعلنا منهم ولا تصل حبالهم بحبلنا، فلسنا منهم إن شاء الله وليسوا منا، اللهم آمين بكرمك ومنك – يختلون – والختل هوالخدع، فالختل من المُخادَعة والخديعة، أي الخداع والنصاب كالشباك التي تُنصَب والفخاخ التي تُرتَّب من خلال التدجيل والتجارة بالدين – الدنيا بالدين ويلبسون للناسِ مسوك – وفي رواية جلود الضأن من اللين، أي تراهم يتخشَّعون هكذا ويتباكون كما لو كانوا ما شاء الله أهل خشوع وأهل قرآن بل ويتلون القرآن بأصوات خاشعة ويُرجِّعون ويُحزِّنون حتى يبكوا ويُبكوا مَن خلفهم افتعالاً وتمثيلاً بارداً سخيفاً – الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل – الكلام كله كلام مُمتاز فهو كلام تقي خشوع ذلول -وقلوبهم قلوب الذئاب”، ثم يستتلى النبي قائلاً: يقول الله – تبارك وتعالى – أبي يغترون أم علىّ يجترئون؟!
وحقيقة الاغترار والغرور هو الجهل، ومن هنا عليك أن تنتبه حين تسمع كلمة غرور أو حين يُقال عن فلان أنه مغرور فهذا لا يعني أنه مُتعجِّب أو مُعجِب بنفسه لأن العجب شيئ غير الغرور، فالغرورهو الجهل ومن ثم إذا عاملت الله بغير معرفة فأنت مغرور، الله يقول مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩، فكيف تُعامِله هكذا؟!
ألا تعرف مَن تُعامِل أنت ؟!
كيف تعصيه ولا تفهم ؟!
لأن هذا الشخص مغرور، وهذا هو الذي ألَّف فيه حُجة الإسلام – قدَّس الله سره – كتابه الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين وألَّف فيه الشيخ عبد الوهاب الشعراني تنبيه المُغترين أوائل القرن العاشر علي ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر، فهذه الكتب كانت في الغرور لأن الغرور يأتي من الجهل ومن عدم المعرفة، لذلك قال الله: أبي يغترون أم علىّ يجترئون؟!
أي كأنه يقول: أنكم تجترئون وتتجاسرون على محارمي فالدين المُقدَّس عندكم أصبح شرَكاً لختل الدنيا ومن ثم لا نصيب لكم في الآخر.
ثم قال تبارك وتعالى “فبي حلفت لأُتيحن – وفي رواية لأبعثن – على أولئكم منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران”، ووالله إنا لفي هذا الزمان لحيارى، فتذهب تسأل أكبر عالم وأكبر صالح عن المنجاة وسبيلها فيقول لك “لا أعرف، فكل شيئ نُجرِّبه لا ينجح” ومن هنا الأمة في انحطاط وفي لعنة حاقت بها، فما الذي يحصل؟!
هناك حديث قدسي مُخرَّج في مسلم وفي أحمد يقول فيه أُبي بن كعب “قال صَلَىَ الله عليه وآله وأصحابه وسَلَّمَ بشِّر أمتي بالسناء والرفعة والتمكين في الأرض، فمَن عمل منهم عمل الآخرةِ للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب”،
هذا السبب !
فالنبي يقول أن هذا هو السبب فيما يجري الآن، سبب أنه لا سناء ولا رفعة ولا احترام لهذه الأمة هو أننا نعمل الآخرة للدنيا، فنحن أمة المليار والثمانمائة مليون ومع ذلك – والله – لا يهابنا أحد ولا يحترمنا أحد بل يتجارئون علينا كالمسعورين، ومن ثم نبينا يُسَب ويُشتَم وتُرسَم الصورعنه قبل سنوات، فتصدر في بلد ثم تتلوها بلد ثانية فثالثة فرابعة فخامسة، فهذا استفزاز واضح كأنهم يقولون لنا أننا سنسب قدس أقداسكم – وهو سيدنا محمد – فمَن أنتم؟!
ولكنهم لا يستطيعون أن يتكلَّموا عن الآخرين تحت ستار حرية الفكر وحرية الرأي مثلما يتكلَّمون عنا، فيقول رئيس وزراء الدنمارك في وقته “لا أستطيع أن أرفع سماعة إلى أي رئيس تحرير”، ووالله الذي خلقك إنه لكذب، فهم يرون أن سب محمد وسب الأمة كلها يُعَد حرية فكر، ومن ثم لا سناء لدينا ولا رفعة، فأصبحنا الآن أمة ذليلة وأمة مُنحَطة، فلا شيئ لدينا من رفعة وسناء وتمكين في الأرض، ولكنكم عرفتم الآن السبب فالحديث يقول لأننا طلبنا الدنيا بعمل الآخرة، لم نعد كالصحابة والتابعين والأسلاف الصالحين نطلب الآخرة للآخرة وتذهب الدنيا إلى حيث ألقت فسواء أتت أو أدبرت لا يعنينا، إذا أتت أهلاً وسهلاً أما إذا أدبرت فالأمر لا يعنينا، ورغم كل هذا تجد مَن يقول أننا ندعو ولا يُستجاب لنا ، طبيعي ألا يُستجاب لنا بل المفروض ألا يُستجاب لنا!
واستعمت إلى أحد المشائخ – شيخ مُعمَّم بجُبة رسمية – يتحدَّث في زُهاء خمسين دقيقة عن سبب ارتفاع الأسعار فيقول أن السبب في ذلك الناس وليست الحكومة الظالمة وليس السرّاق واللصوص، عالم ولكن ليس عنده من الشجاعة أن يحكي كلمة في العامة وبعموم كأن يقول أن السبب في ذلك الفساد مثل وجود فساد مالي أو فساد إداري أو فساد في الخُطط أو فساد في الرقابة أو فساد في المُحاسَبة، لكنه لم يجرأ على هذا فظل على مدى خمسين دقيقة في فضائية إسلامية يكذب على الناس.
تكذب على مَن يا مولانا؟!
عيب عليك، اجلس في بيتك أشرف لك، تكلَّم بما يُرضي الله يا رجل، وقد يأتيه ماركسي أحمر يقول له الله يقول وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ۩،فأين ربكم إذن؟!
الناس تموت، الناس تتقمَّم وتأكل الزُبالة أي أنها تستخرج أرزاقها من القمامة، فأين الرزق طيب؟!
وأنا سأُجيبكم عن هذه الشُبهة المُخيفة بما فتح الله – تبارك وتعالى – به، فإن يكن حقاً فله الحمد والمنّة، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله.
الله يقول في هود وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ۩، وهذه الآية في معنى قوله سبحانه وتعالى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ۩ فلماذا إذن يا رب وأنت تُقسِم على هذا بعض الناس مُرزَق وبعضهم غير مُرزَق؟!
يومياً يموت الألوف من الجوع، فأين الرزق؟!
والله أجابنا أيضاً ومن هنا علينا أن ننتبه إلى أننا لا نحتاج إلى فلسفة في الجواب عن مثل هذه الشُبهات لأن القرآن أجابنا وهو القائل يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ۩، أي أن هناك تعليق، وهذا التعليق ورد في مواضع مثل الموضع الذي ذُكِرَ في آل عمران عن مريم البتول – عليها السلام – في هذه الآية قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، إذن التعليق واضح، فلماذا قالت مَنْ يَشَاءُ ۩؟!
ليس بالإطلاق وإنما لنُكتة، فالذين يرزقهم بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩ ويمدهم برزق الشتاء في الصيف وبرزق الصيف في الشتاء وبلا أسباب هؤلاء أُناس يختارهم ويصطفيهم، قال الله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ۩، ولا مُشكِلة في هذا، أما آية الشورى التعليق فيها غير واضح ولكنه مُلهِم بحمد الله – تبارك وتعالى – وهو مُفتاح الجواب، الله يقول اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ ۩، أي يرزق مَن يشاء ويمنع مَن يشاء، فهذه الآية تتحدَّد في مقام، وآية إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ۩ تتحدَّد في مقام آخر، وسنكشف لكم وجه القول، إذن الله إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ۩ ويقول أيضاً وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ۩، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى تقرير هذه الحقيقة القدرية، الله لا يخلقُ دابةً ولا يبرأ نسمةً منسومة إلا بعد أن يكون قدَّر لها رزقها، وفي الحقيقة هو قدَّر رزقها قبل أن يخلق الأرض – قدَّره قبل أن تُخلَق الأرض – وحين خلقها كان كل شيئ مُقدَّراً، قال الله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ۩، وذلك إلى يوم يطوي الله بساط هذه الدنيا، فكل نسمة منسومة وكل ذي كبد رطبة الله قدَّر الله له كفايته من الرزق وأزيد من الكفاية، وهذا وضع ومُستوى قدري، فإذا جئنا إلى مُستوى التطبيق والعمل سنجد أن الله خلق هذه البشرية حُرة لأنه خلق البشر أحراراً وسلَّط بعضهم على بعض، كما سمح لبعض – مثلاً – أن يقتل بعضاً – قتل وإعدام حياة – وكما سمح لبعضهم أن يسرق رزق بعض، أي أن رزقك أصبح إليك وعندك ولكن هناك يد تمتد فتغتاله وأنت أحوج ما تكون إليه، فقد تحتاجه لتشتري دواءً لابنك الصغير أو لأمك العليلة، وربما هلك أو هلكت بسبب هذا الذي سرق، إذن هذا فعل الإنسان، وحسابه عند الله – تبارك وتعالى – فيما بعد، أليس كذلك؟!
ولذلك جاء الشرع حيث لم يكتف الله بالقدر وقال لك هذا حلال وهذا حرام، ومن ثم اعملوا هذا واتركوا هذا، إذن هذا دورنا نحن الآن، فالله يقول الرزق موجود، علماً بأنه لم يمر على الأرض تاريخ أو حقبة كانت من الغنى والوفرة كهذا العصر ومع ذلك يُوجَد ملايين من الجوعى الذين وصل عددهم إلى مليار، فضلاً عن مئات الألوف الذين يتضورون كل يوم ويموتون جوعاً، لكن لماذا؟!
لأن الناس يسرق بعضهم أرزاق بعض، والقوانين والحكومات والبرلمانات والمشائخ والقسس والرابيون ورجال الدين والنصَّابون جميعاً يُبرِّرون هذا ويقولون هذا الوضع طيب وعليكم أن تتحمَّلوا، لكن الله يقول هذا ذنبكم أنتم وليس ذنبي .
ولذلك حين أتى إلى الفعل لم يقل عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ۩ مثلما حدث في الآية الأُخرى وإنما قال يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ۩ لأنه أتى إلى الفعل على أرض الواقع – Actually كما يقولون – فبعض الناس يصلهم رزقهم وبعضهم لا يصلهم، إذن الذنب ليس ذنب القدر بل ذنب هؤلاء، فضلاً عن أن الشرع أتاك بالمخرج وأنت لم تفعل، لم تُطبِّق هذا الشرع، فماذا يفعل لك؟!
وستُحاسَب على أنك لم تُطالِب بتطبيق شريعة الله – تبارك وتعالى – لاجتثاث هذه الشرور وهذه المصائب من جذورها وامتلاخها، أنت لم تفعل هذا ورضيت بأنك كنت مرزوقاً وغيرك في الحقيقة يتضوَّرون بل يموتون جوعاً، إذن هذه مُشكِلتك وهذه جريمتك.
هذا هو فهم الدين وفهم القرآن، هذه هى عظمة القرآن الكريم وهذا هو سر التعليق في قوله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ۩ حتى يُنبِّه العقل، فأنا ما نبَّهني إلى هذا الجواب إلا هذا التعليق، فالتعليق بالمُطلَق لأنه يقول مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩
لكي نفهم، فكأن الله يقول أن قدَّرت والبقية عليكم أنتم فلتعملوا على هذا.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يفتح علينا فتوح العارفين به، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المُستغفِرين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أُحِب أن أختم فقط بجُملة واحدة: ماذا نُريد أن نقول من خلال هذه الكلمات عبر هذه الخُطبة؟!
نُريد أن نقول إنها دعوة إلى معرفة الله – تبارك وتعالى – على مُستوى الفرد والجماعة، فهى دعوة لمعرفة الفرد لله ومعرفة الجماعة لله، معرفة الواحد ومعرفة الأمة عبر كتاب الله – تبارك وتعالى – وسُنة نبيه وذلك عبر التأمّل وعبر الصدق في طلب الفهم وطلب الحل وطلب التوصيف بهذا الكتاب الأعز الأجل الأقدس ومن ثم ستُصبِح الأمور واضحة تماماً.
قال الله في الحديث القدسي “ادع لخاصة نفسك أستجب لك أما العامة فإني عليهم ساخط” حيث أن الدين يُنمّي وعياً مجموعياً في هذه الأمة فهو لا يتعامل معنا كتفاريق لأنه يُريد وعياً مجموعياً، ولذلك الذي يدعو للعامة – إن ذهبنا ندعو للعامة – هل تعرفون متى يكون شرط إجابته فيستجيب الله له؟!
إن كان فعلاً يُريد مصلحة العامة ليس بدعائه فقط بل بعمله، فيكون عمله وسعيه وجهاده فعلاً من أجل أمته، فتكون عينه على الأمة وليس على نفسه، ولكن أنتم ترون كيف تُضحّى مصالح الأمة بدءاً من الزعامات السياسة وانتهاءاً ببعض الزعامات الروحية الدينية والفكرية الذين يُضحّون الأمة ومصالحها من أجل مصلحة شخصية – علماً بأنني أتحدَّث عن البعض وليس الكل – فيُحرِّف الفقه وتُحرِّف الأصول وتُحرِّف الفتوى ويُحرِّف أي شيئ، فالمُهِم لدى مَن يفعل هذا هو أن يصل وأن يأخذ أموالاً وجوائز وأن يظهر على التلفاز – Television – أو يرتقي كرسياً أكاديمياً، ولتذهب الأمة إلى الجحيم فهى لا تعنيه، وهذه لعنة –
والله العظيم – حاقت بنا وحاقت بالأمة، فمَن أراد أن يتكلَّم عن العامة وعن الأمة وأن يدعو لها وأن يُستجاب عليه أن يتحقَّق بالصدق في العمل للأمة، فالله يعلم هذا ومن ثم لا ينبغي أن يتكلَّم ولا يقول ولا يكذب على نفسه لأن الله يعلم إن كان يعمل للأمة أو يعمل لنفسه عبر الأمة وعبر الدين فيطلب الدنيا – كما قلنا – ويختلها بعمل الآخرة والدين.
اللهم اهدنا إلى أرشد أمرنا، اللهم ألهمنا رُشدنا وأعِذنا من شر نفوسنا، اللهم أصلحنا وأصلح بنا واهدنا واهد بنا واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، اللهم أصلح ظاهرنا وباطننا وسرنا وعلانيتنا وأقوالنا وأفعالنا وأعمالنا كلها واجعل ذلك كله خالصاً لوجهك الكريم إلهنا ومولانا رب العالمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩
اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من أفضاله يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.
(5/11/2010)
أضف تعليق