لماذا عدنان إبراهيم ؟. سؤال بات يُطرح كثيرا في هذه الأيام، وخاصة بعد أن غدا برنامجه الشهير (صحوة) بجزءيه: الأول والثاني، البرنامج المتوهج الذي يُعرض للسنة الثانية عصر كل يوم من أيام رمضان المبارك على القناة الشجاعة تنويريا، قناة “روتانا خليجية”، حيث وفرت له كل سبل النجاح من إمكانيات وتوقيت، والذي يُقدّمه عامل المعرفة/ أحمد العرفج، هذا البرنامج الذي نجح نجاحا باهرا في الوصول إلى الوعي الجماهيري العربي. لقد بات هذا البرنامج الاستثنائي يطرح إشكالات صعبة، بل ومُحرجة، ويبعث سلسلة اعتراضات على الوعي الديني السائد جماهيريا. وإذ يُطرح هذا السؤال المحوري: “لماذا عدنان إبراهيم ؟” ـ في مسيرة الاعتراض على الخطاب العدناني، فلا بد أن نعي أنه سؤال يتناسل أسئلة من نوع: لماذا عدنان إبراهيم بالذات؛ مع وجود غيره ممن يمكن أن يَسدّ مكانه ؟، ولماذا عدنان إبراهيم؛ وهو الذي يقول كذا وكذا، قديما أو حديثا ؟، ولماذا عدنان إبراهيم في هذا الوقت تحديدا، أو لماذا تعمدون إلى تصديره إعلاميا من هذه الجغرافيا بالذات ؟، أو ماذا وراء/ ما الهدف من هذا الاحتفاء الكبير بعدنان (الاحتفاء الذي سينقلب بالضرورة ترميزا) في مستقبل الأيام ؟، ولمصلحة من يكون هذا الترميز؟…إلخ الأسئلة البريئة، أو التي تريد أن تقنعنا أنها بريئة؛ بينما هي أسئلة عداء وكيد وخداع، أو جهل وانغلاق في أحسن الأحوال.
حتى تتضح لنا الصورة ابتداء، يجب أن نعرف أن هذه الأسئلة، وما تناسل منها، تتغذى من مشارب شتى، ولكُلٍّ وِجْهة هو مُولّيها؛ غير أن ما يجمعها ـ من حيث الغاية ـ هو الاعتراض الصريح أو المضمر على شخصية د. عدنان إبراهيم.
بلا شك، بعض هذه الأسئلة يصدر عن رؤية شوفينية مناطقية/ محلية/ قُطرية، تعتقد أن الله لم يهدِ غيرها، وبالتالي، فالعلم الديني الموثوق ـ في تصورها، من حيث هي رؤية انغلاقية قاصرة/ محدودة ـ لن يخرج إلا من مرابضها. وبعضها يصدر ـ في رفضه/ اعتراضه المتسائل ـ عن جهل فاضح، إذ لا يتصور أحدهم أن مُسلّمات الشريعة يمكن أن تتعدى ما أخذه مشافهة من كتابه المدرسي، ومن خطيب الجمعة التقليدي، ومن البرنامج الإفتائي الإذاعي أو التلفازي المعهود منذ عقود. لكن، لو انفتحت لمثل هؤلاء نافذة على قليل من العلم؛لا نقلب اعتراضهم تأييدا بلا حدود. وأيضا ـ ولا بدا أن نكون صرحاء ـ لا يخفى أن بعض هذه الأسئلة يصدر عن (حسد شخصي) ممض، لرجل (= عدنان إبراهيم) بدأت تنزاح إليه ملايين الجماهير، مُخلّفة وراءها “وُعّاظ التقليد” و “رموز دعاة الصحوة”، بحيث لم يبق لهم في قلوبها وعقولها ـ وفي أحسن الأحوال ـ إلا القليل من الكراهية والكثير من الازدراء.
عموما، أيا كان المتسائل بـ: “لماذا عدنان إبراهيم”؛ مُتعصّبا، أو جاهلا، أو حاسدا، أو حتى عابثا؛ فمن حقه أن نجيب على تساؤله المشروع ابتداء. وقد رأيت أن من واجبي ـ شخصيا ـ أن أجيب على مثل هذا التساؤل وما تناسل عنه؛ لأنني كثيرا ما أشيد بالخطاب العدناني، وأدعو إلى الاستفادة منه قدر الإمكان. بل لقد كنت ـ حسب علمي ـ أول من أشاد به محليا في صحيفة محلية سيّارة، إذ كتبت عنه قبل خمس سنوات أربع مقالات أسبوعية متتالية، أثارت عليّ وعلى (جريدة الرياض) عاصفة اعتراضية تقليدية حانقة جدا، وكان من المخطط أن تكون المقالات سبعا؛ لولا أن الخامس حبسه حابس، فتوقفت؛ لأني عرفت أن البقية لن تنشر. أقول: من واجبي الإجابة؛ لأني أطرح الشيخ عدنان إبراهيم اليوم كأفضل خيار راهن للأجيال العربية المتدينة؛ مع أن هذا الحماس الكبير له لا يعني عدم الاختلاف معه في بعض التفاصيل.
إن أول ما يلفت النظر في حال المعترضين على الشيخ عدنان أنهم لا يستقرّون على حال في تحديد “التهمة” التي يريدون من خلالها إقصاءه عن التأثير في عقول الأجيال الصاعدة. فهم مرّة يتهمونه في علميته، ومرة في صدق تدينه، ومرة في انتماءاته السياسية أو المذهبية، ومرة في غرضه من التنقيب التاريخي، ومرة يقولون: لماذا عدنان إبراهيم بالذات، وهو صاحب “الكرامات”، ثم يتساءلون ببراءة مزيفة: ألا يوجد خيار أفضل! …إلخ صور التهم التي تتغيا في النهاية الطعن في مشروعية خطابه؛ من حيث هو خطاب ديني لا بد أن يجمع بين ركني: الجدارة العلمية والأمانة أو المصداقية الدينية؛ حتى يصبح مقبولا في السياق الديني الجماهيري.
بالكذب والتزييف والتزوير والتدليس، يمكن أن تخدع الناس في محاولتك إشاعة أية تهمة توجهها لعدنان إبراهيم، إلا الطعن في علميته، وخاصة في بُعدها الموسوعي. قد يوجد من هو أعلم منه في هذا التخصص الضيق أو ذاك، وفي هذه الجزئية من التراث أو تلك، ولكن ـ حسب اطلاعي ـ لا يوجد اليوم شيخ ديني يتوفر على هذا المقدار من الموسوعية الشاملة التي يتوفر عليها باقتدار؛ حتى وإن كان الشمول هنا شمولا نسبيا بطبيعة الحال. إنه ـ بلا ريب عند أي مثقف مُنصف ـ يبقى ذلك الموسوعي المطلع على تفاصيل الإرث الديني ـ منقوله ومعقوله ـ والإرث الفلسفي، العربي وغير العربي، وما استجد في مجال العلوم الإنسانية المعاصرة، إضافة إلى العلوم الحديثة وآخر المستجدات في مجالها. هذه حقيقة، ومن لا يدركها فهو إما جاهل في نفسه، بحيث لا يستطيع تقدير هذه الموسوعية وتقييمها، وإما جاهل من حيث الاطلاع على النشاط الفكري لـ د. عدنان.
الشيخ عدنان ـ في علميته ـ ليس وليد هذه السنوات التي عرفته فيها ملايين الجماهير. نشاطه الفكري/ العلمي يتوزّع بين دروس علمية متخصصة، ومحاضرات عامة، وخطب، وبرامج فضائية. وطبعا، يختلف طرحه في الدروس أو المحاضرات المتخصصة عن الطرح العام في الإعلام الفضائي. فمثلا، في برنامج صحوة العام الماضي وهذا العام، حرص الشيخ عدنان، وبتحريض من مقدم البرنامج د. أحمد العرفج على أن يكون الخطاب سهلا/ مُيسّرا/ مُبسّطا خاليا من التعقيدات العلمية العميقة، ومن التفاصيل الفرعية، التي قد تتسبب في ضجر المشاهد فتصرفه عن البرنامج؛ لأن البرنامج ـ بطبيعته ـ يستهدف التأثير في عموم الناس، وليس موجها ـ بالدرجة الأولى ـ إلى المهتمين أصالة بمثل هذه القضايا المطروحة. ومن هنا، فإذا أردت أن تعرف مستوى العمق والشمول في علمية الرجل، فلا تكتفي بتلمسها من البرنامج الجماهيري فحسب، بل عليك أن تبحث عن دروسه في الفلسفة والمنطق والأصول والتاريخ واللغة والرد على الإلحاد ومناقشة نظرية التطور…إلخ الميادين والمباحث العلمية التي يتعاطى معها بجدارة كأبرز المتخصصين فيها، رادّاً عليهم، ومنتقداً لهم، ومقترحاً لإضافات واستدراكات، وهناك ستعرف ـ إن أردت أن تعرف، وإن استطعت أن تعرف ! ـ أن كل الشيوخ المعاصرين، التقليديين وغير التقليديين، ليسوا ـ مقارنة به ـ إلا ممن يصدق عليهم ـ وإن شئنا الدقة: على أفضلهم، وفي أحسن الأحوال ـ قول النواسي: “حفظت شيئا وغابت عنك أشياء”.
مشكلة كثيرين أنهم كسالى في البحث في مجمل أطروحات الشخصية التي يريدون تناولها بمجرد سماعهم بها. معظم هؤلاء لا يعرفون علمية د. عدنان إلا من خلال “مقاطع فيدو” لها لا تتعدى بضعة دقائق، والأسوأ أن بعضهم لا يستطيع تقييمه إلا من خلال ما يقوله شيوخه/ وُعّاظه/ دُعاته/ كهنته الذين ألفهم ـ أُلْفَة مكان ولَهْجَةٍ…إلخ ـ عنه. مخجل جدا أن ينتظر شاب سعودي متعلم ما يقوله دُعاة بُسطاء من مثل: عائض القرني أو سلمان العودة أو عوض القرني أو السويدان أو محمد العوضي أو العمر ـ فضلا عن غيرهم من غلاة جَهَلةِ التقليدية أو من بُلدائها الألداء ـ حتى يقبل بعدنان أو يعترف بعلميته، وكأن هؤلاء وأمثالهم قادرون على تقييمه علميا، أو أنهم يملكون من المصداقية السِّيرية في مجال الحراك الدعوي ما يجعلهم حُكّاما على مصداقيته في مجال الإرشاد الديني.
هناك آخرون يعترفون بعلمية عدنان صراحة، ولكنه يغضبهم، بل ويثير حنقهم الشديد بآرائه الفقهية المخالفة لما اعتادوا عليه أبا عن جَد؛ فرأوه صوابا بالمطلق، ورأوا ما خالفه خطأ بالمطلق أيضا. في مثل هذه الحال، تقع الصدمة التي تثير الاستغراب، فالارتياب؛ قبل أن تثير الغضب والكراهية العمياء.
إن هؤلاء الذي يعيبون على عدنان آراءه الفقهية الصادمة أحيانا، يغيب عنهم أن هذا هو عين ما هو مطلوب من عدنان وأمثاله من المُجدّدين للخطاب الديني. والحق أن حال عدنان مع هؤلاء المُتعبّدين بـ”العادات الفقهية” تدخل في باب: “إذا محاسني اللاتي أدلّ بها * كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر”. وعموما، أتفهّم غضبهم، بل ويبهجني كثيرا، إذ هنا يظهر أثر عدنان المطلوب في الساحة العملية؛ لأن المسائل الفقهية التي تتفجّر بين يديهم كالألغام، هي بالذات التي تعيد ـ بشكل مباشر وآني ـ تشكيل معظم سلوكيات المجتمعات التقليدية المتدينة في عالمنا الإسلامي. ولعل من الطريف الذي هو محل اعتبار، أن كل هذه الآراء التي يستنكرونها اليوم أيما استنكار، سيعدّونها مشروعة عما قريب، وسيُدلّلون على هذه المشروعية بأنفسهم، بل وبعد سنوات، قد يتبنونها ويعدونها عين الصواب، ولا صواب سواها !.
ومهما أغضب د. عدنان السلفيين التقليديين بطرحه الآراء الفقهية الجديدة، أو تلك التي يبعثها من مرقدها التراثي، بعد أن تعمّد كثيرون طمسها، فلن يُغضبهم كما أغضبهم في تنقيبه التاريخي الذي لامس عصب المقدس التقليدي المتمثل في رمزية بعض الأشخاص. معظم الكارهين لعدنان اليوم، والرافضين لمشروعه في التجديد الديني، هم من ضحايا الهجمة الشرسة عليه إبان بحثه الجاد والشجاع في شخصية معاوية تحديدا؛ حيث كشّر غلاة السلفية التقليدية عن أنيابهم الإقصائية العدوانية، مستغلين كل وسائلهم المشروعة وغير المشروعة في التجييش والتزييف، كل ذلك في محاولة لإسقاطه بنفي التسنّن عنه أولا، ثم بتخوينه علميا…إلخ التُّهم العجاف. والحقيقة أن كثيرا من جَهَلة العوام استدرجهم هذا الاستجلاب السلفي التقليدي الماكر؛ فوقعوا ضحية دُعاة الغلو التقليدي الذين اتضح أنهم يقفون مع الخوارج الصرحاء في خندق عقائدي واحد، من حيث يشعرون أو لا يشعرون. هكذا غضبوا (= جَهَلة العوام) غضب الجهلة والحمقى، بينما لو قرأوا التاريخ محل البحث بأنفسهم، ومن مصادره المتعدّدة؛ لاتضح لهم أن ما يقوله ليس أكثر من منطوق التاريخ الصريح الصحيح، ولكنهم ـ كانوا ولا يزالون ـ أعجز من أن يفتحوا صفحة من كتاب.
من الطبيعي أن يكره السلفيون التقليديون د. عدنان، فمن المعروف ـ بداهة ـ أن مشروعه التجديدي سيسقط خطابهم البائس من أساسه (خطابهم الذي اتضح مؤخرا أنه يجمع التزمت والتشدد والانغلاق من جهة، والعنف والإقصاء والتطرف والإرهاب من جهة أخرى). وإذا سقط خطابهم؛ سقطت رمزيتهم، وذهبت مكانتهم، وربما انقطعت أرزاقهم تبعا لذلك. فغضبهم في حقيقته ـ واعين أو غير واعين بذلك ـ غضب لأنفسهم، وليس للدين الحنيف الذي يزعمون الدفاع عنه صباح مساء.
هذا من جهة موقف التقليديين. ولكن من جهة أخرى، يغضب بعض المثقفين الحداثيين من د. عدنان لأن خطابه ليس صارما في عقلانيته، بل تتخلله بعض “الخرافات” التي تُربك إشعاعه التنويري/ العقلاني. يريد الحداثيون/ العقلانيون من د. عدنان إبراهيم مستوى أبعد من التجاوز في القطيعة مع التراث، وإلا فهو محل رفضهم بالكامل. الحداثيون/ العقلانيون يريدونه عقلانيا على صورة العروي و أركون وجورج طرابيشي…إلخ، ويرون أن هؤلاء هم الأفضل؛ لأنهم متجاوزون للمنظومة التقليدية بالكامل. ولعل من المؤسف أن هؤلاء يتجاهلون أو يغيب عنهم ـ على حين غفلة من سِجالٍ ـ أننا لسنا في وارد البحث عن خطاب ثقافي عام؛ حتى يكون الخيار بين هؤلاء من جهة، و عدنان إبراهيم من جهة أخرى، وإنما نحن نبحث عن “خطاب ديني”، يلبي الحاجات الدينية بالأساس، ويكون بديلا للخطابات الدينية السائدة، هذه الخطابات التي أورثتنا الجمود والتخلف والانحطاط والانغلاق، وبعضها تجاوز ذلك صانعا لنا عالما من الكراهية المتبادلة فيما بيننا،بل وإلى التشريع للعنف المنتهي ـ لا محالة ـ بالإرهاب قتلا وتفجيرا
إننا، شئنا أم أبينا، أمام حقيقة واقعية لا يمكن تجاوزها بالقفز عليها، وهي أن الجيل الجديد المتدين لم ولن يقتنع بطرح مثقف/ مفكر يستخف بكل إرثه الديني. وفي المقابل هناك إمكانية واعدة لأن يقتنع بطرح شيخ يُعيد برمجته حداثيا من خلال هذا الإرث، شيخ يتقاطع معه ـ فكريا وعمليا ـ من حيث نمط الاهتمام الديني، أي شيخ يكون الدين في صلب اهتمامه حياة وفكرا، عكس المثقف العربي النمطي الذي قد يبدو الدين هامشيا في نمط حياته الخاص، كما في أطروحاته الفكرية. لا بد أن نعي أن المسألة ليست فكرية/ علمية خالصة، بل هي عاطفية؛ بقدر ما هي فكرية. والجيل الجديد المتدين في عمومه، أو الذي يميل إلى التدين، وأعداده بعشرات الملايين، يريد حداثة متصالحة مع إرثه الديني الذي يخترق وجدانه في الصميم.
إن تجارب كبار المثقفين القوميين واليساريين، وملاحظة الأثر المتواضع لمشاريعهم الكبرى في وعي عموم الناس، تؤكد أننا بحاجة إلى مثقف/ مفكر ديني يستلهم أهم ما في هذه المشاريع، ويعيد ـ بعملية جدلية نقدية ـ تكييفها مع مسارات التأويل الديني للنص المُؤسّس من جهة، ولعموم التراث الديني ـ ولو إلى مرحلة ما ـ من جهة أخرى. وهنا تأتي شخصية الشيخ عدنان إبراهيم كشيخ ديني موسوعي مُطّلع على التراث، وعلى الفكر العربي والمعاصر، وعلى مسار الفكر الغربي منذ البدايات إلى آخر تجلياته المعاصرة، ليتخلق من خلال كل ذلك خطابٌ تسامحي، منفتح ـ جدليا ـ على الثقافة العالمية/ على العالم، قابل للتطور في كل آن.
إننا لسنا هنا نستهدف إقناع عشرات الألوف من الشباب المثقف الذي لا تقلقه المسألة الدينية لهذا السبب أو ذاك، بل نتعمّد مناقشة تحويل/ تغيير القناعات الراسخة التي تقود إلى التخلف والتطرف والتأزم النفسي عند عشرات الملايين من الشباب المتعطش دينيا. لقد أصبح واضحا أن ملايين الشباب لن يقنعهم حسن حنفي أو الطيب تيزيني أو العروي أو علي حرب أو عبد المجيد الشرفي …بالحداثة الدينية؛ مهما كانت مشاريعهم متماسكة منطقيا وعلميا. ولا شك أن الواقع ـ على مدى أكثر من سبعين عاما ـ أثبت ذلك بكل وضوح. بينما في المقابل نجد أن الشيخ الحداثي الذي يؤمّ هؤلاء الشباب في المحراب، ويطل عليهم من فوق منبر القداسة الدينية، الشيخ الذي اكتسب مشروعية واسعة على مستوى الحضور التعبدي من جهة، وعلى مستوى التواصل مع التراث المشترك من جهة أخرى، يستطيع أن يفعل ذلك، أي أن يقنعهم بالحداثة الدينية، بأقل قدر من الخسائر، وبأكثر قدر ممكن من الأرباح.
إذن، هذا هو “الواقع الديني” الذي يمكننا طرح الخيارات من خلاله تحديدا، وليس بالقفز عليه إلى الضفة الأخرى التي يتم فيها تجاهل العامل الديني، وكأنه لا وجود له في الواقع، بينما هو يسد الأفق بحضوره الطاغي. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا في هذا الواقع لا بد أن ندرك أننا أمام ثلاثة أنماط من الشيوخ القادرين على صياغة الوعي الديني العام: (1) الشيخ السلفي/ التقليدي، الذي يستنسخ لك ـ بآلية بالية ـ مقولات الأسلاف منذ ألف عام وأكثر؛ دونما وعي بشروط الراهن الذي أصبح مغايرا تمام المغايرة لواقع الأسلاف. ولهذا لا تكون أطروحات هذا النوع الشيوخ إلا تأزيما لوعي الجماهير المتدينة، ومن ثم، لواقعهم. ولعل من حسن حظنا أن شواهد الواقع لا تني تؤكد لنا في كل يوم أن صلاحيتهم قد انتهت تماما، إذ لم يعد لدى الواعظ التقليدي (المتوشح برداء العلم !) ما يُقدّمه كإسهام حقيقي في تجاوز أزمة علاقة الديني بالواقعي، وبالتالي لم يعد مُقنعا لأحد، بل على العكس، لقد اتّضح أن كثيرا منهم كان سببا في انصراف الشباب عن الدين بالجملة، بل وتحولهم إلى رؤى عبثية/ عدمية في كثير من الأحيان؛ خاصة إذا ما توهموا أن مثل هؤلاء الشيوخ هم حملة “الدين الصحيح”.
(2) هناك الداعية الصحوي الذي يحاول الظهور بمظهر المجدد؛ مقارنة بالشيخ التقليدي المنغلق على كل المستويات: مستوى المضمون، ومستوى والشكل، ومستوى الوسائط التواصلية. الواعظ الصحوي الذي تسيّد الإعلام الفضائي الجماهيري نجح في أن يبدو مجددا أو متجددا عند كثير من بسطاء العامة، الذين ليس لديهم القدرة على اكتشاف أن هذا المراوغ الصحوي الذي يستثمر ـ جاها ـ في الجماهير البائسة، وفضلا عن كونه تقليديا في العمق(ابن السلفية)، هو أيضا ضحل الثقافة جدا، وعلميته في غاية الهشاشة، بل لا يمكك أحيانا الثقافة الدينية لبعض العوام !.
(3) هناك العالم الموسوعي المطلع على تفاصيل الإرث الديني والفلسفي وآخر مستجدات العلوم الحديثة، ونموذجه الأمثل ـ إلى الآن عدنان إبراهيم، كما قلت آنفا. ومن يريد التأكد ـ عمليا، وعلى نحو مباشر ـ من الفرق بين هذا النوع (= العالم الموسوعي)، والنوع الثاني (= الداعية الصحوي)؛ فما عليه إلا أن يعقد مقارنة بين برنامجين شهيرين: برنامج عدنان (صحوة 1ـ2)، وبرنامج سلمان العودة القديم (حجر الزاوية)؛ ليدرك الفرق الكبير. طبعا، هذا مجرد مثال؛ ولو كانت المقارنة مع أشهر برامج التقليدية لكان الفرق مهولا، بل لتعذرت المقارنة أصلا.
هكذا تبدو النماذج الثلاثة المتاحة، والممكنة من ناحية التأثير في الجمهور الديني، ونحن إزاء ذلك لا نستطيع إلا دعم خطاب د. عدنان إبراهيم في مقابل تلك الخيارات؛ مهما اختلفنا معه. إنه ـ وبكل المعايير ـ الخيار الأفضل لربط جماهير المتدينين بالعصر، ولتخفيف حدة توتر المتديّن مع واقعه/ عصره، ولإشاعة وعي ديني تسامحي. وعلى من يعترض عليه من أي زاوية أن يقدم لنا نموذجا أفضل وأمثل؛ شرط أن يكون نموذجا يغطي مساحات البحث التراثي بكل حقوله؛ مع استحضار واستصحاب آخر مستجدات المعاصرة ثقافة وفكرا وعلما.
وفي سياق طرح خطاب عدنان كخيار يقبله كثيرون، ويرفضه كثيرون أيضا، لا يمكن طرح هذا الخيار والمنافحة عنه دون التعرض لأهم مسألة يُثيرها ـ بحق/ عن قناعة، وبباطل/ عن غير قناعة ـ الرافضون الكارهون لخطاب الشيخ عدنان، وهي مسألة “الكرامات”، أو الخوارق التي ذكرها الشيخ عدنان في أحاديث عابرة؛ فتمسك بهذا كثيرون لوسم خطابه بـ”الخرافي”!.
يقول هؤلاء الكارهون أو الرافضون، وبأسلوب تبسيطي مختزل: يكفي لإسقاط عدنان بالكامل أن نرصد عليه من هذه الدعاوى التي تُنافي العقل والعلم. واختصارا لهذا الموضوع الطويل أقول: مَن يقول هذا، هم إما سلفيون تقليديون، وإما حداثيون: عقلانيون/ علميون (علمويون!). ولكل منطلقه العقلي/ العلمي، أو الشخصي/ الحزبي في اعتراضه. لكن، وقبل أن أناقش وجهات نظرهم على نحو عابر، ألفت نظر الجميع إلى أن “مسألة الكرامات” هي مجرد هي مجرد (قشة) يتعلق بها المعترضون، سواء أكانوا واعين بكونها مجرد (قشة)، أم غير واعين. إنها استثناء هامشي عابر؛ لأنها أصلا ليست في صلب المنهج العام للخطاب العدناني. أي هي مجرد حكايات عابرة لا تدخل في منهجية طرحه الذي يؤكد فيه على استراتيجية واضحة لتغيير مسارات الوعي العام.
ومع هذا، لا بد من الرد على الحداثيين/ العقلانيين ، وعلى السلفيين فيها؛ لأنها مسألة يتم استحضارها بمجرد ذكر اسم الشيخ عدنان، أو حتى لمجرد الإشادة برأي فقهي له. أما من ناحية الحداثيين/ العقلانيين، فهؤلاء أو معظمهم تقف عقلانيتهم/ علميتهم (علمويتهم!) عند حدود “الوضعية العلمية” للقرن التاسع عشر. وبالتالي، لا يفرقون بين ما لا يستطيع العلم إثباته في راهنيته، وبين ما يستحيل علميا. ثم هم لا يفرقون بين الاستحالة العلمية والاستحالة العقلية. فالعلم، حتى في أشد أوجهه صرامة، مرّ بتحولات، واستمر العلم يُعدّل أخطاءه باستمرار. ولهذا قال فيلسوف العلم الفرنسي الكبير/ باشلار: “تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم”. ولو أن أحدهم أمسك بأبسط كتاب في فلسفة العلوم، واطّلع على المتغير الذي يجري في صلب قوانين العلم، وتعرّف على الجدل حول مدى اطلاقيتها كقوانين عابرة للمكان بالمطلق…إلخ؛ لتواضع كثيرا، ولعرف حقيقة معنى العلم. بل ‘نه ولو تجاوز؛ فقرأ قليلا في آخر مستجدات البارسيكولوجيا؛ لعرف أن مستقبل العلم يُخبّئ لنا ما لم يخطر على بال كثير من المسجونين في لحظتهم العلمية الراهنة. وإذا كان هذا هو الحديث في العلم، فكذلك في “العقل”، العقل الذي بدأت الفلسفة منذ كانط تبحث على نحو جاد في حدوده وقوانينه. ومن لديه أدنى اطلاع على تطورات الخطاب الفلسفي سيدرك أن آخر المقولات العقلية/ المنطقية، ليست هي ما كانت عليه قبل قرن أوقرنين. والحديث في هذا يطول جدا.
هذا من ناحية مناقشة الاعتراض العقلاني. أما مناقشة الاعتراض السلفي، فمن الواضح أن السلفيين لا يريدون بهذا الاعتراض إلا الطعن في عقلانية الخطاب العدناني؛ مع أن من مستلزمات الاعتقاد السلفي لديهم ـ وهنا المفارقة التي تكشف الخلفية غير العلمية، وغير الدينية لاعتراضهم ـ الإيمان القطعي بالكرامات!. وحقيقة، وفي كل الأحوال، فالسلفيون هم آخر من يحق له إنكار الكرامات، وإلا وجب عليهم إنكار كل كرامة لكل أحد بالتبع، بما في ذلك الكرامات المنسوبة للصحابة والتابعين…إلخ. ومن هنا، فالسلفيون يتعمّدون التضليل المشاغب في هذا، متوسلين به للطعن في عقلانية/ علمية الخطاب العدناني؛ لأنها من أهم مرتكزات الإعجاب به لدى الجيل الجديد، الجيل الذي بدأ يزدري تخلفهم وجهلهم وانغلاقهم وتطرفهم، بل ومساندتهم الإرهاب بشكل صريح أو غير صريح.
وعموما، وفي تقديري الخاص، فإن حكاية “الكرامات” لم يكن من المفترض أن يطرحها الشيخ عدنان على الملأ؛مهما بدت له كتجارب روحية صادقة؛ لأن التجارب الفردية التي يصعب إثباتها علميا يجب أن تبقى خارج نطاق الخطاب العام/ المعمم (والقابلية للتعميم شرط العلم)، خاصة وأن كثيرين لا يُميّزون بين أحاديث عابرة لا يأتي بها المتحدث على سبيل الاستدلال العلمي، وبين أحاديث يوردها المتحدث كجزء من منظومة الاستدلال التي يُشرعن بها خياراته/ آرائه الفقهية أو العلمية؛ فيختلط الذاتي بالموضوعي في هذا السياق.
وإذا كان هؤلاء، من حداثيين وتقليديين، يأخذون ـ ولكُلٍّ غايته ـ على الشيخ عدنان مثل هذه المسألة العابرة (= الكرامات)، فإنني أعتب عليه في ترك البحث التاريخي، أو المجاملة فيه؛ فأنا أعتقد أن تغيير واقعنا يبدأ من إعادة تشكيل تاريخنا في وعينا، إذ نحن ـ شئنا أم أبينا ـ كائنات تاريخية، تعيش واقعها بتاريخها، وعُقَد تاريخنا ملازمة لنا. كما أعتب عليه أيضا في الإكثار المبالغ فيه من الاستشهاد بالموروث النقلي الحديثي الذي يُعزّز ـ على المدى البعيد ـ حضور النزعة النقلية على حساب النزعة العقلية. وإذا كنت أعتب عليه قبل سنوات الخوض ـ بحماس شديد ـ في السياسة وتقلباتها ومفاجآتها، فقد كفاني هذا بنفسه، إذ أكد من على منبره أنه ترك الخوض فيها لأكثر من سبب، ذكرا بعضا، وأعرض عن بعض. وأيا كان خياره، أو اقتراحي في كل ما سبق، فإني أدرك أن همّ إيصال الرسالة التي يحملها لأكبر قدر من الجماهير تُجْبره على بعض ما أعتب عليه فيه؛ مع قناعته ـ المبدئية علميا ـ ببعض ـ أو بمعظم ـ وجهات نظري في هذه المجالات.
أخيرا أقول بكل حرقة وأنا أتمثل مشهد العالم العربي الممزق، وأنا أرقب حال المسلمين الحائرين الشاردين: لنجرّب خطاب العلم والتسامح في السياق الديني، بعد أن جرّبنا طويلا وطويلا خطابات الجهل والتعصب والكراهية؛ فقادتنا إلى تدمير أنفسنا بأنفسنا، وإلى أن أصبحنا محل كراهية العالم أجمع بعد أن صدرنا له أسوأ أزماتنا. العالم الإسلامي داخل حدوده، والعالم الإسلامي في نظر الآخرين، يعيش أزمة لم يسبق له أن مرّ بها في تاريخه، إذ باتت قناعات كثير من شباب المسلمين بدينهم في خطر، وأصبحوا من الإلحاد على مرمى حجر؛ جرّاء ما يرونه من تطاحن وتناطح بَيْني يقتل فيه الأخ أخاه من جهة، وشيوخ تُشرعن الكراهية والإرهاب بنصوص المقدس الديني من جهة أخرى. ولنتذكر جيدا، أن الوقت يضيق علينا، والأحداث تحاصرنا، ولا نملك رفاهية إعادة تجريب ما جرّبناه سلفا مرارا وتكرارا.
الحل الوحيد لنا كأمة عربية مسلمة هو التعايش وقبول الاخر بصرف النظر عن الانتماء والديانة وغير ذلك فالفناء امر يلوح في الأفق .