إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ۩ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ۩ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ۩ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأخواتي:
مَن يُرامِق أو يُطالِع المشهد الديني في عالمنا العربي والإسلامي في هذه الأيام لا يُخطيء مُلاحَظة انطواء واشتمال هذا المشهد على ظواهر إلحاد، فهناك للأسف الشديد من أبنائنا وبناتنا من عُدة المُستقبَل كما يُقال من صاروا يُجاهِرون بإلحادهم، أي بإنكارهم وجود الذات الإلهية والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهؤلاء في ازديادٍ سريع كالنار في الهشيم، كان المُفكِرون الإسلاميون طبعاً أو المُسلِمون في العموم مُتردِدين في رصد هذه الظاهرة أو الإقرار بها إلا أن الأمر الآن كما يُقال خرج عن حدود الشك ليقع في دائرة اليقين، وقد استمعت قبل أيام يسيرة أن أحد القادة العرب الكِبار يُعرِب أيضاً عن قلقه ومُفاجئته وانصدامه من هذه الظاهرة ويقول لم أكن أتوقع أنني سأعيش إلى اليوم الذي أرى فيه أبناء وبنات بلدي يُعلِنون عن كفرهم بالله نفسه لا إله إلا هو، فهذا قائد عربي سياسي كبير مصدوم من هذه الظاهرة لأنها فرضت نفسها، وفي زاوية أيضاً غير بعيدة من هذه الزاوية ضمن هذا المشهد نُلاحِظ نوعاً آخراً وضرباً آخراً من ضروب الكفر لأنه بلا شك كفر شئنا أم أبينا وهذا سيُغضِب هؤلاء الذين ننعت مسلكهم بأنه مسلك كُفري، إنه مسلك المُعادين للأنبياء والنبوات الذين يُفصِحون عن إيمانهم بالله تبارك وتعالى – أي نعم كما يقولون – لكنهم غير مُقتنِعين بالمرة بظاهرة النبوة وبالتالي وباللازم بالأنبياء، فإذن لا عناية إلهية،
يُنكِرون العناية الإلهية لأن النبوة حين تعني فتعني في المقام الأول العناية الإلهية بخلقه، الله الذي لم يخل المخلوقات غير العاقلة من الحيوانات – مثلاً – والعجماوات من هدايته، قال الله الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى۩وقال أيضاً وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۩ فضلاً عن أنه قال وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ۩، فحتى هذه المخلوقات الدقيقة والصغيرة والضئيلة لم يُخلها من هدايته – لا إله إلا هو – ولم يُخلها من أن يوحي إليها ومن أن يجعلها بصيرة على أنفسها، لكنه أخل الإنسان سيد المخلوقات وخليفته في هذا العالم بزعم هؤلاء من هذا، وعلى كل حال هؤلاء لا يُؤمنون بالعناية الإلهية، وطبعاً لا يؤمِنون بالشرائع وبالتالي هم ليسوا مقيدين بحلال أو حرام، الحلال والحرام ما يوافِق تقديراتهم التي يرونها معقولة ومفهومة وبالتالي مقبولة لديهم عندهم، هكذا سواءٌ قاربوها من منظورٍ فردي بحت أو من منظور اجتماعي تقنيني تشريعي مثل البرلمانات، الإنسان هو الذي يُشرِع لنفسه فلا حاكم عليه، وليس مسئولاً أمام أحد حتى أمام الله – تبارك وتعالى، وبالتالي وباللازم من يُنكر النبوات – وهكذا هم – لا يُؤمِن بالضرورة بالحياة الآخرة، لا يُؤمِن لا بجنة ولا بنار ولا بصراط ولا بحساب ولا بموازين ولا بأي شيئ، لكنه مُصِر على أنه يُؤمِن بالله وأنه مُجِل لله ومُوقِر لله، وقد سمعتم في مطلع هذه الخُطبة من الآي الكريم ما يُكذِب هذا الزعم ويدحضه، قال الله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۩، الذين يُنكِرون ظاهرة الوحي وظاهرة النبوة طعنوا فيما ينبغي لله من توقير وإجلال وتكرمة لا إله إلا هو، القرآن العظيم لا نحتاج معه إلى فلسفات وتنظيرات أخرى، هذه الأمور بالذات – هذا هو جوهر حقائق الملة والإعتقاد – يتوفَّر القرآن على الإعراب عنها وتفصيلها بطريقة غير مسبوقة ولا ملحوقة، ولذلك في السياق ذاته قال تبارك وتعالى وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۩، تلازم من غير إنفكاك بين الإيمان بالنبوات والإيمان باليوم الآخر وبالبعث وبالدينونة وبالحساب!

لاحَظ الفيسلسوف الألماني العملاق الكبير إيمانويل كانط Immanuel Kant أيضاً التلازم بين ظواهر ثلاثة: الظاهرة الأخلاقية وظاهرة الإيمان باليوم الآخر وظاهرة الإيمان بالنبوة والتشريع، فالفيسلسوف الألماني كانط Kant لاحظ التلازم، والترتيب مُختلِف على كل حال لكن يُوجَد تلازم واضح، وعلى كل حال هؤلاء الذين يُدعَون في السياق وفي التقليد الفكري الغربي بالربوبيين، وهى ترجمة دقيقة وصحيحة ومن ثم نوافق عليها، لماذ؟ لأن كفرة مكة أو كفرة العرب – قريش وغير قريش – كانوا يُقرِون بربوبية الله، حين يُقال مَن الذي خلقكم؟ يقولون الله تبارك وتعالى، مَن الذي يرزقكم؟ الله، مَن الذي يُحيي ويُميت؟ الله، مَن الذي بنى الكون؟ الله، فهم آمنوا به خالقاً وآمنوا به رازقاً، هم آمنوا به رباً لكن لم يؤمنوا به إلهاً يستحق العبودية ويملك عليهم سُلطان التشريع، أي أن يُحلِل وأن يُحرِم وأن يضبط وأن يبسط وأن يمنع وأن يفتح وأن يُغلِق، قالوا هذا لنا – أستغفر الله العظيم – وليس لله، ولذلك أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله، وكانت لهم تشريعات عندية من عندياتهم ومن مُبتكَراتهم، فأكفرهم الله تبارك وتعالى، إذن هذا كفر العرب وهو كفر بشكل عام، فمُعظم كفرة العرب بإطلاق هذا كفرهم، صحيح وُجِدَ منهم الدهريون والطبيعيون الذين لا يُؤِمنون حتى بإله – تبارك وتعالى – لكنهم قلة، أما أكثر العرب آمنوا بالرب وآمنوا بالخالق المُبدِع الصانع لكن لم يُؤمِنوا به إلهاً له علينا سُلطان التشريع كما قال عز من قائل أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ ۩، مَن خلق فله سُلطان الأمر، الذي يُبدِع جهازاً والذي يُبدِع مُبتكَراً ويخترع مُخترَعاً من المُخترَعات هو الذي يُسيره، أصلاً هذا المُخترَع لا يسير إلا بخُطة مُبدِعه، أليس كذلك؟ ما بال هذا الإنسان يُؤمِن بأنه مُخترَع لله ومُبدَع ومصنوع لله ثم يزعم أنه لا يسير بأي خطة لله وأن ليس لله في تسييره خطة ثم يبدأ يتخوض في متاهات فلسفية ليقول وما حاجتنا إلى الهداية الإلهية وما حاجتنا إلى النبي والرسول والتشريع ومعنى العقل؟ أي كما قال أبو العلاء وهذه نزعة إعتزالية عند أبي العلاء المُتلوِن إعتقادياً، فأبو العلاء مرة كان مُؤمِناً ومرة كان زنديقاً مُلحِداً ومرة كان ربوبياً ،ومرة كان مُؤلِهاً، فأبو العلاء كل هؤلاء وهذا أمر معروف، لا تستطيع أن تقول أبو العلاء زنديق لأننا سنأتيك بألف بيت تدل على عمق إيمانه، ولا تستطيع أن تقول إنه مُؤمِن صادق دائماً في كل الوقت لأننا سنأتيك بألف بيت تدل على زندقته وإنكاره، فأبو العلاء كل هذا، هو شخصية قلقلة مُضطرِبة، يُذكرنا بعنوان كتاب الراحل عبد الرحمن بدوي “شخصيات قلقة في الإسلام”، فهذا الرجل كان قلقاً فعلاً، يقول أبو العلاء المعري:
أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ فكلّ عقلٍ نبي.
هذه نزعة إعتزالية، قال الله وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ۩ فالمُعتزِلة قالوا العقل، والعقل يستقل بتمييز أو ميز حدود الأشياء، فهذا حسن وهذا قبيح وهذا مليح وهذا غير مليح وهذا صحيح وهذا غالط، وذلك عن طريق العقل، هذه هى مسألة التحسين والتقبيح العقليين لا الشرعيين، وهذه نزعة إعتزالية، لكن هذا تخوض وتخبط فلسفي، هل تعرفون لماذا؟ هل هذا العقل أصبح مُقدَّساً أكثر من الإله نفسه؟ هذا إن كررنا مع ديكارت Descartes أنه أعدل الأشياء قسمة بين الناس، لكن هذه تحتاج إلى تفصيلات كثيرة يُمكِن أن تُخرِجها عن سوائها أصلاً، فلا ندري ما هو المُشترَك بين البشر، هناك المُشترَكات لكن على وجهٍ قطعي نهائي لا فهم كما يتشابهون يختلفون كثيراً وكما تتعاضد وتتأزر تقديراتهم تتنافر وتتناكد هذه التقديرات، أليس كذلك؟ فما يكون عند هؤلاء حلالاً يكون عند أولئكم حراماً، وما يُستحسن هنا يُستقبَح ويُستسمج – من السماجة – هناك، هؤلاء هم البشر عبر العصور، فنقول لهم جميل جداً، ما الذي يسَّر وهوَّن عليكم أن تقبلوا حاكمية العقل على أنه هو المُبدِع لخُطة الإرشاد وللدليل العملي في الحياة وكرَّه إليكم وصعَّب عليكم أن تقبلوا الوحي الإلهي والخُطة الإلهية؟ هل العقل صار مُقدَساً أكثر من الله نفسه لا إله إلا هو؟ وهنا أنت تقوم بدور الإلحاد، ثم أن هل فعلاً هذه الخُطة الإلهية التي تأتي عبر تشريعات السماء فيها ما يُعَد محنةً للعقل بما يعيا به؟ ولله در البُصيري حين قال لم يمتحنا بما تعيا العقول به، هل امتحننا الله تبارك وتعالى بشئ يعيا به العقل؟ هل كلَّفنا بما لا يقبله العقل وبما يُنكِره وبما يراه مُتناقِضاً يوجب المُحال؟ لم يحدث هذا – والله – أبداً، وعلى الأقل أتحدَّث عن ديني الإسلام وعن شرعنا الإسلامي الحنيف، لم يرد شيئ في دين الإسلام على أنه حسن وكان العقل يستقبحه، ما رأيكم؟ لم يحدث هذا أبداً، ولم يرد شيئ استقبحته هذه الشريعة واستحسنه العقل، هل تستحسن الشرك والكفر بالله وهو الذي أبدع؟ هل يقوم هذا الكون بغير إله؟ هل تستحسن القتل والسرقة والزنا والكذب والغيبة والنميمة والغش وإتيان المَحرَمات عموماً؟ قد يقول لي أحدهم أن في شرعكم هناك الإماء وهناك الجواري، لكن هؤلاء بالذات هم العُبط باللغة العامية – هم والله عُبط عباد الله تبارك وتعالى – لأن هؤلاء المساكين يدعون الحكمة وليسوا منها في شيئ، يصطنِعون أُطراً ومرجعيات مُعاصِرة تحكي تقدماً على الأقل في بابها للفكر الإنساني ويُريدون أن يحاكموا إليها وبها وبمعاييرها أوضاعاً غبر عيلها ألف وأربع مائة سنة، مع أن تلك الأوضاع في شروطها وظروفها ما كان لها إمكانية حل إلا ما قد وَجِدَ، ما رأيكم؟ هذا كان مُستحيلاً، تعال الآن وحاول أن تُلغي مُؤسِسة الرق في القرون الهجرية أو في القرن الهجري الأول في مطلعه، هذا يستحيل علمياً واجتماعياً، اذهب واسأل أكبر فيلسوف تاريخ وأكبر عالم اجتماع عن هذا، هذا كلام فارغ وهذه عباطة!
الآن مثلاً هل يستطيع أحد أن يُفكِّر حتى مُجرَد تفكير – هناك من فكَّر لكن نُسخة من هؤلاء – في إلغاء مُؤسَسة العمل المأجور بمعنى إلغاء عمل شخص عند شخص آخر مثل شخص يُوظِّف شخصاً آخراً في مُستشفى أو في جامعة أو في أي شيئ؟ سوف يقولون هذا مجنون، كيف هذا؟ لابد أن نهدم هذا العالم كله الآن، ولا أقصد العالم كومزمولوجياً وإنما أقصد العالم الاجتماعي وعالم الإنسان، فلابد من أن نهدم هذه الأمور كلها ونُعيد بناءها وفق نظرية غير موجودة ولإمكانات غير مُتاحة بالمرة، فكيف نعمل هذا؟ يُقال لكن بعد ربما ألف سنة أو ألفين أو خمسة آلاف أوعشرة آلاف سنة – وأنا أحدس بهذا وقد يكون الأمر أقرب من هذا – ستُلغى هذه المُؤسَسة، لأن في نهاية المطاف العقل أيضاً يقضي بأن ليس شيئاً حسناً أن أعمل عند أحد الناس ويأخذ هو على الأقل حتى خمسين في المائة من جهدي، لماذا يا أخي؟ من أجل ماذا؟ هذا غير معقول، لابد أن يأتي يوم كل إنسان يأخذ جهده مُنفرِداً وفي نفس الوقت تُنسَق الأعمال بحيث يقوم كل بعمله أيضاً، لكن يأخذ حاصل جهده تماماً، وحاصل الجهد الذي يخدم هذا الفرد هو في الخط الطويل يخدم المجتمع نفسه، فهذه نظرية لكن الآن الإمكانات كلها لا تُهيء لتطبيق هذه النظرية، ما رأيكم؟ وطبعاً سيأتي عبيط بعد خمسمائة أو ألف أو عشرة آلاف سنة ويقول أهل القرن الحادي والعشرين والثاني والعشرين عُبط، لأنهم لم يكونوا إنسانيين، كانوا أشبه بالوحوش، هم استغلاليون لا ضمير لديهم ولا حس أخلاقي عندهم، لماذا؟ كان يأكل بعضهم عرق بعض، ونحن لا نرى أنفسنا كذلك، أليس كذلك؟ أنا أعمل عندك وأنت تعمل عندي ولا نرى أنفسنا كذلك، بل نرى أنفسنا كما قال أبو العلاء المعري:
الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ.
قال الله وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ۩، إذن نحن نفهم هذا الآن، وأنا مُتأكِد بعد ذلك حين ينسخه التقدم الاجتماعي وخط التطور البشري لن يغدو مفهوماً، علماً بأن هذا ليس في الاجتماعيات والإنسانيات فقط وإنما حتى في العلوم الطبيعية والعلوم الصُلبة – Solid كما يُقال – والعلوم الحقيقة مثلما قال إرنست رذرفورد Ernest Rutherford صاحب النموذج الذري، قال كل الظواهر الفيزيائية – Physics – إما مُستحيلة وإما عادية إلى حد الابتذال وتافهة Trivial تافهة، كيف؟ قال هى هكذا، هذه الفيزياء – أم العلوم ورائدة العلوم بعد الرياضيات، الرياضيات أداة لها وتخدمها – مُستحيلة إلى أن تُصبِح مفهومة، وحين تغدو مفهومة تُصبِح مُبتذَلة، هو هذا حتى في العلوم.
النصف الآخر من الخُطبة وربما أكثر من نصفها سيدور على تقرير هذه الحقيقة لكن في سياق مُختلِف تماماً، سياق له علاقة بالنبوات وإثبات إمكانية النبوة علمياً وبمنطق الفيزياء أيضاً، فبمنطق الفيزياء سنتحدَّث عن الإمكانية وليس إثبات النبوة وإنما عن إمكانية النبوة، ليس عن نبوة بذاتها كنبورة محمد أو عيسى أو موسى وإنما عن النبوة من حيث هى ظاهرة Prophethood، وعلى كل حال هكذا يعمل العقل الإنساني للأسف الشديد، وعموماً – كما قلت لكم – هذه الشريعة لم تمتحنا بما تعيا به العقول، وواضح أنها اختصرت الطريق جداً، هذه وفرت علينا ملايين ساعات التفكير وملايين ساعات التأمل، ولم توفِّر ملايين ساعات التأمل فقط وإنما وفرت علينا أطناناً بل جبالاً بل مشاوير مًتطاوِلة في سنوات فلكية كما يُقال مِن المعاناة ومِن التذابح ومِن التخاصم ومِن التظالم بيننا كاجتماع بشري – أي كبشر – حين حدت الحدود ووضحت مقاطع الحق وميزت بين الأمور، ومَن التزامها والله لا يحيا إلا حياةً طيبة، وأنا أقول لك حين تزعم أنك مُتدين ثم لا تحيا حياة طيبة فإن الخطأ في تدينك وفي طريقة فهمك للدين، لا والله الذي رفع السماوات بغير عمد ما تدين أحدٌ حقاً كما يُريد الله وكما يُحب الله له إلا كان مِن أسعد الناس على الإطلاق، والله قال هذا وأقسم عليه، قال فَلَنُحْيِيَنَّهُ – يُوجَد قسم هنا – حَيَاة طَيِّبَة ۩، فهذه الشريعة توفر عليك هذا، ثم استغل – هذه فلسفة التشريع الإلهي – بعد ذلك ما تبقى لديك مِن إمكانات وقُدر ولياقات علمية وعقلية وعملية تجريبية في تطييب حياتك وفي استعمار هذا الوجود وفي استعمار هذا الكون، أي تعميره وتحضيره وتمدينه وينتهي كل شيئ، فأنت لديك رؤية كونية مُمتازة وتعمل على مدى خط وجودك الطويل ليس الدُنيوي فقط بل الأبدي أيضاً طبعاً، فهذا هو الإنسان، ولذلك قال الله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۩، فالذين يُؤمِنون بضرورة أن تكون آخرة يُؤمِنون بالله، كما آمن كانط Kant وقد قلناها عشرات المرات، وطبعاً هو يُناقَش في هذا وقد نُوقِشَ وحُقَ له أن يُناقَش، كانط Kant رأى أن العقل المُجرَد أو العقل المحض – Pure Reason أوReinen Vernunft – عاجز عن أن يُثبِت وجود الذات الإلهية – ويُناقَش في هذا ونحن نُخالِفه لأن العقل يستطيع هذا – ولذلك هو أنكر الفلسفة الميتافيزيقية -Metaphysics – والأنطولوجيا تماماً وقال هذا عبث وهو كله كلام فارغ، ولذلك هو أسس للفلسفة العلمية كما نعرفها الآن وميز بين القضايا التحصيلية التحليلة والتركيبية البنائية، وعلى كل حال كانط Kant أزعن بوجوب وضرورة الإيمان بالله أخلاقياً، ولا يتم هذا الإيمان عنده – وقد أصاب هنا مائة مرة – حتى يُشفَع بالآخرة، ولذلك في كتاب الله تبارك وتعالى دائماً تقريباً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۩، هذا في كل الدين، أي في جوهر الدين، قال الله إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ۩، فالمسألة الأخلاقية مربوطة بالإيمان بالله والإيمان باليوم الأخر، فلا تقل لي أنا مُؤمِن بالله وأُوقِره وأُجِله وأحترمه وأنا صادق الإيمان به ولا أؤمِن بالنبوة كظاهرة، فأنت ما قدرت الله حق قدره، قال الله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ۗ ۩، والله قال لنا السبب في هذا رغبة دفينة خفية لكنها واعية، هى ليست لا واعية أو لا شعورية بل هم يعونها تماماً أكثر مني ومنك، فهذه رغبة واعية دفينة – Hidden – مُستكِنة مُستخفية – هم يخفونها – في التحلل من القيود وفي التحلل من التكاليف ومن الإلزامات ومن فكرة أن يكون الإنسان مسئولاً أمام آخر، وهذا أمر عجيب، أنت تقبل أن تكون مسئولاً أمام المجتمع وأمام القاضي وأمام القانون وأمام البرلمان وأمام الحكومة وأمام الشعب وأمام الناس وترفض أن تكون مسئولاً أمام رب الناس – لا إله إلا هو – يا أخي، لماذا؟ هل هذا الذي يُشرِّع لك سيُشرِّع لك شيئاً أحسن من شرع الله – تبارك وتعالى – وأفضل وأكرم وأرحم وأكثر مراعاة لحاجاتك؟ هذا مُستحيل، لكن كيف هذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن تحت هذا المُستوى يُوجَد مُستوى أعمق يتطلَّب ويهفو ويتعشَّق التحلل من بعض القيود الأخلاقية، كأنني أحتاج إلى فرصة لكي أُمارِس الغش حين أُضطّر إليه أو أحتاجه بل أن أُمارِس حتى الدعارة، نعم مُتزوِج ولكنني أحب هذه وتلك وتلك وتلك وأحب أن أتواصل مع هذه وهذه وهذه، ويُمكِن في النهاية أن يُفضي الأمر بمثل هذا الشخص – والعياذ بالله – إلى أن يتواصل مع المُحرَمات، مع ابنته أو مع أخته أو مع أمه، فهو يحب هذا، ويحب أن ينتقم ممن يُسيء إليه، يُحب أن يرتقي على جماجم الناس كما يفعل مُعظم الساسة ومُعظم طلاب السلطة، فهو يُحِب هذا لكن الدين يمنع منه، وأنا أقول لكم لا يُوجَد وازع على الإطلاق – ولا تحدثني بغير هذا فنحن قرأنا ونقرأ في هذا وسنظل نقرأ – كالوازع الديني، هل تعرفون لماذا؟ كل جهة يُمكِن أن أكون مسئولاً أمامها لن تكون مثل الله، هم يقولون لك فلان مسؤول أمام التاريخ، ونحن لم نر – والله – شخصاً مسؤولاً أمام التاريخ، هذا كلام فارغ، ليسهو المسؤول أمام التاريخ أبداً أبداً وإنما إسمه وذكراه، لأن هل التاريخ يُسائل هتلر Hitler؟ أين هتلر Hitler؟ هو يُسائل إسم هتلر Hitler، لكن هتلر Hitler ذهب وانتهى، فلا تقل لي أنه مسؤول أمام التاريخ، هذا كلام فارغ وهذه مجازات تُضلِل الفكر الإنساني، هذه كلها مجازات تُضلِل أفكارنا وفي نفس الوقت تحرف مسالكنا، لا معنى لأن تقول أنا مسؤول أمام الأمة وأمام التاريخ، أي تاريخ يا رجل؟ أنت حين تُصبِح تاريخاً لا تكون موجوداً بحسب هذه المُقاربة المادية التي تصدر منها، لكن حين تكون مسؤولاً أمام الله يختلف الأمر، والله سواء عشت أو مت أو كنت هنا في الأرض أو ضُرِبتَ بقنبلة أو تفجرت أو سممت أو ذهبت إلى المريخ أو مت على المريخ أو دفنوك في المشتري أنت مسؤول أمام الله، لن تُعجِزه لأنه الزمان والمكان كله في قبضته لا إله إلا هو، ولذلك – كما قلت لكم مرة – لماذا كيدنا ضعيف؟ لماذا مكرنا ضعيف؟ قال الله وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ۩ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ۩، فدائماً مكر الله يغلب مكرنا وإرادة الله تغلب إرادة الشيطان وإرداة كل الشياطين دائماً، قال الله وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ۩، ليس لأنه حاكم هذا الكون ومالك هذا الكون – نحن نحتاج إلى تفسيرها أكثر – ولكن لأننا دائماً نتصرَّف ونمكر ونتداهى ونتخابث ونتخادع في إطار الزمان، أما هو فيتصرف في الأبدية لا إله إلا هو، فطبعاً هو دائماً يفوز ونحن نخسر، ولذلك لا يُوجَد وازع كالوازع الإيماني، لا تحدثني عن وازع كالوازع الديني أبداً، حين يعجز كل رقيب وكل حسيب وكل قانون وكل عين فاحصة ومُلاحِقة عن مُراقبتي ومُلاحقتي ومُسألتي يبقى الله هو الذي يفعل هذا، وأنا أعلم هذا وأنطلق منه، لذلك تستقيم خُطتي في الحياة، ومن ثم طريقي طريق مُستقيمة واضحة تماماً، فلماذا نُعدِم الناس هذا؟ ما هذه الدعوات الغريبة العجيبة؟
لذلك نقول لكم في هذا المشهد المُقلِق – مشهد الدين المُقلِق الآن في عالم العرب والمسلمين – هناك لقطات بل مشاهد أيضاً جزئية عبثية كثيرة، فهذا عبث من العبث، ما المُفيد في هذا؟ إذا كنت جاداً وذكياً ومُجتهِداً وذا عقلية اجتهادية إبداعية أعد النظر في فهمنا كبشر للدين، في كلام الشافعي وابن تيمية والطبري والطبراني وفلان وعلان، فهذا مسموح ومطلوب لأن لا يُوجَد تقديس لشخص أياً كان، لا يُوجَد شخص يُمكِن أن يتحوَّل إلى مرجعية مُطلَقة، هذا ممنوع، قل لي ماذا قال، هو قال ونحن نقول دون أي مُشكلة، فأرِنا هذا وسوف نزن قولك وقولنا ونرى أيهما يرجح أو يترجح في الكفة، أي في كفة الحساب وفي نهاية الحساب وآخره، فهذا هو المسموح!
إذا وُجِدَ نوع من الفهم الخاطيء الغالط للدين والذي لا يتماشى مع القواعد الأخلاقية ولا يتماشى مع المصالح الإنسانية سوف نُعيد النظر فيه، وسوف نرى أن هناك فعلاً اجتهادات كثيرة وليست قليلة للفقهاء الدين منها براء، وهى لا تُعبِر عن روح الدين بالمرة، مع أن المذاهب الأربعة عليها والخمسة والسبعة والثمانية والتسعة أيضاً، فما رأيكم؟ مذاهب السنة الأربعة والظاهري ومذهب الإمامية والزيدية والإباضية ومذهب أبي ثور ومذهب الأوزاعي وكل هذه المذاهب عليها، وهى باطلة وغير صحيحة، فهذه اجتهادات بشرية أملتها حاجات مُعينة ظرفية وظلت الأمة عليها بسبب الكسل، أصعب شيء الاجتهاد، فالناس عندها قصور وتكاسل ولذا يقبلون كل شيء، وهذا لا ينطبق علينا نحن فقط بل على كل الأمم، هذه طبيعة البشر عموماً!
نعود إلى موضوعنا، موضوع النبوة للأسف الشديد يُتناوَل بطريقة غالطة وبطريقة خاطئة، أنا وجدت كثيرين مِن مُفكِري وفلاسفة الإسلام أول ما ينطلِقون في الحديث عن النبوة ينطلِقون من تبريرها ويقولون بحاجة الاجتماع البشري إلى التشريع، وأنا لا أوافق على هذا بلا شك، علماً بأن كلامي إلى الآن كله في فائدة النبوة من خلال ما تأتي به من كلمات السماء ومن شرائع السماء للاجتماع البشري، فهى مُفيدة جداً كما قلنا وتُوفِّر معاناة وتُوفِّر أشياء كثيرة علينا، ولكن ليس هذا التبرير الرئيس الأول بل هو مسبوق بتبريرات أهم منه بكثير!
في النصف الأول من القرن العشرين المُنصَرِم يكتب العلّامة المصري الكبير محمد فريد وجدي – كان يكتب في منبر الإسلام وغير منبر الإسلام، وهو رجل معروف وصاحب الموسوعة الشهيرة – مُتحدِّثاً عن مُستقبَل الإسلام أن الغربيين الآن وصلوا إلى درجة – هو يُقر بهذا – ما عادوا مُحتاجين معها إلى الشرائع الإلهية، وهذا كلام فارغ في نظرنا للأسف الشديد لكن هو يُؤمِن به، نوع من الإعجاب إلى حد التعشق بالغرب وبالتجربة الغربية وبكل ما يأتي من الغرب، وهذا كان مُتواصِلاً مع صدمة اللقاء بالغرب من أيام الطهطاوي ومحمد على وهؤلاء الجماعة، فهذا كان لا يزال مُتواصِلاً للأسف الشديد عند بعضهم وخف عند بعضهم، ولذا هو قال لك نحن لا نحتاج إلى هذا، فلماذا نحتاج الشرائع الإلهية؟ طبعاً مثل هذا التفكير يُمهِد مباشرةً بخطواتٍ سريعة لإنكار النبوة، سوف يُقال لا نُريد التشريع إذن، لكن مَن قال لك أن النبوة ينبغي أن تتبرر وأن تُبرهَن عبر إثبات الحاجة إلى الشرع الإلهي كحاجة أولية وكتبرير رئيس؟ هذا غير صحيح، يُوجَد شيئ أهم من هذا بكثير، فهل تعرفون ما هو؟حاجة الإنسان لمعرفة الله لا إله إلا هو، إذا كان هذا الوجود – كل هذا الوجود – كان قائماً بالله – لا إله إلا هو – الحي القيوم الذي يقوم به كل شيئ فما معنى هذا؟ أنا أدعوكم إلى أن تتعمقوا في الدراسات العلمية في هذه الأبواب بالذات، مَن يقول أنه يعرف كيف يفكر وكيف يعقل وكيف يقوم بكذا وكذا؟ لا أحد يفهم هذا لأن المسألة أصعب مما تتخيلون، وديكارت Descartes سبق كل هؤلاء وكان أذكى منهم جميعاً – إلى اليوم تُوجَد بقية من تفوق وأسبقية ديكارت Descartes تُسجِل نفسها وتفرض نفسها – حين كتب يقول بعد أن برهن هذا في عشرات الصحائف أن الله ليس فقط مبدأ الوجود بل مبدأ العلم والعقل، فأنت لا تستطيع أن تفهم كيف تفهم إلا بالله تبارك وتعالى، فما رأيك؟ هذه قصة طويلة طبعاً فعودوا إلى فلسفة دريكارت Descartes، هذا هو الصحيح.
في الثلث الأول من القرن العشرين يكتب كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung – المُحلِل النفسي السويسري العظيم وتلميذ وصديق فرويد Freud المُختلِف معه كثيراً بعد ذلك، وعلى كل حال يونج Jung معروف، فيونج Jung الآن يُعرَف في العالم كله بأبحاثه الروحية أكثر من أبحاثه النفسية الفنية ويُعرَف بالأبحاث الروحية بالذات التي كتب فيها الكثير والكثير وحرفت مشوار حياته العلمية حرفاً كاملاً لكنه كان حرفاً إيجابياً – في كتابه علم النفس والعِرافةPsychology and Alchemy قائلاً لم تعد مسألة ارتباط العقل بالدماغ أو بتعبيرٍ آخر مسألة انحصار العقل والتفكير العقلي عند الإنسان في حدود الزمان والمكان، لكن ما معنى في حدود الزمان والمكان؟ أي في حدود الكون المادي، وكل شئ في حدود هذا الكون – الكوزموس Cosmos وليس الأرض أو العالم وإنما الكوزموس Cosmos – يتموضع وينظرف في ظرفي الزمان والمكان، وطبعاً عند أينشتاين Einstein لا يُوجَد ظرفان وإنما نسيج واحد مُتصِل – Continuum – زمان مكاني، فهو قال لم تعد هذه المسألة – مسألة ارتباط العقل بالمخ أو انحصار العقل في حدود الزمان والمكان – مسألة بديهية سهلة تُسلَم بغير نقاش وارتياب، فهذا هو الزمان، وهذا تفكير رجعي، وهذا تفكير الماديين والملاحدة والعلمانيين ومَن على شاكلتهم، لكن هذا يونج Jung يا حبيبي، هذا يونج Jung وليس أي أحد آخر، لكن طبعاً انتبهوا إلى أن يُوجَد مثله المئات، فحتى أينشتاين Einstein عنده هذا وويليام جيمس William James والنمساوي فولفغانغ باولي Wolfgang Pauli وكثيرون، ومنهم حاملون لجائزة نوبل Nobel، فيُدهشك عدد الذين حملوا نوبل Nobel في الهندسة وفي الرياضيات وفي الطب وفي وظائف الأعضاء وفي كذا وكذا وكلهم عندهم نفس هذه النزعة الروحية والنزعة إلى توسيع مدلول الغيب وأن فعلاً هناك غيب بل غيوب وأن فعلاً هناك على الأقل لن نقول جزء أو جوهر – Substance – لكن سنقول يُوجَد شيئ في الإنسان أو توجه في الإنسان أو منحى في الإنسان لا ينتمي إلى العالم المادي ولا يُفسَر بالمادة، لا يُفسَّر لا بالفيزياء ولا بعلم الدماغ والأعصاب ولا بوظائف الأعضاء، هذا مُستحيل لأنه يتجاوز كل هذا علمياً، وأنا سأحدثكم عن تجارب علمية الآن وسأعطيكم بعض المصادر وبعض الإشهادات، وعلى كل حال هو قال هذه المسألة لم تعد بهذه السهولة – أي تسليمها – بل في ضوء وفي ظل ما يتوفر بين أيدينا وتحت أيدينا من حقائق علمية جديدة صار الارتياب فيها أمراً لازماً مفروضاً، فلابد أن تُعلِن عن شكك فيها ولا تقل لي غير العقل يُفسَر بالدماغ أو بالمخ وانتهى الأمر، هذا غير صحيح لأن المسألة أصعب من هذا بكثير، لكن كيف؟ سوف نرى!
هناك إشكالية مع الذين يُنكِرون النبوة ويتفلسفون من أيام ابن الريوندي المُلحِد – ابن الريوندي يُسمونه ابن الراوندي وهذا غلط، هو ليس من راوند بل هو من ريوند، وريوند بينها وبين راوند ألف ميل، أي ألف وسبعمائة كيلو تقريباً، فابن الريوندي هو الصحيح – والطبيب أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، فهذان كانا من أوائل من طعن في النبوة طعناً عقلياً، فهم قالا النبوة غير مُمكِنة ومُستحيلة، لماذا؟ للأسف شبابنا الآن الذين يعيشون في زاوية الارتياب في النبوة وصدقية النبوة يُردِدون نفس الكلام،ويقول لك هذا كلام غير معقول وكلام مُحال – كلام مُستحيل – وكلام غير واقعي، لكن أنا أنصح نفسي طبعاً أولاً وأنصح إخواني وأحبابي قائلاً قبل أن تخوضوا في هذه الملاحج الضيقة وفي هذه المضايق وفي هذه الأمور العويصة والمعاوص الصعبة كونوا صبورين مثل أي باحث جاد، وصدقوني ملايين من هؤلاء المُستعجِلين الاستخفافيين سيمضون دون أن يتركوا أي أثر، فلا تغتروا بأن الواحد عنده كلمات على شبكة الإنترنت Internet وعنده صفحة فيسبوك Facebook وعنده صفحة تويتر Twitter وعنده صفحة له، فهذا كله كلام فارغ، انتبه لأن هذا يعطي شعوراً استيهامياً بإنك شيئ مُهِم وهذا كله كلام فارغ، ليس هذا الطريق لكي يبقى لك ذِكر ولكي يبقى لك أثر، وليس هذا المُهِم، لكن المُهِم أن تتعرف على الحقيقة وألا تفوتك الحقيقة، فتُرشدِ نفسك وتهدي نفسك وتُنقِذ نفسك، هذه مسألة إنقاذية وهى مسألة خطيرة، فالمسائل الدينية مسائل خطيرة جداً ليست كبقية المسائل، والله المسألة الدينية لو كانت مثل مسائل الدنيا لكانت ذات وزن خفيف، فالدنيا محدودة على كل حال، لأن أي خسارة دنيوية في النهاية تُحتمَل مادام أنت موجود وحي وتُرزَق، فأي خسارة مُحتمَلة وأي خسارة مُمكِن تُعوَض بطريقة أو بأخرى، الله قال عن أيوب وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ ۩، قال عوضناه عن زوجته وأولاده الذين ماتوا كلهم، فهذا كله يُعوَّض، لكن المسألة الدينية ومصيرك الأبدي من الأشياء التي لا تُعوَّض يا حبيبي، هذا لا يُعوَّض يا أخي فانتبه ولا تلعب، لا تستخف ولا تأخذ الأمور مأخذاً استعراضياً فقط، أي لكي تستعرض أمام الناس أنك شكاك وأنك مُلحِد وأنك تطعن وأنك أذكى من غيرك، لا تفعل هذا وافعل مثلما فعل الناس الرزينون والفلاسفة والعلماء الكبار الذين قضوا سنوات طويلة في بحث هذه المسائل وهم عمالقة على مُستوى العالم وقضوا سنوات طويلة في هذا، فانتبه واحترم هذه الأشياء، ولذلك أنا – كما قلت لكم – أنزعج كثيراً – ليس من أجل نفسي والله وإنما من أجل إخواني وأخواتي في أمتي – عندما يرى بعضهم إشارة روحية – إلى روحية العالم وإلى روحية الدين وروحية المُتدين – فيقولون لم نكن نُريد هذا، كنا نُريد الفلسفة والعلم والحقائق، لكننا دخلنا في الروحانيات والمُعجِزات والكرامات وما إلى ذلك، فما هذا؟ لكن للأسف هذا إن دل على شيئ – لن أصف بكلمة جارحة – فإنه يدل على خفة علمية، فالذي يقول هذا الكلام لا يفهم شيئاً لا في الدين ولا في العلم، فما رأيكم؟ الذي يقول هذا – والله العظيم – لا يفهم شيئاً لا في الدين ولا في العلم نفسه، وتذكروا الآن ألبرت أينشتاين Albert Einstein حين غامر – هذا ألبرت أينشتاين Albert Einstein وليس أي أحد – وقدم لكتاب أبتون سنكلير Upton Sinclair، وسنكلير Sinclair لمَن يعرفه ناشط اجتماعي أمريكي مشهور جداً وصاحب رواية الغابة التي قرأناها حين كنا صغاراً وأثَّرت فينا، وهى عن مصانع تعليب اللحوم الفاسدة وما إلى ذلك، فهذه قصة طويلة، لكن سنكلير Sinclair معروف وعنده عشرات الروايات وعشرات الدراسات، وكان رجلاً ثقة صادقاً حي الضمير جداً، وقارع الرجل مُؤسَسات كثيرة فحاولوا تشويه سمعته وما إلى ذلك، لكن هذا الرجل عنده بصمة وفرض نفسه في المُجتمع العلمي، وعلى كل حال سنكلير Sinclair كان شكوكياً فائقاً، فهو يشك كثيراً في كل شيئ وليس عنده اعتقاد بالأديان وبالروح وبالعالم الآخر وبكل هذا الكلام ويراه كلاماً فارغاً، فهو رجل علماني حتى النُخاع، وقد تزوج من ماري Mery هذه – أعتقد هذه زوجته الثانية – التي كان عندها – سبحان الله – طاقات روحية، فهى عندها طاقات روحية يُسمونها الآن البسي PSI، وللأسف بعض العرب يُترجِمونها بساي أو ساي لكن الصحيح هو بسي PSI، الحرف الثالث والعشرون في الأبجدية اليونانية، فهذه مثل إشارة اليورو Euro بشكل عمودي ولها ذنبة Ψ، وعلى كل حال هذا إسمه بسي PSI، وهو الحرف الأول من كلمة Psyche، وكلمة Psyche باليونانية معناها الروح أو العقل، وفي سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين قال أحد علماء النفس البريطان سوف نُسمي كل الظواهر التي كانوا يُسمونها ظواهر الإدراك الفائقة للحس Extra-Sensory Perceptions بظواهر البسي PSI، فأصبح عندنا علم البسي PSI وأبحاث البسي PSI وكتب علمية الآن وقصة كبيرة، والعلم يعتبر هذه الأبحاث تماماً لأنها علمية وفقاً للمقاس العلمي تماماً، وعلى كل حال هذا الرجل ثبت لديه عبر فترة طويلة إن زوجته عندها هذا الشيئ، وأثبتت له هذا طبعاً بتجارب علمية مُحكِمة، فهى عندها هذه القدرات دائماً، وانتبهوا إلى أنها قدرات خطيرة تتحدى كل مبادئ الفيزياء الكلاسيكية الخمسة لكنها تتفق إلى حد بعيد مع الفيزياء المُعاصِرة وفيزياء الكم Quantum، وفيزياء الكم Quantum فيزياء حقيقةً لا منطقية، وهى تقطع تماماً مع منطق أرسطو Aristotle ومع الحس المُشترَك – Common Sense – والفهم البدهي والفهم السليم كما يُسمونه، فهى تقطع معه تماماً وهذا شيئ يُجنِّن، وألبرت أينشتاين Albert Einstein بذكاء مرة قال ضمن حديثه عن سنكلير Sinclair إن صح هذا الشيئ – أي إذا كانت ميكانيكا الكم صحيحة – فإننا سنكون في عالم مجنون، أي العالم كله سوف يُصبِح مجنوناً، فهذا عالم مجنون وعالم لا عقلاني ولا منطقي، لأنه شيئ مُختلِف تماماً طبعاً، وظواهر البسي PSI أو الباراسيكولوجي Parapsychology بشكل عام كما يُسمونها – سبحان الله – تتفق مع الكم بشكل غير طبيعي، والكم يقدر على أن يُفسِّر أشياء كثيرة منها، لكن هو في نظري لا يُفسِّر كل شيئ، لكنه يُفسِّر الشيئ الأخطر فيها فانبتهوا، وهذا يحتاج إلى تفصيل، وعلى كل حال أبتون سنكلير Upton Sinclair المسكين غامر في النهاية بمُستقبَله وبسمعته العلمية والأدبية بين الناس ككاتب رصين وناشط اجتماعي كبير وروائي مُحترَم وكتب كتاب إسمه الإرسال العقلي Mental Radio، وحين كتاب الإرسال العقلي Mental Radio صُعِقَ زملاؤه وبعض الذين كانوا يحترمونه، بحُجة أنهم علميون ويُفكِّرون بطريقة علمية إمبريقية، وكتب بعضهم ساخراً لقد ذهب سنكلير Sinclair مع الأشباح، فهو لم يقل مع الريح وإنما قال مع الأشباح، لأنه أصبح مُؤمِناً بالأشباح وبالأرواح وبالغيب وبالأنبياء وبهذا الكلام الفارغ، لكن صُدِم المُجتمع العلمي نفسه بألبرت أينشتاين Albert Einstein الذي سمح لنفسه أن يكتب مُقدِمة لكتاب الإرسال العقلي Mental Radio، وهو عنده مُبرِراته ومن ثم كتب مُقدِمة، والكتاب مطبوع وتستطيعون قراءته وقراءة مُقدِمة ألبرت أينشتاين Albert Einstein التي شهد فيها وكتب فيها قائلاً أن الظواهر التي أودعها سنكلير Sinclair في كتابه ليست مُهِمة فقط بالنسبة للعوام بل تفرض أهميتها حتى على علماء النفس المُختصين، وطبعاً الجميل أن ألبرت أينشتاين Albert Einstein كان يُدرِك بذكاء أن هذه الظواهر في المُستوى الأعمق منها هى ظواهر فيزيائية، فالفيزياء معنية بها قبل علم النفس، ما رأيكم؟ هذه ظواهر علمية متينة ولها أسس علمية متينة جداً، وفي حوار جرى بين ألبرت أينشتاين Albert Einstein وبين أحد التخاطريين – الذين يُؤمِنون بالتخاطر – Telepathy – وبظواهر البسي PSI عموماً قالهذا الرجل المُؤمِن لألبرت أينشتاين Albert Einstein أنا أؤمِن بالتخاطر – Telepathy – الآن، لكن ما معنى Telepathy؟ هو تأثير عقل في عقل، أي عقل يؤثر في عقل فانتبهوا لأن هذا يحدث بطريقة علمية، وفي مرات عديدة يكون بينهما ألف ميل مثلاً وألفين ميل أو أكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر، فواحد يكون هنا – مثلاً – والآخر يكون في قارة أخرى، ومع ذلك يُوصل له رسالة وتصل فعلاً الرسالة ويستلمها الآخر ويكتب له وتَثبُت تجريبياً، وهذا شيئ مُخيف، علماً بأن هذا يحدث لحظياً فورياً، فهذه الرسالة لا تسير حتى بسرعة الضوء بل هى فورية، ومن هنا قد يقول لي أحدكم أنت حطمت لنا حتى نسبية أينشتاين Einstein ومبدأ المحلية Locality، وعلى كل حال نحن قلنا لكم أن الفيزياء الكلاسيكية فيها خمسة مبادئ، المبدأ الأول هو مبدأ الواقعية Reality، لكن ما معنى الواقعية؟ أن العالم له واقعية حقيقية والعالم هو كما هو بغض النظر عن المُراقِب، فسواء رأيته أم لم تره ورصدته أم لم ترصده وراقبته أم لم ترقبه العالم موجود، فهذا إسمه مبدأ الواقعية، وهذا دمَّرته ميكانيكا الكم، فهى دمرته تدميراً كاملاً وانتهكته انتهاكاً صارخاً، والمبدأ الثاني هو مبدأ المحلية Locality، ومبدأ المحلية Locality يعني عدم وجود أشياء في هذا الكون بالواقعية المادية الموصوفة في مبدأ الواقعية تحدث وتتآثر إلا عبر القوانين الطبيعية المادية، ولذلك تأخذ زماناً وتكون مُضطرة أن تحدث عبر الزمان والمكان، ولذلك يستحيل حتى بالنسبية أن يكون انتقال الإشارة بسرعة تفوق سرعة الضوء، فهذا إسمه مبدأ المحلية Locality في الفيزياء، وميكانيكا الكم انتهكت هذا بشكل صارخ عبر مبدأ أعتقد أنني شرحته لكم مرة في دروس التفسير عندما تحدَّثت عن نقل عرش بلقيس، وهو مبدأ مبدأ التعالق – Entanglement بالإنجليزية أو Verstrickung بالألمانية – أو مبدأ التداخل، وهو مُصطلَح صكه النمساوي إرفين شرودنجر Erwin Schrödinger، وقال شرودنجر Schrödinger أنا صككت هذا المُصطلَح – أي Entanglement بالإنجليزية أو Verstrickung بالألمانية – لكي أُعبِر به عن انتقال إشارات وعن وقوع أحداث فورية بين أجسام مُتباعِدة لانتقال فوري لحظي لا يستغرق زمناً، فلا تقل لي هذا بسرعة الضوء، لا ضوء ولا غير ضوء، لأن إذا وُجِدَ جُسيم هنا الآن، ووُجِدَ جُسيم آخر في طرف الكون على بُعد – مثلاً – تسعين بليون سنة ضوئية فبحسب مبدأ Verstrickung يحدث بينهما تآثر لحظي، لو التآثر حسب أينشتاين Einstein والفيزياء الكلاسيكية أيضاً سوف يصل وفقاً لسرعة الضوء بعد خمسة وتسعين بليون سنة، لكن النمساوي شرودنجر Schrödinger – علماً بأن شرودنجر Schrödinger من آباء الكم الكبار وهو صاحب موجة الاحتمال – قال هذا يحدث لحظياً، وأينشتاين Einstein جُنَّ وشد شعره وقال – كما قلت لكم – هذا عالم مجنون، سوف تُخربِطون لنا الدنيا كلها وستُصبِح الأمور غير مفهومة بالمرة، فهو قال سوف تكون هناك تأثيرات شبحية عن بُعد Spukhafte – Spooky – Fernwirkung، فأينشتاين Einstein قال ساخراً منهم سوف يُوجَد جن، هذا جنون غير متعلِّق لا بالزمن ولا بالمكان، وهذا الذي ينقل هذه الإشارات لحظياً، فقال ما هذا الكلام الفارغ؟ لكن هذا للأسف هذا ليس كلاماً فارغاً لأن هذا ثبت تجريبياً، فما رأيكم؟ الآن تُوجَد صناعات كثيرة أنتم تتمتعون بها تقوم على هذا، وسوف يأتي لكم الكمبيوتر الكمي القائم على مبدأ التعالق، علماً بأن من أكثر مَن أسهم ويُسهمون فيه هم النمساويون، سبحان الله هذا أمر غريب وكأنها مواريث، فجماعة شرودنجر Schrödinger ومعهم من الألمان جماعة هيزنبرغ Heisenberg يُسهِمون في الكمبيوتر الكمي، ويوم ينجح هذا الكمبيوتر الكمي ستكون صرعة العالم كله، قالوا لك أضعف كمبيوتر كمي سوف يكون أقوى عشرات ملايين المرات من أقوى كمبيوتر الآن موجود، فما رأيكم؟ هذا شيئ رهيب وشيئ غير معقول لأنكم رأيتم الآن مبدأ التعالق، والعجيب جداً في موضوع التخاطر- Telepathy – أن الإشارة التخاطرية – أي عقل يتخاطر مع عقل – لا تخضع لقوانين تأثير الموجات الكهرومغناطيسية والمجال الكهرومغناطيسي(Electromagnetic (EM، وأنتم تعرفون أن هذا المجال مع المسافة واندياح المسافة يضعف أثره باستمرار، لكن في التخاطر لا يُوجَد هذا الكلام، علماً بأن عندنا خمس نظريات أساسية في تفسير كل ظواهر البسي PSI، أو في الأحرى هذه ليست خمس نظريات وإنما سبع، وخمس نظريات من السبع يعتمدن على نظرية الكم وعلى فيزياء الكم، وهذه قصة كبيرة، ومن هنا قد يقول لي هل معنى هذا أن هذه أصبحت مسألة علمية؟ هذا صحيح، هذه مسألة علمية وفيها مُؤلَفات على مُستوى العالم، لكن الناس يعتقدون أن الأبحاث الروحية تعود لأيام الدكتور جوزيف راين Joseph Rhine في جامعة الديوك Duke وقبله الإنجليزي الشهير جداً جداً وليام كروكس William Crookes عضو الجمعية الملكية وغيرهما، لكن الآن الوضع اختلف، فهذه أصبحت على مُستوى العالم ويُوجَد وفيزيائيون كبار يُقدِّمون لها ويبحثون فيها،وأيضاً يُوجَد علماء نفس يدسونها لأن قصة كبيرة في العالم كله، وهذه كلها أبحاث مُحترَمة، وفي سنة ألف وتسعمائة وخمس وتسعين افتتحت وكالة الاستخبارات الأمريكية – CIA – مشروع سري إسمه Stargate، وكله كان عن موضوع البسي PSI لكي يستفيدوا منه في التجسس وخاصة التجسس الدولي وذلك في سنة ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، فهذا مشروع إسمه Stargate وهو مشروع مُثير جداً وقد جعلوه سرياً!
إذن أينشتاين Einstein يعلم أنك حين تقول أنك تُؤمِن بالتخاطر أن هذه المسألة ليست مسألة روحية أو نفسية سيكولوجية بل هى مسألة فيزيائية، وإذا وُجِدَ تخاطر فهذا يعني أنك تضرب مبدأ المحلية Locality، لأن الإشارات في العالم المادي من المُمكِن أن تنتقل فورياً ولا تستغرف زمناً، كيف؟ الفيزياء ترفض هذا، وحتى فيزياء النسبية ترفض هذا تماماً، لكن ميكانيكا الكم تُؤكِد هذا عبر مبدأ التعالق، ولذلك حتى لا أنسى – الوقت أدركنا – قد يقول لي أحدكم هل تُوجَد دراسات مُحترَمة تنصح بها؟ وبدوري أقول نعم هذا موجود، يُوجَد عالم إنجليزي كبير استحوذ على اهتمام الكثيرين جداً من علماء الفيزياء وعلماء النفس حول العالم بأبحاثه ودراساته وكتاباته التي هى تتوفر على أعلى المُميزات المهنية الفنية في الكتابة العلمية وهو عالم معروف إسمه دين رادين Dean Ridin، فدين رادين Dean Ridin عنده كتب كثيرة من أحسنها كتاب إسمه الحقيقة العلمية للظواهر – قد تُترجَم للظاهر طبعاً – الروحية: The Scientific Truth of Psychic Phenomena، فإذن الكتاب الأول إسمه الحقيقة العلمية للظواهر الروحية أو الظاهرة الروحية، وعنده كتاب آخر أعمق من هذا الكتاب – وأعتقد أنهما في نفس السنة تقريباً، ففي ألفين وست نُشِرا الكتابان – وهو كتاب غريب جداً إسمه العقول المُتعالِقة Entangled Minds، وأنتم فهمتم معنى التعالق – أي Verstrickung بالألمانية أو Entanglement بالإنجليزية – الآن، فهذا الكتاب إسمه عقول مُتعالِقة ويُحاول أن يُفسِّر في هذا الكتاب الذي أتى في حوالي أربعمائة صفحة ظواهر البسي PSI التي عرفتموها الآن مثل عقل مع عقل – فهذا من البسي PSI – وعقل مع مادة – هذا ليسعقل مع عقل وإنما عقل مع مادة – أيضاً، لكن كيف؟ عقل إنسان يُسلَط على الكرسي فيرفعه في الهواء عن بُعد، وهذا إسمه Telekinesis، وهذا يسمونه حتى الـ Telekinesis الروحي أو النفسي، أي Psychic Telekinesis (PK)، وكذلك الحال مع استشراف المُستقبَل، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا يحدث معانا، ففي الرؤيا أنا رأيت شيئاً ما وحصل مثلما رأيته بعدما رأيته بخمس سنين، وهذا شيئ خطير طبعاً، لذلك كل الثقافات البشرية سواء أكانت بدائية أو مُتحضِرة وكل الللغات البشرية – حتى اللغة السواحلية – عرفت ظواهر البسي PSI وصكت مُصطلَحات وكلمات تُعبِر عنها، فما رأيكم؟ لأنه هذا مُلازِم للإنسان بما هو إنسان، ولذلك طبعاً عرفت كل الثقافات وكل المُجتمعات والمدنيات ظاهرة النبوة أيضاً، قال الله وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ۩، لأن الله أعطاك البرهان من نفسك فلا تقل لي أنا لا أُؤمِن بالنبوة والأنبياء، فأنت حدث معك أمور تُؤكِّد هذا الكلام وتُؤكِّد هذا الإمكان، أليس كذلك؟ ومن هنا قد تتساءل بصدد أحدهم وتقول كيف أنه يجلس معنا ويسمع ما لا نسمع ويرى ما لا نرى ويأتيه ما لا يأتينا؟ وأنت الآن ترى هذا يا أخي تماماً، أليس كذلك؟كتب مرة هنري برجسون Henri Bergson يقول نحن الآن نعيش في عالم مُكهرَب بالكامل – يُريد وجود تيارات طاقوية – وهذا العالم محشود بموجات الطاقة المُختلِفة، وخاصة الآن طبعاً مع التكنولوجيا الحديثة فأنت هنا تجليس في خمسين ألف مجال مُتداخِل، وهذه المجالات لا نراها ولا نسمعها ولا نلمسها لكنها موجودة، بدليل تليفونك الذس يستقبل ويرسل بها، فماذا يقول برجسون Bergson – علماً بأنه أخذ نوبل Nobel وهو فيلسوف يهودي فرنسي كبير وعقلية ضخمة، وهو صاحب التطور الحيوي طبعاً – بعد ذلك؟ يقول برجسون Bergson لماذا لا تكون ظواهر الباراسيكولوجي Parapsychology من هذا الباب؟ طبعاً تُوجَد طاقات وأشياء لا نراها نحن لكنها تفعل فعلها، أليس كذلك؟ هناك حشرة إسمها حشرة أبو نطيط، وهى حشرة صغيرة جداً جداً جداً لكن عندها قدرة سمع عالية، ولا تُحدَّثني هنا عن الخفاش الذي يسمع بأمور رهيبة، لأن هذه تسمع أموراً ليس للخفاش المسكين علاقة بها، هذا الخفاش لا يسمع شيئاً بالنسبة لها طبعاً، فالخفاش يسمع الأشياء العالية جداً جداً لكن هذه تسمع الأشياء التي تقع في نصف قطر ذرة الهيدروجين Hydrogen، وهذا الحشرة موجودة، فلماذا طرح الله – لا إله إلا هو – عبر الخلق هذه النماذج؟ هذه حشرة لكنها تسمع ما يدور في ذرة هيدروجين Hydrogen، وهذا شيئ لا يُصدَق، والخفاش يسمع أشياء تعجز أنت عن سماعها بالمُطلَق، والإنسان يسمع في حدود سمعه البسيط من عشرين إلى عشرين ألف، فما القصة؟ لذلك أنا أُريد أن أقول لك انتبه، هناك أشياء أنت تسمعها ولا تسمعها وتبصرها ولا تبصرها، قال الله فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ومَا لا تُبْصِرُونَ ۩، فلا تُنكِر هذا ولا تكن غارقاً في الحسية، لا تكن حسياً ولا تعب تفصيل العالم وقوانينه على قدر خلقتك، أنت مُفرَدة مُهِمة في هذا الكون لكن استخدم عقلك، الحس ليس خطأً ولكن الخطأ الاقتصار عليه، فالحس لا يكون خطأً أبداً بل أن الحس عموماً يؤدي وظيفته، ومن المُمكِن يُخدَع ومن المُمكِن أن يحدث غير هذا، لكن الاقتصار عليه هو الخطأ، فلا تكن حسياً وتقول لي أنا لا أُؤمِن ولا أُذِعن إلا بشيئ ألمسه وأمسكه وأراه، وإلا سوف أقول لك أنت فعلاً إنسان عبيط ومسكين, أنت لا تفهم لا دين ولا علم ولا فلسفة ولا تعرف شيئاً، ما هذا الكلام يا أخي؟ أنت تعيش في عالم فيه خمسون ألف شيئ أنت تُؤمِن به ولا يُحَس ولا يُلمَس، لكنك تُدرِكه عبر آثاره، وكذلك مع مسائل أخرى كثيرة تُدرَك صحتها وحقيتها وصدقيتها عبر آثارها وليس إدراكاً حسياً مُباشِراً.

إذن عندنا الـ Telekinesis، أي التحريك عن بُعد، ويُوجَد عندنا أيضاً الـ Precognition، أي إدراك مٌسبَق، فما معنى هذا؟ استشراف المُستقبَل الذي يقوم به بعض الدراويش عندنا، وهؤلاء المجاذيب في بلادنا كثر، وكان من المفروض أن يكون هؤلاء مادة علمية للدراسة العلمية، لكن للأسف الناس يضحكون عليهم ويُعطونهم بعض المال والخبز وما إلى ذلك، لكن هؤلاء مادة لدراسة علمية مُحترَمة يا أخي، في أوروبا يُوجَد القليل منهم وقد استخدموهم، ونحن عندنا الألوف من هؤلاء الدراويش – سبحان الله – وعلى طرق صوفية مُختلِفة ويُخبِرون عن أشياء وتقع كما أخبروا، وأحياناً يحدث هذا قبل ساعة وأحياناً قبل سنة أو قبل سنيتن أو قبل شهر أو قبل شهرين وهكذا، وهذا شيئ مُحير، وهنا لا يصلح الموقف السلفي المُتعنِّت المُتشدِّد الذي يقول هذا إعلام بالغيب وكفر وزندقة، هذا الكلام أيضاً إسمه عبط علمي فلنتركه، لأن هذا موجود يحدث على أرض الواقع، والنبي قال أن الرؤيا الصادقة جزء من ستٍ وأربعين جزءاً من النبوة، فهذا يشتغل على نفس المنطق وبنفس المنطق، نعم ليس بنفس الدرجة بالمرة لكن بنفس المنطق ونفس المبدأ، وأبو حامد الغزالي في كتاب المُنقِذ من الضلال لما أراد أن يُثبِت إمكانية النبوة كان النموذج والنمط الذي يستند عليه هو الرؤيا الصادقة، فبالرؤيا طبعاً أنت تخترق الزمان والمكان، أليس كذلك؟ هذا يحدث طبعاً وإلا كيف تغوص في المُستقبَل؟ كيف عرفت ما رأيت؟ والمُستقبَل حسب الفهم السليم والحس العام – Common Sense كما يسمونه – غير موجود إلى الآن، فكيف عرفت هذا؟ يُمكِن الرجوع هنا إلى خطبة الزمان طبعاً – خُطبة اللغز – لكن هذه مسألة ثانية، فكيف حدث هذا؟ هذه طبيعة الإنسان مثلما قال يونج Jung، فلا تقل لي يا أخي الفاضل المُتشكِك الربوبي – نحن لا نُحِب أن نسمع هذا الكلام – أن النبوة مسألة مُستحيلة ومسألة عير مُمكِنة وغير معقولة، عليك أن تستثمر سنوات كثيرة لكي تفهم في البداية الأسس المنطقية والعقلية لهذه المباحث، لابد أن تأخذ دورة مُمتازة وجيدة في علم المنطق، وبعد ذلك دورة في الفلسفة العقلية بالذات، ثم تتبحر قليلاً في العلوم الطبيعية الحديثة والمُعاصِرة وفلسلفة العلوم والفلسفة العلمية، وبعد ذلك تقرأ ما كتبه الباحثون والدارسون حول العالم أو أهم ما كتبوا في هذه المسائل، ثم تتخذ موقفاً فيما بعد وليس عندي مُشكِلة معك، لكن هذا سوف يأخذ سنوات وأبحاث مُتواصِلة، فلا تلعب بدينك ولا تُغامر بمُستقبَلك وإيمانك، المسألة جد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون،ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، إخواني وأخواتي:
قال الرجل لأينشتاين Einstein أنا أؤمِن بهذه الظاهرة، فقال له هذه الظاهرة – أي التخاطر – تتعلق بالفيزياء أكثر من تعلقها بعلم النفس، فهو قال له أنه يعرف أن هذه مسائل فيزيائية علمية، وأينشتاين Einstein قدَّم – كما قلت لكم – لسينكلير Sinclair وكتب يقول هذا الرجل عرض تجاربة مصوغة بشكل علمي دقيق قابل للاختبار، فأنت تستطيع أنت تُجريها مع أشخاص يُسمون الوسطاء عندهم مثل هذه القدرة، فأعِدها وانظر لها كما صممها سينكلير Sinclair، وهو قال من جهتي أنا لا أقبل التشكيك في سينكلير Sinclair لأن أبتون سينكلير Upton Sinclair فوق أن يُجادَل في صدقيته ونزاهته، فهذا رجل ذو ضمير حي، ومُحال أن يكون كتب شيئاً مما كتبه لكي يخدعنا أو يضللنا، قال أينشتاين Einstein الرجل تكلَّم بشكل علمي وعنده ضمير، فادرسوا كلامه بشكل علمي ولا تردونه، واضطَرَ سينكلير Sinclair أن يكتب يقول مِن الحماقة أن تؤمِن بشيئ بلا دليل، وهذه يُسمونها الخرافة، لا يُوجَد أي دليل على شيئ ما ومع ذلك أنت تُؤمِن به ومُتمسِك به ومُستعِد أن تموت وتَقتُل، ومن ثم هذه حماقة، ثم قال لك أيضاً بالقدر نفسه من الحماقة أن ترفض الإيمان بشيئ قام عليه الدليل الواضح البيّن، فهذه حماقة أيضاً.
كتب عالم ومُفكِّر آخر أمريكي يقول ما هى الخرافة؟ الخرافة أن تظل مُعتقِداً بمُعتقِدٍ ما ربما ورثته عن آبائك وأجدادك رغم قيام الدليل القاطع على إدحاضه، فهذا يعني أنك خرافي ولك عقلية خرافية ولا تُؤمِن بالدليل، ثم قال فإذا أخذنا هذا المعيار بالاعتبار فإن أفظع خرافات عصرنا الإصرار على أن البسي PSI غير علمي، فهو قال هذه خرافة كبُرى انتهينا منها، فلا تقل لي هذا غير علمي، لأنه الأدلة على ظواهر البسي PSI موجودة، لكن هنا قد يقول لي أحدكم ما علاقة البسي PSI بالنبوة؟ وهذا – إن شاء الله – سوف يكون موضوع الخُطبة المُقبِلة وسوف نتحدَّث حديثاً أوسع – بإذن الله – لأنه الموضوع مُعقَد وطويل.
قبل أن أُغادِر هذا المنبر يا إخواني أحب أن أُسعدكم وأن أُبشركم بهذا الخبر الطيب، وهذا الخبر في الحقيقة أبكاني ويعلم الله – تبارك وتعالى – لم أبك من أجل مبلغ، هناك – الحمد لله – مَن يدفع هذا المبلغ ومَن يدفع أكثر منه فأهل الخير كثيرون، لكن بكيت لأن فعلاً أثبتت لنا هذه السيدة الفاضلة أن هذه الأمة فعلاً فيها أهل الخير بفضل الله عز وجل.
أنا أستطيع أن أفهم أن رجلاً مُسلِماً من النمسا هنا يأتي لكي يتبرع لهذا المسجد ويدفع لنا عشرين ألف وخمسين ألف، فهذا معقول لأنه يصلي معانا ويأتي معنا وهو أخونا وحبيبنا، لكن انظروا إلى هذه الخيرية العميقة الراسخة في هذه الأمة حين تأتي سيدة من المملكة السعودية لا تُصلي خلفنا ولا تأم هذا المسجد الذي أسأل الله أن يباركه ويبارك من يختلف فيه وإليه وتتصل – أنا لم أكن هنا وكنت في سفر – وتقول سمعت أنكم على نية شراء المسجد، فقيل لها فعلاً هذه حقيقةً وقد أمضينا عقد شرائه ودفعنا مبلغ كذا وكذا بفضل الله – عز وجل – وهذا من فضل الله، فتقول كم تبقى؟ فقيل لها تبقى زهاء نصف مليون، لأن ثمن المسجد ينقصه للأسف أيضاً حوالي مائة وأربعين ألف للتصليحات التي صارت، فيجب أن ندفع ما تبقى، وما تبقى هو أكثره على الإطلاق للأسف الشديد، ونحن لم نكن نعرف هذا على كل حال، ومع ذلك السعر مُناسِب جداً كما سألنا الخبراء، فهو مُناسِب جداً بفضل الله عز وجل لأنه في الحي الثاني هنا، فقالت أعطوني رقم الحساب لأنني أحب أن أتبرع، فأعطيناها الرقم -أعطاها أخونا الفاضل هنا الرقم – فتبرعت في ساعتها بل في لحظتها بربع مليون يورو Euro، أي تبرعت بمائتين وخمسين ألفاً لهذا المسجد المُبارَك، إي والله، وحين هاتفتها فقط لكي أعبر عن إمتناني وفرحي بها ودعائي لها وجدت أنها سيدة في منتهى التواضع والأدب وكأنها لم تفعل شيئاً، أخجلتها المكالمة والله العظيم، فأمة محمد فيها خير كثير، ولا تطلب منكم إلا الدعاء، ولها ابنٌ مريض فنسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا وكلماته التامة أن يشفيه وأن يعافيه وأن يبارِك لها في زوجها وأولادها وفي نفسها وفي دينها ودنياها وفي كل ما خولها، وأن يجعل عاقبتها وعاقبتهم جميعاً وعواقبنا كلنا بإذن الله تعالى إلى خير في الدُنيا والآخرة، وأن يُكثِّر في هذه الأمة المرحومة من أمثالها، هذه أمة عظيمة وسيدة – سبحان الله – على خير، وقبلها – أنا حدثتكم ذات مرة عن هذا قبل أقل من سنة – هاتفت أيضاً سيدة عن طريق أحد الإخوة الأفاضل وإذا بها أمه، ونحن لم نكن نعرف هذا، وكانت تريد أن تتبرع بمائة ألف، ولكن بحمد الله نحن لسنا حِراصاً والله، يعلم الله – عز وجل – أننا لسنا حِراصاً بفضل الله لأننا لا نأخذ شيئاً لأنفسنا، هذا الشيئ لا نأخذه نحن، إنما هو شيئ ندفعه لله وفي مكانه تماماً بفضل الله تبارك وتعالى، فلم نكن مُعجَلين ولم نعطها رقم الحساب وتركناها – سبحان الله – أشهراً طويلة، وكانت تبرعت بزهاء ثلاثة آلاف وتغيرت الظروف – سبحان الله – وجدت لها حاجات ولم يعد بإمكان هذه المرأة الفاضلة أن تتبرع بالمائة ألف، فجزاها الله خيراً ونقول لها إن شاء الله وبعون الله أجرها مكتوبٌ في صحيفتكِ، فالنية عندها أن تتبرع بمائة ألف لكن تغيرت ظروفها وصار عندها حاجات جديدة ألجأتها إلى المال، فتبرعت تقريباً بزهاء ستة آلاف بشكل عام في النهاية، لكن كانت نيتها أن تتبرع بمائة ألف، وعوضنا الله بسيدة أخرى تبرعت بربع مليون، وتعتذر تقول لا والله كان في بالي أن أدفع النصف مليون – والله العظيم هكذا قالت – ولكن الظروف، حصلت ظروف ولم أستطع ولكن إن شاء الله كذا وكذا، كأنها تعد بشيئ آخر، وهذا شيئ غريب، فكثَّر الله من أمثال هذه السيدة الفاضلة وأسعدها الله في الدنيا والآخرة وأسعدكم جميعاً، ونسأل الله أن يجعل هذا المسجد منارة خير وإشعاع وبركة على الأمة وعلى الإنسانية، والمفروض – والله – أن المُسلِم يكون بركة على البشرية وليس فقط على أمته أو على أهله وإنما على الإنسانية،والمُسلِم الذي لا يكون بركة على الناس جميعاً هو أيضاً في إسلامه خلط وخبط وعدم فهم سليم، فنحن أمة الخير ونسأل الله أن يجعلنا أمورنا كلها إلى خير.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، اللهم واغفر لوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (14/2/2014)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: