إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – من قائل في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:
تقول الآية الكريمة اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩ ولكن المسألة ليست اعتسافية، الله لا يُخرِج مَن شاء من عباده من الظلمات إلى النور هكذا اعتباطاً أو تعسفاً، كما أن الذين كفروا لا ينجحون في إخراج إخوانهم من النور إلى الظلمات ويُضِلّونهم اعتباطاً أو مُجرَّد إرادة ورغبة، إنها تقنيات وآليات يستخدمها هؤلاء لإضلال العباد وتزوير الحقائق وتعمية الطريق، ومن لطيفِ اعتلاقِ آي القرآن بعضها ببعض أن الله – تبارك وتعالى – وعلى الفور ضرب لنا مثلاً مُوحياً وقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ۩ فقال على هذا النحو يتم الإضلال وعلى هذا الغرار يتم الإضلال، قال الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ۩، وهذا شيئ عجيب، فالآية عجيبة إلى ما شئتم من العجب، تقول الآية هذا الذي حاج إبراهيم لا يتوفَّر أصلاً على مُقوِّمات المُحاجة، هو ليس هناك، فهو ليس من أهل الفكر ولا الذكر ولا العلم ولا التعمّق ولا التفلّسف وإنما مُجرَّد صاحب سُلطة – أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ۩ -ولذلك يُسمَع له ويُتاح له أن يقول فقط لأنه صاحب سُلطة، لو لم يكن صاحب سُلطة لما استمع إلى تهريفه وتخريفه أحد لأنه مُخرِّف.
أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۩، وقول الله إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ۩ يُعَد لغة موضوعية، فالقرآن يصطنع لغةً تتسم بأعلى درجات الحيدة وعدم الانحياز والبراءة من الانحياز، حيث قال إبراهيم يقول وهذا يقول، وعلى العاقل أن يزن القولين ليُفرِز المزاعم والدعاوى من الحقائق المُقرَّرة الراسخة.
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩، فهنا قولٌ وهنا قولٌ، وهنا قيلٌ وهنا قيلٌ من الأقوال.
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۩:هنا المُغالَطة Fallacy، هنا تكمن وتستكن وتستخفي المُغالَطة، فهذا النمرود يعتمد على المُغالَطة الشهيرة جداً، إنها مُغالَطة الالتباس Ambiguity، فالله هو الذي يُحيي ويُميت ولكنه قال وأنا أُحيي وأُميت، فهو يقول “هذا محكوم بالإعدام سأعفي عنه فأحييته وهذا محكوم بالإعدام سأُميته، وأمته إذن أنا أُحيي وأُميت”، تماماً كالذي يُناقِشك في خلَّاقية الله، فالله وحده هو الخلَّاق لكنه يقول لك “وأنا خلَّاق، أخلق أعمالاً فنية، وإسمه هذا أيضاً الخلق الفني”، وهذا هو الالتباس، والالتباس يكون بين كلمتين أو بالأحرى يكون الالتباس في كلمة واحدة من خلال اللعب على الفارق، أي على هامش الفارق بين المعنيين، المعنى الأولي والمعنى الثانوي، أي Denotation . & Connotation، المعنى الأولي المُعجَمي الإنشائي المُباشِر الإشاري Denotation،وهكذا يُسمى المعنى الأولي في علم اللغة Linguistics، والمعنى الثانوي الإضافي الإيعازي الإيحائي، وهنا يحدث التلغيم فيلعبون على هذا الالتباس، وطبعاً ليس النماريد وحدهم هم الذين يلعبون على هذا الالتباس، تقريباً كلنا نلعب على هذا الالتباس، أحياناً ونحن ندري فهذا تماكر ومُغالَطة وتعمية على الحقائق وتوعير لطرقها – للطرق المُوصِلة إليها – وأحياناً دون أن ندري أننا مردنا على أن يكون فكرنا غائماً ومُلتبِساً ومُشوَّشاً، إنها قضية الفكر، كيف تُفكِّر؟ ووفق أي منهج؟ ووفق أي ضوابط؟ وقضية التنئشة والتربية، فهل رُبّينا ونُشِّئنا وعُلِّمنا على أن نُفكِّر بوضوح وبدقة منطقية أم رُبّينا على المُغالَطات، أي أن نُغالِط أنفسنا وضمائرنا وعقولنا والبيِّنات والادلة والحُجج والحقائق – Facts – حتى الملموسة؟
أُحِب أن أقول ابتداءاً أن المسألة في جذرٍ من جذورها – وقد يكون هذا أخطر جذورها – إبستمولوجية، فهى مسألة معرفية لها علاقة بفلسفة المعرفة وبنظرية المعرفة، فهل نحن واعون؟ هل نحن يقيظون ومُدرِكون لهذه الألغام العقلية ولا أقول الأرضية أم أنها تنفجر فينا وفي غيرنا دون أن ندري؟ أبسط أنواع الإدراك وأقربها إلى الوثاقة على الأقل في نظر جمهور الناس الإدراكات الحسية Sensory Perceptions، مثل أنني أراكم الآن وأرى هذه الألوان وهذه الحجوم وأرى هذه الأشياء في هذا الحيز، فهذا إدراك حسي، ومثل أنني أسمع كما تسمعون وألمس وأتذوَّق وأشم، فهذه كلها إدراكات حسية، وهذه الإدراكات الحسية على درجة عالية من الوثاقة على الأقل في نظر الناس مع أن الأمر علمياً ليس كذلك بالمرة، فحتى الإدراكات الحسية ومُعطيات الحس – Sensa باللاتينية – ليست كما تعتقدون، إنها مُجرَّد هُتامات، إنها مُجرَّد بُقع فسيفسائية منثورة لا رابطة بينها، فنماذجك الإرشادية كما يُقال – النماذج الذهنية والخُطط ، السكيما Schema أو الشيما Scheme باللاتينية – الموجودة لديك تدخَّل المُجتمَع والدين والعادات والتقاليد ودراستك وأهواؤك وأغراضك ومصالحك في رسم معالمها – في رسم معالم هذه السكيما Schema – وفي رسم هذه الخُطة الإرشادية، فهى التي تُكمِل النقائص ويا لها من نقائص!
في الحقيقة العين تقع فقط على – كما قلت لكم – بُقع فسيفسائية منثورة – علمياً وفسيولوجياً، وتأتي هذه السكيما Schema تُكمِّل النقاص بعد ذلك، وأحسن مَن شرح هذا علماء النفس الألمان في علم نفس الجشطالت Gestalt، علماً بأن العرب يسمونه الجشطلت لكن هو إسمه الجشطالت Gestalt، وبغير الجشطالت Gestalt لا يُمكِن أن تُدرِك – بغير هذه السكيما Schema – شيئاً، سترى بُقع ألوان مُفرَّقة وستسمع موجات أيضاً تصك صماخ الأذنين والطبلة ولن تُدرِك شيئاً، فلابد أن يأتي هذا النموذج الذهني!
إذن الذهن كما يقول فلاسفة العلم المُحدَثون يضطلع بمُهِمة بنائية للوجود، فنحن نُعيد إنتاج الوجود، نعم لا نخلقه من عدم ولكن نخلق إدراكنا لهذا الوجود أو نُساهِم في خلق إدراكنا لهذا الوجود، وهذا هو البناء الذهني – Construction Mental – أو التشييد الذهني، فالذهن يقوم بهذا الشيئ، ولذلك من ناحية إبستمولوجية مُهِم جداً أن نقف طويلاً، وأنا أعرف أن هذا الكلام ثقيل الدم على بعض الناس من الذين لا عناية لهم بهذه القضايا، فهذا الكلام لا يهمهم لا من الأول ولا من الآخر، أما الذين يُعنَون بها فهم يهتمون بهذا الكلام، وخاصة من الذين يبحثون في مسائل لم نختلف كبشر سواء كنا مُتدينين أو غير مُتدينين؟ علماً بأن في إطار المُتدينين هناك المسيحية واليهودية والإسلام والبوذية والجينية والهندوسية وإلى آخره، فهناك أديان كثيرة، وفي إطار الإسلام هناك الشيعة والسُنة والإباضية والزيدية والوهابية والصوفية وإلى آخره، فهناك اختلافات كثيرة، ونتعصَّب ويقتل بعضنا بعضاً ويكره بعضنا بعضاً ويستبيح بعضنا بعضاً، فلم؟
المسألة في نظر أكثر الناس سذاجة وغفلة هى مسألة الأدلة والبراهين، لكن أدلة ماذا؟ وبراهين ماذا؟ المسألة أعقد من هذا بكثير، عليك أن تحفر إلى خمسين طابق تحت ما يُسمى بالأدلة والبراهين حتى تفهم كيف المسائل، فليست المسألة مسألة أدلة وبراهين وإلا فالكل يعتصم بحُجة الحُجة وببُرهان البُرهان ويقول البُرهان يُساعدني، وهو يختلف معك ديناً وأيدولوجيا وعقيدة ومنزعاً، يختلف معك على طول الخط ويزعم أن البُرهان يُساعِده وأنت تزعم أن الحُجة تُسعِدك، فليست هذه هى المسألة، نعم في جزء منها هى كذلك ولكن هذا الجزء مُعقَّد جداً وبعيد جداً وغائم جداً، حتى نصل إليه سنُثبِت أننا فلاسفة حقيقيون وأننا علماء حق، فالمسألة بعيدة كثيراً وصعبة كثيراً، لكن لماذا؟ لأن على مُستوى الإدراك الحسي – كما قلت لكم – المسألة تجري وفق هذا التعقيد والتركيب، حيث تقوم هذه السكيما Schema أو الخارطة الذهنية بتكميل أو بخلق صورة في الحقيقة من هذه المُعطيات المنثورة الفسيفسائية ومن هذه الهيولة للمُعطيات – Data – أو الهيولي باللاتينية، ولذلك حين تفهم هذا ستفهم بالضبط لم رأيت الشيئ على غير ما هو عليه، وهذا يحدث معنا آلاف المرات، أنا يحدث معي حتى أنه يُؤرّقني، فأنا أتوقَّع الآن أن تدخل بُنيتي الفلانية لألف سبب وسبب لأن البُنية الأخرى التي تُشبِهها قليلاً غائبة في المدرسة إلى الآن وأعرف أنها ستأتي بعد ساعتين، فتدخل البُنية الفلانية وأراها تماماً على أنها فلانة وبعد قليل يتبيَّن لي أنهم يُنادونها فلانة فإذا هى فلانة المُتغيِّبَة، فانظر إليها فإذا هى المُتغيِّبة، لكن متى حضرت؟ هى لا تزال حاضرة، كيف حصل؟ ما الذي يحصل؟ الذهن يتوقَّع أنها فلانة ولذلك يرسم لك ويأخذ هذه المُعطيات البسيطة الموجودة ويُكمِلها في صورة فلانة، وتراها بشعرها المُسترسِل وليس بشعر أختها الجعد، وتراها في طولها لا في طول أختها وهى أطول منها، وفي لونها لا في لون أختها، وهلم جرا ، وهذا يُفسِّر لك أشياء كثيرة، ومن هنا قد تقول لي “هذا أمرٌ عجيب، أنا كنت أستمع إلى هذا العالم أو المُفكِّر وكنت أقرأ لهذا الفيلسوف ودائماً كنت أراه مُلحِداً وزنديقاً وأرى كلامه بشعاً مكروهاً، فكيف استحال الآن إلى عسل وإلى أوراد وأزاهار وإلى طاقات من الزهر وإلى شذى وعبير؟ لا أدري” وهذا صحيح، وذلك لأنك كنت تُهيء نفسك وفق مُسبَقاتك ووفق خُططك الإرشادية العقدية الأيدولوجية أنه زنديق فلابد أن يستحيل كل شيئ إلى زندقة وكل شيئ إلى عكسه تماماً، وهذا ما يُسمى بانحياز التأييد وانحياز التكذيب Confirmation Bias & Disconfirmation Bias، فإذا كان فلان يقول شيئاً، وفلان هذا من أعدائنا، ليس منا، ليس من طائفتنا أو ليس من دائرتنا، فإذن لابد أن يكون كل ما يقوله فلان باطلاً، وسأنحاز مبدئياً دون أن أشعر بأنني أُمارِس الانحياز والتحيز إلى التكذيب والجحد – Disconfirmation – في كل شيئ، حتى الشيئ الذي يُوافِقني فيه فلان وهو كثير أنا سأنحاز إلى تكذيبه وأدّعي أنه يقوله كذباً ودساً، ومن هنا يقول لك الشيعي لا تغتر بحُب فلان لأهل البيت فإنه زنديق سُني مُبين يُريد أن يُمرِّر أفكاره عن الصحابة الزنادقة أبي بكر وعمر إلينا نحن الشيعة فاحذروا منه، ويدق ناقوس الخطر، ويقول لك السُني المُحترِق احذروا فلاناً ولا تغتروا بحُبه للصحابة الكبار وأمهات المُؤمِنين فإنه زنديق شيعي ملعون يُريد أن يُبرِّر عبر هذه الأشياء أفكاره الشيعية الرافضية فاحذروا، وهذا إسمه انحياز التكذيب، والعكس صحيح تماماً، فحين يكون فلان الذي يبدو فيما تُعطي المُعطيات إلى الآن أنه يتزندَّق ويخرج عن حدود الدين الصحيح ولكنه لا يزال مُصِرّاً على أن يكون واحداً منا ومعنا ويُعرِب عن لساننا ويُفرِغ عن منطقنا ويُرجِّح مصالحنا ويُسالِم بسلمنا ويُحارِب لحربنا هنا يأتي انحياز التأييد، فكل فرضية تُطرَح حول زندقته زحول مروقه وحول خطئه لن نلحظ أي شيئ يُؤيّدها بل سنلحظ كل ما يُعارِضها وسنلحظ كل ما يُؤيّد كونه الإنسان الملائكي في مسلاخ بشر، سنلحظ هذه الأشياء دون أن ندري، ونحن ندّعي في المرتين وفي الحالتين أننا نصدر عن عقولنا وعن أفكارنا عن استقلالنا العقلي والمذهبي والأيدولوجي، وهذا كلام فارغ، هذه لُعبة شخيفة إسمها لُعبة الاعتقاد ولُعبة الشك في العلم، والعلماء يعرفون هذا تماماً – العلماء الذين هم فعلاً علماء – ولذلك نحن نحترمهم ونتعلَّم منهم في الغرب أو الشرق، شرقيين كانوا أو غربيين فهذا لا يعنينا، نحن نتعلَّم منهم وينبغي أن نتواضع وأن نتعلَّم لأن هؤلاء علَّمونا كيف ينبغي أن تُحترَم الحقائق لذاتها لا لأي شيئٍ آخر، لا لسُلطة ولا لجمهور ولا للناس ولا لمصالح ولمنافع، وهؤلاء قلة.
اسألوا أنفسكم مَن هو أو ما هو – لأنه قد يكون غير عاقل، فقد يكون معنىً مُجرَّداً – أكبر مظلوم على مدى التاريخ أو في طول التاريخ الإنساني؟ أنا لن أتردَّد أن أقول الحقيقة، فأكبر مظلوم وأكبر منحور ومذبوح، وهو دائماً يُنحَر ويُذبَح ويُضحّى به من أجل ألف ألف سبب وسبب وعلة من خسيس ومن نفيس الحقيقة، والعجيب أن الحقيقة يُذبَح الناس لأجلها وبإسمها، فيذبح بعضهم بعضاً بإسم الحقيقة، وهى أول المذبوحين وأول المسلوخين وأول المُباعين.
إذن أكبر مظلوم هى الحقيقة عبر التاريخ الإنساني، لذلك حُقَّ لمَن محض الحقيقة البحث عنها جاداً وصارماً أن يكون إنساناً نبيلاً وعظيماً، فهؤلاء هم عظماء البشر ولا عظماء غيرهم، فعظماء البشر الحق هم الذين يطلبون الحق ويخضعون له ويُبشِّرون به مهما كلَّفهم هذا، وأنا أقول لكم للأسف غير مُحبِطٍ ولا مُبتئس – لا أُريد أن أُحبِطكم ولست مُبتئساً في نفسي – أنهم أقل مما تتصوَّرون وأندر من الكبريت الأحمر ومن الغراب الأبقع، فهناك ندرة بشكل غير عادي، وهؤلاء هم أهل الله وخاصته، هؤلاء فيهم روح ربانية لأنهم مُقدِّسون للحق والحقيقة، فيُريدونها لذاتها لا لأي معنىً آخر، ولأجلها يُضحّون كل شيئ حتى حياتهم، لكن هل يتراجعون؟ لا يتراجعون، يأبون أن يتراجعوا حتى ولو حُرِقوا، وقد حُرِقوا في الشرق والغرب، وحتى ولو خُوزِقوا أو أُعدِموا على الخوازيق، وقد خُوزِقوا، فهم لا يتراجعون لأن الحقيقة هى الحقيقة، فأعز ما يُنال وأنفس ما يُمكِن أن يُناضَل عنه الحقيقة، ولكن فيما عدا ذلك دعاوى ومزاعم ومُتاجَرات!
يُقال في علم النفس في البشر نزوعٌ فطري إلى هذا الانحياز – انحياز التأييد وانحياز التكذيب – بحسب موقع الطرف الآخر، هل هو معنا أو من خصومنا؟ هل هو منا أو من خصومنا؟ فننزع مُباشَرةً إما إلى التأييد أو الرفض بطريقة شبه فطرية، فالبشر يفعلون هذا دون تفكير.
وهناك تجربة مشهورة ولطيفة جداً جداً جداً قام بها العلماء، حيث أحضروا مجموعة بطاقات على ظهور بعضها الحروف المُتحرِّكة Vowels، وكل حرف مُتحرِّك يُقابِله مُباشَرةً على ظهر البطاقة – على الوجه الثاني – رقم زوجي مثل(2، 4، 6) وإلى آخره، وبالعكس الحروف الثابتة تُقابِلها أرقام فردية مثل (1، 3، 7) وإلى آخره، ثم أتوا بمجموعة كبيرة – علماً بأن دائماً تتكرَّر هذه التجربة ودائماً النتيجة واحدة لأن هناك انحياز فطري في البشر – وقالوا لهم نُريد أن نختبر هذه الفرضية، وهى أن في هذه البطاقات دائماً الرقم الزوجي لابد أن يُواجِه حرفاً مُتحرِّكاً أو حرف علة، فهل هذا واضح؟ فقالوا واضح، ثم قالوا لهم نُريد أن نختبر هذه الفرضية بتقليب بطاقتين مثلاً، فمُباشَرةً كانوا يعمدون إلى الحرف المُتحرِّك Vowels ويقولون أن النتيجة صحيحة، فيعمدون مثلاً إلى (2، 4، 6) ومن ثم يجدوا حرف(O) وهو حرف مُتحرِّك، وبالتالي يقولون مُمتاز، هذه الفرضية صحيحة، وهذا شيئ غريب، لكن قلة نادرة جداً جداً منهم هم الذين ذهبوا إلى (7) ليروا أنه يُواجِه حرفاً مُتحرِّكاً، فإذن سقطت الفرضية مُباشَرةً وبضربة واحدة، فأنا لا أحتاج أكثر من حركة واحدة مثل هذه الحركة لكي تُسقَط هذه الفرضية من أساسها، ففي بطاقة واحدة إن ثبت لي أن حرفاً ساكناً أو ثابتاً يُواجِهه رقم زوجي ستكون الفرضية باطلة وينتهي كل شيئ، لكن البشر لا يفعلون، لكن إلى ماذا يذهبون؟ يذهبون إلى ما من شأنه أن يُؤيّد الفرضية، وهذا هو انحياز فطري أو انحياز التأكيد أو انحياز التأييد – Confirmation Bias – في البشر، وهذا الذي يجعلنا يُضحَك علينا!
أنا لا أُفكِّر عموماً في عناوين خُطبي، فدائماً بعد كل صلاة هذا يشغلني قليلاً لدقائق ونقول ماذا نُسمي الخُطبة؟ لكن اليوم سيكون الوضع مُختلِفاً وسنُسميها لئلا نُخدَع أو لكي لا نُخدَع، وسنتكلَّم في قليل من المنطق الذي نحتاجه في كثير مما نفتقد، فنحن سنتحدَّث حديثاً قليلاً عن كثير مما نحتاج، فنحن نحتاج هذا دائماً في كل حياتنا، الفردية والاجتماعية والسياسية والدينية والعلمية والتأملية، ولكننا نفتقد إلى الكثير منه، ولذا سنُحاوِل أن نُعطي القليل منه وأن نتداول الحديث عن القليل منه لئلا نُخدَع، فنحن لا نُريد أن نُخدَع!
يقول علماء النفس الاجتماعي وغيرهم “وبهذه الحيل ونظائرها وأمثالها تستبقي العادات والتقاليد – علماً بأننا لا نُحِب ولا نُريد أن نُطلِق أحكام قيمة فنقول البالية المُهترِأة – الجماعاتية أو الأممية نفسها وتُخلِّد ذاتها”، وهكذا يُمكِن أن تتناسل بأمثال هذه الأشياء، فلماذا؟ لأن البشر يميلون عادةً إلى البحث عن مُؤيِّداتها وليس إلى البحث عن ما ينقضها، ولذا جزء من عبقرية فرانسيس بيكون Francis Bacon – مُؤسِّس فلسفة العلم الطبيعي في العصر الحديث في القرن السادس عشر – أنه قال في كتابه الآلة الجديدة Novum Organum “عليك أن تقرأ وأن تستمع لا لتعتقد وتُؤمِن – إذا أردت أن تعتقد وتُؤمِن فهناك مليون سبب، علماً بأن الحديث ليس عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى وإنما عن الإيمان في الأشياء العادية، حتى في الفلسفة وفي العلم وفي العادات وفي التقاليد وفي أي شيئ دون أن يكون هناك مُشكِلة، فهو ليس عن الإيمان بالله، فليس الحديث حديثاً دينياً، لكن مُضمَر كلام فرانسيس بيكون Francis Bacon ومُضمَّنه أن أسباب الإيمان لا نهاية لها وأنت تستطيع أن تختلقها اختلاقاً من لا شيئ، فيُمكِن أن تُؤمِن بسهولة بما تُريد، وهذه ليست مُشكِلة، ولكن فرانسيس بيكون Francis Bacon يقول إذا أردت أن تكون فيلسوفاً مثلي وتُفكِّر بطريقتي عليك أن تستخرج حقائق جديدة وأن تختبر الحقائق وأن تُميِّز الصحيح من الباطل والغث من الثمين والخاثر من الزباد – وإنما عليك أن تقرأ وأن تستمع وأن تستوعب لتأتي بالمثال السالب وبالمثال النافي Counterexample، فالمثال النافي فوق المثال المُوجِب بكثير، والمثال الداحض فوق المثال المُؤيِّد، فهذا المُهِم”، وهذا هو الذي يُشكِّل جزءً من جوهر الفكر وطريق الحقيقة، لا أن تبحث عن المُؤيِّدات، وهذا شيئ عجيب، علماً بأن هذا كان في القرن السادس عشر، وبالتالي فرانسيس بيكون Francis Bacon يكاد يكون أول فيلسوف علم تجريبي في هذ العصر الحديث مع نشأة العلم الحديث.
وفي النصف الأول من القرن العشرين كان أكبر فيلسوف علم على الإطلاق هو كارل بوبر Karl Popper، وكل فلسفة كارل بوبر Karl Popper تتلخَّص في هذا المسعى المُسماة بمذهب الإدحاض أو مذهب التكذيب – Falsificationism – الذي يختصره بجُملة واحدة وهى أنك تستطيع أن تأتي بعشرة آلاف عينة أو بمائة ألف عينة أو بمليون عينة من البجع الأبيض كما يقول بوبر Popper لكي تُقرّ حقيقة نهائية وهى أن البجع لا يكون إلا أبيض اللون ولكن هذا عندي غير كافٍ وغير صحيح، لأن بجعة واحدة غير بيضاء كفيلة أن تهد لك هذا الصرح كله، لأنها شكَّلت استثناءً مُدمِّراً.
وبالفعل وقعوا على بجعة ثم وقعوا بعد ذلك أكثر من بجعة كانت بلون وردي ولم تكن بيضاء، وهذا حدث لأول مرة لذلك كان بوبر Popper يعتقد في إمكانية وجود هذا، فأنت تتحدَّث عن تعميم يستمد من ماذا؟ من خبرتك المحدودة ربما جغرافياً وربما تجاربياً وربما لا أدري عاطفياً أو دينياً أو روحياً، فأنت تعود إلى الخبرة ولذلك هذا التعميم مُستمَد منها، فهو يستمد أصوله من خبرة مُعيَّنة، وهذا ليس تعميماً ربانياً، فلم يقم به الله – تبارك وتعالى – وإنما أنت الذي تقوم به،ولذلك جوهر النظرية العلمية يكمن في الدحض، أي في القابلية للدحض، بمعنى أن تصوغها بطريقة تقبل معها الدحض، ولذلك إذا دُحِضَت لا تكون نظرية طبعاً، فإذا دُحِضَت تكف عن تكون نظرية، فما لم تُدحَض ستظل مقبولة، ولكن علينا أن ننتبه إلى أنها لابد أن تكون مُؤسَّسة ومبنية ومُنشأة أساساً بحيث تكون قابلة لاختبار الدحض، إذا نجت من الاختبار الأول فسوف يكون مُمتازاً، فهى إلى الآن مقبولة، ومن اختبارين و من ألف اختبار أيضاً مقبولة، فطالما تنجو هى مقبولة، لكن إذا رسبت تُعدَّ مرفوضة فتُخرَج مُباشَرةً من دائرة العلم، وهذه فلسفة قوية وإن كان هناك مَن ينتقد ذلك، لكن على كل حال طالما تنجو هى مقبولة، ولكن لابد أن تكون مبنية بطريقة تقبل الدحض، فلا تأتني بنظرية غير قابلة لأن تُدحَض من الأصل، مثل نظرية عن الجان، فلا تتحدَّث لي عن نظرية عن الجن أو تتعلَّق بالجن، لأنني لا أستطيع أن أدحضها يا حبيبي، الجن لا يدخل تحت مُقوِّمات التجريد، فلا تقل لي هذه النظرية تقول كذا كذا كذا لأنني سوف أقول لك أن هذه النظرية غير علمية، سمها نظرية روحية أو صوفية أو ثيوصوفية أو أي شيئ تُريد ولكن لا تُسمها بمنطق العلم – Science – الحديث نظرية علمية، فهذه ليست نظرية علمية وخاصة وفق كارل بوبر Karl Popper لأنها غير قابلة للدحض بطبيعتها وبالتالي لا تكون نظرية علمية، وهكذا الحال مع أي نظرية تتعلَّق بالملائكة أو غير ذلك، علماً بأنني ضربت لكم مثلاً مرة عن هذا، ومن ثم لابد أن ننتبه إلى هذا.
للأسف أحد علماء الفيزياء النظرية الباكستان وهو عالم كبير وضع نظرية ونشرها بين يدي مُؤتمَر عالمي للإعجاز العلمي في القرآن والسنة وكانت مهزلة – أنا أقول من هذا المنبر أنها كانت مهزلة – في الفكر والعلم، وكانت تُمارَس بإسم الدين وبإسم القرآن والسُنة، ولم يقم أي أحد من هؤلاء العلماء الحضور لكي يقول كلامك هذا يُعتبَر كلاماً فارغاً، عيب أن تُلصِق هذا بالقرآن والسُنة بإسم الإعجاز وتحت يافطة الإعجاز في القرآن والسُنة، فلماذا تتحدَّث لي عن الملائكة وتدّعي أنك استكشَّفت قوانين رياضية مُعيَّنة؟
هو قال “هناك مُعادَلة نستطيع بها أن نُثبِت فعلاً تضاعف الأجور بحسب التقدم في الصفوف خلف الإمام، وأن هذه المسألة لها علاقة بالملائكة”، فما هذا يا حبيبي؟ كيف سأدحض أنا هذه النظرية؟ هذه غير قابلة إلى الدحض بطبيعتها وبالتالي النظرية غير علمية!
للأسف أنا دائماً تأخذني المُقدِّمات، فحتى الآن نحن نُقدِّم ومن ثم نعود إلى موضوعنا الرئيس، فنحن نُريد أن نتحدَّث عن قليل مما نحتاجه كثيراً، نُريد أن نتحدَّث عن ما يُحصِّننا من أن نقع ضحايا للتضليل الفكري والأيدولوجي ولدوجماطقية هؤلاء المُهرِّجين بإسم السياسة وبإسم الفكر وبإسم الدين وبإسم الوطن وبإسم أي شيئ، نحن لا نُريد هذا!
رحمة الله على الأديب مُصطفى صادق الرافعي الذي قال “اربأ واعتز بعقلك أن تنزل به إلى أن يكون سيقةً بين عقول الآخرين”، أي لا تجعل عقلك هذا مسوقاً للآخرين، فالله خلقك وخلق لك هذا الدماغ وهذا العقل لكي تكون مُتفرِّداً، فأنت نسيج وحدك وبالتالي لا تصدر إلا عن قناعتك بعد أن تقتنع وتفهم، وليس من الضروري أن يكون لك قول في كل مسألة لأن هذا مُستحيل، فالعلوم أكثر من أن تُحفَظ اليوم أسماؤها حتى، وإلا مَن يحفظ أسماء العلوم؟ هذا مُستحيل، فحتى حفظ الأسماء مُستحيل، ولكن إذا أردت أن يكون لك رأي في مسألة ما فليكن هذا الرأي صادراً عن درس ومُوازَنة وفهم وقناعة ذاتية بحسب ما يسَّر الله لك وبالتالي لا تُردِّد، علماً بأن الفكر لا يُمكِن أن يكون موضوعاً أو محمولاً لموضوعة الحرية فنقول حُرية الفكر أو فكرٌ حرٌ – فتكون الحرية Attribute أو صفة، صفة لاحقة بالفكر – لأن هذا من المُستحيل، وهذا الكلام غير منطقي وغير مفهوم، لا يُمكِن أن يُقال أن هناك ما يُسمى بالفكر الحر والفكر غير الحر، فالفكر بطبيعته لا يكون إلا حراً، إذا تحدَّثنا عن الفكر سوف نجد أن الفكر هو الحرية، فهذا الدماغ وهذا العقل وهذا الفهم من المفروض أنه بطبيعته يسعى حراً غير مُكبَّل وغير مُكرَه، فأنت تستطيع أن تُكبِّل وأن تُكرِه اللسان والبدن والجوارح لكن في الفكر لا، لا تستطيع أن تكبح جماح فكري أن يحقرك كطاغوت أو كملك ظالم أو كرئيس مُتسلِّط، بل ألعنك حين أسجد بين يديك، فنحن نسجد لصورتك ولكن قلوبنا تلعنك وتلعن أصلك وفرعك، وأنت لا تستطيع أن تفعل ما يُضاد هذا لأن الله – لا إله إلا هو – خلقنا هكذا أحراراً، فالله هو الذي أعطانا هذه الحرية التي كعَّت عنها السماوات والأرض، وبالتالي الفكر بطبعه لا يكون إلا حراً، وإلا هل يُمكِن أن تستنيب أحداً في أن يُحِب عنك مثلاً؟ أنت شاب وتُريد أن تتزوَّج لأنك هويت فتاةً على ما يرضى الله تبارك وتعالى، فهل يُمكِن أن تقول لأحدهم والله يا أخي أنت إنسان ثقة ومُتدين وأنت أستاذي وبالتالي أنا أطلب منك أن تُحِب لي فلانة بالنيابة عني؟ هذا كلام فارغ، ومن ثم سوف يقول لك أنت إنسان أهبل، ما معنى أن أحبها عنك؟
فإذن لماذا نُمارِس الهبل الآخر ونقول: فكِّر عني أو فكِّر لي أو فكِّروا عني وأعطوني وأنا سوف أردِّد؟ هل أنت ببغاء أنت؟ هل أنت البعيد قرد؟ هذا لا يُمكِن، لا تقل لأحد فكِّر لي ولا تقل لأحد فكِّر عني، ولكن قد يقول لي أحدكم “ولكن هذا يحصل، فالذين عندهم الأموال الكثيرة يُوظِّفون النواميس – أي السكرتير- ويقول لأحدهم خطِّط عني وفكِّر لي” وأنا أقول له نعم هذا يحصل بشكل مدفوع الأجر ولكن هو يتخلى باستمرار – حتى وإن كان هذا مُفيداً وهو عملي أحياناً – بمقدار ما يُمارِسه عن جزء من استقلاليته، فيُصبِح عبد خيارات غيره، وإلا لماذا تحرَّروا هم؟ بالمعرفة، فهم عندهم مزيد معرفة في هذا الحقل، مثل معرفة ما في علم الإدارة أو في التجارة أو في الصفقات أو في أي شيئ ولكن هو ليس عنده وبالتالي أعطاهم مزية عليه مع أنهم يعملون عنده مدفوعي الأجر، ولكن لا مُشكِلة في هذا، لأن مزيد معرفة يُساوي مزيد حرية، فإذن الفكر بطبعه هو الحرية، فلا تُحدِّثني عن الفكر الحر والفكر غير الحر حتى وإن زعمت أنه موجود، فهذا غير صحيح، فالفكر غير الحر ليس فكراً، هو ترديد وهو قردية وببغاوية، فهذ كلام مُردَّد ومبلوع فقط فلا تقل لي أن هذا يُعَد فكراً، فالفكر بطبعه خلَّاق ومُستقِل وحر، ولكن الذي يحصل – كما قلت لكم – للأسف الشديد أن الحذقة والمهرة من سدنة وأساتيذ تضليل الوعي وتزييف الفكر لدى البشر يلعبون على وفي هوة وهوامش أو في هوامش عريضة ووسيعة كثيرة لا نتفطَّن إليها.
الفيلسوف المثالي الكبير أفلاطون Plato في مُحاوَرة جورجياس Georgias يقول في مُحاوَرة حول الغذاء – الطعام والشراب والأكل والحلْويات – بالحري يكون طرفا النزال فيها طبيب مُختَص – بمعنى الاختصاص في عهد أفلاطون Plato – وحلواني ويكون الجمهور من الأطفال أن الحلواني هو الذي سوف يفوز بنسبة مائة في المائة، والطبيب سوف يذهب إلى الجحيم، لأن هذا حلواني والأطفال يعشقون الحلْويات Süßigkeiten – نحن نُسميها الحلَويات ولكن إسمها الصحيح هو الحلْويات من الحلْوى – فطبعاً لن يفوز الطبيب الذي سيعظ بهم طبياً ويناشِدهم ألا يُكثِروا منها بل أن يُقِلوا لأنها تنخر أسنانهم وتُفسِد حياتهم وتُسبِّب لهم السمنة وإلى آخره، وخاصة إذا كان الطبيب سميناً فسوف يقولون ما له؟ ما به كالدب ويُريد أن يعظنا بخلاف ما يقول؟ أنت أيضاً تفعلها وتأكل الحلْوى – وهذه إحدى فروع الحُجة الشخصية كما يُسمونها – وبالتالي لن نقتنع، فهذا الحلواني إنسان طيب وآدمي وملائكي.
ومن هنا سيفوز الحلواني بنسبة مائة في المائة، ثم يقول أفلاطون Plato مُستتلياً “وفي حوار أمام جمهور من الراشدين الكبار طرفاه السياسي مُحنَّك مُدرَّب بأسلحة الخطابة والإقناع وبالتالي هو مُتكلِّم جيد ولسانه كالمبرد وكالسيف والطرف الآخر أصحاب اختصاص من المُهندِسون أو العسكريين – لأن موضوع النقاش يتعلَّق باختصاصهم في قضايا حربية أو قضايا إنشائية – سوف يفوز السياسي وتذهب الهندسة إلى الجحيم هى والعسكرية، فالجمهور له حلْوياته”
الآن عالم شيعي في جمهور من الشيعة يعرف الحلْويات ما هى، فما هى حلْويات الجمهور الشيعي؟!
التباكي على أهل البيت – وهذا حق، فنحن نبكي عليهم، قلوبنا تبكي والسماء والأرض تبكي ولعنة الله على مَن ظلمهم – ومن ثم يستتلي بعد ذلك من هذه الحلْويات نتائج لعن كبار الصحابة ولعن آباء الإسلام ولعن عمد الإسلام مع أمهات المُؤمِنين إلا ما استُثنيَ وكذا كذا كذا، فما هذا؟ والكل يُؤيّد ويلعن.
وبالمُقابِل السُني يستطيع أن يُنزِل أقصى اللعنات بالشيعة أصلاً وفصلاً وعبر العصور وأن يُدخِلهم من الآن والتو في جهنم من أوسع أبوابها فيقول “هم في النار لأنهم يسبون الصحابة ويلعنون كذا وكذا، وهم زنادقة لأن الصحابة نقلة الوحي والشيعة لا تُؤمِن لا بكتاب ولا بسُنة، لأن مَن طعن في الصحابة كمَن يطعن في الأصل، قال أبو زُرعة كذا وكذا” وهذا كلام فارغ، فالشيعي لا يُنكِر الكتاب ولا يُنكِر السُنة، والقرآن عنده هو قرآننا والسُنة عنده له مصادره فيها، وأنت عندك مصادرك، فلماذا تُلزِمه بالبخاري وهو لا يُؤمِن بالبخاري؟ ولماذا هو يُلزِمك بالكُلَيني وأنت لا تُؤمِن بالكُلَيني؟ فما المُشكِلة؟ ولذلك من الحق في الحوار العلمي أن تُحاكِم كل طرف إلى ما يلتزمه، فإذا أنا لم ألتزم ما تقول لا تُحاكِمني إليه علمياً، وهذا موجود حتى في الإسلام، فنحن نقول أيضاً “لازم المذهب ليس بمذهب”، فقد تقول لي طعن في الصحابة وطعن في الواسطة، لكن هذا من اللوازم السخيفة جداً وليست القوية، فلا تُلزِمني بما لم التزمه لأن لازم المذهب ليس بمذهب، ولكن للأسف هذه حلْويات تنفق سوقها بين السُنة كحلْويات الشيعة التي تنفق بين جمهور الشيعة، وتذهب الحقيقة إلى الجحيم، فلا سُنة ولا شيعة لأننا نلعب، فنحن لا نُريد أن نحترم الحقيقة، ولذلك على ذكر “لا تُلزِمني بما لم ألتزم” عليك أن تحذروا من الأسئلة الملغومة، علماً بأنني تحدَّثت مرة عن السؤال الخطأ، والسؤال الخطأ دائماً جوابه خطأ، فلا يُمكِن يأتي جوابه صحيحاً لأنه لا جواب له، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، لكنك قد تقول لي “ولكن أجاب عنه فلاسفة” وهذا غير صحيح، فلم يُجيبوا عنه وإنما أجابوا عن سؤال آخر ونفوا السؤال، فالسؤال الخطأ لا يُجاب، متى أجبت عن السؤال الخطأ وقعت في خطأ مهما كنت ذكياً، وهذه إسمها في المنطق العملي – Practical Logic أو Informal Logic – الأسئلة المشحونة والمُحمَّلة Loaded، فأنت تعرفون طبعاً كلمة Download، أليس كذلك؟ هكذا أيضاً يُوجَد Loaded Questions، أي الأسئلة المُحمَّلة أو الأسلئة المُلقَّمة أو الأسئلة المُلغَّمة.
سأل أحدهم فيلسوفاً على سبيل السفطسة والعياءة بقولة المصريين قائلاً هل كففت عن ضرب أبيك؟ فقال له لم أكف ولم أكن أضرب، فالسؤال مشحون، وإلا مَن قال لك أنني ضربت أبي يوماً؟ لو قال له “لا” فقط سوف يكون أقر بأنه يضربه، فهذا سؤال مشحون، لذا عندما قال له متى كففت عن ضرب أبيك؟ قال مُجيباً لم أكف ولم أكن أضرب، لأن السؤال لا موضع له!
يقول الطواغيت في بلاد العرب اليوم – أراح الله من بقيتهم إن شاء الله تعالى – متى سيكف هؤلاء – كتب لي أحدهم هكذا، أي أحد أذناب الطواغيت، وقال لي لماذا تدعو على نظامنا؟ ومعنى الكلام دعك من إثارة النعرات والبلبلة – المُشاغِبون عن إثارة الفتن وتأريث نيران؟ ونحن نقول لهم لا فتن ولا تأريث، كل ما نقوله وما ندعو إليه لا يصب في الفتنة، وما من فتنة أعظم مِما فيه الأمة تحت حكمهم، فهذه هى الفتنة، لأن السكوت عليكم أعظم فتنة أما الكلام والتعبئة ضدكم هى بداية إنهاء الفتنة، فما لم نتكلَّم سوف تكون الفتنة مُمتَّدة – Extended – إلى ما شاء الله وسوف تكون مُستمِرة يا ملاعين!
إذن كل هذه الأسئلة والكلمات والجُمل والتعابير مُلغَّمة ومُحمَّلة، أيLoaded Words & Phrases، لذلك انتبهوا منها جيداً وذلكم أن اللغة بطبيعتها – ليس فقط اللغة العربية وإنما كل اللغات – تعمل على مُستويين من مُستويات الدلالة وهما الـ Denotation والـ Connotation.
ومعنى مُستوى الدلالة المُعجَمي أن أي كلمة – نفترض مثلاً كلمة منبر – لها دلالة مُعجَمية إشارية إحالية وواقعية تقريباً، فالمنبر هو هذا الكيان المادي المحسوس الذي يُعتلى في مساجد المسلمين ويُخطَب عليه ويُوعَظ عليه، فهذا إسمه المنبر وهذه دلالة أولية مُباشِرة ودلالة إيحائية وإسنادية وإشارية، فهكذا يُسمونه في علم اللغة، ولكن قد يُقال لك “اعتلى منبر الكذب”، وفي الحقيقة هو كتب في جريدة لأن ليس له أي منبر حقيقي لكي يعتليه، هو فقط كتب مقالة – Article – في جريدة، لكنهم يقولون “وارتقى أعلى درجات منبر الكذب”، فهل الآن المنبر استُخدِم هنا بهذه الدلالة الإشارية المُعجَمية؟ كلكم تفهمون أنه لم يُستخدَم بهذه الدلالة، هذا مُستحيل، ولكنه استُخدِم بدلالة ثانية إيحائية إضافية إيعازية تعبوية مُحمِّلة، فهذه دلالة أخرى، وعلماء اللغة وفلاسفة اللغة بل وعلماء المنطق في القرن العشرين والحادي والعشرين وخاصة في آخر العشرين يُحذِّرون جداً من الوظائف الإيعازية والإيحائية للغة، ويقولون لك “إذا أحببت أن تفهم لكي لا تُخدّع ولكي لا يُضحَك عليك تنبَّه جيداً لهذه الوظائف”، وهذه يُسمونها بالوظائف الانفعالية أيضاً، علماً بأن عندنا نظرية كاملة إسمها نظرية الأفعال، أي أفعال اللغة، فهناك أفعال تُمارِسها اللغة، فاللغة قد تقتل وقد تنحر وقد تذبح وقد تُفرِّق وقد تُدمدِم وقد تُضلِّل، فاللغة وليس الفكرة هى التي تفعل هذا، اللغة والتعبير والكلمة لأنها مشحونه وغير بريئة، ففرق كبير بين أن أقول – كما قلت في أول الخُطبة وأنا تعمَّدت أن أقول هذا – قال إبراهيم وادّعى نمرود، فهذه اللغة ليست علمية، هذه لغة إيحائية، فأنت مُنذ البداية لست مُحايداً، أنت مُنحاز لأنك تُريد أن تُفهِمني أن حُجة إبراهيم موضوعية وقوية تماماً ولا غبار عليها وأن كلام نمرود مُجرَّد مزاعم ودعاوى تُوحي إلىّ ببطلانها، ولذلك تقول لي قال إبراهيم وادّعى نمرود، لكن الله لم يقل هذا، وإنما قال: قال إبراهيم وقال النمرود رغم أنه كان كافراً، تقول الآية الكريمة إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ۩ أرأيت اللغة التي في القرآن؟ علماً بأن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة تدرس نظرية الحوار في القرآن الكريم، وينبغي أن تكون دارسة مُعمَّقة، ومن ثم سترى العجب، علماً بأن أحياناً القرآن يُخالِف هذا الشرط، لكن لماذا؟ أيضاً هذا له تعليل ولكن هذا يحتاج إلى مُحاضَرة، فهناك أشياء دقيقة وعجيبة جداً جداً جداً.
ما الفارق بين صارم وعنيد؟ في الحقيقة قد يصفان شخصاً واحداً في واقع أمره قد يتبيِّن أنه إنسان صارم ولكنه ليس عنيداً بدليل أنه في عشر مرات نُصِحَ بخلاف وجة نظره واستجاب في سبعة، فهذا لا يُسمى عنيداً بل هذا يُعتبَر مرناً جداً – Flexible – وذكياً، ومع ذلك قد يُقال لك لكن يا أخي في كل مرة إذا اقتنع بشيئٍ فإنه يُنفِّذه، قال الشاعر:
وَلأنْــتَ تَفْـرِي مـا خَـلَقْتَ وَبَـعْضُ القَــوْمِ يخْــلُقُ ثـمَّ لا يَفْـرِي
يخلق الشيئ – يعني يُقدِّره – ثم يفريه ولا يفري أحدٌ فريه، مثل فاروق الإسلام، فهذا إنسان صارم وإنسان جاد ولكنه ليس عنيداً، لكن طبعاً يغيظنا صرامته ونجاحه فنقول “هذا عنيد يا أخي، انظروا إلى هذا الرجل العنيد”، وهذا غير صحيح، هو ليس عنيداً، فهناك فرق كبير بين عنيد وبين صارم، لكننا نلعب على الالتباس بين الكلمتين.
اللغة كائن حي مُتطوِّر، فنحن لا نُؤمِن بالمساعي التأثيلية في فهم العبارات والدلالات، لكن ما معنى المساعي التأثيلية؟ معنى المساعي التأثيلية أن تبحث عن الأصل التاريخي للكلمة، أي يوم ما وُضِعَت ماذا كانت تعني، لكن هذا لا يعنيني،
هذا يعني المُعجَميين وعلماء اللغة المُتخصِصين، ولكن أنا كمُفكِّر وكفيلسوف وكمنطيق وكأيدولوجي وكدارس وكباحث وكمُصلِح الذي يهمني وينبغي أن يهمني هو فقط السياق المُعاصِر الحالي لاستخدام الكلمات، ففي صحيح مسلم النبي يقول زعم جبريل كذا كذا كذا، فماذا يعني النبي؟ يعني “قال جبريل”، فاللغة العربية تسمح باستخدام كلمة زعم بمعنى قال كمُحايدة، لكن في اللغة المُعاصِرة اليوم وفي الاستخدام الحي هل تُستخدَم زعم بهذا المعنى؟ لا تُستخدَم أبداً بهذا المعنى، ولذل أنا أقول لك أن مُعظم حتى العلماء والمُثقَّفين إذا سمع كلمة زعم يغضب منه، فإذا قلت له أنت تزعم كذا وكذا فإنه يقول لك أنا لا أزعم، أنا أُقرِّر وأقول يا أخي، ولذا نحن نقول له لا مُشكِلة في كلمة زعم لأن النبي يقول زعم جبريل، وكذلك غُلام ثعلب يقول زعم الخليل، واقرأوا الفصيح لثعلب وسوف تجدون أن دائماً يقول زعم الخليل، وسيبويه في “الكتاب” في عشرات المرات يقول وزعم الخليل، فهو يُؤيّد ويأتيك بالأدلة على أن ما زعمه الخليل بن أحمد صحيح في النحو ويقول لك زعم الخليل، فلماذا يقول زعم إذن؟ لأنه يفهم اللغة ويعرف لغة مُعجَمية صحيحة، لذلك يقول لك زعم بمعنى قال، فهو قال وقوله صحيح، لكن اليوم زعم لا تعني قال وقوله صحيح، وإنما تعني يدّعي دعوى بارئة من الدليل حتى، ولذلك لا مُشكِلة في كلمة يدّعي، فنحن ندّعي أن الله موجود، هذه دعوى وسوف نرى فيما بعد هل سنستطيع أن نُقيم عليها البيّنة أم لا.
على كل حال نحن نقول الآن ادّعى وزعم بمعنى قال قولاً غير مُحقَّق وهو أكبر إلى الكذب، لذلك علينا أن نُراعي هذا، ومن هنا بعض الخبثاء يلعبون على هامش الالتباس الذي سمح به تطوّر اللغة الحية، فحين تُحاسِبه يقول لك أنا أستخدم زعم بمعنى كلمة سيبويه وغلام ثعلب وكلمة الرسول في صحيح مسلم وهذا متن العربية وارجعوا إليه، ونحن نقول له كيف هذا وأنت تُخاطِب العامة في التلفاز وعلى المنبر؟ علماً بأنك لا تستخدم زعم مع أحبابك وأودائك وإنما تستخدمها دائماً مع أخصامك وألدائك!
فإذن هم يضحكون على الناس، وهذا نوع من الخبث، لكن كل هذا – كما قلت لكم – تضحية ونحر للحقيقة، فعلينا أن نكون مُتقيظين إزاء هذه الملغومات، وهذا التيقظ يُشكِّل جوهر نقدية الفكر، فإذا قلت لي “أنا أُحِب أن يكون فكري نقدياً ولا أُحِب أن أكون مُردِّداً ببغاوياً” فإنني سوف أقول لك أن جوهر النقد يكمن في أن تكشف عن المفروضات – Assumptions – أو الفروض، فالمفروضات أو الفروض مُستكِنّة ومُخبّأة في الكلام سواء كان شفاهياً أم كتابياً، فينبغي أن تُخرِجها ثم تُسلِّط عليها أضواء النقد، وسوف نرى فيما بعد هل هذه الفروض صحيحة أو غير صحيحة وبالتالي ينبغي أن ننطلق منها أو ينبغي أن نتوقَّف عندها.
هذا هو الفكر النقدي، علماً بأن من ضمن البحث عن المفروضات يُوجَد البحث عن التعابير والدلالات، لأن استخدمها – كما أثبت لكم للتو أيها الإخوة – أحياناً يأتي في سياق ملغوم ويجعلها مُحمَّلة ومُلغَّمة، فإياكم أن تمر عليكم!
قال تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، وهذا شيئ عجيب، فلماذا يا رب إذن؟ هل رَاعِنَا ۩ بمعنى انظُرْنَا ۩؟ ليست رَاعِنَا ۩ بمعنى انظُرْنَا ۩، نعم هى في أصل الوضع بمعنى انظُرْنَا ۩ ولكن في الاستخدام الذي جرى عليه هؤلاء الملاعين جرى تحميلها بمعانٍ أخرى مُضمَّنة، فلا أُريد أن تقعوا ضحية لهذا التضمين والتلغيم، وبالتالي ابتعدوا عن هذا الاستعمال، فنحن لا نُريد أن نستخدمها مرة أُخرى.
إذن القرآن يشير إلى ذلك، علماً بأننا لا زلنا في البداية للأسف الشديد، لكن أيضاً من ضمن الأشراك والفخاخ التي نقع فيها وطالما نبَّه إليها المُفكِّرون والحذَّاق وأصحاب الوعي مُغالَطات التمثيل والمُماثَلة Analogy، وطبعاً واضح أن العلاقة بين كل شيئ وأي شيئٍ آخر أو حتى العلاقة بين العلاقات المفروض أن تكون علاقة تباين، يعني ليست علاقة هوية وإنما علاقة تباين، ولأنها علاقة تباين وليست علاقة انطباق كامل وليست علاقة هوية – Identity – هى تسمح بالبحث عن المُماثَلة، وتقول ين وجوه الشبه، لأن لا معنى للبحث عن وجوه الشبه في حالة أن تكون العلاقة علاقة تماهي، لأن هذه حالة انطباق كامل وبالتالي لا معنى لهذا البحث، ولكن فيما عدا ذلك يُمكِن.
كنت مع أحد إخواني في السيارة ذات مرة ولاحظت مئذنة أمامي ووجدت سيارة سيتروين Citroën تقريباً أو رينو Renault، فقلت له ما العلاقة بين المئذنة وبين السيارة الرينو Renault؟ فقال لي عجيب، هل هناك علاقة بين المئذنة وبين السيارة؟ فقلت له نعم، لابد من وجود في علاقة، فأي شيئ لابد أن تحكمه علاقة مع أشياء الكون، ومن ثم فكَّر في هذا، فالمُهِم انتهينا إلى أن العلاقة هى العنوانية، فأنت حين ترى المئذنة ماذا يعني هذا؟ يعني أن هذا يُعتبَر عنواناً للمسجد، فهذه المئذنة تقول لك “أنا مسجد، أنا للمسلمين، هنا يُصلى، هنا تُلقى الخُطب للمسلمين”، وهذه السيارة الرينو Renault هى عنوان لهذه الشركة، فهى تقول لك “أنا رينو Renault”، ومن ثم هى تختزن تحتها كل ما يتعلَّق بماضي هذه الشركة وكفائتها وإلى آخره، فالعلاقة إذن تكمن في العنوان.
لويس كارول Lewis Carroll – مُؤلِّف القصة الشهيرة أليس Alice في بلاد العجائب – طرح مرة سؤالاً حيَّر قرّاءه، ولكن قيَّض الله له قارئاً ذكياً جداً فأجابه بذكاء، لويس كارول Lewis Carroll قال ما هى العلاقة بين الغراب Raven وبين مكتب الكتابة Writing Desk؟ فبعث له أحد القرّاء في جريدة عامة وقال أن العلاقة بينهما هى أن إدجار آلان پو Edgar Allan Poe – – الأديب والروائي والقصاص الشهير جداً – wrote on both، أي كتب عليهما وعنهما، علماً بأن ترجمة إجابته باللغة العربية سوف يكون أمراً صعباً لأن المعنى لن يكون دقيقاً، فلا يُمكِن أن نقول بالعربية أن Edgar Allan Poe wrote on raven مثلاً بمعنى كتب فوق الغراب لأن المقصود هو كتب عن الغراب، ولا يُمكِن أن نقول أيضاً Wrote on desk لأن المُراد هو كتب على مكتب الكتابة وليس عنه، لكنه على كل حال قال له Edgar Allan Poe wrote on both، وهذا صحيح لأن إدجار آلان پو Edgar Allan Poe فعلاً كان يكتب رواياته على Desk وكتب عن الغربان، فالعلاقة بين الغراب Raven وبين مكتب الكتابة Desk هى أن Edgar Allan Poe wrote on both، وهذا شيئ جميل يدل على أنه ذكي!
هناك نظرية في علم النفس المرضي يُقال فيها “عقول الفصاميين لديها هذه المقدرة على أن تجد وجوهاً للشبه لا تخطر على بال العاديين من البشر بين الأشياء فتراها مُختلِفة تماماً”، لكن انتبهوا إلى أن هذا الشيئ يُعتبَر جميلاً حين نقوله كطُرفة في سياق بحث علمي أو في سياق مُحاضَرة لطيفة، ولكن غير الجميل أن نأخذ هذه المُشابَهات على محمل الجد أحياناً ثم نستخرج منها لوازم ومُقتضيات سياسية وقانونية واجتماعية ودينية وأيدولوجية، فهذه قد تكون كارثة، مثل ملك – مثلاً – يُدافِع عن النظام الملكي أو الملوكي فيأتي ويقول “إن مثل الشعب – أي أن هذه مُماثَلة، يُوجَد مُماثَلة بين النظام الملكي وبين الجسم الإنساني Human Body – مع نظام مُلكه ومع رأسه – وهو الملك – تماماً كمثل البدن الإنساني، والبدن إذا ما قُطِع رأسه هربت منه الحياة وفسدت سائر أعضائه ولم يعد يقوم بأي وظيفة أُنيطَت به، وكذلكم الشعب هنا إذا أُزيحَ الملك أو زُحزَح من مكانه فسوف ينعدم الشعب وتعم الفوضى” وهذا كلام فارغ، هذا كلام أديب يحكي مثل هذا الكلام لأطفال صغار لكي يتدرَّبوا على التعبير والفهم Comprehension، لكن لا تحكه لشعب فعلاً تُريد أن تحكمه أو لمُفكِّرين سياسيين.
هذا الكلام ليس دموياً فهناك كلام يُعتبَر دموياً أكثر من هذا، وكلكم تعرفون المثال الشهير- أو بالأحرى الذي أصبح مثلاً والآن سنكتشف مَن الذي قاله – الذي يقول “إنك لا تستطيع أن تصنع عجةً بدون أن تكسر البيض”، وهذا شيئ مُخيف، ولذا كتب أحد المناطقة المصريين قائلاً “هذا تماثل – Analogy – يعج بالدم”، أي أنه يسيل دماً عبيطاً، لكن مَن الذي قال هذه العبارة؟ لينين Lenin – ڤلاديمير إليتش اوليانوڤ لينين Vladimir Ilyich Ulyanov Lenin – الذي أتى قبل ستالين Stalin، فلينين Lenin هو الذي “إنك لا تستطيع أن تصنع عُجةً – أومليت Omelet – بدون أن تكسر – كسر Breaking – البيض”، لكن ماذا يُريد أن يقول؟ يُريد أن يقول أنك لا تستطيع أن تُجهِض ثورة ولا أن تُؤسِّس دولة وحكومة بغير أن تُعدِم كل المُخالِفين، فعليك أن تكسر رؤوس كل المُعارِضين من أجل هذه العجة.
هذا شيئ مُخيف ومن ثم نحن لا نُريد هذه العُجة كلها، ونحن نستطيع أن ننقد هذا التماثل الزائف – Analogy False – للينين Lenin بتماثل – Analogy -ثانٍ ونقول له “أنت بالمثل لا تستطيع أن تُعالِج المرض وتزعم أنك قضيت على المرض بالقضاء على المريض”، وهذا صحيح طبعاً، فهل يُمكِن أن أزعم أنني قضيت على المرض داخل جسم المريض عندما أقتل المريض وأدفنه حياً ومن ثم أقول لقد قضيت على المرض؟ ما شاء الله على هذا التفكير ، مَن الذي يعترف لك بهذا؟ إذن نستطيع أن نُقابِل مُماثَلة – Analogy – زائفة بمُماثَلة صحيحة، فمقولة لينين Lenin غير صحيحة بالمرة، فلا يُمكِن أن يتسنى له هذا بالقضاء على المُعارِضين، فاحذروا من هذه الأشياء!
قد يقول قائل “هذه الأشياء التي تتحدَّث عنها ربما لا تقع للمُفكِّرين وللكتّاب وللأذكياء” ولكن أنا أقول له أن هذه تقع يومياً في المساجد وعلى شاشات التلفزيون Television وفي الجرائد وفي أحاديثنا العادية مع بعضنا البعض، فهذه تقع ألوف المرات كل يوم ويقع ضحايا لها ملايين البشر كل دقيقة دون أن يدروا، لأنهم لم يُدرَّبوا ولم يتدرَّبوا على التفكير المنطقي الدقيق ولم يكتسبوا مهارة أن ينجوا بأنفسهم من هذه الفخاخ الدموية الخطيرة التي تغتال وعيهم وتغتال رأيهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد/ إخواني لأن الوقت أدركنا للأسف سأختم فقط بفخٍ أخير وهو ليس بالأخير في الحقيقة، ولكنني اخترته لكثرة ما نقع فيه نحن البشر- لا أقول نحن كمسلمين وإنما نحن البشر – وهو فخ الاحتكام إلى السُلطة، والسُلطة معنى كبير جداً في علم الاجتماع، هى كل مرجعية نهائية تُعتبَر معياراً ورائزاً نهائياً لوزن الأمور والدعاوى، فقد تكون مُؤسَّسة كالأزهر وكالكنيسة وكدار الإفتاء في المملكة وغير ذلك، فهذه المُؤسَّسة تُمثِّل سُلطة، وقد تكون السُلطة أيضاً كتاباً كالقرآن الكريم وكالبخاري وكالكافي للكُلَيني وكالكتاب المُقدَّس لدى النصارى واليهود وكالتلمود لدى اليهود، فالكتاب يُشكِّل سُلطة إذن، وقد تكون السُلطة هى شخص ما في مرحلة مُعيَّنة، فأينشتاين Einstein – مثلاً – في وقت مُعيَّن في الفيزياء النسبية على الأقل يُعتبَر سُلطة، فهذا سُلطة لأنه خبير ومرجع تقريباً شبه نهائي، وكذلك أرسطو Aristotle، ففي العصور الوسطى كان يُسمى الفيلسوف باللاتينية، فهو ليس فيلسوفاً يُدعى وإنما الفيلسوف، أي أنه هو الفيلسوف وحده فقط، فما يقوله أرسطو Aristotle يُسمَع إليه وينتهي الموضوع، وفي رأيي أن الجمهور يُشكِّل سُلطة وسُلطة خطيرة جداً جداً جداً جداً، ومن هنا يحدث الاحتكام إلى الجمهور والاحتكام إلى الناس، وطبعاً الأذكياء – كلمة الأذكياء التي ذكرتها الآن ملغومة فانتبهوا إذن، لكنها قد تُقال بحق، فكلنا نستخدم هذه الأشياء، لكن عندما أقول “أذكياء” فهذا يدل مُباشَرةً على أنها ملغومة، لوجود افتراض يُفيد بأن الذي لا يُوافِق على كلامي هو غبي، وبالتالي هذا الكلام يُعَد ملغوماً، وعلى كل حال نعود إلى الملغوم حتى لا ينفجر فينا لكن كان لابد أن نُنبِّه على هذه النُقطة – وحدهم يُدرِكون أن معيار الحقيقة هو شيئ وراء العدد وأحياناً وراء السُلطة وخاصة إذا لم تكن مُختَصّة حقيقةً أو تحوم الشُبهات حول حيدتها ونزاهتها.
ألبرت أينشتاين Albert Einstein كان ضد العنف، فهو كان مع تجارب اللاعنف ومع السلام وضد الحروب النووية، وهذا أمر معروف عنه هو وبرتراند راسل Bertrand Russell وهؤلاء الجماعة، وطبعاً كان يخرج في مُظاهَرات ويكتب مقالات وأشياء كثيرة، لكن المُهِم هو ماذا فعل دُعاة الحروب ودُعاة تجارة الأسلحة وتغذية الكراهية بين الشعوب والحضارات؟ ألَّفوا كتاباً من عشرات المقالات التي كتبها مائة عالم وخبير ضد أينشتاين Einstein ، وكان إسم الكتاب أو عنوان الكتاب “مائة عالم ضد أينشتاين Einstein”، فقرأه العبقري أينشتاين Einstein وقال “واحد كان يكفي لو كانوا على صواب”، أي ليس شرطاً أن يكون مائة أو أن يكونوا ألفاً، فإذا كنت على خطأ وكانوا هم على صواب كان يكفي أن يكتب هذا رجل واحد فقط، فائتوابشخص واحد فقط يُثبِت لي أنني على باطل وسوف تنتهي المُشكِلة، فلماذا تأتون بالمائة؟ ولكن هو يعلم أنهم يحتكمون إلى سُلطة العلماء، فعندما يُقال أن هناك مائة عالم ضده سيكون التأثير أقوى، ولكن هذا غير صحيح، فمن المُمكِن أن يكون ألف عالم على باطل وأن يكون عالم واحد فقط على حق، فإذن الكثرة ليس لها علاقة هنا بمسألة الصواب والخطأ، علماً بأن ابن حزم أدرك هذا لكن يبدو أنه – رحمة الله عليه – عانى من هذا، نعم لسنا نُوافِقه على كل ما قال ولكنه عانى كثيراً من السُلطة، أي من سُلطة المشائخ والعلماء والمُؤسَّسة الدينية الإفتائية وما إلى ذلك، فأحرقوا كتبه وفعلوا معه أشياء كثيرة وطردوه من بلده طبعاً وهجَّروه، فكتب يقول “مَن راض نفسه على حب الحقيقة والبحث عنها صار ذمُ الناسِ وكرههم له أحب إلى نفسه من مدحهم إياه”، أي أنه سوف يستلذ حتى بعداء الناس، ولا مُشكِلة في هذا، كأنه يقول لأن هؤلاء الناس برّهنوا لي إلى الآن على أن فيهم بقية من غرائز ليس فقط السباع بل من غرائز الحملان، فهذه هى غريزة القطيع، فالألف يُصبِحون ألفين ثم عشرة آلاف وهكذا، ومع ذلك هم ما زالوا على باطل أيضاً، فلا علاقة بين الكثرة وبين الصواب والخطأ، قال الله وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ۩، وقال أيضاً وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ۩.
أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت René Descartes كتب يقول “يبدو أن الحقيقة أقرب أن ينالها فردٌ من أن تنالها جماهير من الناس”، فعبر التاريخ لا يظفر بالحقيقة إلا الأفراد، فهذا امتياز للأفراد، ولكن الجماهير تُخلِّد عقائدها الباطلة بالآليات التي ذكرت شيئاُ منزوراً جداً ويسيراً منها، فإذن هو قال أن هذا ليس شرطاً أيضاً، فالاحتكام إلى السُلطة مثل سُلطة الجماهير – Populace – وسُلطة الشعب وسُلطة الناس وسُلطة العلماء وسُلطة الخبراء ليس مُؤشِّراً على صحة ما يُقال، والعجيب أن هنا في أوروبا في العصور الوسطى احتكاماً إلى سُلطة الكتاب المُقدَّس – التوراة والإنجيل ، أثبتوا – وهذا لا يُمكِن أن يثبت وليس بثابت أصلاً – أن الباي π – التي هى الـ (ط) باللغة العربية، وهى نسبة مُحيط الدائرة إلى القطر – تساوي ثلاثة بالضبط من غير أي هامش آخر”، فما علاقة هذه الباي π هذه أو هذه الـ (ط) بالكتاب المُقدَّس أصلاً؟ هذه هى سُلطة الكتاب المُقدَّس الذي يعتبرونه منبعاً – Resource للعلوم، لكن هذه مسألة حسابية، والطفل الآن نستطيع أن نقول له اقسم اثنين وعشرين على سبعة ومن ثم لابد من وجود كسور في النتيجة، فسوف تكون النتيجة 3,142857142857143، وهذه هى الباي π، فما علاقة الكتاب المُقدَّس بهذه المسألة؟ لا ينبغي أن تتحدَّث هنا عن قرآن أو عن سُنة أو عن توراة أو عن إنجيل، ومع ذلك يقولون لك أن هذه سُلطة، ولكنها سُلطة في غير موضعها لأنها غير مُختَصة بهذا الشيئ، فهذا الشيئ يختص به أهل الحساب، وبالتالي علينا أن نحذر من موضوع الاحتكام إلى السُلطة في المُطلَق لمُجرَّد أن العلماء قالوا شيئاً ما لأن من المُمكِن أن يكونوا مُنحازين لشيئ ما، ومن هنا أنا لا أثق بفتوى عالم أو بفتوى شيخ حتى – الآن نحن نتحدَّث عن العلم الشرعي – سمعته قبل أشهر يدعو إلى الوحدة بين المسلمين وبين السُنة والشيعة ويقول ما شاء الله عم إخواننا لكن بعد ذلك حدثت مُناوشات سياسية فظهر العالم نفسه في التلفزيون Television ونقَض كل شيئ، كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ۩، فمن هذا الموقف علمت أنه ليس عالماً مُستقِلاً وليس عالماً نزيهاً، هو مُجرَّد قلم في يد السُلطة التنفذية، وبالتالي لا يُمكِن أن أُقلِّده ديني ولا يُمكِن أن أثق بما يقول ولو أقسم، علماً بأنهم أيضاً يحتكمون أيضاً إلى سُلطة العواطف، وقد قرأت لبعضهم يقول “هذا الكتاب كتبته بعد دراسة مُستفيضة أرهقتني واعتصرتني واستنزفتني لثلاث وعشرين سنة”، وهذا هو الاحتكام إلى سُلطة الانفعال، فهو يستقطر العطف عليه كما يقول البعض، فكأنه يقول لنا ارحموني وصفِّقوا لي لأني تعبت كثير، ولكن هذا لا يهمنا كثيراً، ثم أنني قرأت الكتاب ومن غير مُبالَغة وجدته من أتفه ما قرأت في حياتي، علماً بأنه كان في السيرة النبوية لكن ليس فيه أي تجديد حقيقي ولا في أي موضوع، وبالتالي أنا أقول له أنت سببت نفسك لأنك أثبت لنا أن ثلاث وعشرين سنة من أمثالك لا يُمكِن أن تُخرِج شيئاً لأنك صحراء قاحلة جرداء وليس عندك أي شيئ تُقدِّمه، ومن هنا أنت تحتكم إلى عاطفتي كأنك تقول لي ارحمني، كمَن يقول: كيف ترفض يا أستاذي رسالتي هذه وقد قضيت فيها عشر سنوات ليل نهار وسافرت إلى عشرين دولة؟
حتى ولو سافرت لمائة دولة ستظل رسالتك للدكتوراة من أسوأ ما يكون وبالتالي لا تستحق عليها الدرجة، اذهب ابك بعيداً لأن هذا لا يُمكِن أن يحدث في المجال الأكاديمي!
إذن هم يحتكمون إلى سُلطة العاطفة، وهذا أيضاً نوع من الاحتكام إلى السُلطة، فينبغي أن تُنزَّه الحقيقة عن كل هذه الأشياء، بل ينبغي أن تُنزَّه حتى عن الاحتكام إلى احتمالات النتائج، كأن يُقال “إن حصل هذا وسكتنا عليه فسوف يجر هذا إلى كذا وكذا وكذا وكذا وبالتالي احذروا يا معاشر المسلمين واحذروا يا أمة محمد” فلماذا هذه الطريقة؟ هذه الطريقة غير علمية، عليك أن تُقنِعنا بصحة الفكرة وبحقية ما تدعو إليه بالعقل وبالبرهان الذي ينسجم مع طبيعة الدعوة، اتركنا من النتائج والتبعات والأشياء والتباكي على ما لم يحصل، هذا كله كلام فارغ.
ولذلك ليس عجيباً – وأختم بهذه الجُملة – أن يتنادى الشباب والشابات في هذه الأيام العجاف إلى بحث مسألة قيامة الساعة، وهل ستقوم في الخامس والعشرين من نوفمبر؟ وأنا حتى لم أقرأ هذا الشيئ لكنني سمعت به فقلت يستحيل أن أُعيره أي اهتمام، أنا أُجِل أعقلي عن أن أبحث في الموضوع أصلاً، هذه خُرافات لأن القرآن قال لنا ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ۩، وسأقول كلمة على منبر رسول الله وأعلم أنهم سوف يُزنّدِقوني بسببها ولكنني لا أعبأ بهم، وهى أن هذه الآية شكَّكتني في الأحاديث التي تقول لابد أن يظهر فلان ويظهر علان وبعد أن يظهر سوف يمكث أربعين سنة وكذا، فالله يقول “بَغْتَةً ۩” يا حبيبي، لأن إذا ظهر – مثلاً – المهدي وظهر الدجَّال ونزل عيسى سوف أعرف أن القيامة ستقع وسوف أحلف عليها ألف طلاق من زوجي وألف يمين على المُصحَف أن القيامة لن تقوم قبل أربعين مثلاً لأن عيسى سوف يكون حياً الآن، لكن هذا غير صحيح، لأن الله قال لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ۩، ولذلك النبي نفسه كان يخاف منها وكان يخاف أن تأتي في أي لحظة، فإذا هاجت الريح لا يستطيع أن يقر له قرار ويدخل ويخرج ويخرج ويدخل ويقول لا أدري، وفي إحدى الرويات كان يخاف أن تقوم القيامة، وفي روايات قال عُذِّبَ بها أقوام، فإذن النبي لا يعرف، والله قال لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ۩، فكيف تضع لي ما شاء الله تقويماً وتقول أنها ستقع في اليوم الفلاني من السنة الفلانية؟ فمن أين أتينا بهذا الكلام؟ الله أعلم، لكن بعض المُغفَّلين قال “ابحثوا في هذه الموضوعات لعل في الخامس والعشرين من الشهر التاسع تقوم القيامة” فخاف بعض الناس، لكن هذا لم يُحرِّك هذا في العقلاء شعرة من أرجلهم، لأن العاقل أركز وأرصن من أن يُضحَك عليه بأمثال هذه الأشياء بفضل الله.
أخر البُشريات الجميلات البائسات التاعسات هى أن المهدي المُنتظَر سوف يظهر في أرض الكنانة ويدعو ويُقيم الأدلة على طريقته وعلى مهدويته، لكننا لسنا ملزوزين طبعاً أن نستمع إليه، وعلينا أن ننتبه الآن حتى لا نقع في مُغالَطة أخيرة وذلك لأن هناك مَن يقول “إما أنه دجَّال وإما أنه المهدي” ولكن أنا أقول له أنت مُغفَّل، فمن المُمكِن ألا يكون دجَّالاً ومن المُمكِن ألا يكون هو المهدي، فهناك إمكانية ثالثة – وقد تُوجَد رابعة وخامسة، ولكن على الأقل الآن يحضرني هذه الإمكانية الثالثة – وهى أنه من المُمكِن أن يكون مُعتَلاً عقلياً أو شخصاً موهوماً كما يُسمونه، فهذا الشخص المسكين قد يكون لديه شيئ من الفساد في مخه ودماغه وبالتالي عليه أن يتعالج، فليذهب إذن إلى الدكتور أحمد عكاشة أو إلى الدكتور عادل صادق أو إلى الدكتور رخاوي، وإن شاء سوف يُعالِجه أحدهم بإعطائه بعض الحبوب – Pills – التي من المُمكِن أن تُشفيه، فيهدأ وتُزايله حالة الاستهبال هذه التي تدفعه إلى أن يُؤكِّد أنه المهدي وأن قادة العالم سيصيرون عند رجليه.
فإذن من المُمكِن ألا يكون دجَّالاً، ومن المُمكِن ألا يكون ولياً أو مهدياً، لأن من المُمكِن أن يكون شخصاً موهوماً ومفصوماً في شخصيته ومُعتَلاً في عقله ونفسه، ولذلك احذروا من هذه القسمة الثنائية والقسمة البتراء التي تقول “إما أنه دجَّال وإما أنه المهدي”، فلا يُمكِن أن تكون القسمة إما وإما فقط، فهناك إما وإما وإما وإما، لأن هناك الكثير من الأشياء المُمكِنة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (3/9/2011)
أضف تعليق