قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه مع الله: “إن الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية العالية..أن يكون عارفا للكتاب والسنة وجامعاّ لعلوم الدنيا والفقه الإسلامي وحضارات الشعوب وعلوم اللغة..ملما بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية القديمة منها والمعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات .
وهنا منَّ الله على الجالية الإسلامية برجل رزقه الله فكرًا عميقًا، وثقافة إسلامية و علمية واسعة، ومعرفة رحيبة بالإسلام؛ فأثمر ذلك عن تجمع الكثيرين حوله .
والشيخ عدنان إبراهيم وهبه الله فصاحة وبيانًا، يجذب من يجلس إليه، ويأخذ حديثه بمجامع القلوب فتهوي إليه، مشدودة بصدق اللهجة، وروعة الإيمان، ووضوح الأفكار، وجلال ما يعرض من قضايا الإسلام. خُطبه ودروسه ملتقىً للفكر و العلم ومدرسة للدعوة في أي مكان يحلّ به، فقد وهبه الله ملكة أن يملك مشاعر مستمعيه حين يخطب.
رجل إصلاح، عالم بداء المجتمع الإسلامي ودوائه في شتَّى ربوعه، وهب حياته للعلم و وقفها على كشف العلل، ومحاربة البدع وأوجه الفساد في لغة واضحة لا غموض فيها ولا التواء. يجهر بما يعتقد أنه صواب دون أن يلتفت إلى سخط من لايعجبه قوله؛ أويبالي بغضب من لا يسمع من كلامه إلا آخره أو أوله ؛ دون أن يكلف نفسه أذن سماع كلامه كله. الشيخ عدنان يحرّكه إيمان راسخ وشجاعة مطبوعة، ونفس مؤمنة.
ولايخفى علينا جميعا أن وسائل الإعلام النمساوية تهتم بالتقاط مايقوله شيخنا من كلمات معتدلة تدعو إلى اندماج إيجابي للإقليات المسلمة داخل المجتمعات الغربية يحافظ على الهوية و يحقق الفاعلية و المشاركة؛ فمسجده ملتقى لزمرة الإعلاميين الأجانب منهم والمحليين . فهو يحاول أن يحيى أمة، وأن يصلح جيلاً، ويفتح طريقًا. أن يربي شبابًا، ويبنى عقولاً، ويرقِّي فكرًا. وهو حين ينصح تجده حكيماّ ؛ وحين يعطى تجده كريماّ . وحسبنا شهادة أمثال العلامة الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي قال : ان العلماء كل منهم يحمل بيده مصباحا أما الشيخ عدنان فقد زوده الله بمصابيح يضيئ بها ما يتناوله من موضوعات , و صرح العلامة البوطي أنه وجد في الشيخ عدنان العالم الموسوعي الجامع الذي تمناه دائما و لكنه كان يظن وجوده أمرا نظريا , وقد سئل العلامة البوطي عن الشيخ ف محاضرة عامة فشهد بأنه لم يلتق في حياته كلها بمثله . اللهم أعطه فى العلم زيادة ؛ وثبته على الحق يا أرحم الراحمين .
المولد والنشأة
وفي محاولة للاقتراب أكثر من فكر ونشأة الشيخ عدنان أجرينا معه هذا اللقاء لتعريف القارئ -وخاصة من أبناء الجالية المسلمة بالنمسا- بنشأة وجذور تجربته الدعوية والعلمية الموسوعية .
وحول نشأة وجذور تجربته الدعوية و العلمية الموسوعية يقول الشيخ عدنان إبراهيم: “أنا من أهل فلسطين المحتلة وولدت في معسكر النصيرات بمدينة غزة عام 1966.. و التي كانت تحت الرعاية المصرية قبل نكستنا ـ أو نكبتنا ـ في1967. وفي هذا المعسكر اعتدنا على المنظر المخوف لجنود الاحتلال الصهيوني الذين يختالون بدبابتهم وعرباتهم المصفحة ويقتحمون علينا البيوت في فحمة الليل كما في بياض النهار”.
في هذا المعسكر ووسط أجواء الإحتلال البغيضة إذن أبصر الشيخ عدنان النور واستقبل حياته وزاول هناك تعليمه ؛ وحفظ كتاب الله الكريم فى طفولته.. إلي جانب إطلاعه وإلمامه ببعض أمهات الكتب الشرعية و تطوافه الذي لم ينقطع في عوالم المعرفة و دنياها الفسيحة .. أتم تعليمه الثانوى بغزة .. سافر إلى يوغسلافيا ( البوسنه حالياّ ) لدراسة الطب. ومع اندلاع الحرب العرقية بالبلقان لم يتم الشيخ دراسته؛ التي كان قاب قوسين أو أدنى على الانتهاء منها .. جاء إلى النمسا زائرا ثم آثر الاستقرار بها .
الأحتفال بعيد الفطر المبارك بمسجد الشورى
وبفضل الله منَّ سبحانه وتعالى على جاليتنا الإسلامية بالنمسا بواحد يبسط علوم الدين ويربطها بمستجدات العصر في خطب يجتمع لها المئات من أبناء الأقلية المسلمة. بدأ الشيخ عدنان الخطابة والدعوة إلى الله والدروس العلمية فى مختلف العلوم الشرعية والإنسانية والكونية و غيرها بمسجد الهداية بفيينا ..ثم أسس جمعية لقاء الحضارات التي تشرف على إدارة مسجد الشورى .
. ويواصل الشيخ عدنان حديثه قائلا: “أذكر من نشأتي الأولى في الدراسة أنه لوحظ عليَّ تميزي في فن الرسم. وأذكر أنني كذلك كنت أتجافى الحفظ و أنحاز إلى الفهم و التبرير فلم أحفظ الا مضطرا قبل دخول الفصل بدقائق أو بعد دخوله، وكان الأساتيذ يعتقدون أنني أجتهد في حفظ ما يوكل إلينا حفظه من شعر أو قطع نثرية أو حتى آيات قرآنية..في حين كان الواقع أنني ألقي نظرات مكثفة على الصفحات قبل أن أدلف الى الفصل أو أسمع بتركيز ما أود حفظه من زملائي بعد دخول الفصل حين يشرع بعضهم في تسميع محفوظه فما هو إلا أن أسمع واحدا أواثنين حتى أكون قد حفظت المطلوب مني و وعند التسميع لا تسجل علي بفضل الله هنات .”
اعتزاز الشيخ بأساتذته
وعن أساتيذه يقول الشيخ عدنان: “من الله علينا بأستاذـ يرحمه الله رحمة واسعةـ يدعى الأستاذ محمد الحنفي قد تقلد إمامة مسجدنا مسجد النصيرات- مسجد القسام حاليا-كان عالما في النحو وفي اللغة العربية أيضا بل عاشقا لهما , استطاع أن يحبب إلينا علوم العربية و كذلك العلوم الشرعية من أقرب سبيل , مؤيدا ـ بعد فضل الله تعالى ـ بقوة على ما هو فيه , متوسلا بأساليب التشجيع و إلهاب الهمة , حتى أنه كان يستطار فرحا للجواب يأتي به أحدنا عن عويصات المسائل ومن لطيف ما أذكر من النوادر التي وقعت لي معه –كما يقول الشيخ عدنان-: أنه قال لنا في مطلع السنة الدراسية الخامسة و هي السنة الاولى التي بدأ يدرسنا فيها : أنا أحب من التلاميذ المجتهد النجيب , و أحذركم من التعلل بالنسيان أو الحسبان , فعندي لا مكان ل : نسيت أو حسبت , و التلميذ المجتهد هو عندي كبعض ولدي أو أحب , فلابد أن تثبتوا جدارتكم حتى تحظوا بمحبتي وتقديري..و سأفضي إليكم بمعلومات كثيرة, على أن أسألكم بعد سنتين كاملتين عن بعض ما ألقيه إليكم في أوائل هذه السنة , من باب التحدي لهممنا و الإيقاظ لذاكرتنا , وكذا كان , فبعد انصرام العامين وقف يذكرنا بذلك ثم ألقى إلينا سؤالا عن اسم بيت الظبي وكان تلاه علينا منذ عامين فلم يوفق أحد إلى تذكره إلا أنا بفضل الله سبحانه و منته “الكناس”.
ويضيف الشيخ: “أشهد للأستاذ محمد الحنفي أنه هو الذي ربطنا بالكتاب عامة وليس بالكتاب الدراسي فقط ,فقد أنشأ لنا مكتبة صغيرة كان من حسن الطالع أن كان فيها إلى جانب العبرات والنظرات للمنفلوطي وبعض كتب العقاد وطه حسين سلسلة “الناجحون “؛ وهي سلسلة لبنانية تتحدث عن نوابغ الرجال من الشرق والغرب، شاقتني هذه السلسلة كثيرا و لذت لي ، و أوجدت في نفسي دافعية هائلة أن أنضم إلى لواء هذه الأسرة الكريمة من النابهين و البابغين , فمن يدري ؟”.
العلم اصطفاء إلهي؟!
ويواصل الشيخ حديثه عن الذين شجعوه و نموا فيه روح الإطلاع و عشق المعرفة فيذكر شيخا حبيبا له عليه الكثير من الأيادي البيض : الدكتور محمد حماد . يقول : وقد كنت في تلكم الفترة أقرأ بنهم وشغف شديدين, حتى إتفق مرة أن انتبهت الى انني لم أذق غمضا ليومين كاملين , شغلا بقراءة مجلد ضخم لمحمد فريد وجدي , ولم يكن يتخالجني أدنى أمل في أن أصير يوما أحد العلماء؛ ذلك أنني كنت أعتقد أن علماء الدين يولدون علماء , ضرب من ضروب الاصطفاء الالهي , كما يصطفى الانبياء و الرسل الامر الذي انعكس في نفسي على شكل إجلال غير عادي ـ مزيج من الهيبة و المحبة المفرطين ـ للعلماء وأهل الله . إلآ أن الله جل ذكره أراد أمرا آخر , و إذا أراد سبحانه أمرا هي أسبابه , فقد أهداني أخ حبيب فاضل ـ عبد الرحمن الجمل , الذي هو الآن عالم جليل متخصص في علوم القراآت ,و حاصل على أعلى الإجازات فيها , وفقه الله و سدده ـ كتابا للشيخ محمد الغزالي ( تأملات في الدين و الحياة ) قرأت في سطوره الاولى قوله يتحدث عن تفسه : انه ما كان يتخيل و هو في طفولته ـ و لا أحد من القريبين منه ـ انه سيصبح يوما داعية الى الله , عالما من علماء الدين ,. يا لها من إشارة أدركت معها أن العلم الشرعي يتحصل عليه بالجد و المثابرة , شأنه في ذلك شأن كل علم , فانفسح أمامي أمل عريض و تمهدت لي طريق كنت أظنها من قبل لا تصلح لي و لأمثالي .
ويضيف الشيخ أذكر أنه كان يأتينا في السنة مرة أو مرتين عالم جليل من علماء فلسطين في الداخل وهو الشيخ العالم المجاهد إسماعيل الجمل حفظه الله و أمتع به ، وكان يقال لنا أن هذا الرجل التقى بسيد قطب رحمه الله بواسع رحماته وبات معه ليال وأنه عالم كبير. كانت هيئته هيئة العلماء و بزته بزتهم , يقرأ القرآن بنغمة رخيمة خشوع تشعر معها أنها قراءة عالم لا قراءة إنسان خفيف الوزن متشبع بما لم يعط ؛ صوت يمس حقا شغاف القلوب.
بعد ذلك ينطلق معه طلاب العلم ومحبو العلماء إلى منزل آل الجمل ـ و هي أسرة ذات علم و صلاح وفقهم الله و نفع بهم ـ حيث ينزل ضيفا . وكنت أسمع من هذا الرجل مالا أسمعه من الوعاظ في مسجدنا؛ حيث كان يتحدث عن الأسماء الكبيرة مثل ابن حزم والشاطبي والغزالي والشهرستاني . ولم أكد أصدق مرة نفسي حين سمعته يتحدث عن الشهرستاني و ملله ونحله , و أين أنا إذ ذاك من ذلكم , فالشهرستاني نقرؤه بالواسطة لا مباشرة , فقد تردد ذكره كثيرا في كتاب الدكتور محمد البهي ( الجانب الالهي ) , إذن فأنا أمام عالم من قامة البهي , هكذا بدا الامر لي وقتها “.
ويضيف الشيخ عدنان: “وأذكر أن الشيخ محمد حماد باركه الله قال إنهم بصدد إجراء مسابقة لحفظ جزء عم وأن الجائزة ستكون كتبا ففرحت بذلك ورغم أني كنت أتجافى عن الحفظ ولا أحبه فقد حفظت جزء عم بين الظهر والعصر وكنت الأول وأخذت مجموعة من الكتب. وبعد عدة أشهر أعلنوا عن جزء تبارك فحفظته بين المغرب والعشاء بحمد الله. وآخر ثمانية اجزاء من كتاب الله حفظتها في سبعة أيام”.
و مما اتفق لي مع الشيخ محمد حماد أن رأى مرة بيدي كتابا في الفلسفة , فقال لي : أين أنت من أصول الفقه ؟ استدللته على كتاب فيه ـ و كانت أول مرة أسمع فيها بهذا العلم ـ فدلني على كتاب الشيخ خلاف رحمه الله , فقرأته و لخصته ـ على عادتي التي استمرت معي زهاء عشرين سنة ـ و في اليوم التالي أتيته بينا هو يلقي درسا في الفقه و قلت له : لقد قرأت كتاب الشيخ خلاف , فرمقني بنظرة سريعة ثم عاد الى ما كان فيه , فأثر ذلك في نفسي كثيرا , فعدت إليه قائلا : لقد قرأته و لخصته , فقال متعجبا : ماذا؟ أرني , و ألقى على الدفتر نظرة تحقق معها أن الأمر جد , فقطع درسه و قام فانتحى مع ثلاثة من إخواننا ناحية ثم قال : أنظر أنا لن اسألك سؤالا سهلا , بل سأسألك سؤالا صعبا , أيمكنك أن تذكر لي الفرق بين العلة و الحكمة ؟ أجبت : سأحاول , و شرعت على استحياء و خوف أجيب بما ظهر بعد جولة سريعة في علم لا يزيد عهدي به على ليلة و بعض يوم , و لما انتهيت قام الرجل يصرخ : اشهد أنني قد فهمت هذه المسألة جيدا , و انها وضحت لي الآن تماما , يا فلان و فلان و يا فلان قوموا عن هذا الشاب ـ و كنت حينها في نحو الرابعة عشرة ـ حرام أن نضيع عليه من وقته ساعة .
هواجس أنطولوجية
وينتقل الشيخ عدنان بحديثه إلى تجربته مع الشكوك والهواجس الوجودية التي اعترته في مطلع صباه فيقول: “في الفترة المبكرة من حياتي كانت تجتاحني هواجس وجودية وشكوك أنطولوجية ـ عرفت بعد وقت طويل أنها راودتني مبكرا قبل أوانها ـ تنصب في معظمها على القضايا الأكثر أهمية وخطورة : قضية وجود الله قضية دواميته تعالى ذكره , أزليته و أبديته , فكرة الخلود والأبدية كانت تؤرقني ولم أكن أستطيع تصورها و هضمها وكانت تراودني هذه الوساوس بشكل مستمر حتى إنني كنت أحيانا أقف في منتصف الطريق دون وعي مني فور ان تحل بساحة ذهني هذه الأفكار.
ولم يكن لدي من الجرأة والشجاعة مايتيح لي أن أسأل أو أفضي بما يعتلج في نفسي ومايجتاحني من هذه الوساوس والشكوك إلى أستاذي مثلا ؛ لأنني كنت أعتقد أنني سأتهم بالكفروانحلال عقدة الإيمان، فكنت أطوي جوانحي على هذه الشكوك وعلى هذه الآلام الفكرية عسى أن يتيسر لي من يشفيني منها. حتى والدي حفظه الله ـ و أحسبه ان شاء الله من الصالحين و الله حسيبه ـ لم أكن لأفضي له بشيئ من ذلك؛رغم انه كان في تلك الفترة المبكرة يشكل لي ـ إلى حد ما ـ مرجعية , ربما من أجل ما كنت أعلمه من صلاحه و ما اتفق لي رؤيته من كراماته , و ربما من أجل كتابه الضخم ـ جدا في ذلك الوقت ـ تفسير الجلالين الذي كنت أفتحه لأقرأ و لا أفهم شيئا..إلى أن يسر الله لي و أكرمني بدخول المسجد ـ الذي كنت أظن أنه وقف على الكبار فقط , لا يجوز للصغار من أمثالي أن يجاوزوا عتبته المقدسةـ وجلست في أول صلاة جمعة أصليها أستمع للخطيب الأزهري ـ الشيخ طهبوب رحمه الله ـ و في العصر عدت و كذا في المغرب وبعد صلاة المغرب اتفق لي شئ كان له أثر انعطافي في حياتي؛ حيث دخلت مكتبة المسجد لأجد مئات الكتب مصفوفة تنادي على أمثالي بالجهل و الحجاب , لم أكن أظن أن في الدنيا هذا الكم الهائل من الكتب , و كم كانت ؟ لعلها لم تجاوز الالف , فدارت بي الأرض , فهذا كتاب يقع في 7 مجلدات اسمه (الأم) ووقع في وهلي أنه يدور حول الأم كما نكتب عنها في موضوعات الإنشاء و التعبير , وقد كنت أكتب ـ ما شاء الله ـ عشرات الصفحات في هذه الموضوعات و أشكالها , فبان لي وقتها أنني لا شيئ , ـ طبعا بعد حين لم يطل عرفت أن الكتاب ليس على ما وضعته عليه و حسبته , بل هو كتاب ـ بل كتب ـ للإمام الشافعي في الفقه الإسلامي الوسيع ,كما رأيت إلى جانبه ليلتها كتاب (إحياء علوم الدين) في خمس مجلدات , خامسها هو عوارف المعارف للسهروردي، ثم ثمان مجلدات تحت عنوان( في ظلال القرآن) لسيد قطب و وو ووو … كتب كثيرة
من هنا تعلم
ويروي الشيخ عدنان بعض ما اتفق له في تلك الليلة المباركة , يقول : “جاء رجل ـ أبو الحسين الشريف ـ عرفت بعدها أنه أستاذ , رجل صالح ومن حملة كتاب الله, حيانا تحية الكبار وكان لهذا أثر عظيم في نفسي , كما خاطبنا بما لم يكن يخاطب به إلا الكبار , مثل : بارك الله فيكم..وجعل يسألنا : مثل من تحب أن تكون يابني ؟ فمن قائل : مثل مصعب بن عمير ومن قائل مثل خباب ابن عبدالله بن عمر ..عمر …. ولاأخفي سرا أنني لم أكن أعرف أكث رما سمعت من أسماء..و لما جاء دوري قلت :لا احب أن أكون مثل أي من هؤلاء.. فارتسمت على وجه الشيخ الدهشة.. فواصلت قائلا: لأنني أحب أن آخذ من كل واحد منهم أحسن مالديه.. فاعتنقي وقال بارك الله فيك يابني.
بعد أسابيع يسيرة أصبح الشيخ عدنان أمينا لمكتبة المسجد وقلت هذه فرصتك يا عدنان لتبحث عن جوابات للأسئلة التي تؤرقك..و حدث أن فتحت يوما أدراج المكتبة التحتية فوجدت مجموعة من الكتب وقد كتب عليها بقلم أزرق: تمنع قراءته.. ممنوع قراءته.. فيه رواسب. بعض هذه الكتب كانت لمصطفى محمود كـ”حوار مع صديقي الملحد” و”الماركسية والإسلام” فكانت الوصية المكتوبة إغراء لي بمخالفتها , و ـ حب شيئ الى المرء ما منعا ـ والعجيب أنني وجدت في تلك الممنوعات ما أقنعني و أسعدني مما لم يكن يحسن الشيوخ قوله , أو لا يريدون , فأفرخ روعي و سكن فؤادي و رأيت أن ألقي العصا بعد أن استقر بي النوى , و لم أدر أن هذه كانت البداية الجديدة “.
البدايه الجديدة
ويستطرد الشيخ عدنان قائلا: “بعد فترة أحسست ـ بل أيقنت ـ أن ماعند وعاظنا لايكاد يغنيني , كانت مواعظ وخطبا مكرورة تقول الشيئ نفسه و تراوح في مكانها , أسمع و أتساءل ما الذي أفدته؟ قنطار خروب و درهم عسل ـ كما يقول المثل التركي ـ ماجعلني أجتهد على نفسي أكثر وأكثر..و لكن أن تتعلم على نفسك وأن تكون أستاذ نفسك و شيخها مسألة شاقة حقا..فالمعارف كثيرة و بالتالي فالأسئلة كثيرة و متزايدة في حقول شتى , كنت ربما أشتري الكتاب وأقرأ فيه فلا أكاد أفهم شيئا”.
أذكر أنني اشتريت كتابا فلسفيا عن “التاريخانية” فلم أفهم معنى التاريخانية..أي انني مطرود من الباب , لعلي كنت ابن ثنتي عشرة سنة , بعد سنين أمكن التعامل مع ذاك الكتاب بعد أن طال انتظاره مع أمثاله من الكتب على رفوف المكتبة المتنامية, ولكني كنت أفهم وأستفيد من كتب محمد و سيد قطب والشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي، و عماد الدين خليل و البوطي … , كان أول درس ألقيته على الكبار و ليس الصغار فقط عبارة عن تلخيص أمين لكتاب للعلامة البوطي “.
ويضيف الشيخ: “أول مرة قرأت فيها إشارة عن نظرية النسبية لألبرت أينشتاين أستطيع أن أقول أنها أحدثت زلزالا في نفسي لأن لها علاقة بهمومي وشكوكي الأنطولوجية؛ بيد أنها قاربتها من منظور جديد علي كلية , تماما : تمدد الزمان, انكماش الزمان , نسبية الزمان و المكان و الكتلة , كنت أسأل الذين يكبرونني وكلي أمل أن يستطيعوا الإجابة عن بعض تساؤلاتي حول ما لم أستوعبه من مفهومات هذه النظرية الغريبة , فلم أجد عندهم شيئا فواصلت رحلة التلمذة الصعبة على النفس”.
المثقف يتابع دائما
ويقول شيخنا الكريم: “توسعت دائرة مداركي عندما قرأت في الفلسفة و العلوم العقلية و الكونية أيضا وبدأت أدرك حاجتي إلى تعديد المناظير ما وسعت الهمة و استوعبت الملكة , كما أدركت أنني سرت في طريق لا نهاية لها : من المحبرة الى المقبرة , كما قال الامام أحمد بن حنبل رضوان الله عليه , و أن الشبر الثالث في هذه الطريق ليس ينتهي إلى غاية إلا أن تكون إعلامك بأنك لا تعلم شيئا, , وقد أحسن ما شاء من قال : ” العلم ثلاثة أشبار من قطع الشبر الأول تكبر ومن قطع الشبر الثاني تواضع ومن قطع الشبر الثالث علم أنه لايعلم , فلا تكن أبا شبر” , فالعلم مؤشر INDEX للجهل , أن تعرف مدى جهلنا مسألة لا تتحقق إلا بمقدار علمك , أما الجاهل فأكثر المعضلات و الألغاز و المحيرات عنده مفهومة و سهلة , و علامات الاستفام قليلة جدا , و رحم الله امامنا الشافعي حين يقول :
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي
و كلما ازددت علما زادني علما بجهلي
فالمثقف الشغوف له بداية مستمرة , و هو حين يقف يشعر أنه عاد من حيث بدأ , فالمعرفة دائرة أولها و آخرها سواء .
فترة المراهقة..شعلة نشاط
ويدلي الشيخ بدلوه في نظريات التربية وعلم النفس؛ حيث يقول: “أعتقد أن فترة المراهقة منجم للنشاط والفاعلية و الفضول وأن على المربين أن يعنوا بفتح طرق الثقافة والفكر والعلم أمام المراهق؛ مشيرا إلى أن بعض علماء النفس يرون أن الذكاء يتوقف في سن الـ18 ..ولكنه يقول : أنا لاأحب أمثال هذه النظريات الجبرية الحتمية المغلقة , بل أحب و انحاز إلى النظريات المفتوحة التي تعطي الإنسان إمكانيات مفتوحة.لذلك إذا قارنا بين النظريات .
التحليلية النفسية والنظريات السلوكية أجدني رغم مايبدو عليه المنهج السلوكي من بساطة واختزالية REDUCTION إلا أنني أجدني متعاطفا مع هذا المنهج أكثر لأنه يعد ببداية متجددة دوما NEVER TOO LATE في حين أن المنهج التحليلي النفسي يغلق هذه الإمكانات ويجعل الإنسان رهنا للسنوات الفائتة من عمره وبالذات السنوات الخمس الأولى والأمر لابد أن يكون أوسع من ذلك.
أجرى اللقاء رمضان اسماعيل وأحمد المتبولي
أجرى اللقاء رمضان اسماعيل وأحمد المتبولي
أضف تعليق