الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أُريد أن أُهدي مُحاضرتي هذه إلى أستاذنا الجليل الغالي والمُفكر الكبير البروفيسور عمرو شريف المصري، وأُريد أن أفعل هذا؛ لكي أرتاح نفسيا، وأشعر بشيء من الرضا؛ لأنني أشعر بعمق أن هذا الرجل الفاضل والمُفكر الكبير الخطير للأسف الشديد إلى الآن، وله سنوات طويلة يكتب ويُتحف المكتبة العربية بكتب مُمتازة، بنفس جديد من التحقيق، وتضع القارئ – لو وُجد هذا القارئ الواعي! موجود، ولكن على قلة قليلة، للأسف الشديد – في قلب المشهد الفكري العالمي، وبالذات الغربي، لم يلق ما ينبغي من الاحتفاء والاحتفال والاهتمام والتقدير والإشادة بأعماله.
فأنا سأُهدي مُحاضرتي هذه إلى هذا الرجل الفاضل، الذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يفسح في مُدته، وأن يُبارك في وقته وعمره؛ لكي يُتحفنا ويمد المكتبة العربية والفكر العربي والإسلامي بمزيد من أعماله. وعلى فكرة، موضوع علاقة العلم والدين، وفلسفة العلم، في قائمة أو في رأس اهتماماته البحثية والكتابية – بارك الله فيه -.
موضوع علاقة العلم بالدين، والدين بالعلم، لن نقول الصراع، لا! العلاقة طبعا الآن – أي ال Relation – مُختلفة! ما العلاقة بين العلم والدين؟ طبعا هذا الموضوع لكي تُدركوا مدى أهميته، يحسن أن نقف على كلمة للفيلسوف الكبير، الذي اهتم أيضا بهذا الموضوع كثيرا، وله فيه مداخله الخاصة؛ ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead، الفيلسوف الإنجليزي، الأمريكي بعد ذلك، الشهير جدا! حين قال علاقة العلم بالدين يتوقف عليها وعلى كيفية تعاطي هذا الجيل معها مصير البشرية.
عجيب! إلى هذه الدرجة؟ طبعا أنتم الآن كمسلمين يُمكن أن يعن لبعضكم أن هذا موضوع أكاديمي فعلا، عنده جنبة علمية، جنبة تاريخية، جنبة لاهوتية ثيولوجية، لكنه أقرب إلى الترف! ترف؟ مُستقبل الدين في بلادنا، مُستقبل الإيمان، مُستقبل الإسلام، الموقف من الكتاب والسُنة، يتوقف بنسبة عظيمة على هذا الموضوع.
تعال اليوم، ولا آمرك أن تصطنع دراسة علمية، جُل جولة عجلى – جُل جولة عجلى هكذا – في الفضاء السيبيري هذا، في اليوتيوب Youtube، في فضاء اليوتيوب Youtube! لترى أن مُعظم ملاحدة شبابنا وشوابنا العرب المسلمين، إنما ألحدوا بسبب ماذا؟ بسبب الاشتباك والالتباس والاصطراع القائم بين العلم والدين! وخاصة في الكونيات، وبشكل أكثر خصوصية؛ نظرية التطور. وطبعا هذه ليست حالة خاصة بالمسلمين، هذه حالة في العالم، حالة عامة في العالم كله، وخاصة العالم الغربي. بسبب نظرية التطور، وأقل منها الكونيات بشكل عام.
ستقول لي وهذا يُذكّرنا بكلمة سيغموند فرويد Sigmund Freud الشهيرة جدا، حين تحدث عن أن الإنسان الحديث – أي في العصر الحديث، بعدما انتهى العصر الوسيط، في العصر الحديث – اصطدم وجُرحت كبرياؤه ونرجسيته ثلاثة جروح بليغة غائرة! ثلاث مرات – قال – ضُرب على رأسه الإنسان الحديث هذا. وهذا صحيح!
الضربة الأولى على يد نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus، فيما يُعرف بالثورة الكوبرنيكوسية أو الكوبرنيكية! Copernican revolution؛ الثورة الكوبرنيكوسية. لماذا؟ قبل كوبرنيكوس Copernicus، وعلى مدى أكثر من ألف عام تقريبا، كان النظام الكوني السائد المُهيمن في العالم القديم والوسيط، هو النموذج البطلمي.
بطليموس Ptolemy الإسكندراني! الذي كان يرى أن مركز الكون – اليونيفرس Universeكله أو الكوزموس Cosmos – هو ماذا؟ الأرض. والأرض تدور حولها الشمس، والأجرام السماوية الأُخرى كلها تدور حول الأرض، حتى الشمس! كلها! ليس فقط القمر، والشمس والكواكب الأُخرى كلها السيارات – كانوا يُسمونها السيارات السبعة هذه -، كلها تدور حول ماذا؟ حول الأرض. يُسمونه Geocentrism أو Geocentricity، أي موديل Model أو نموذج مركزية الأرض. الأرض هي التي في المُنتصف.
حلو! بقيَ هذا، وفسر أشياء كثيرة على فكرة، فسر أشياء كثيرة! لكن بإرهاق. أي هناك أشياء مُعينة يُفسرها، لا أُريد أن أحكي عنها، ومن ضمنها المنظر النجمي، Parallax يُسمونه! لكي نُفسر هذا ال Parallax، نقول وباختصار ما هو – وشرحته مرة في خُطبة قديمة أو في مُحاضرة -؟ أنت الآن حين تقف في زاوية مُعينة، تقف هكذا، ترى النجم، نجما ما! انتقل إلى مكان آخر، تره من زاوية أُخرى، اختلف موضعه، هذا يُسمى المنظر النجمي Parallax!
كيف يكون تفسيره؟ ذهب وعمل لك قصة كبيرة، أي بطليموس Ptolemy هذا، سماها أفلاك التدوير Epicycles. في الفلك القديم والوسيط؛ Epicycles. قصة كبيرة! فلك على فلك، أي الأوربيت Orbit الكبير، وأيضا هناك أفلاك عليه! النجم أو الكوكب الذي يدور – قال لك – يدور على نحوين؛ في هذا الفلك الصغير، وهو إذ يدور فيه، يدور أيضا على الفلك الكبير. ومسألة مُعقدة جدا! لكن فسر. شيء غريب! فسر، قدر على أن يُفسر كل هذه الأسرار الفلكية، فسرها، نجح. نموذج ناجح!
لم أُكمل، ونرجع إلى فرويد Freud، لم أُكمل كلمة وايتهيد Whitehead! قال مصير البشرية سيتوقف على موقف – أي Instance – الجيل المُعاصر من قضية علاقة العلم بالدين. لماذا يا ألفريد Alfred؟ قال لأن أعظم مصدرين على الإطلاق للمعرفة والإلهام يتمثلان في الدين من جهة وفي العلم من جهة. هذا هو، هذا هو! أعظم مصادر المعرفة لدينا؛ الدين والعلم.
إذن من المُهم جدا جدا أن نُفكك وأن نفهم وأن ندرس بعُمق وفي عُمق علاقة ماذا؟ العلم بالدين، والدين بالعلم. وإذا كان هناك نوع من الاشتباك، نفك هذا الاشتباك. إذا كانت هناك إمكانية لترقية وتنمية المُصالحة، أو التعاون، وال Integration؛ التكامل، أيضا، والحوار، بين العلم والدين، أن نفعل هذا، مطلوب منا! كمسلمين، مسيحيين، يهود، علماء، رجال دين! مطلوب منا أن نفعل هذا!
طبعا ستقول لي لا، الآن الذي يحدث العكس تقريبا! توجد حالة خصام بين دعاة الإسلام، وخاصة على الطريقة السلفية هذه والطريقة الكذائية، وبين العلم! نعم، طبعا للأسف الشديد تُوجد، على الأقل جُزئيا، إن لم يكن كُليا.
فنرجع، إذن الضربة الأولى كانت مع نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus. يقول فرويد Freud! لماذا؟ كوبرنيكوس Copernicus قال لك لا، مركز العالم أو الكون أو الوجود الشمس، وليست الأرض. والأرض وبقية السيارات تدور حول الشمس.
ستقول لي الآن طبعا لا الشمس ولا الأرض! لا الشمس مركز ولا الأرض مركز! ولا المجرة مركز! أي المجموعة الشمسية بكل كواكبها هذه مُجرد نُقطة على طرف المجرة، تبعد عن المركز؛ مركز المجرة، بثلاثين ألف سنة ضوئية، في مجرة يقطعها الضوء في مئة ألف سنة، وفيها حوالي أربعمائة مليار نجم، وسطيا! ويُوجد مثلها تريليونا مجرة! هذه آخر الأرقام، في آخر سنوات! في الكون! شيء مُرعب! لا أنت مركز، ولا مجرتك مركز، انتهينا بالكامل!
لكن هذا أصاب الإنسان بالدوار، دوخه! وأصابه بجُرح نرجسي غائر وعميق ومؤلم، أليم! لماذا؟ بعد أن كان مُستوثقا من حقيقة أنه السيد المُطاع المُسلَّط في هذا الكوكب المُسمى بالأرض؛ الكوكب الأزرق، وهذا الكوكب بدوره هو مركز الوجود، مركز العوالم، وإذا به يُنحّى مُباشرة، بكوكبه، إلى الهامش، ليُصبح كوكبا من كواكب، تدور حول الشمس. أخذت المجد كله، الشمس! ومن هنا موقف الكنيسة المُناهض للنظام الكوبرنيكي هذا! كان يُسمى هكذا النظام أو المذهب الكوبرنيكي.
الجُرح الثاني، وهو جُرح ربما يكون أبعد غورا وأشد ألما من الجُرح الكوبرنيكي! ما هو؟ مع تشارلز داروين Charles Darwin. حين أتى هذا الرجل الإنجليزي، العالم الطبيعي – أي Naturalist، العالم الطبيعي – الإنجليزي، أو الفيلسوف الطبيعي! كان يُسمونه الفيلسوف، وإلى الآن لا يزال هذا.
كلمة علم على فكرة، كلمة حديثة جدا، كلمة Science، وScientist! العالم بالذات، كلمة عالم بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، ولم تُداول ويشع استعمالها إلا في بداية القرن العشرين. وقبل ذلك ماذا كانوا يُسمونه؟ يُسمونه فيلسوفا طبيعيا.
لما حورب غاليليو Galileo، حورب تحت اسم وعنوان ماذا؟ الفيلسوف – هو أعتقد من فلورنسا، نعم – الفلورنسي! الفيلسوف الفلورنسي – وليس العالم -. قالوا! لم تكن هناك كلمة عالم. وبعد ذلك يقول لك ماذا؟ يقول لك الطبيعاني، ال Naturalist. الباحث في الطبيعة! أو فيلسوف طبيعي. لم تكن هناك كلمة عالم؛ Scientist، لم تكن موجودة هذه حينها.
إذن لا علينا – وهذا مُهم! مُهم جدا في تفكيك العلاقة، أي ليس كما نظن -، فنرجع، هذا الرجل كما تعلمون طبعا حاول أن يُثبت وأن يُجادل أن كل المملكة الحيوانية، وحتى المملكة النباتية، وكل ممالك الحياة! أو كل نُطق – لأن هناك تقسيم ممالك، وهناك تقسيم أعلى؛ ال Domains -، كل أشكال الحياة، إنما تطورت وترقت من خلية، أو بضع خلايا – قال يُمكن أن يكون هذا من خلية أو خليتين أو ثلاث خلايا -؛ خلايا أولية بسيطة جدا، جرى عليها التطور عبر ملايين السنين، ومئات ملايين السنين، وملايير السنين.
وهنا دخلنا في الاشتباك مع الدين، المسيحي الغربي بالذات؛ لأنهم يعتقدون أن عمر الأرض أقل من هذا بكثير. بعضهم قال لك الأرض عمرها عمر الإنسان. أسبق منه بقليل، مهدت له. إذن كم عمره؟ قال لك أربعة آلاف وأربع قبل الميلاد. أي الآن أيضا ألفان، إذن ستة آلاف سنة.
أذكر أن الأسقف أشر Ussher – هذا كان على ما أعتقد أيرلندي، Irish هذا Bishop، اسمه الأسقف أشر Ussher. لم أُراجع هذا، لكن ذكرته أيضا قبل سنوات – هذا، عمل حسبة هكذا، قال لك أنا أقدر على أن أُحدد متى خُلق الإنسان! الرب خلقه تقريبا في الرابع والعشرين من أكتوبر، أربعة آلاف وأربع قبل الميلاد، الساعة العاشرة تقريبا صباحا. ما شاء الله، حسابات دقيقة جدا! أي لو نزل جبريل، ما نزل بهذا التفصيل الدقيق. وطبعا فرحوا، وقال لك عبقري، وفاهم هذا، وإنسكلوبيديا Encyclopedia، وشيء رهيب!
جاء تشارلز داروين Charles Darwin وقال لهم يا جماعة الأرض هذه عمرها مئات ملايين السنين، بل مليارات السنين. يا رجل قل وبدل، أنت مُلحد، أنت مُهرطق كافر. وقال لهم حتى الإنسان، أكيد هذا عمره مئات ألوف السنين. ليس سبعة آلاف سنة، وستة آلاف سنة. ما ستة آلاف وسبعة آلاف؟ قال لهم مئات ألوف السنين عمر الإنسان. فهنا طبعا تُهمة الهرطقة جاهزة والتجديف والكفر وكذا، والاصطدام طبعا بين العلميات هذه وبين النصوص الدينية وتفسيرها وتأويلاتها.
وأكثر من هذا أيضا – أي ليس هذا فحسب -؛ تصير أنت كإنسان، بمنظومتك الأخلاقية – الشيفرة الأخلاقية التي عندك -، بمنظومتك أو رؤيتك الكونية – ال Worldview يُسمونها، أو ال Weltanschauung – الدينية، التي جعلتك خليفة الله ومركز الكون وسيد الأرض، إلى آخره! تصير فقط، أو يصير الأبعد، مثله مثل أي قرد أو خنزير أو كلب، لكن أرقى في الدرجة، وليس في النوع! في النوع نفس الشيء هو! درجات فقط! لكن الطبيعة والجوهر والماهية نفس الشيء، وكلنا نرجع في الأخير إلى المادة وما إلى ذلك، وينتهي الأمر! فصار هناك صدام رهيب جدا!
لذلك على فكرة يوشك أن يكون الأمر مُختزلا، بالذات في الغرب الأمريكي، في اليو إس أيه USA! حين نقول العلم والدين، تُختزل العلاقة، من عشرات السنين على فكرة، من عشرات السنين! من أيام مُحاكمة سكوبس Scopes هذا! يُسمونها مُحاكمة القرد! وتعرفون فيلم رث الريح؛ Inherit the Wind. رث الريح فيلم مشهور جدا، حضرناه، وهو أسود وأبيض، جميل جدا! كله عن الموضوع هذا.
يوشك أن يكون موضوع أو موضوعة العلم والدين مُختزلة في نموذج واحد؛ نموذج ماذا؟ الصراع، ال Conflict. علم ودين؛ صراع العلم والدين، حرب Warfare، حرب العلم والدين، نزاع العلم والدين، Clash، صدام العلم والدين.
ثم يوشك أن يُختزل موضوع الصدام، موضوع النزاع، موضوع الحرب، في نظرية التطور، والتفسيرات الكتابية، ال Biblical interpretations هذه، التفسيرات والفهوم الكتابية! هي هذه القصة كلها! العلم تطور، والدين موقف سفر التكوين – الجينيسيس Genesis – من هذه القضية. هذه القصة كلها في الغرب الأمريكي، مع أنها أوسع من هذا، لكن هذا فعلا أهم فصولها، وأكثر فصولها حراجة، ولا تزال!
وانتقل هذا العراك وهذا التوتر إلى العالم الإسلامي، وخاصة مع عصر النت Net هذا واليوتيوب Youtube! فالآن تسمع كل مَن هب ودب يقول لك التطور والتطور والارتقاء والقردة والإنسان وكذا! وكله! ومواقع وأشياء! كله! نُريد أن نبدأ من أول وجديد الآن نحن! تخيل!
فنرجع، الجُرح النرجسي الثالث كان مع فرويد Freud نفسه، مع سيغموند فرويد Sigmund Freud. هو كان فاهما وواعيا! هو جرحنا الجُرح الثالث، متى؟ حين أفهمنا أننا لسنا دائما في ال Charge، ولسنا المُتحكمين في شخصياتنا، وقراراتنا ليست بيدنا، ولا نجترح القرارات بوعي كامل ودراسة وخُطط لا تخر الماء، قال لك هذه كلها أوهام!
إذن ماذا يا سيد سيغموندSigmund ؟ قال لك لا، أنت يُوجد عندك جُزءان؛ يُوجد عندك الوعي الظاهر، وهذا نقدر على أن نسمح لك أن تُقدره بالتُسع، أو بالعُشر. نعم! قال وتسعة أعشار الوعي الخاص بك اسمه الوعي الباطن. مثل جبل الجليد، تراه في المُحيط، يظهر منه العُشر، وتسعة أعشاره غائرة في الماء. أنت تسعة أعشار وعيك وعي باطن. Consciousness معناها وعي، Unconsciousness اللاوعي، أو الوعي الباطن. قال لك هذا الوعي الباطن أو اللاوعي تسعة أعشار، وأنت لا تدري. وقصة! وعنده أدلة وأشياء، أي موضوع كبير!
فطبعا الناس شعروا بإهانة كبيرة جدا جدا، أي اتضح أننا أشبه بالديدان إذن؟ أشبه بالروبوتات Robots هكذا؟ أشبه بآلات تُحركها أشياء لا سيطرة لنا عليها، بل لا وعي لنا ظاهرا بها؟ أنا لا أعرف ما الذي جعلني أفعل هذا؟ قال لك أنت لا تعرف. أنت مُعظم ما تأتيه لا تعرف سببه، أنت لا تعرف لماذا تُحب فلانا، ولماذا تكره فلانا، ولماذا انفجرت مرة، ولماذا رضيت عن هذا، ولماذا كذا، لا تعرف! والأشياء التي تطرحها كلها قابلة للنقض، وفي الحقيقة البواعث الحقيقية التي حركتك وبعثتك على أن تفعل وأن تأخذ وأن تترك وأن تذر بواعث باطنية، لا سيطرة لك عليها، بل لا وعي لك بها.
تقول ويلتي! ما الذي بقيَ لي؟ لا أرضي بقيت في المركز، ولا أصلي اتضح أنه شريف ومن نسل الملائكة وابن السماء، اتضح أنني ابن القرود وابن في الأخير خلية حية، لا إله إلا الله! وبعد ذلك أيضا وعيي وعقلي وفهمي ودراستي وفلسفتي وفكري واختياري وقصدي ونيتي، كل هذا أيضا لا خيار لي فيه؟ ولست واعيا به أيضا؟ ويُحركني من حيث لا أحتسب ولا أدري؟ لا إله إلا الله! ما الذي بقيَ؟ تلاشيت!
فالإنسان فعلا شعر بالضياع! لذلك ترى هذا في الإنسان الغربي. فعلا عندهم أدب كبير يُعبر عن العبثية! آداب رهيبة ومسرح وقصة ورواية! عندهم فلسفات وتوجهات في الحياة عجيبة غريبة! كلها تُترجم وتؤكد ماذا؟ العبثية وحالة الضياع والعدمية، التي يعيشها كثير منهم، مساكين! هذه كلها ضربات رهيبة جدا، راسخة بلا شك!
فهذه هي المحطات الثلاث الأساسية، في علاقة ماذا؟ العلم بالدين، وعلاقة الدين بالعلم. جميل! نترك هذا، نأتي الآن إلى مُقدمة أُخرى:
هل علاقة العلم بالدين كانت دائما، ولا تزال، وستبقى، علاقة صراعية؟ أي هي فقط Conflict؟ انتبهوا! هذا الطرح كان مقبولا إلى حد بعيد إلى ما قبل عقد الستينيات، من القرن العشرين. أي من عقد الستينيات إلى الآن، اختلف الوضع، دخلنا تقريبا في ستين سنة! قبل ستين سنة، كان هذا الطرح هو السائد الشائع، وكان مقبولا. أي حالة Default هذه، افتراضية هكذا! هو هكذا! حين نقول علم ودين، نعني أن هناك صراعا!
ستقول لي لكن إلى اليوم يُقال هذا! أنا هذا طبعا الذي يحزنني وآسف له. أيضا شباب العرب، وخاصة الملاحدة واللاأدريين هؤلاء، يتكلمون بعقلية ما قبل ستين سنة! أي هؤلاء لم يعملوا Updating، لم يحدثوا أنفسهم ولا ثقافتهم ولا قراءاتهم. يُصدقون أن النموذج الحاكم والمُعترَف به والمُفسِّر لعلاقة الدين بالعلم هو نموذج الصراع!
نقول له هذا كان من الماضي يا عزيزي، كان من الماضي. ستقول لي أي هذا النموذج غير مُعترَف؟ لا، ما زال مُعترَفا به، لكن أضعف النماذج وأقل النماذج حظا لدى مؤرخي العلم. ستقول لي جد هذا؟ والله جد. أقل النماذج! أي ربما هذا الآن يأخذ عشرة في المئة فقط من الاهتمام، والبقية للنماذج الأُخرى التي سأتلوها عليكم. وهذا من أهداف المُحاضرة اليوم، مُهم جدا، هذا هدف مُهم جدا، فانتبه!
طبعا نموذج الصراع هذا لا أقول دُشن، لكن أُكد وعُزز، بعملين ومع عملين كبيرين شرقا وغربا، وتُرجما إلى مُعظم اللُغات الحية، بما فيها العربية؛ كتاب في مُجلدين كبيرين، أنا قرأت فيه وأنا صغير، والكتاب الآخر أعرفه تماما وأنا قبل ذلك.
الكتاب الأول أعتقد – لم أُراجع أيضا هذا – لعالم كبير، وأكاديمي مشهور، أعتقد هو الذي أسس جامعة كورنيل Cornell، وهو أندرو ديكسون وايت Andrew Dickson White، اسمه تاريخ الحرب – أي Warfare. تاريخ الحرب – بين اللاهوت والعلم في العالم المسيحي. ليس في المسيحية، في العالم المسيحي.
هذا الكتاب في مُجلدين كبيرين مُهمين، وكله فقط وقائع! في علم الفلك، في علم الأحياء، في علم الجغرافيا، في علم كذا! ماذا يقول العلم؟ وماذا يقول الدين؟ موقف العلماء، موقف الكنيسة، موقف رجال الدين والخلافات وما وقع، وهذا سُجن وهذا حوكم وهذا نُفي وهذا حُرق وهذا كذا، وهذا الذي حصل! تقرأ، وتقول فعلا يا أخي هناك صراع رهيب! لكن هذا في القرن التاسع عشر.
كتاب آخر أصغر منه، أي هو ربما نحو الرُبع، أنا قرأت الكتابين، نحو الرُبع؛ رُبع الكتاب الأول، وهو للطبيب والكيميائي ومؤرخ العلم المُتواضع جون وليام دريبر John William Draper، اسمه تاريخ الصراع – أي ال Conflict طبعا، ليس الحرب Warfare. تاريخ الصراع – بين العلم والدين.
وهذا الرجل ذكرت لكم في مُحاضراتي عن التطور ربما أنه كان أحد الذين حضروا ال Debateأو النقاش المشهور بين أُسقف أكسفورد Oxford صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce، وبين توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley؛ البلدغ Bulldog الخاص بداروين Darwin، كان حاضرا يومها، حاضرا النقاش.
وذكر هذا في كتابه تاريخ الصراع، وعيّرهم بالحالة الإسلامية، وهذا شيء جميل! عيّرهم! قال لهم نحن – ما شاء الله علينا – في بريطانيا، العلم والحداثة وكذا، وفي القرن التاسع عشر! هذا كان قرن علم كبيرا، استبحرت فيه الفيزياء والكيمياء وكذا، كانوا يرون أنفسهم، لدرجة أنهم مع بداية القرن العشرين ظنوا أن الفيزياء لم يكن لديها شيء لتُضيفه! والإضافة كلها كانت بعد ذلك. فقال لك انتهينا من كل شيء، انتهينا! نحن انتهينا، بلغنا سقف العلم، أو قعر العلم. أي فكانوا يرون أنفسهم في القرن التاسع عشر.
وقال لهم وما زلنا نتناقش ضد الحقيقة الواضحة؛ أن هناك تطورا وترقيا، وأن هناك تغيرا في الكائنات الحية، بما فيها البشر؟ المسلمون – قال لهم – من قديم جدا، قبل مئات السنين، قرروا هذه الحقيقة، وظاهروها. أخذ هو معلومات عن إخوان الصفا والجاحظ وابن خلدون ومسكويه، الذين أيدوا التطور، كلهم على فكرة. وقال لهم أنا أدعو هذه النظرية – نظرية ماذا؟ ال Evolution theory -، أدعوها بالنظرية المحمدية.
فإذن لديك عملان كلاسيكيان مشهوران جدا، لا أقول دشنا، لكن أكدا وعززا نموذج الصراع بين العلم والدين. وظلا يُترجمان ويُستشهد بهما في المحافل وفي الدراسات وفي الأبحاث وفي المُناظرات، قصة! بقيَ الأمر على هذه الحالة، والنموذج المُهيمن المُتسيد نموذج ماذا؟ ال Conflict. علم ودين؛ حالة صراع، حالة اشتباك! إلى الستينيات!
مَن الذي دشن فترة جديدة، بنموذج جديد؟ عالم أمريكي. هو عالم أيضا، ولكن مؤرخ علوم أكثر منه عالما – ما شاء الله -، ولاهوتي أيضا، دارس للثيولوجيا Theology، أي – ما شاء الله – الرجل عنده تعدد مناهجي، معروف! اسمه إين، العرب يُسمونه إيان، إين بربر! العرب يكتبونه بربور، بربور! بربر. هناك Ou في Barbour، بربر! إين بربر.
إين بربر Ian Barbour في الستينيات نشر أول أعماله. إلى وقت قريب، إلى قبل ثلاث أو أربع سنوات، ينشر أعمالا! أنا – الحمد لله – اطلعت عليها، مُفيدة جدا ومُهمة، أنا وجدت كنوزا لدى إين بربر Ian Barbour، كنوزا! في كل الموضوعات التي يُعالجها – ما شاء الله -! رجل جميل! هذا الرجل نشر مقالات في – ليس On، وإنما In – في العلم والدين! Issues in Science and Religion؛ مقالات في العلم والدين – وليس On. إذا On، لقلنا حول. حول أي About، لا! هو قال In -.
ناقش مسائل دينية وعلمية، ومن خلال هذا النقاش المُعمق والمُفصل وغير المسبوق، أبرز للعالم نموذجا جديدا! نموذجا يُمكن طبعا أن نختزله بكلمة ال Integration model، نموذج التكامل! قال لك لا، النموذج الذي ينبغي أن ننحاز إليه ابتدائيا، في علاقة العلم والدين، ليس الصراع، هذا لا يُفسر، هذا نموذج فاشل، ضعيف جدا، يُفسر أشياء بسيطة، ويفشل في تفسير أكثر الأشياء.
عجيب! طبعا هذه ضربة على فكرة، وهذا خبر غير سار للملاحدة، الملاحدة العرب البُسطاء الفرحين! يلتقطون كلمة من هنا وكلمة من هنا! وغاليليو Galileo! فهؤلاء طبعا؛ الملاحدة فرحين بأن الدين يحرق العلماء! أحرقوا غاليليو Galileo أو عذبوه أو أهانوه أو كذا، والعلم دائما في حالة صراع مع الدين، إلى آخره، إلى آخره! لا، غير صحيح.
سوف تقول لي برتراند راسل Bertrand Russell، العلم والدين، ترجمة رمسيس عوض – هذا أخوه لويس عوض، أي رمسيس عوض -. انظر، كتابات برتراند راسل Bertrand Russell، وخاصة كتابه المشهور هذا! طبعا هو في عشرات المقالات يتناول العلم والدين، ومن زاوية صراعية! برتراند راسل Bertrand Russell! وكتابه – ليس كتابا كبيرا، أي حوالي مئة صفحة – عن العلم والدين؛ نفس الشيء! النموذج المُتسيد نموذج الصراع.
كتاب حتى كارل ساغان Carl Sagan، المُتوفى في تسعينيات القرن العشرين؛ نفس الشيء! وهو عالم تسكنه ال Demons أو الشياطين، عنده الصراع! سام هاريس Sam Harris اليوم هذا، عالم الأعصاب الأمريكي المُلحد، عنده الصراع! وأمثال هؤلاء. لماذا؟
أولا ينبغي أن نتنبه ونلتفت إلى أن هؤلاء ليسوا مؤرخي علم، لا أحد فيهم مؤرخ! كارل ساغان Carl Sagan عالم فلك وفيزيائي، برتراند راسل Bertrand Russell فيلسوف، لم يكن مرة مؤرخا للعلم، أرخ للفلسفة، لكن لم يؤرخ ولا يستطيع أن يؤرخ للعلم. تاريخ العلم مسألة ثانية، تخصص كبير جدا جدا!
ذكرت لكم قُبيل قليل كتاب روبرت ميرتون Robert Merton، عن العلم والتقنية في إنجلترا القرن السابع عشر! كتاب ضخم يؤرخ لشريحة زمنية محدودة جدا، بطريقة عجيبة! أعجبت العلماء والمؤرخين كثيرا! أي اعترفوا له، وقالوا إلى حد ما نموذجه في التفسير قابل للتعميم أيضا. شيء رائع جدا!
هذه تخصصات رهيبة! فلا تقل لي برتراند راسل Bertrand Russell، كارل ساغان Carl Sagan، سام هاريس Sam Harris. هؤلاء خارج ال Field، خارج المجال. صار عندنا Field أو مجال جديد للدراسة – اعرفوها هذه، هكذا تقول الدراسات الأكاديمية – دشنه إين بربر Ian Barbour، في كتابه مقالات في العلم والدين، في مُنتصف ستينيات القرن العشرين.
صار عندنا الآن حقل جديد، وبدأ الشغل عليه، ووُجد – ما شاء الله – طبعا عشرات المؤرخين، وعشرات المؤرخين اللاهوتيين أيضا، الذين تكلموا في هذا الحقل، بهذا النفس الجديد، وطبعا كلٌ يُضيف ويُشذّب وكذا! ولكن تراجع نموذج ماذا؟ الصراع! لصالح نموذجين آخرين؛ نموذج التكامل ال Integration، ونموذج الاستقلال، أو الانفصال Separation! انفصال. قال لك! يُوجد انفصال. ما معنى انفصال؟ الدين له حقله، العلم له حقله. الدين له منهجه، العلم له منهجه. الدين له لُغته، العلم له لُغته. وهكذا! قال لك كل واحد يشتغل وحده.
فنحن الآن عندنا ماذا؟ ثلاثة نماذج رئيسة. طبعا ستقول لي أنا سمعت أن هناك أربعة! نعم، إين بربر Ian Barbour نفسه أتى بهذه النماذج الثلاثة، وأضاف نموذج ال Dialogue، الحوار! لكن أنا لم أر أنه مُفيد كثيرا، الثلاثة أهم وأعمق. عند غيره ثمانية نماذج! لا، في الحقيقة يُمكن اختزالها – لأنني وقفت عليها كلها بفضل الله -، يُمكن اختزالها وردها إلى الثلاثة النماذج.
إذن نحن اليوم قد نستغرق ما بقيَ ونستغل ما فضل من وقت المُحاضرة؛ لكي نشرح النماذج الثلاثة، كلا بما يتسع له المقام؛ لأن الكلام طويل جدا، مؤلفات كثيرة أُلفت في هذا الجانب! ثم نُشير إلى بعض القضايا، التي ينبغي أن تُولى بالاهتمام، ولن نُناقشها! أي أنا اليوم حديثي سيكون حديثا عن نماذج العلاقة أكثر منه عن تناول قضايا بين العلم والدين. لا! لا نُريد أن نتناول طبعا، القضايا كثيرة!
لكن يُمكن أن أذكر لكم ستة منها مثلا مُهمة، أُرشحها لتكون في رأس القضايا التي ينبغي أن يُعاد فيها النظر في الفكر العربي والإسلامي، كما يُعيد الغربيون النظر فيها من عشرات السنين، نحن أيضا مدعوون أن نُعيد النظر وأن نُدلي بدلونا. طبعا في رأسها قضية التطور، وهناك قضايا أُخرى، خمسة أو ستة أُخرى، نذكرها – إن شاء الله – في آخر شيء، لكن لا نُريد أن نُعالج ولا قضية؛ لأن العلاج هذا سيأخذ عشرات الساعات، لكن مُقدمة فقط عن الأنماط والنماذج الثلاثة للعلاقة.
إذن موضوع الصراع هذا هو النموذج الأول كما قلنا. هنا يُمكن أن نُجلب بذكر وقائع كثيرة هي التي رشحت هذا النموذج في وقته ليتسيد ويُهيمن. الآن تراجع هذا النموذج، لما أُعيد النظر في التحقيق التاريخي لهاته الوقائع. بدأ يفقد ماذا هذا؟ مدده! يفقد مُبرراته. ستقول لي نحن لم نفهم! بمعنى ماذا؟ أقول لك بمعنى ماذا!
الآن هناك الواقعة الأيقونية، أي هذه Iconic! هذه واقعة أيقونية، هذه يُسميها أيضا المؤرخ، والكاتب الكبير، وأحد رموز البحث الآن في هذا المجال الجديد، وهو من أشهرهم على الإطلاق؛ بيتر هاريسون Peter Harrison، بالنماذجية! صاحب كاتب مناطق – كتاب المناطق Territories – العلم والدين، كأنه يقول المناطق المُختلفة! مثل النُطق الجغرافية، أي أقاليم! الأقاليم المُختلفة، للعلم والدين. وسوف نرى لماذا هو استخدم هذا التعبير الجغرافي.
بيتر هاريسون Peter Harrison رائع جدا جدا! من أفضل المُفكرين الذين بحثوا في هذه القضية، من بين عشرات آخرين! ومُتواضع أيضا، بحيث أنه يدلك على المشاريع الأُخرى ومزاياه، شيء رائع الرجل هذا حقيقة! أسترالي هو، هو مؤرخ علم أسترالي، بيتر هاريسون Peter Harrison!
فما أُريد أن أقوله إن التحقيق التاريخي في هذه الوقائع جعلنا ننظر إليها من زاوية جديدة. ليس كما كنا نظن، ليس كما كنا نظن! فهو ماذا يقول؟ يقول هذه الواقعة الخاصة بغاليليو غاليلي Galileo Galilei واقعة نماذجية Paradigmatic! من بارادايم Paradigm. الألمان مثلا يقولون باراديجما Paradigma؛ لأن هناك ال G. بارادايم Paradigm!
البارادايم Paradigm هو النموذج الإرشادي. سأشرحه، إذا تكلمت اليوم عن موضوعية العلم ونسبية العلم، وعن توماس كون Thomas Kuhn، صاحب كتاب – وهذا فيزيائي، ومؤرخ علم خطير، أمريكي، أعتقد في الثالث والستين نشر لأول مرة كتابه – بنية الثورات العلمية، ال Structure الخاص ب Scientific revolutions.
كتاب خطير جدا جدا، هذا من أهم الكتب، أي هذا Milestone يُسمونه، أي ماذا يُسمونها؟ علامة فارقة! Milestone في تاريخ فلسفة العلم في القرن العشرين. ستقول لي أي مثل كتاب منطق البحث العلمي؟ بالضبط. مثل منطق البحث العلمي! كارل بوبر Karl Popper، الإنجليزي النمساوي. كارل بوبر Karl Popper، منطق البحث العلمي! مثله أيضا ماذا؟ بنية الثورات العلمية! توماس كون Thomas Kuhn، الأمريكي. إذا تحدثنا عنه وعن منهجه وعن العلم بين الموضوعية والنسبية، فسنخوض في هذا الأمر، وإلا نتركه لفرصة أُخرى – إن شاء الله -. أي لكي نفهم ما هو البارادايم Paradigm طبعا! ما هو البارادايم Paradigm؟
لأن توماس كون Thomas Kuhn فسر التقدم العلمي كله والتغير العلمي بأنه تغير Shifting، زحزحة، في ماذا؟ في البارادايمات Paradigms. يُوجد بارادايم Paradigm، يبقى مُسيطرا لمئة أو لمئتي سنة، وبعد ذلك يبدأ يُعاني من أزمات، تبدأ تتناقص قُدرته على ماذا؟ على مُلاحقة الوقائع وتفسيرها. إلى أن يبلغ إلى درجة Critical؛ حرجة، تُنادي بضرورة تغييره، لم يعد يصلح! هذا البارادايم Paradigm لا نُريده. يأتي بارادايم Paradigm جديد.
إذن كيف هذا يحصل؟ هذا المُجتمع – ال Community – العلمي كله تقريبا، كله! يتواصى بالعمل مناهجيا وبحثيا وتفسيريا، وهناك إعادة نظر، وكلها وفق البارادايم Paradigm السائد. دائما هناك بارادايم Paradigm!
أي لكي نُوضحها؛ قبل تشارلز داروين Charles Darwin، كان هناك بارادايم Paradigm في فهم الأحياء، ومملكة الحياة كلها، ممالك الحياة! بارادايم Paradigm مُعين، اسمه سُلم الوجود. أو يُسمونه سلسلة الوجود العظمى، أي ال Great chain of being، هذه من أيام أرسطو Aristotle.
بارادايم Paradigm هذا! وهذا موجود عند إخوان الصفا، وموجود عند مسكويه، وموجود عند ابن خلدون على فكرة، موضوع ثان هذا! هم كيف فهمموا التطور؟ بصراحة لم يفهموه كما يُشاع بالمنظور الدارويني، لا! بمنظور سلسلة الوجود العظمى، هذا شيء ثان! لكي نكون دقيقين علميا وتاريخيا أيضا.
جاء تشارلز داروين Charles Darwin، وقال لك لا، يُوجد تطور عضوي، تطوري عضوي حقيقي. دخلنا في بارادايم Paradigm ثان، فرض نفسه قليلا، قليلا! الآن في اللحظة التي نحن فيها هذه – طبعا ومن عشرات السنين – البارادايم Paradigm المُهيمن في هذا الباب؛ نظرية التطور، شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى. لا يُوجد عالم من العلماء يُشكك أو يُجادل تقريبا، أي عالم مُحترم، انس! المُجتمعات العلمية، الجامعات، المدارس، الكتب المنهجية، كلها! هذا البارادايم Paradigm.
وعلى فكرة، مثلما وضح توماس كون Thomas Kuhn البارادايم Paradigm لا يؤثر في نطاق ضيق، أي في نطاق مثلا البيولوجيا Biology، لا! يُلقي بظلاله مناهجيا، على منهج العلم نفسه، ومناهج العلوم المُرتبطة، حتى الفيزياء، والكيمياء! وعنده أيضا ظلال في الفلسفة، تخيل! ومناهج الفكر المُختلفة، وفي النقد الأدبي، والتاريخ، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد! الآن حتى كلمة تطور تجدها تقريبا في كل الحقول المعرفية! مُقاربات تطورية! شيء غريب! وتستوحي لُب النظرية التطورية العضوية! هذا البارادايم Paradigm.
نحن نعيش الآن في بارادايم Paradigm ماذا؟ ال Evolution. هذا هو! شئنا أم أبينا. وفي الفيزياء لا يزال هناك ثان! كان عندنا البارادايم Paradigm النيوتني؛ Newtonian paradigm، نيوتن Newton! اشتغل لمدة مئتي سنة، ثم استُبدل، استُبدل! نماذج جديدة جاءت، حلت محله! النسبية والكم. بارادايم Paradigm جديد! هذا الآن كل الشغل عليه، حاولوا أن يجعلوها نظرية مُوحدة واحدة، ستكون بارادايم Paradigm أعمق وأضخم وما إلى ذلك، لم ينجحوا إلى الآن، قصة!
نرجع، فهو ماذا يقول؟ يقول هذه واقعة أو وقائع بارادايمية Paradigmatic. عجيب! لأنها نموذجية ومُهمة. أنا قلت Iconic! أي أيقونية. فيقول لك غاليليو Galileo، مُحاكمة غاليليو Galileo. ما قصة غاليليو Galileo؟ لن أتحدث عن الرجل كترجمة، لا يعنينا. بكل بساطة الرجل كان رياضيا، وكان فيزيائيا، وكان عالم فلك، وعنده إسهامات بسيطة في التقنيات؛ لأن الذي صنع التلسكوب Telescope كما قلت قريبا هو واحد هولندي، لكن هو حسّنه وطوّره، بحيث ضعّفه إلى ثلاثة أضعاف، ثم إلى أضعاف مُضاعفة بعد ذلك، لكن المُخترع له هولندي. هذا هو من ناحية علمية، باختصار مُخل جدا جدا.
تبنى نموذج نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus، قال أنا لم أعد أؤمن، كما كنت أفعل، بأن الأرض هي مركز العالم، الكون! لا، المركز هي الشمس. واضح؟ جميل! لم يتكلم أحد معه. في البداية، ألف وستمائة وثلاثة عشر – على ما أذكر – أرسل رسالة إلى أحد تلامذته، يذكر له مُسوغاته لتبني هذا النموذج، ويُعرب له فيه عن أننا لو تبنينا هذا النموذج، الذي هو أدق وأصح من وجهة نظري، فلن نقع في خصام أو تناقض مع ماذا؟ مع الكتاب المُقدس. قال له وجهة نظري أنا أنه لا يختلف مع الكتاب المُقدس، هم يرون هذا، لكن أرى أنه لا يختلف.
الآن هناك مسألة جديدة تنبهوا إليها على فكرة، في تاريخ العلم الآن، يُوجد شيء جديد. طبعا غاليليو غاليلي Galileo Galilei في القرن السابع عشر. في القرن السابع عشر حصل شيء لأول مرة! هذه ليست فكرتي، هذه فكرة هاريسون Harrison، الذي ذكرته قبل قليل، الأسترالي. قال في القرن السابع عشر حدث شيء لأول مرة يحصل في تاريخ العلاقة، ولو حدث في العصور الوسطى، لما كان مفهوما، ولم تكن هناك إمكانية أصلا لأن يحدث، مُستحيل! لم تكن هناك إمكانية!
وهو أن العلماء فعلوا الآتي! مَن نُسميهم نحن العلماء، بلُغة عصرهم اسمهم الفلاسفة الطبيعيون، تمام؟ وذكرت لكم أكثر من مرة إسحاق نيوتن Isaac Newton الذي ألف كتابه العظيم برنسيبيا Principia، أو برنشيبيا، أي المبادئ! اسمها ماذا هي؟ المبادئ الرياضية – لأنه بالرياضيات – للفلسفة الطبيعية. لم يقل للفيزياء، للكونيات. سماها فلسفة طبيعية؛ لأن كلمة علم لم تكن موجودة هذه. علم، علم طبيعي، لم يكن هناك Science. اسمها فلسفة طبيعية.
ستقول لي هذا يلتقي مع حقيقة أن الفلسفة أم العلوم! بالضبط، الفلسفة أم العلوم. وبعد ذلك استقلت العلوم علما علما! كل واحد يطلع، كل واحد يطلع، كل واحد يطلع، أرأيتم؟ طلعت الفيزياء، الفلك، الكيمياء، آخر واحد طلع؛ الأحياء، مع داروين Darwin، توقفنا عن أن نكون فلاسفة، هذا صار علما. لماذا؟ لأن الفلسفة تأملية، أليس كذلك؟ وأحيانا إذا لم تُحكمها، يُمكن أن تكون معيارية، يُمكن! للأسف، خاصة إذا فلسفة لاهوتية دينية، يكون جزء منها ماذا؟ معياريا.
فبالنسبة للسيد غاليليو غاليلي Galileo Galilei، من فلورنسا هذا كما قلنا، عمل شيئا جديدا لأول، لم يكن مُمكنا أن يحصل قبله في العصر الوسيط، حصل في العصر الحديث، في القرن السابع عشر! ما هو؟ أن يتقدم الفيلسوف الطبيعي بتفسيرات دينية. ستقول لي عجيب! لأول مرة يحصل هذا، وممنوع قبل ذلك ممنوع! لماذا؟ لأن المُخول الوحيد أن يُقدم تفسيرات دينية رجل الدين. الأُسقف، الكاردينال Cardinal، البوب Pope، ليس العالم الطبيعي، ممنوع! فيلسوف طبيعي، ابق مع كلامك، ولا تتدخل في الدين. الدين حكر على مَن؟ على مَن ذكرت.
ستقول لي معناها هذا حصل في القرن السابع عشر لأول مرة بتأثير ال Religious reformation، الإصلاح الديني! بالضبط، الإصلاح الديني قدّم أشياء كثيرة إيجابية، وبعضها سلبي. في رأس إيجابيات الإصلاح الديني، اللوثري بالذات، ثم الكالفني، ثم غير ذلك، ما هو؟ تجريء الناس وتجسير الناس – خلق الجسارة والجراءة في الناس – أن يقرأوا الكتاب المُقدس بعيونهم، وخلفياتهم الثقافية.
قال لك هذا الكتاب ليس حكرا على البابا، ولا الأُسقف، ولا الكاردينال Cardinal، ولا كذا! أنت أيضا تقدر على أن تقرأه! لكن هو مكتوب باللاتينية، ولسنا جميعا نفهم اللاتينية! قال لهم لوثر Luther اتركوها علي. أول مرة يُترجم الكتاب المُقدس – الألمان يُسمونه Bibel، ال Bible هذا – من اللاتينية إلى الألمانية. خُبراء اللُغة الألمانية، الألمان أنفسهم، قالوا لك ترجمها بألمانية يفهمها الشعب – كل الشعب! حتى غير المُثقفين -، ومع ذلك قوية ومتنية. كان مُثقفا هذا، مارتن لوثر Martin Luther! أي ليس أي كلام. ترجمه، وقال لهم تفضلوا.
وبعد ذلك كرت السبحة، صار يُترجم بلُغات أوروبية أُخرى. ترجم، ترجم، ترجم! قالوا للناس كل واحد فيكم عنده اللياقة وعنده الصلاحية. نحن كإصلاحيين نقول لك عندك الصلاحية. افتح ال Bible هذا وفسر واقرأ وافهم وحدك، لا تنتظرني أنا حتى أشرح لك كل شيء.
فهذه جرأت الناس، فضلا عن الفلاسفة الطبيعيين، الذين سيصيرون بعد ذلك علماء، أن يكون لهم موقف في تفسير وفهم الكتاب المُقدس. لذلك ستقول لي نعم، الآن بدأت الصورة تتكامل، بدأت أفهم الكلام الذي ألمعت إليه؛ كيف أن الدين في مطلع العصر الحديث ساهم في إعطاء العلم شرعية! هذه هي، هذه البدايات، لا تزال! أي لولا ثورة الإصلاح الديني، لتأخر بزوغ العلم الحديث كثيرا.
ستقول لي إذن هو السبب الوحيد؟ لا، أنا أقول لك الإصلاح الديني شرط ضروري Necessary، لكنه ليس Sufficient. أي شرط ضروري، لكن ليس كافيا. وحده لن يُحدث ثورة علمية، لكن من غيره، ما كان للثورة العلمية أن تكون. هل فهمت ما قصدت؟ هذا معنى ضروري وليس كافيا! Necessary but not sufficient، ضروري وليس كافيا. هناك أشياء أُخرى لا بُد وأن تجتمع، وهناك أشياء أُخرى على فكرة، هذا أول شيء بسيط، هناك أشياء أعمق، الدين قدمها، الدين!
لذلك العلم الحديث وُلد في رحم الدين، ما رأيك؟ نعم، في رحم الثيولوجيا Theology. فتقول لي هناك خلاف! ليس هناك خلاف، لا! بالعكس، يبدو أن العلاقة بينهما أفضل مما كنا نظن، وعلى العلم أن يتواضع، وألا يجحد فضل أبيه وأمه، الذي هو مَن؟ الثيولوجي Theology، اللاهوت. لهما فضل كبير جدا عليك. وسوف نرى كيف هذا فيما بعد. هذه القضايا الجديدة في هذا المبحث، التي صار عمرها الآن زُهاء ستين سنة، ودخلنا في السبعين الآن. هذه النماذج كلها جديدة، وليس نموذج الصراع القديم.
فغاليليو Galileo الآن في رسالته لتلميذه، وبعد قليل في رسالته إلى الدوقة العُظمى، الGrand duchess ، أم الدوق؛ ال Duke، الذي هو كان مُوظفا عنده، أى غاليليو Galileo -، سيُقدم تفسيرات، وسيُقدم مناهجية في التفسير الديني! جراءة كبيرة! وعلى فكرة، هذا أحد أسباب الغضب عليه ومُحاكمته! أنك دخلت في حقلنا، أنت دخلت في الحقل اللاهوتي، ما علاقتك أنت؟ ابق مع تلسكوباتك، ومع أجسامك، ومع البندول الخاص بك، ومع حساباتك ورياضياتك، ولا تتدخل في الدين بالمرة.
هو تدخل، قال لك لا. أنا مُتدين في الأخير – قال لهم -، أنا مؤمن! مؤمن بالمُخلص، ومؤمن بال Bible، ومؤمن وأُريد أن أُقدم هذا، وهو من حقي! الإصلاح الديني هو الذي مهد لهذا. هل فهمتهم ما قصدت؟ لذلك نرجع، نُعيد الاعتبار إلى مَن؟ إلى ميرتون Merton. ميرتون Merton الذي قال لك ماذا؟ العلم والتكنولوجيا في إنجلترا القرن السابع عشر! لكي لا نختزل.
انتبه! كُن دائما دقيقا وحذرا، حين تنتقد الباحثين الكبار. أي لا تظن أنك أذكى منهم ببساطة هكذا؛ أنه نعم، أرأيتم؟ لا طبعا. صحيح أن غاليليو Galileo ومَن تلا كاثوليك، لكن في نهاية المطاف الثورة الإصلاحية في جوهرها، ثورة ماذا هي؟ كاثوليكية. أي ليس دينا آخر جاء إلى الفضاء الأوروبي وأصلح. ضمن الكاثوليك! مارتن لوثر Martin Luther نفسه هو راهب كاثوليكي، أليس كذلك؟
لذلك البروتستانتية هذه، ثورة المُعترضين، هي ثورة ماذا؟ كاثوليكية! داخل رحم الكاثوليكية؛ لإصلاحها. شقتها بعد ذلك إلى قسمين، ثم انشقت هي بدورها إلى أقسام كثيرة. فهي من الداخل! وهنا هذه ظلال التأثير على مَن؟ على غاليليو Galileo وأمثاله. هو أخذ بعض الثمرات. إذن كلام ميرتون Merton في العموم صحيح، ولا يُشكل عليه أن مَن ذكرنا كانوا كاثوليكا، ولم يكونوا بروتستانتا. ليس شرطا أن يتحول في الناحية الدينية هو، ولكن تأثيرات الثورة الإصلاحية الدينية لم تُغادره، لم ينج منها، أبدا! بل تمتع بها.
فغاليليو Galileo قال ماذا لتلميذه هذا؟ قال له أنا أرى أننا إن تقبلنا النظام الكوبرنيكي هذا، فليس بالضرورة أن يعترض مع الدين، بالعكس! أنا أرى أنه يتفق مع الدين. وهذه رسالة سرية، لا ندري كيف حصل وسُربت الرسالة، طلعت! افتخر بها التلميذ، أعطاها لواحد آخر، لا ندري كيف! سُربت الرسالة، فأغضبت الكنيسة.
أغضبت الكنيسة من جهتين طبعا؛ الجهة الأولى أنه يتبنى نظام مركزية الشمس، ال Heliocentricity. Heliocentricity؛ الشمس هي المركز، وليس ال Geocentricity. هذا عكس السائد. ستقول لي لماذا؟ أي ما العلاقة؟ هل الكتاب المُقدس يقول هذا؟ لا، ليس الكتاب المُقدس، أرسطو Aristotle! إذن ما علاقة أرسطو Aristotle؟ أرسطو Aristotle وثني Pagan! أرسطو Aristotle كان يُعتبر فيلسوفا وثنيا!
نعم، هذه مُشكلة الكنيسة، بالذات في الفترة المدرسية، أي من بعد ألف! من بعد ألف، وأبرز أعلامها أنسلم من كانتربري Anselm of Canterbury، أنسلم Anselm! وبعد ذلك مَن؟ أضخم الأعلام على الإطلاق توما الأكويني Thomas Aquinas! of Aquino. توما الأكويني Thomas Aquinas أكبر واحد هذا، إلى اليوم على فكرة.
إلى اليوم لم تتخل أو لم تتخلص أوروبا من التأثيرات الساحقة للفكر التوماوي واللاهوت التوماوي والفلسفة التوماوية، شيء رهيب الرجل هذا! وهذا على فكرة، لن أقول لك عالة، لكن يُمكن أن نعتبره، ونحن مُطمئنون، أحد التلاميذ البررة للتراث الإسلامي، لما يُعرف بالذات بالرشدية اللاتينية، ابن رشد اللاتيني! قصة! الرشدية اللاتينية! عبر أستاذه الأكبر، أستاذه هذا كان رشديا لاتينيا، ودرس تراث ابن رشد.
ثم جاء بعد ذلك روجر بيكون Roger Bacon، ليس فرانسيس بيكون Francis Bacon، روجر Roger، في القرن الثالث عشر، الذي سُجن أربع عشرة سنة، ومُنع من نشر أعماله. روجر بيكون Roger Bacon كان يستشهد بالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وبالأسماء. وكان يقول نحن بالنسبة إليهم والقياس إليهم لا شيء، لا نفهم شيئا! يجب أن نتحلى – يقول – بالتواضع، ونتعلم من هؤلاء. قال هؤلاء الناس مُفكرون عظام جدا! ويُقال إنه كان يعرف العربية، تعلمها! روجر بيكون Roger Bacon!
لذلك اتُهم بالهرطقة، وسُجن أربع عشرة سنة. أي أول مَن تكلم عن بذور الملامح؛ ملامح المنهج التجريبي، ليس فرانسيس بيكون Francis Bacon في النوفوم أورغنوم Novum Organum، روجر بيكون Roger Bacon، في القرن الثالث عشر.
وروجر بيكون Roger Bacon هو أحد أبرز أعلام المدرسة السكولائية، ال Scholasticism، الفلسفة المدرسية هذه. التي هي ماذا؟ ثيولوجيا Theology – علم لاهوت، علم عقيدة -، بالمنطق الأرسطي. كيف وصل إليهم الشيخ أرسطو Aristotle هذا؟ عن طريق الرشدية اللاتينية، ابن رشد! عن طريق الرشدية اللاتينية. وبعد ذلك تعرفوا عليه، وبعد ذلك استقلوا حتى بمعرفته من طُرق أُخرى، لكن هذا مُتأخر.
عندنا أيضا ماذا؟ أوكام Ockham؛ وليم الأوكامي William of Ockham. هذا آخر المدرسيين العظام، وإليه يُنسب نصل أو موسى أوكام Ockham’s Razor. يقول لك نصل أوكام Ockham. له هذا! هذا فيلسوف مدرسي. واضح؟
المُهم، هؤلاء جميعا كانوا يدينون بالولاء الفكري والفلسفة لمَن؟ لأرسطو Aristotle. هكذا الفلسفة المدرسية، عن طريق الرشدية اللاتينية. وقبل ذلك، ماذا كان؟ لا، لم يكن لهم علاقة بأرسطو Aristotle، المسيحية الغربية هذه، وبالعكس! كان المقبول والشائع عندهم موالاة مَن؟ النظام الأفلاطوني؛ أفلاطون Plato، وأفلوطين Plotinus الإسكندراني، صاحب الأفلاطونية المُحدثة. بتأثير مَن؟ بتأثير رجل كان دارسا لأفلاطون Plato وأفلوطين Plotinus قبل أن يرجع إلى الدين، ويصير لاهوتيا عظيما. وهو مَن؟ القديس أوغسطين Augustine! سانت أوغسطين Saint Augustine، من هيبو Hippo، المُتوفى في أربعمائة وثلاثين.
هذا الذي أدخل الأفلاطونية والأفلوطينية إلى ماذا؟ إلى السياق المسيحي الغربي. واضح؟ وفعلا الأفلوطينية أقرب إلى روح الدين التوحيدي من أرسطو Aristotle، وسوف نرى لماذا أيضا، هناك أشياء الآن إذ ذكرناه – إن شاء الله -، أرجو ألا ننساها. بعد ذلك دخل أرسطو Aristotle عن طريق الرشدية اللاتينية، صار مرجعية! Authority! مرجعية، سُلطة يُسمونها، سُلطة! سُلطة ممنوع يُعترض عليها! يوجد تعصب.
فنرجع إلى أخينا الشيخ غاليليو Galileo؛ تسربت الرسالة، فتم كما قلنا إبداء الكنيسة عن موقف غاضب مُستاء جدا، منعوه أن ينشر أعماله، منعوه أن يُدافع عن هذا النموذج الكوبرنيكي بأي طريقة من الطرق، قالوا له ممنوع، الزم حدك، وإياك أن تتجاوزه! لا نُريد أن نسمع عنك أي شيء. هذا في سنة ألف وستمائة وست عشرة. الرسالة كتبها في ألف وستمائة وثلاث عشرة. في ست عشرة تسربت.
إياك! قالوا له، وهددوه. خاف المسكين، توقف عن الكلام، توقف عنه! بعد ذلك؛ أتى عام ألف وتسعمائة واثنان وثلاثون. باربريني Barberini هذا كان كاردينالا Cardinal كبيرا وصديقه وعالما، وكان عنده علوم كثيرة. على فكرة لم يكن نادرا أن تجد أُسقفا كبيرا أو كاردينالا Cardinal مثلا، ويكون عنده معلومات في الرياضيات، في الفلك، في النحو، وفي كذا، أي كانوا يعرفون! هم كانوا مُثقفين، كانوا مُثقفي تلك العصور! هم! رجال الدين على فكرة، هم! هم!
فهذا كان عنده بعض المعرفة بالفلك والرياضيات، ويعرف أن غاليليو Galileo هذا عالم كبير، وعنده فتوحات علمية، فكان مُتعاطفا معه، وتوسط له عند البوب Pope وما إلى ذلك. قالوا له لا تُوجد مُشكلة، تستطيع أن تُعبر عن أفكارك، ولكن ابتعد فقط عن كوبرنيكوس Copernicus. أشياء ثانية؛ عن البندول وما البندول والحركة والقصور الذاتي والنسبية وأصحاب الحركة النسبية – ليس نسبية أينشتاين Einstein -، أهلا وسهلا، لكن ابتعد عنه.
فهذا المسكين صدق أنه فُرج له، فذهب ونشر عمله المُغضِب جدا؛ حوار بشأن النظامين الرئيسين Chief systems! Main/ Chief systems. يقول! أي Dialogue Concerning the Two Chief World Systems. اسمه هكذا! حوار بصدد أو بشأن أو فيما يتعلق بالنظامين الرئيسين للعالم! اللذين هما ماذا؟ البطلمي، والكوبرنيكي.
وأجرى الحوار على ألسنة ثلاثة أشخاص: شخص مُتشيع لبطليموس Ptolemy، وشخص مؤيد لكوبرنيكوس Copernicus، وشخص مُحايد، يستمع إلى الاثنين، ولكنه ليس مُتشيعا لأحد. كأنه يقول أنتم أحرار يا أخي، أعطوا الناس حرية، كل واحد يأخذ الموقف الذي يُريده.
طبعا غضبت الكنيسة، غضبت جدا! قال لك هذا رجع، ها هو يُدافع عن النظام الكوبرنيكي، وقد ألف كتابا كبيرا. هذا الكتاب من حُسن الحظ تُرجم إلى العربية، تخيل! في ثلاث مُجلدات. فاستُدعيَ إلى المحكمة، كما قلنا طبعا باحترام، لم يُسجن، لم يُوضع في القفص، لم يُهن، وكان يُعامل باحترام وحوار. بعد ذلك تشبث برأيه، ودافع عن رأيه، وناقش بالأدلة. تم تهديده! في الأخير رفعوا النبرة؛ أنه لا، يُمكن أن تخضع بعد ذلك للتعذيب. هناك المخلعة، وهناك المشلحة، وهناك غير ذلك! وأنت تسمع عنهم.
طبعا ستقول لي هل في تلك الأيام كان هناك محاكم تفتيش؟ من قديم! لها أربعمائة سنة! محاكم التفتيش دُشنت في القرن الثالث عشر، بأمر البابا نفسه! في القرن الثالث عشر Inquisitions؛ محاكم تفتيش! السيد أرسطو Aristotle في القرن السابع عشر الآن، نحن الآن في سنة ألف وستمائة وثلاث وثلاثين! محاكمة غاليليو Galileo في ألف وستمائة وثلاث وثلاثين! وكان عمره سبعين سنة، شيخ كبير في السن، مسكين! فهُدد، فتراجع.
قال لا تُوجد مُشكلة. قالوا له تُوقع الآن، تُقسم بالرب الجليل أغلظ الأقسام، أنك تبرأ من هذه الأفكار، ولا تؤمن بها، ولا تؤيدها، ولا تُشيعها، ولن تدعو إليها فيما بعد، بأي وسيلة، تُقسم؟ قال أُقسم. وتؤكد أن الأرض ساكنة؟ قال ساكنة، لا تدور. وهي المركز، والشمس تدور حولها؟ قال لا تُوجد مُشكلة، أقول.
وهنا الأسطورة التي لم تثبت، لكن أسطورة! أن هذا المسكين وهو يُقسم ويقول، ضرب برجله هكذا، أسطورة! ولكنها تدور. قال! لا يُمكن أن تكون هذه أسطورة إلا للمتشيعين معه. وطبعا حُكم بالسجن، ثم خُفف مُباشرة، لم يُسجن، خُفف من السجن إلى الإقامة الجبرية في بيته. وفعلا ظل في بيته عشر سنوات، وأُصيب في آخر ثلاث سنوات بالعمى والصمم. لم يعد يسمع المسكين ولم يعد ير، وألف بعض الكتب المُهمة، ومات. مات في بيته، في إقامة جبرية، لا عُذب، ولا خُلع، ولا شُلّح، أبدا، أبدا! هذا الذي حصل.
الآن – هذا نعرفه، وسمعناه ألف مرة قبل ذلك – ما الجديد؟ الجديد أن الصورة النمطية؛ أن السيد غاليليو Galileo اضطُهد كنسيا، اضطُهد كنسيا وتم قمع العلم والبُرهان العلمي باللاهوت المحض، غير صحيح. في الحقيقة النقاش الذي دار كان نقاشا في جُزء كبير منه علميا. ما رأيك؟ ونوقش الرجل علميا. ستقول لي ماذا؟ طبعا. هذا الذي لم نكن ندريه نحن، والآن التحقيق التاريخي بدأ بالتفصيل يوضحه، هناك محاضر تطلع، بالتفصيل!
أول شيء؛ نُقطة الضعف الكُبرى في موقف غاليليو Galileo تعرفون ما هي؟ ليس عنده أدلة علمية كافية، يؤيد بها نظام كوبرنيكوس Copernicus. نظام كوبرنيكوس Copernicus فشل أن يُفسر أشياء كثيرة فلكيا، لم يقدر! والأنظمة الأُخرى فسرتها.
أي نظام بطليموس Ptolemy كان يُفسر المنظر النجمي Parallax، نظام كوبرنيكوس Copernicus كما فهمه غاليليو Galileo ودافع عنه لا يُفسر، لا يقدر، يعجز! قالوا له تفضل، إن كانت هذه النظرية صحيحة، فلماذا لا تُفسر؟ وال Parallax بعينك تراه أنت! بالعين نراه، أي عادي، مسألة سهلة. فلماذا أنت غير قادر على أن تُفسر؟ ليس عنده تفسير!
ثانيا نظام كوبرنيكوس Copernicus كما عرضه غاليليو Galileo ودافع عنه وحامى عنه فشل أن يُفسر أطوار الزُهرة، ال Phases of Venus. الزُهرة عندها أطوار كالقمر. القمر يُفسر، فسرها كوبرنيكوس Copernicus، وفسرها بطليموس Ptolemy، صحيح! أطوار الزُهرة بطليموس Ptolemy يُفسرها، كوبرنيكوس Copernicus لا يقدر على أن يُفسرها، يعجز! هل فهمتم ما قصدت. قالوا له ها هي، تفضل.
وأشياء أُخرى من هذا القبيل، كشف عنها التقصي التاريخي الآن بدقة. إذن هو لم يكن فقط مُجرد ضحية لتعصب كنسي، لا! موقفه كان يُعاني من عدم الكفاية العلمية. من ناحية علمية يُوجد نقص في أدلتك، وتأتي تُريد أن تهدم لنا نموذجا قديما، ونحن نُفسر الدنيا عليه! لا يصح يا أخي، ائت لنا بأدلة كافية، وبعد ذلك نحن سوف نرى. أما هكذا بأدلة ناقصة مثل هذه، فلا.
إذن من ناحية علمية، هذا الذي حصل. وكما قلنا الرجل عومل باحترام وإجلال، لم يُمتهن، ولم يُوضع في قضبان، أبدا! واضح؟ إذن المسألة كانت أيضا في جُزء منها صراع علم مع علم، صراع علم مع علم!
على فكرة، يندر أن تجد فيمَن يتحدث عن صراع الدين والعلم، مَن يُذكّرك بالحقيقة التي هي أكثر من لائحة وأكثر من فاقعة؛ أن العلم دائما في داخله صراعات، وصراعات حامية الوطيس! صراع علم مع علم، ونموذج مع نموذج، ونظرية مع نظرية، وعالم مع علم، أو عالم مع علماء، دائما! دائما هذا موجود! أليس كذلك؟ باستمرار! فليس لازما دائما أن نُفسر أن هذا اضطهاد وأنه تسلط. صراعات تقع، اختلافات وجهات نظر، أليس كذلك؟ إلى أن يُثبت أحد المواقف، أو إحدى النظريات، أو إحدى الفرضيات، جدارته بقوة حقيقية، انتهى! يصير الناس إليه.
فهذه ناحية مُهمة، لا بُد أن نعرفها. أيضا مثار آخر، من مثارات الغضب على الشيخ غاليليو Galileo؛ لأنه كان كبيرا في السن، مسكين! ما هو؟ كما قلت لكم إن الرجل تدخل فيما لا يعنيه، وهو التأويل الديني. مع أننا – ليس بالنسبة لي أنا فحسب، بل بالنسبة لكل الفكر العالمي الآن الغربي -، نشكر له أنه تجرأ وفعل هذا.
لماذا؟ لأنه فعله بحذق وذكاء. وتستغرب أن هذا الرجل في القرن السابع عشر – وقد لمس طبعا وعاش هذه الحالة من التوتر بين العلم والدين – يُقدم مُقترحات لفك الاشتباك، لفك وتخفيف النزاع، بهذه الجودة! والله غريب! لكن هذا غاليليو Galileo، أي شخص عبقري، بلا شك! أي هذا أحد العباقرة، أي ليس أي إنسان، ليس مُجرد عالم بسيط أو مُفكر عادي، دماغ كبير، عقل!
أين ذكر ذلك؟ ذكر ذلك في رسالته إلى الدوقة العظمى، ال Grand duchess، التي هي أم الدوق الأعظم، ال Grand duke – الذكر يُسمونه Duke -. هذا كان غاليليو Galileo موظفا عنده أصلا، يشتغل عنده، يُموله هو، يُمول أبحاثه العلمية. فالدوقة العظمى كريستينا Christina قالت للشيخ غاليليو Galileo، قالت له بصراحة أنا يا سيد غاليليو Galileo مُرتابة وقلقة من قضية أن هذه المعارف الحديثة التي أنت تشتغل بها، أنت وكيبلر Kepler وتايكو براهي Tycho Brahe، وقبلكم كوبرنيكوس Copernicus، يُمكن أن تختلف مع الكتاب المُقدس. أنا عندي قلق – قالت له -، مسألة خطيرة هذه! نفقد الكتاب، نفقد الإيمان الخاص بنا!
فذهب وكتب لها رسالة، سُبحان الله! مُلخص هذه الرسالة العبقرية الجميلة – أدعوكم إلى قراءتها والاستفادة منها. كل واحد يُريد أن يتكلم عن علاقة العلم بالدين، لا بُد وأن يقرأ رسالة غاليليو Galileo إلى الدوقة العظمى كريستينا Christina – أنه مهد فيها أربعة مبادئ في مُعالجة هذا الملف الساخن، أربعة مبادئ! عجيب!
المبدأ الأول له علاقة بالتعليق، يُمكن أن نسميه التعليق، أنا من عندي هذا هكذا؛ لكي أُعطيه كلمة تُفهم، أي Suspension. ما التعليق؟ قال لك حين تذهب كفيلسوف طبيعي – الذي نحن الآن نُسميه ماذا؟ العالم، ال Scientist. هم قديما كانوا يُسمونه الفيلسوف الطبيعي – تدرس العالم، تدرس الطبيعة – الأرض، النبات، الحيوان، النجوم، الكواكب، إلى آخره! الأوربيتس Orbits، وكذا -، عليك أن تضع عقيدتك الدينية ونصك المُقدس بين مُزدوجين. لا تكفر به، ولا تستعن به، علّقه. قل له الآن ابق هنا – أطال الله عمرك -، اتركني وحدي أكمل شغلي، اتركني وحدي أكمل شغلي بحرية. مبدأ عبقري!
ستقول لي هذا المبدأ مناهجيا – أي ميتودولوجيا – يُمكن أن يُترجم إلى هذه العبارة! ما هي؟ العبارة العامية المعروفة المجازية؛ العربة والحصان. ممنوع تضع العربة أمام الحصان، أليس كذلك؟ لا ينفع! لا بُد أن يكون الحصان أمام العربة. أي – تقول لي – المُقدمات والنتائج؟ بالضبط، ممنوع أن تضع المُقدمات في النهاية، المُقدمات في البداية، آخر شيء نصل إليه النتائج، أليس كذلك؟ لكن أنت حين تأتي إلى مبادئ عقدية وتفسيرات كتابية ونص مُقدس، انتهى، أغلقت القوس أنت، انتهى! أليس كذلك؟
قل لا، أنا لن أستعين بالنص المُقدس، ليس لي علاقة به ولا بتفسيراته، أنا الآن باحث طبيعي! أدرس النبات، أدرس الحيوان، البكتيريا، الأميبا، القمر، الشمس، النجوم، ال Parallax هذا، ال Phases، الكذا! اترك الكتاب المُقدس. أدرس الشيء بمنهجه، بحسب قُدراتي وآلياتي. جميل! وهذا لا يعني أنك تشطب على الكتاب المُقدس، لكن تُعلق النظر فيه.
الآن هو تخيل الدوقة كريستينا Christina ستقول له إذن ماذا لو انتهت تقصياتك العلمية إلى نتائج تختلف مع الكتاب المُقدس؟ ماذا سيحصل؟ قال لها هنا نأتي إلى المبدأ الثاني، نأتي إلى المبدأ الثاني! أنا أفترض – قال لها – أن الرب الجليل حين تعرف إلينا، وتواصل معنا، لم يتواصل عبر منهج واحد، ولا وسيلة واحدة، ولا لُغة واحدة، لا! وسيلتين، ومنهجين، ولُغتين! كما نقول نحن الآن؛ الكون المسطور، والكون المنظور. النص المُقدس والعالم. قال لها أكيد! هذه فكرة الكتابين كما قلت لكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق