إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۩ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ۩ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ۩ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
حتى الشيطان إخواني وأخواتي أعظم وأكبر وأضخم ذريعة يتشبَّث بها العُصاة والخاطئون والغالطون سيُعلِن براءته التامة يوم القيامة مُحيلاً على ما أُوتينا من إرادة حُرة، وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۩، هذا العالم عالم التفاعلات، عالم التشابكات، يشتبك فيه ويتفاعل ويتآزر ويتبادل التأثير النور والظلام ، الخير والشر، الجمال والقُبح، العُلوي والسُفلي، كل ما فيه من كوائن وموجودات تتبادل التأثير، طبيعي! وبما أن للشيطان نصيباً وحظاً من الوجود في هذا العالم فلابد أن يكون له فعله واشتغاله، وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۩.
لاحظت إخواني وأخواتي أن الخُطبة السابقة أثارت قدراً هائلاً من النقاش والجدال والأخذ والرد، ويبدو أنها مست وتراً حسّاساً عند بعض الناس – لا أُريد أن أُعيِّنهم أو أن أُحدِّدهم – الذين يستنيمون إلى الاعتقاد بالمقهورية، بالمحتومية، محتوم عليهم وإن يكن ليس لله الذي لا يُؤمِنون به وإنما للمادة وفواعل وقوانين ودساتير المادة، استناموا إلى هذا الاعتقاد، يُعجِبهم كثيراً أن يكونوا مجبورين محتومين مقهورين، لماذا؟ لكي يُسكِتوا صوت الضمير، أنات الضمير، قلق الضمير!
لو فرضنا أعتى مُلحِد لا يستطيع أن يقول أنا مُلحِد بنسبة مائة في المائة، ولكم عبرة في ريتشارد دوكينز Richard Dawkins، يقول لا، لا يُمكِن، أعتى مُلحِد لا يستطيع أن يقول أنا مُنكِر لوجود الله – تبارك وتعالى – بنسبة مائة في المائة وأنا أقطع بهذا، مُستحيل، كلهم يعترفون، هناك احتمال أن يكون موجوداً وهذا الاحتمال مُقلِق ومُخيف جداً، لأنه إن كان حقاً موجوداً فأنت تُغامِر بحياتك الأبدية خاصة إذا كنت تعلم فيما بينك وبين نفسك أنك تورطت وانخرطت في هذه اللُعبة الإنكارية الجحدية لأسباب نفسية، أسباب مُعيَّنة، بعض الناس يُحِب أن يلعب دور أستاذ على جماعة من المُغفَّلين والغلابة والمساكين، دور أستاذ يُعلِّمهم الإلحاد والتشكيك والكفر والجحود، ولذلك هو لا يخضع لأي حُجة مُضادة ويكون لديه قدر من الوثوقية واليقينية يُحسَد عليه من قِبل الأغمار والجهّال طبعاً وليس من قِبل الحكماء والفلاسفة!
هذه القضية التي تناولناها أيها الإخوة في الخُطبة السابقة وسنُتابِع تناولها في هذه الخُطبة لم نجد عالماً مُحترَماً أو فيلسوفاً مُقتدِراً يقول الرأي النهائي فيها كذا أبداً، الكل يعلم أنها من عويصات بل بعض الفلاسفة قرَّروا من غير تردد أنها أعوص مُشكِلة فلسفية على الإطلاق، مُشكِلة حرية الإرادة، إيمانويل كانط Immanuel Kant الفيلسوف الألماني النقدي العظيم جعلها ثالثة ثلاثة أيها الإخوة، قال هذه المُشكِلات أو هذه القضايا تتخطى الذكاء البشري، لا يستطيع الذكاء البشري أن يحلها، هكذا زعم كانط Kant ونُخالِفه، وهي مُشكِلة الله – تبارك وتعالى – والخلود والإرادة الحرة الـ Free will، المُشكِلة أعقد مما يتخيَّل إنسان بسيط قرأ هُتامات وشذرات من هنا وهناك أو سمع أيها الإخوة وتابع، مُشكِلات في مُنتهى التعقيد.
الفيلسوف الألماني المُعاصِر الكبير – أكبر فيلسوف ألماني مُعاصِر في علم الأخلاق Ethics – نيكولاي هارتمان Nicolai Hartmann موسوعته ذات الثلاث مُجلَّدات التي أنافت على الألف صفحة جعل الجُزء الثالث منها برأسه وبحياله عن مُشكِلة الإرادة الحرة، ثُلث هذا العمل الموسوعي الضخم المشهود له على مُستوى فلسفة القرن العشرين فقط للإرادة الحرة، الأدبيات حول هذه القضية لا يُمكِن حصرها، مُستحيل، مُستحيل أن تُحصَى الأدبيات حول هذه القضية، الكل أدلى فيها بدلوه، وهي نُقطة تقاطع اللاهوت مع الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة التحليلية وحتى الفلسفة الوجودية بالذات أيضاً في العصر الحديث وأيضاً علم الأحياء وعلم الأعصاب بفروعه المُختلِفة أو كثير من هذه الفروع، نُقطة التقاء فنون وعلوم ومُقارَبات شتى، مسألة من عويصات المسائل بلا شك يا إخواني، وطبعاً مُحاوَلة الإنسان أن يُقارِبها ثم يرتد عنها ثم يعود ليُقارِبها عبر التاريخ باستمرار، حتى الإنسان الفرد فينا ربما يُقارِبها ثم يستسلم ثم يعود إليها مرة ومرات أيها الإخوة، هي في نهاية المطاف مُحاوَلة مشروعة بل ضرورية لأنها في جوهرها مُقارَبة الإنسان لنفسه، ربما هذه المرة لجوهره، وبالمُناسَبة قد يكون جوهرك الحرية، قد يكون جوهرك ولُبك وحقيقتك هي هذه الحرية، الأمانة التي تحمَّلتها ولم تتحمَّلها بل نكصت عنها وكعت عنها السماوات والأرض والجبال!
لذلك الفلسفة الوجودية المُعاصِرة أيها الإخوة والحديثة عموماً من كيركغور Søren إلى سارتر Sartre لها محور، محور الفلسفات الوجودية – لا تُوجَد فلسفة وجودية طبعاً وإنما تُوجَد فلسفات وجودية – سواء عند سورين كيركغور Søren Kierkegaard أو عند إدموند هوسرل Edmund Husserl أو تَلميذه مارتن هايدجر Martin Heidegger أو تَلميذ هايدجر Heidegger جان بول سارتر Jean-Paul Sartre أو حتى ألبير كامو Albert Camus – الفيلسوف العبثي والروائي الفرنسي الشهير جداً ذي الأصل الجزائري – هذه القضية: حرية الإنسان، وهي تفترض ابتداءً أنه حر لأنها فلسفات وجودية تُقدِّم الوجود على الماهية، ونختلف مع هذه الفلسفات، سارتر Sartre في روايته الشهيرة جداً التي تُرجِمَت إلى مُختلَف اللُغات الحية الذُباب على لسان بطل الذُباب أوريست Orestes يقول لست سيداً وليست عبداً أو لست السيد ولست العبد، إنما أنا الحرية التي أتمتع بها، سارتر Sartre كان يقول الإنسان مقهور مُضطَر مُجبَر أن يكون حراً، جوهرك الحرية، هذه الفلسفات هكذا، لكن فلسفات أُخرى للأسف الشديد ومُقارَبات فكرية أُخرى وفلسفية وعلمية في جُملتها – كما قلت في الخُطبة السابقة – للأسف نزعت عن الإنسان كرامة أن يكون كائناً مُختاراً حراً، ألحقته أيها الإخوة بشتى كائنات وموجودات هذه الطبيعة لتُفسِّره أو تُحاوِل أن تُفسِّره تفسيراً آلياً حتمياً ميكانيكياً، فهل نجحت؟ وهل تنجح؟ وهل ستنجح؟ هذا هو التحدي!
بلا شك يا إخواني مُقارَبة الإنسان لنفسه – كما قلنا – مُقارَبة صميمية وضرورية ولا زال البشر يُسهِمون فيها بأقساط وافرة كل حين مع تقدمهم الحضاري والفكري، في القديم في رأس معبد دلفي Delphi أو في واجهة معبد دلفي Delphi – في معبد أبولو Apollo في دلفي Delphi – كُتِب بالخط البارز اعرف نفسك، Know thyself أي اعرف نفسك، في الأدبيات الإسلامية العرفانية الصوفية – وجُعِلَ حديثاً وإن كان ضعيفاً جداً والمعنى صحيح – مَن عرف نفسه عرف ربه، سبيل معرفة الله أن تعرف نفسك أولاً، مَن عرف نفسه عرف ربه!
سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وألف قرَّر الفيلسوف والمُفكِّر الفرنسي الشكّاك – هو شكّاك وكان قبل ديكارت Descartes أصلاً، وشكه كان شكاً مُقلِقاً جداً – ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne صاحب المقالات في صبيحة عيد ميلاده الثامن والثلاثين أن يُغيِّر مسار حياته جذرياً، فتخلى عن العمل العام أو العمومي وكان رجلاً مُتموِّلاً وأنشأ مكتبة في برج مُنقطِع في آخر ضيعته التي يمتلكها، زوَّدها بألف كتاب، طبعاً في ذلك الوقت ألف كتاب ثروة كبيرة جداً جداً لمُفكِّر عظيم، زوَّدها بألف كتاب! طبعاً قبل ذلك بقرون كان المُفكِّرون العرب والمُسلِمون يُزوِّدون مكتباتهم أحياناً بخمسمائة ألف كتاب وبمليون كتاب، شيئ لا يكاد يُصدَّق، وهذا فيلسوف فرنسي عظيم شكّاك زوَّد مكتبته بألأف كتاب وهذا عمل هائل، نذر ما بقيَ من حياته في التعامل مع هذه الكتب، في سبيل ماذا؟ في سبيل أن يُجيب عن سؤال واحد: مَن هو أنا؟ مَن الإنسان؟ وما الإنسان؟ وجعل يكتب مقالات مُسترسِلة مُتتالية، مقال إثر مقال إثر مقال عن هذا الموضوع من جوانب شتى، لينتهي أخيراً إلى أن من الغباء أن يشتغل المرء على هذه المسألة، قال هذه المسألة من الغباء أن تشتغل عليها، لماذا يا مونتين Montaigne؟ قال لأن النفس لا تزال تتبدل وهي أسرع في تبدلها من كل حدسٍ ومن كل توصيفٍ لها، سوف نرى هذا ربما في الخُطبة الثالثة إن شاء الله، سأعقد خُطبة ثالثة على المُستوى العملي ستكون أفيد هذه الخُطبة، هذه الخُطب مُفيدة على المُستوى المنطقي والفلسفي واللاهوتي، لكن الخُطبة الثالثة ستكون – بعون الله – مُفيدة جداً لي ولكم – وستأتي طبعاً في موقعها – لكي نُغيِّر من أنفسنا، ليس التغيير بالمعنى الشائع بين الناس الذي ربما يتناول نطاقاً سلوكياً مُحدَّداً، وإنما التغيير على مُستوى البنية الإحيائية لك، على مُستوى دماغك، على مُستوى أعصابك، ما رأيك؟ تتغيَّر وتتغيَّر حقاً، وهذه ضربة في الصميم أيضاً للحتميين والميكانيكيين ونُفاة الإرادة الحرة للإنسان، هذا سيكون الموضوع الثالث – إن شاء الله – الذي نعقد له خُطبة أو نكسر عليه كما يقول علماؤنا خُطبة برأسها إن شاء الله تبارك وتعالى.
على كل حال الإنسان كثير وشديد وسريع التبدل، مونتين Montaigne كتب أيضاً يقول إن بيننا وبين أنفسنا من الاختلافات ما لا يقل عن ما بيننا وبين الآخرين من الاختلافات، لست تختلف فقط مع الآخرين، أنت تختلف أيضاً مع نفسك، وسوف نرى هذا بُعيد قليل!
القدّيس أوجستين Augustine – ذكرت هذا مرة وشرحته أيضاً – له عبارة عظيمة جداً، عبارة عميقة فعلاً، يقول لا أستطيع أن أُمسِك بكل ما هو أنا، أي Grasp، قال لا أستطيع أن أُمسِك – أن أنال – بكل ما هو أنا، الشاعر الإنجليزي الشهير جداً ألفريد تنيسون Alfred Tennyson كتب أيضاً يقول مَن أنا؟ أنا جُزءٌ من كل ما صادفت، فالإنسان لا يُمكِن أن يُفسَّر بحتمية سببية ساذجة تختزله حتى إلى جهازه العصبي وحده، أكثر من هذا: أين تأثير البيئة؟ وإذا ذكرنا البيئة فهي البيئة بالمعنى الواسع جداً، ليست البيئة الاجتماعية أو الفكرية أو الثقافية أو السياسية، حتى البيئة الحيوية، هذا الدهان المطلي به الحائط يُؤثِّر عليك، قد يُؤثِّر على حياتك الفكرية والأسرية، قد يُؤثِّر على مزاجك، ما رأيك؟ في نهاية المطاف أنت لست مُجرَّد الجهاز العصبي، أنت أيضاً – كما قلنا في الخُطبة السابقة – الجهاز الهرموني، أنت أيضاً الجهاز المناعي والنُظم المناعية، هذا ما يدعوه ديفيد إيجلمان David Eagleman عالم الأعصاب المشهور عالمياً بالجهاز العصبي الأعظم، الجهاز العصبي الأعظم هو ثلاثة أجهزة: الجهاز العصبي، الجهاز الهرموني أو النظام الهرموني والجهاز المناعي أو النظام المناعي، قال وهذه الأجهزة تتأثَّر بالبيئة خاصة كيميائياً وتغذوياً، الغذاء الذي تتناوله – الطعام والشراب – يُؤثِّر كثيراً، طلاء الحيطان أو الحوائط هذا يُؤثِّر خاصة إذا كان طلاءً فيه مادة الرصاص التي تُؤثِّر كثيراً عليك، الصابون والكريمات والشامبو Shampoo وكل هذه الأشياء فيها مواد كيماوية تُؤثِّر عليك، تُؤثِّر تأثيراً لا يُستهان به، فأنت لست فقط العالم الداخلي أو العالم الحيوي في بروتوبلازما Protoplasm كبيرة، أي في كيس بروتوبلازما Protoplasm كما يقول بعضهم، هذا غير صحيح، أنت أعقد من هذا بكثير!
طبعاً قبل ثلاث سنوات صُدِمَ المُجتمَع العلمي عموماً والمُجتمَع اللا علمي طبعاً بقدر أكبر بفرع جديد الآن في علم الوراثة صار يُدعى فرع ما حول الوراثيات أو ما فوق الوراثيات، أي Ab Genetics، Ab معناها حول أو فوق بالإغريقية، حول أو فوق أو خارج، فهو ما حول أو ما فوق الوراثيات، حقل جديد مُذهِل جداً، باختصار معنى ما حول الوراثيات أيها الإخوة أنه يُمكِن أن يُمارِس الجين Gene – أي المُورِّثة – تعبيراً – أي Expression، فهو يُعبِّر عن نفسه – بطريقة المفروض أن تسلسل الحمض النووي لا يسمح بها، إذن كيف؟ من أين أتى هذا التعبير؟ تأثراً بالبيئة الخارجية، بعوامل خارجية، حين عبَّر – مارس الجين Gene هذا التعبير – وتظاهر بهذا الوجه هل تغيَّر التسلسل في الداخل؟ لم يتغيَّر، التسلسل لا يتغيَّر، شيئ مُدهِش مُحيِّر!
إذن لأول مرة دخلت البيئة على الخط بطريقة قوية وقوية جداً، فصار الاختزال البسيط المُتطرِّف للإنسان على أنه مجموعة خلايا مرفوض، وهذا يُذكِّرنا بالـ Selfish Gene، الكتاب الأشهر لريتشارد دوكينز Richard Dawkins، نحن – قال – مُجرَّد مراكب للجينات Genes، عربات تمطيها وتركبها الجينات Genes وتذهب بها حيث شاءت الجينات Genes دون إرادة منا، دون خيار، دون وعي بهذا، نحن آلات فقط للجينات Genes الأنانية، هذا غير صحيح، الموضوع أكبر من الجينات Genes بكثير، والجينات Genes لا تستطيع أن تفعل هذا مع أن الثلاثة ليونتين Lewontin وروز Rose وكامين Kamin أعتقد – عالم النفس الأمريكي – ألَّفوا كتاباً في أواخر التسعينيات اسمه Not in Our Genes، ليس في جيناتنا، أي وحدها، لسنا مُحدَّدين جينياً، علماء جهابذة الثلاثة كلٌ في اختصاصه للرد على إدوارد ويلسون Edward Wilson وعلى ريتشارد دوكينز Richard Dawkins، أننا لسنا عربات للجينات Genes، الإنسان أكبر من هذا، لذلك الفيلسوف أيضاً الإنجليزي الكبير المثالي فرانسيس برادلي Francis Bradley – في أول القرن العشرين تُوفيَ هذا الرجل، تحديداً في الثُلث الأول – قال في نهاية المطاف الإنسان كائن لا يُمكِن تعليله بشكل كامل، لا يُمكِن تعليله بشكل كامل! والسؤال لماذا؟ لماذا لا يُمكِن تعليلنا بشكل كامل؟ أعتقد الجواب عند أمثالنا من أهل الإيمان بالروح وبالنفس وبالدين وبالله تبارك وتعالى، الجواب حاضر وواضح، لأن فينا مُكوِّناً وفينا جوهراً غير مادي، غير طبيعي، يتعالى على المادة والطبيعة، إذا لم تأخذ هذا الجوهر وهذا المُكوِّن في حسابك لن تفهم الإنسان، لن تستطيع أن تفهمه، لكن للأسف الشديد هناك مَن يفعل هذا، وأشرنا عدة مرات إلى أن هؤلاء الماديين دائماً يروقهم ويلذ لهم ويشوقهم أن يُقارِبوا هذه المسائل العويصة جداً مُقارَبات اختزالية مُتطرِّفة، فيُختزَل الإنسان أيها الإخوة حيوياً إلى مجموعة خلايا وما إلى ذلك في نهاية المطاف، ستقول لي هناك بنية – Organism – وهناك أجهزة وهناك أعضاء وهناك نُسج وهناك خلايا والخلايا حتى يُمكِن أن تُختزَل فهذا حيوياً ثم يُختزَل هذا كيميائياً ثم الكيميائي يُختزَل فيزيائياً، في نهاية المطاف تعود مجموعة ذرات فقط، ذرات! فالذارت تُكوِّن هذا، لكن الذرات تُكوِّن عنصر الحديد أيضاً، الذرات تُكوِّن الجمادات والنباتات والحيوانات، فما شأن الإنسان؟ ما القضية هنا؟ هذه الاختزالية غير صحيحة، هذه Parsimony، يقول لك الاقتصاد في التفسير، صنم كبير اسمه Parsimony، Parsimony تعني البُخل والتقتير أو الاقتصاد، المُراد هنا الاقتصاد في التفسير، لا تُدخِل كيانات في التفسير لا ضرورة لها، ما يُعرَف بـ Occam’s Razor، أي شفرة أوكام Occam، إذا أمكن تفسير أي ظاهرة أو أي حدث بسببين إدخال الثالث غلط، العلم يُحِب هذا، هذا الذي برَّر ماذا؟ التطرف الاختزالي، تطرف الاختزالية Reductionism، لكن ألبرت أينشتاين Einstein العبقري الكبري – ولا يزال عبقرياً كبيراً جداً – رد على الاختزالية رداً في الصميم حين كتب مرة يقول نعم من المُفيد والمطلوب تبسيط كل شيئ بقدر الإمكان لكن ليس أكثر مما هو عليه، إذا بسَّطته أكثر مما هو عليه ما الذي يحدث؟ يتلاشى، يذوب، يضيع من يديك، تُصبِح تدرس موضوعاً آخر وأنت تظن نفسك تدرس الإنسان، لذلك في مُواجَهة هذه الاختزالية الساذجة المُتطرِّفة جاء دُعاة التعقيدية، أي الـ Complexity، مفهوم التعقيدية رائده مَن؟ أكبر مُنظِّر له ستيوارت كوفمان Stuart Kauffman، عبَّر عنه بطريقة ذكية بقوله إن حبيبين – زوجين حبيبين – يتماشيان – يسيران – على نهر السين Seine – في فرنسا – في الحقيقة الحقة – ما حقيقتهم؟ – ليسا أكثر من حبيبين يتماشيان على نهر السين Seine، هذه التعقيدية! إياك أن تُبسِّط إلى أقل من هذا وإلا ستفقد الظاهر، أليس كذلك؟ كيف تختزل الحب أنت؟ كيف يُمكِن أن تختزل الزواج؟ كيف؟ فسِّر لي، كيف تختزل أكثر من هذا؟ الآن سأعود إلى صُلب موضوعي وسنضرب في الصميم بضربات غيرنا من الفلاسفة والعلماء والنقّاد الأذكياء، ضربات في الصميم! كيف يُمكِن أن تُفسِّر لي الطموح عند الإنسان؟ الإنسان آلة ميكانيكية آلية حيوية وهو حيوان مُترقٍ يخضع للمُنبِّهات الداخلية والخارجية ويستجيب لها بنحو أكثر تعقيداً لكن بما أنه طبيعي ومادي وابن الطبيعة وابن المادة مُستحيل أن يتعالى عليها، أليس كذلك؟ لا يُمكِن للمادة أن تتعالى على نفسها إلا إن كان فيها شيئ غير مادي، لِم تعالى الإنسان على المادي فيه وعلى المحدود الذي فيه وعلى النسبي الذي فيه وعلى الغرزي الذي فيه؟ لم لا ينشط كما ينشط أي حيوان عادي؟ ما حاجة الإنسان أن يبحث عن الحياة في الكواكب الأُخرى؟ ما هذا؟ نحن لا نعيش في كواكب أُخرى، ويبدو أننا إلى أمد ربما غير قريب لن نعيش في كواكب أُخرى، نحن نعيش على هذا الكوكب، فلم تشغل نفسك وتُنفِق المليارات – برنامج سيتي هذا – لتبحث عن حياة في الكون البعيد؟ ما الذي شغل الإنسان بالذرة؟ لماذا فتَّت هذا الوجود؟ ما الذي يشغله؟ إنه ينجو ويبقى – إذا تعلَّق الأمر بالـ Survival – بغير هذه المسائل بالكامل، أكثر من هذا: ما الذي شغله بالميتافيزيقا Metaphysics؟ ما الذي شغله بالفلسفة الميتافيزيقية؟ لماذا؟ لماذا تبحث في جواهر الأشياء وليس في ظواهرها؟ لماذا تبحث في الجواهر غير المادية للأشياء؟ ما هذا؟ ما هذا العبث؟ لماذا تفعل هذا؟ ثم أن – كما قلت بأبسط بساطة – لماذا تتجاوز نافسك غرزياً؟ لماذا تتجاوز غريزة الجنس والبقاء والأكل والشرب والنوم والراحة؟ لماذا تتجاوز هذه الأشياء وتطمح إلى أشياء أبعد من هذا بكثير وترفع رأسك طبعاً وتنفخ صدرك وتفتخر وتقول أنا مُتميِّز، أنا مُتفرِّد Unique، هذا بعض ما يُميِّزني من الحيوانات؟ أكيد طبعاً يُميِّزك تماماً من الحيوانات، تماماً! كما قلنا الحيوانات لا تصنع حضارة، الإنسان هو صانع الحضارة، كيف يُمكِن للحتمية ونُفاة الإرادة الحرة أن يُفسِّروا لنا الطموح، الثقة بالنفس، والتطلع؟ كيف؟ كيف يُمكِّن أن يُفسِّروا الإبداع؟ الإبداع! كيف يُمكِن أن يُفسِّروا الإبداع؟ خلق شيئ غير موجود أصلاً في الوجود، غير موجود! الوجود لم يُعطنا طيارات، أليس كذلك؟ لم يُعطنا طيارات!
وجميل إذا ذكرنا الطيارة أن نقول جميل جداً مثال الطيارة، لماذا؟ لأن إحدى الحُجج القوية جداً التي ضربت في صميم الاختزالية هي حُجة المحصول، مفهوم المحصول Emergence، ما هو مفهوم المحصول – Emergence – أو الظهور أو الحاصل؟ مفهوم المحصول أنه ليس بالضرورة أن يكون مجموع أجزاء مُعيَّنة يُساويها تماماً، في أحيان وفي أحيان كثيرة هذا المجموع أكبر منها كلها، وهذا المجموع سيُعطي نتيجة ويُعطي مفعولاً غير موجود وغير مُبرمَج وغير مُورَّث في أيٍ من هذه الأجزاء، بمعنى آخر لو جاء أكبر عبقري في الكيمياء – نفترض – ودرس خصائص عنصري الأكسجين Oxygen والهيدروجين Hydrogen على حدة لا يُمكِن له أن يتصوَّر أو يستنبط خصائص الماء من معرفة دقيقة جداً مُتخصِّصة بخصائص الأكسجين Oxygen على حدة وخصائص الهيدروجين Hydrogen على حدة، هذا معنى قول ستيوارت كوفمان Stuart Kauffman ليس في الحقيقة الحقة أكثر من حبيبين يتماشيان على نهر السين Seine، لا يُمكِن! الاختزالية تفشل، الماء في الحقيقة ليس أكثر من ماء، حين تذهب تدرسه وتُفكِّكه إذا أردت أن تختزله ستفقده ماءً، لن يعود، انتهى كل شيئ، انتهى! لذلك الطائرة في نهاية المطاف ما هي؟ مُجرَّد قطع حديد كبيرة وصغيرة، ولا قطعة فيها خاصية الطيران، المنظومة مُتكامِلة وبشكل خُطة دقيقة تعكس ماذا؟ معلومات نظرية، ركزوا على هذا تماماً، ستكون لنا سلسلة نتحدَّث فيها عن المعلومات، عقدنا خُطبة ربما قبل سنتين اسمها في البدء كانت المعلومة، كل شيئ سيعود في النهاية إلى وعي، كل شيئ إذا انحل – وينحل طبعاً – سينحل إلى وعي وإلى شيئ يحكي الوعي ويحكي الذكاء ويحكي العقل، ولذلك الله – تبارك وتعالى – يقول وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ۩، الذي جعل السمع وجعل البصر – لا إله إلا هو – هو الذي جعل العقل والفهم، إذن في نهاية المطاف العقل والذهن والفهم والوعي والإدراك هو شيئ مجعول، بمعنى أنه في النهاية أيضاً سيئيض وسيعود ليكون شيئاً موهوباً، شيئاً موهوباً لك!
أربط الآن بين العقل هذا الموهوب المجعول وبين الطائرة، أي قطعة لا يُمكِن أن تتصف بصفة الطيران، هذا المحصول – Emergence – هو الذي يطير وهو أكبر من كل أجزائه وأكبر من مجموع أجزائه، إذن الفضل في ماذا لكيون هذا البدن الطائر أو الجسم الطائر أكبر من مجموع أجزائه أيضاً؟ للمعلومات، تُوجَد معلومات زائدة هنا، الأمر لا يتعلَّق بأجزاء فقط أبداً!
تخيَّلوا الآن – ويصح لنا أن نتخيَّل – إنساناً بدائياً لأول مرة في حياته يُصادِف أن يقف أمام جهاز تلفزيون Television، لأول مرة! ضغط على زر وإذا بالجهاز يشتغل وتأتي صور، أُناس أمامه، طبعاً سيفزع، سيُراع، وربما سيُطلِق ساقيه إلى الريح ولن يُعقِّب، الفضول سيدفعه أن يعود مرة أُخرى إلى هذا الجهاز الذي تبرز منه أفراد الجن، آحاد الجن، جن؟ سوف يقول لك هذا جن، هذه أأرواح وعفاريت، لكن جن مُحترَمون، يلبسون لباساً مُهندَماً، ربما يرى أُناساً على شاكلته يلبسون اللباس التقليدي له وسيستغرب، طبعاً سيأخذ دورة طويلة جداً، يبد يعبث، يبدأ يعبث بهذا الزر – مثلاً – فيعلو الصوت أو ينخفض الصوت، ضغطة أُخرى يختفي كل شيئ، يعود إلى العدم، ضغطة أُخرى يعود إلى الوجود، بعد سنوات ربما أو أشهر – لا ندري – بحسب ذكائه – يظل إنساناً في النهاية – سيفتح هذا الجهاز من الخلف، شبكة من المُكثِّفات والمُقوِّيات والأسلاك الحمراء والخضراء والزرقاء والسودء، سوف يقول هذا هو السبب، هذا هو! ربما يُؤثِّر على سلك مُعيَّن فيختفي الصوت، سوف يقول هذا الذي يخلق الصوت، من هنا ينبع الصوت، طبعاً من هنا ينبع الصوت، انتبهوا إلى هذا، هذا مجاز – Metaphor – أو تمثيل مُهِم جداً جداً يا إخواني حقيقةً أكثر مما تتخيَّلون، ويحل مُشكِلة كبيرة ومُعضِلة أو يُساهِم في حل مُعضِلة، يُقارِب مُعضِلة كبيرة وهي علاقة الذهن أو العقل بالدماغ، هل نحن فعلاً فقط أبناء الجهاز العصبي وأبناء الأدمغة التي عندنا أو الأمخاخ التي عندنا كالمُخ الحديث والمُخ الحوفي أو الطرفي أو الـ Emotional limbic brain والمُخ الزواحفي في النهاية، أي الـ Reptilian brain النهائي؟ هل نحن أبناء الأمخاخ الثلاثة هذه أم شيئ أكبر من هذا؟ لكن علماء الأعصاب من قديم – من أكثر من مائة سنة – أثبتوا لنا أننا أبناء هذه المادة الدهنية البروتينية الهُلامية، بدليل أحدث أي تخريب في جُزء منها ينعكس خراباً في الإنسان نفسه، في سمعه وفي بصره وفي حركاته، إذن هو ابن هذا، لكن هذا غير صحيح، هذا يحدث في التلفزيون Television أيضاً لكن لا يُفسِّر لنا الدراما وأفلام العنف والألوان والأصوات والحركات والمعلومات، هناك معلومات، هناك مُسلسَل تُتابِعه أنت وتفهم، ربما هذا الإنسان البدائي سيُتابِع مُسلسَلاً من عشرين حلقة بلُغته، سوف يُجَن هو، سوف يُجَن، مرة أُخرى سيعبث بسلك آخر فتتشوَّش الصورة، سيقول هذا سلك الصورة، ومرة سيعبث بسلك آخر فيذهب لون من الصورة، لا يعود يرى هذا اللون، ومن ثم سيقول هذا له علاقة بالألون، إلى آخره!
الآن انتبهوا لأنكم تدرون هذا وتعيشون هذا من أيام الطفولة، من عشرات السنين، مَن منكم يُصدِّق أو يُصادِق على تقرير أن التلفزيون Television كجهاز أو الذي يخلق الألوان والصور والأحداث والمعلومات هذه؟ لا أحد طبعاً، أليس كذلك؟ إذن ما الذي يفعله التلفزيون Television هنا؟ وكلما عبثنا أو تطرَّقنا بالعطب والخلل لجُزء منه اختل شيئ هنا في الصورة وفي تسلسلها وفي اللون وفي الصوت وفي كل شيئ، وقد يعطب بالكُلية، يُجَن، يُصاب بالجنون كالإنسان الذي يُصاب بالجنون تماماً، لكن هذا جهاز عرض، هذا جهاز استقبال وعرض، جهاز استقبال وعرض! لم لا يكون الدماغ يعمل على هذا النحو؟ طبعاً حين تعبث بأي شيئ فيه يتأثَّر الإنسان، فهو طبعاً جهاز استقبال وعرض أيضاً، يكون الذهن أو العقل شيئ أكبر من هذا!
ذكرت قُبيل قليل عالم الأعصاب الشهير عالمياً ديفيد إيجلمان David Eagleman، هذا عنده عدة كُتب مُهِمة جداً في تبسيط حتى هذه الموضوعات للعامة وهو عالم مُتخصِّص، ديفيد إيجلمان David Eagleman يكتب مئات الصفحات يعرض فيها رأيه، طبعاً تشعر أنه يتبنى حُجج أصحاب الحتمية السببية العلمية، ويُشعِرك أنه في نهاية المطاف واحد من هؤلاء، حتى إذا شارف الكتاب على النهاية في الفصل الأخير يقول لك كل هذا منقوص، كل هذا مُشوَّه، كل هذا لن ينجح، وإذا بقينا مُصِرين – وهو أحد هؤلاء العلماء المُتخصِّصين عالمياً – على هذه الطريقة في مُقارَبة الإنسان وعمل الإنسان وذهن الإنسان في النهاية يقول من غير المُحتمَل أن يفهم الإنسان وأطلق عبارة له، وبالمُناسَبة هو أتى بتشبيه آخر وبقياس آخر مأخوذ من قياس التلفزيون Television، لعل من أوائل الذين أطلقوا تشبيهاً مثل تشبيه الفيلسوف هو الفيلسوف الفرنسي العظيم هنري برجسون Henri Bergson بطريقته الخاصة وأيضاً هو عُنيَ بهذه المسألة لسنوات طويلة حتى أنه اضطُر إلى دراسة الفسيولوجيا Physiology – وظائف الأعضاء – لكي يُساهِم في حل هذه المسألة، برجسون Bergson فيلسوف عظيم، فعلى كل حال هو أحدث تنويعة وقال أنا عندي نظرية أُسميها نظرية الراديو Radio، ليست نظرية وإنما مجاز Metaphor، والحديث عن التلفزيون Television أفضل من الراديو Radio بصراحة، ثم قال بعد ذلك عبارته التي كان فيها تقصير، إيجلمان Eagleman قال عبارة مُهِمة جداً جداً، قال The brain is not so much the seat of the mind as the hub of the mind، عبارة قصيرة بليغة وعميقة جداً، قال ليس المُخ أو الدماغ كرسياً – مقعداً – للعقل بقدر ما هو منصة إطلاق للعقل، أي The hub of the mind، Hub وليس Seat، تلخيص بعد مئات الصفحات التي عرض فيها ليس لتجربة بنجامين لبيت Benjamin Libet وإنما لكل هذه المسائل والحُجج والأدلة، قال لك الإنسان في النهاية يبقى أكبر من هذا وأوسع من هذا وأعظم من هذا، إياك أن تأخذه باستخفاف وتظن أنك فهمته!
إذن أيها الإخوة منصة إطلاق وليس كرسياً، لو كان دقيقاً في مجازه وتشبيهه لقال ماذا؟ كما قلنا تماماً يُمكِن أن يكون الدماغ جهاز استقبال وعرض، أي يعمل على إمكان العرض لكنه ليس المنبع الأساسي والأصيل لفعل العقل!
على كل حال نأتي الآن إلى حُجة أُخرى، أيها الإخوة:
كل إنسان على وجه الأرض بدائياً كان أو مُتحضِّراً يشعر شعوراً داخلياً ساحقاً بأنه مُختار، قلنا في الخُطبة السابقة هذا ما يُسمى بماذا؟ بالمنطق السليم أو الحس المُشترَك – Common sense – عند البشر، أنني مُختار، أعرف أنني مُختار، طبعاً السؤال الآن: لماذا عرفنا هذا؟ كيف؟ كيف توافق البشر جميعاً عبر الحس السليم أو المنطق السليم هذا بأنهم مُختارون؟ بشكل عام طبعاً إلا هؤلاء الفلاسفة طبعاً العنيدين وعلماء الأعصاب الذين يُمكِن أن ينطبق عليهم وصف ويل ديورانت Will Durant لعلماء النفس السلوكيين، قال السلوكي – Behaviorist – أو العالم السلوكي قد يكون عالماً قوياً لكنه بالتأكيد فيلسوفٌ ضعيف، وهذا ما أقوله دائماً أنا عن هؤلاء، ديورانت Durant قاله قبل حوالي مائة سنة أيضاً، قال العالم السلوكي قوي لكن هو فيلسوف ضعيف، المسألة لا تقف عند حدود اختزالية في المُنعكِسات، أي المُنعكِسات الشرطية، الإنسان أعقد من هذا بكثير، لماذا؟ السؤال: لماذا؟ لماذا توافقنا على هذا؟ لماذا يقضي الحس السليم بهذا، أننا مُختارون؟ أنا أقول لك الجواب ربما يأتي من عشرين وجهاً لكن أهم هذه الوجوه على الإطلاق: لأننا خبرنا الاثنين، خبرنا كيف نكون في أحيان مُعيَّنة مقهورين محتومين، وإذ خبرنا هذا عرفنا بالقياس وبالمُناظَرة وبالمُقابَلة أننا في سائر أفعالنا لسنا مقهورين، أليس كذلك؟ طبيعي! الإنسان البسيط – كما قلت البدائي – حين يُحَم فينتفض من أثر الحُمى وتصطك أسنانه وتصرف رغُماً عنه يشعر بهذا ويقول لا إرادة لي، أنا أنتفض وتصرف أسناني وتصطك رُغماً عني، وحين يُمثِّل هذا يجد – وجدانياً – الفرق بين الحالين والمقامين، الإنسان يُمثِّل الانتفاض كمُمثِّل على خشبة غير الذي ينتفض على الرُغم منه، أنا أقول لكم لولا أننا خبرنا الإرادة الحرة ومارسناها ما قامت مُشكِلة أصلاً حول الإرادة الحرة، بمعنى آخر لو كانت الحتمية صحيحة وكنا نحن مقهورين محتومين ملزوزين لا خيار لنا إلا الوهم أيها الإخوة لما قام هذا الوهم أصلاً، أي وهم الإرادة الحرة، لماذا؟ لماذا يقوم؟ مُستحيل، لا يُمكِن أن تعرف شيئاً إلا بما يُقابِله، حتى الله – تبارك وتعالى – الذي لا يُوجَد منه إلا واحد أحد هو نفسه – لا إله إلا هو – عرفناه بمُقابَلة مخلوقاته، وكلها ليست آلهة، لا يُوجَد إله فيها، الله قال لا إله – نفي لكل الآلهة والإلهية عن كل الآلهة المزعومة – إلا الله، بالمُقابَلة عرفناه، هل هذا واضح؟ بالمُقابَلة مع ليس إلهاً، مع ما ليس الله بالأحرى، ولذلك يقول الفلاسفة اللا حتميين – فلاسفة الإرادة الحرة – إذا كان المنطق السليم والحس المُشترَك والتجربة المعيشة للبشر جميعاً تقضي بأننا مُختارون فإن عبء إثبات أننا لسنا مُختارين يكون مُلقىً على عاتق نُفاة الإرادة الحرة وليس علينا، نحن مع الأصل، كما يقول علماء أصول الفقه لدينا مُخالِف الأصل هو المُطالَب بالدليل، الذي يُخالِف الأصل هو الذي يُطالَب بالدليل، مثلاً يأتيك عالم فقيه ويقول لك هذا حرام، اللعب الفلاني – مثلاً – حرام، مثلاً لعبة الطاولة – Craps – حرام وإن كانت من غير مال، فهو يقول لعبة الطاولة – Craps – حرام ومن ثم نقول له ما دليلك؟ لماذا تقول هي حرام؟ طبعاً لأنك مُخالِف الأصل، الأصل أن الله جعل لنا ما في الأرض جميعاً، الأصل في الأشياء الإباحة، كل شيئ مُباح، كل شيئ، الأصل في الأشياء الإباحة وهذا جميل جداً، أنت الآن تأتي وتزعم أن هذ مُحرَّم فأنت مُخالِف للأصل، عبء إقامة الدليل مُلقىً عليك أنت، أنت ائت بالدليل، لا تقل لنا اثبتوا لي أنه حلال، نحن معنا الأصل، نحن معنا الأصل فلا نُثبِت، انتهى الأمر، أنت مُخالِف للأصل، الآن الأصل أن الإنسان مُختار وهذا يقضي به الـ Common sense عند البشر جميعاً، ديورانت Durant يسخر في مُناقَشة هؤلاء، يسخر منهم ويقول مَن ذا الذي ينطلق ويسلك وينشط مِن هؤلاء الحتميين في حياته العادية الواقعية مِن اعتقاد أنه مقهور محتوم مُجبَر؟ قال لا أحد، قال يكذبون، كذّابون هؤلاء، يُمارِسون هذا فقط على مُستوى أكاديمي، يُعقِّدون الناس الذين مثلنا في الجامعات وما إلى ذلك، لكن الواحد منهم حين يترك المُحاضَرة مُباشَرةً يخرج ويعيش كائناً حراً مُختاراً، نفس الكلام وجهه إليهم أيضاً بنقد لاذع ساخر والتر ستيس Walter Stace الفيلسوف الإنجليزي الشهير، قال كلهم يُمارِسون الحياة على أنهم أُحرار، ويُدرِّسون الناس أنه لا تُوجَد حرية ولا تُوجَد إرادة، فهؤلاء يكذبون، عليهم أن يتفقوا مع الأصل، وإذا خالفوه عليهم أن يُقيموا الدليل القطعي!
هنا تُوجَد نُقطة ثالثة مُهِمة أيها الإخوة والأخوات، نحن رأينا كيف أن اعتقادنا بالإرادة الحرة المُختارة يُفسِّر لنا أشياء كثيرة، يُفسِّر الإبداع، يُفسِّر حتى التفكير والعقل والإضافة، يُفسِّر الطموح كما يُفسِّر الخيبة والحسرة، لماذا أشعر بالخيبة؟ لماذا أشعر بالإحباط؟ لماذا أشعر بالندم؟ لماذا أشعر بلوم الذات؟ لماذا أشعر بالحسرات تتقطعني لو لم أكن مُختاراً حقاً عند نفسي وكنت أعلم – ولا أزال أعلم وأجد هذا من نفسي – أنه كان يُمكِن لي أن أتصرَّف على نحو آخر بحيث أنجح وبحيث لا تأكلني الخيبة والحسرة لكنني الآن أشعر بالخيبة وتأكلني الحسرة لأنني لم أفعل؟ من أين هذا؟ ما الذي يُفسِّر لك إذن مشاعر الخيبة والحسرة والطموح والألم والثقة؟ ما هو؟ الإرادة الحرة، الحتمية لا تُفسِّر هذه المشاعر، تعجز! لذلك أنا أقترح أن تُسمى هذه الخُطبة كل هذا لا معنى له!؟ هكذا سنُسميها، فاينمان Feynman ألَّف كتابه الجميل معنى هذا كله، نحن سنقول هذا كله لا معنى له، بمعنى ماذا؟ كل هذا لا معنى له إذا التزمنا باعتقاد الحتمية ونفينا الإرادة المُختارة، كل هذا يغدو لا معنى له، ما رأيك؟ طموح الإنسان، طمع الإنسان، سعي الإنسان الحقيقي، ثقة الإنسان، حسرة الإنسان، حزن الإنسان، لوم الإنسان، وإلى آخره: كل هذا يفقد معناه إطلاقاً، حتى فرادة الإنسان تفقد معناها.
أنا ذكرت اليوم ضمن الوجوديين ألبير كامو Albert Camus، ألبير كامو Albert Camus صديق سارتر Sartre طبعاً وعصريه، ألَّف ربما مسرحيته الأشهر أسطورة سيزيف Sisyphus، تعرفون الأسطورة اليونانية سيزيف Sisyphus، ألَّف أسطورة سيزيف Sisyphus وطبعاً يعرض فيها فلسفته العبثية، عبث! ما هي الفلسفة العبثية عند كامو Camus؟ البحث عن معنى في عالم يخلو من المعنى، الفلسفة الحديثة والعلم الحديث جعل عالم الإنسان – كون الإنسان – عالماً خالياً من المعنى، لا معنى، قال لك أنت مُجرَّد ذرات مادية مُترقية ومُتطوِّرة فقط، لا أكثر من هذا، لا يُوجَد إله ولا تُوجَد غاية ولا تُوجَد أهداف ولا تُوجَد مقاصد ولا تُوجَد حقيقة للجمال وحقيقة للقيم وحقيقة للأخلاق، لا يُوجَد كل هذا، مُجرَّد مادة، لا يُوجَد معنى، فالعبث عند كامو Camus هو البحث: بحث الإنسان عن معنى في عالم يخلو من معنى، أي كالأعمى – قال لك – في الليلة السوداء الظلماء الذي يبحث في غُرفة مُغلَقة – مُحكَمة الإغلاق عليه – عن قطة لا وجود لها، هل سيجدها؟ عبث! هذا عبث، هذه حالة عبثية، أعمى وفي غُرفة مُغلَقة ومُظلِمة وفي الليل ويبحث عن قطة لا وجود لها! طبعاً هذا الكلام الجميل يُمكِن أيضاً أن يُساهِم في حل المُشكِلة من حيث التعريف، وهذا أيضاً يحتاج إلى شرح لكن الوقت يضيق عن هذا، ما هي الإرادة الحرة أصلاً لكي نُثبِتها أو ننفيها؟ ما هي الإرادة الحرة؟ أنت سوف تجد أن كل مُحاوًلات الحتميين تفترض تعريفاً لا نُوافِق نحن عليه أصلاً، طبعاً كما فعل توماس هوبس Thomas Hobbes، يختزل الإرادة الحرة والاختيار إلى شيئ لا يُوافِق عليه ثم يُثبِته أو ينفيه، هذا غلط!
تخيَّلوا الآن أن إنساناً Alien – أي كائن فضائي غريب – جاء إلى الأرض، أول ساعة لم ير أي بشر، هو عنده معلومات بوجود بشر، هذا الكوكب الغبي الأزرق فيه بشر، وهو أتى من كوكب مُتطوِّر جداً، جاء في غابة ليس فيها بشر، التعريف المُعطى له للأسف على هذا النحو وهو غلط طبعاً: كائن يمشي على أربعة أطراف وله ثلاثة عيون، سيظل يبحث عنه، طبعاً سيصدف منا الآلاف لكنه سيقول باستمرار ليس هذا، ثم سيكتب تقريره ويقول لا وجود للإنسان على هذا الكوكب، غالط أم غير غالط؟ غالط، ما منشأ الغلط؟ الغلط في التعريف، انتبهوا إلى هذا، لذلك أفلاطون Plato لم يكن ساذجاً أو بسيطاً حين قال لنا ثلاثة أرباع المُشكِلات الفلسفة ستُحَل لو اتفق الناس على تحديد معاني الألفاظ التي يتداولونها، ماذا تُريد بالإرادة الحرة تحديداً؟ هذا الموضوع إذا اتسع الوقت نُساهِم فيه إن شاء الله تعالى.
إذن سيكون لا معنى لهذا كله في غيبة الاعتقاد بالحرة وبالاختيار الحر، هناك مسألة عملية جداً جداً، مسألة لها علاقة بالجينائيات وبالقانون، في القانون من قرون أيها الإخوة إلى الآن يقولون هناك رُكن مُهِم جداً من أركان الجريمة، لا يُمكِن تجريم الشخص المُتهَم إلا إن توافر هذا الرُكن، الرُكن الأكثر أساسية ما يُعرَف بالنية، توافر النية والقصد، أليس كذلك؟ توافر النية والقصد، أي Mens rea، ما الـ Mens rea؟ الـ Mens تعني الـ Mind، الـ Mind مأخوذ من الـ Mens باللاتيني، فالـ Mens rea تعني العقل المُذنِب أو العقل المُجرِم، ويُوجَد عندك الـ Actus reus، الـ Actus reus باللاتيني تعني الفعل المُجرِم، إنسان قتل: هذا Actus reus، الـ Actus reus غير كافٍ في القانون – هذا في العالم كله الآن سواء المُتحضِّر وغير المُتحضِّر – لإدانة الشخص حتى يتوافر الرُكن الثاني المُسمى بالـ Mens rea، أي العقل المُذنِب، وهذا جميل جداً لكن لماذا؟ إذا كنا محتومين مُضطَرين لا خيار لنا هل يغدو البحث عن النية والقصد له دور؟ ليس له دور!
نُريد أن نُوسِّع أكثر من هذا قليلاً، لعلي مرة واحدة حدَّثتكم عن كينيث باركس Kenneth Parks الكندي، لعلكم سمعتم به وبقصته، قصته هزت العالم الغربي في أواخر الثمانينيات، كينيث باركس Kenneth Parks شاب مُتعلِّم عنده أسرة، كوَّن أسرة،تزوَّج من فترة، وعنده بنت عمرها خمسة أشهر، وهو سعيد جداً مُوفَّق في عمله ويعيش مع أسرته، نعم مر بمُشكِلة مالية مُعيَّنة لكن حماته وحماه – أبواه زوجته – وعداه أن يُساعِداه، شيئ جميل جداً، عندك دعم إذن، دعم مُمتاز من ناس مُقرَّبين لك، هذا الرجل يقوم في الليل وهو نائم – لا يزال نائماً – ويأخذ عربته – سيارته – ويقطع بها أربعة عشر ميلاً، يقتحم بيت حماه وحماته ويأخذ سكيناً من المطبخ فيذبح حماته ثم يُهاجِم حماه فيجرحه ولكن نجا المسكين، ثم مُباشَرةً يركب العربة إلى أقرب مخفر شرطة ويُسلِّم نفسه، يقول اقبضوا علىّ يبدو أنني ارتكبت جريمة وآذيت نفسي، نُقِل إلى المُستشفى ووجدوا أن الأوتار مُقطَّعة قليلاً فعالجوه، في السنة التالية بطولها كان هناك اضطراد مُحيِّر في إفاداته حتى إزاء أكثر مُحاوَلات المُحقِّقين تضليلاً له، نفس الشيئ! لا يذكر أنه فعل، لا يذكر أنه قتل حماته أو أراد قتل حماه أو أتى هذا الشيئ، لا يذكر هذا، على أي أساس؟ طبعاً في مايو سنة ثماني وثمانين أُعلِنَت براءة هذا الشاب، كينيث باركس Kenneth Parks براءة! على أي أساس؟ هذا قاتل خطير، قالوا هذه الجريمة تندرج تحت نوع من الجرائم في القانون اسمها القتل أثناء النوم، أي Homicidal Somnambulism، ما هذا؟ ما القتل أثناء النوم؟ أعتقد لعل لا تخلو عائلة – العائلة الطويلة طبعاً، أي Extended family، ابن عمك أو ابن خالتك وما إلى ذلك – من رجل أو فتاة يمشي أثناء النوم، أي Somnambulist، يقوم بشكل عادي وهو نائم، طبعاً قد يقوم عارياً، بعض الناس لا ينام إلا عارياً، وقالوا هذا يُضعِف قليلاً من ناحية طبية، فقد يقوم عارياً كما ضبطت إحدى السيدات زوجها في مُنتصَف الليل عارياً تماماً يزج عُشب الحديقة، يفعل هذا في الليل وهو نائم، جاءت وعلمت ما يفعله لأنها تعرف هذا الشيئ، كان نائماً تماماً، يا فلان أنت عارٍ وقد تتضرَّر بسبب البرد وما إلى ذلك، لكنه لا يفهم شيئاً، بعد ذلك فصلت عن هذه الآلة الجزازة، مُباشَرةً بمُجرَّد أن فصلت الكهرباء قام بكل هدوء وعاد إلى فراشه، في الصباح لا يذكر أي أشياء.
طبعاً عندنا أخطال النوم، جمع خطل كما يقولون، أي Parasomnia، أخطال النوم كثيرة، بعضها الشلل الليلي، يُشَل الإنسان، بعضها عدم القدرة على القيام إلى حالة اليقظة بطريقة عادية ويُصبِح كالمجنون أو الملبوس وما إلى ذلك، هذا من أخطال النوم، وبعضها المش أثناء النوم، أي السرنمة، السرنمة هي نحت من السير نائماً، هذه السرنمة، أي Somnambulism، قال لك الناس الذين يُسيرون وهم نوّام – هذه مُهِمة جداً لنا في مُشكِلتنا هذه، أي حرية الإرادة – قد يرتكبون جرائم جنسية، اعتداءات جنسية، خيانة زوجية، المُصيبة قد يقتلون، طبعاً الأشياء العادية الروتينية يقومون بها، يأكلون ويشربون، يذهب إلى المطبخ ويأكل ويشرب وقد يُكرِّر هذا مرتين أو ثلاث مرات في الليلة الواحدة، ولا يذكر شيئاً من هذا، حلو لو كان هذا صائماً طبعاً وحدث هذا بعد الفجر، شيئ مُمتاز، أطعمه الله وسقاه، أعني هذا المُسرنَم، لا حرج عليه!
بحسب سجلات المحاكم في أوروبا وأمريكا الشمالية من القرن السابع عشر إلى سنة ألفين وإحدى عشرة هناك سبع وستون حالة جُرمية من الجرائم لمُسرنَمين، سبع وستون حالة، هذا ليس قليلاً، في ثلاث قرون أو أربع قرون سبع وستون حالة، العجيب أنه تم تبرئة عدد منها، طبعاً كينيث باركس Kenneth Parks هذا لم يُترَك هكذا، أولاً أجروا لدماغه تخطيطاً كهربائياً – الـ EEG هذا – واتضح أن المسكين فعلاً هنا يُحاوِل الانبعاث إلى اليقظة مُباشَرةً من غير تدرج سلس، فعلموا أنه مُصاب حقاً بالسرنمة، لا تستطيع أن تدّعي السرنمة أنت، تُكشَف! بالتخطيط الكهربائي هذا للدماغ يُكشَف، هذه ليست لعبة مضمونة، خطرة جداً جداً، تُكشَف سريعاً، فالرجل مُصاب فعلاً، وثبت أن المسكين فعلاً لم يتذكَّر ما فعل خاصة أن حماه أكَّد عدم وجود أي دافع يدفع المسكين لأن يفعل هذا معه ومع زوجته، هما تعاطفا معه، ليس عنده هذا أبداً، قالا لا تُوجَد أي مشكلة بيننا وبينه، الحياة من أحسن ما يكون، لماذا فعل؟ السؤال الآن: أنتم ترون أن من العدل فعلاً أن يُعذَر أمثال هؤلاء مع أن هناك نوعاً من التخطيط الآن، لكن هذا التخطيط ليس يعكس تخطيطاً يقظاً، أي في اليقظة هو لم يُخطِّط لهذا، لم يُفكِّر مُطلَقاً في قتل مَن سيُساعِدانه على حل مشكلة المديونية هذه أبداً أبداً، لكن خطَّط وهو نائم، هل الآن الذي خطَّط وهو نائم العقل الواعي؟ لا، النائم لا يكون عقله واعياً بالكامل، مُستحيل! إذن هذا الذي فعل وأجرم وهو نائم لا يُعاقَب، أليس كذلك؟ مع أنه خطَّط ونفَّذ وركب السيارة وذهب واستغل الفرصة وكذا وكذا، شيئ غريب جداً، لماذا؟ هذا كان أولاً.
ثانياً عندنا أمراض كثيرة تُصيب الإنسان أيها الإخوة وأيضاً القانون وحتى الأعراف الاجتماعية والناس تعذر هؤلاء الذين أُصيبوا بها، هنك مُتلازِمة – Syndrome كما يُسمونها – يُسمونها مُتلازِمة توريت Tourette، أي Tourette syndrome، المسكين المُصاب بهذه المُتلازِمة تبدر منه حركات دون أن يتحكَّم فيها، أي رُغماً عنه، فقد يسب، تجد المسكين واقفاً فإذا رأى شخصاً – مثلاً نفترض – أعمى – لا يُبصِر – يُدرِك أن من العيب أن يُشير إلى عماه، في اللحظة التي يُدرِك أن من العمى أن يُشار إلى عمى الأعمى يُقال له يا أعمى، وطبعاً هذا يُصدَم، وهو مصدوم في نفسه المسكين، هو يعلم أنه لا ينبغي أن يقول هذا، بالذات في اللحظة التي يُدرِك أنه لا يُقال هذا يقوله رُغماً عنه، يقول له يا أعمى مثلاً، وقد يحكي كلمات طبعاً فيها بذاءة، Tourette syndrome هذه فيها بذاءة، يبذأ بكلمات قبيحة جداً جداً، طبعاً هناك حركات بالوجه أيضاً وبالعينين قد يفهمها بعض الناس غلطاً وحركات باليدين رُغماً عنه، هذه مُتلازِمة تُصيب بعض الناس، تسمعون بمرض هنتنغتون Huntington، أي Huntington disease، هذا مرض! طبعاً هناك حركات لا إرادية تحدث في الأطراف، هذا غير الشلل الرعّاش، حركات لا إرادية في الأطراف، قبل أن يبلغ المرض هذه المرحلة – الحركات اللا أرادية – بضع سنين المريض تبرز منه سلوكات غير اجتماعية، مُخالِفة للمعايير الاجتماعية بما فيها العدوانية والاعتداءات الجنسية، فضلاً عن أشياء أقبح من هذا أيضاً، هذا يقول لك معذور ومريض، هذا معذور ومريض! سوف نرى الفرق بينه وبين الصحيح ولماذا هذا معذور وهذ غير معذور أخلاقياً وقانونياً، أليس كذلك؟ نُريد أن نفهم الفرق، له علاقة بالإرادة الحرة!
أيضاً هناك يا إخواني خرف الفص الجبهوي أو الجبهي والصُدغي، أي Frontotemporal Dementia، خرف يُصيب الإنسان ويتحلَّل فيه، سُبحان الله الفصوص الجبهية أو الجبهوية والصُدغية تتحلَّل، يبدأ نسيج الدماغ يزول ويتحلَّل، طبعاً من أعراض هذا المرض الخطير للأسف الشديد – وهو يُصيب الرجال أكثر من النساء – أن صاحبه يرى نفسه مدفوعاً إلى السرقة للأسواق والمحلات العامة رُغم الرقابة التي تغيب عنه، يرى أنهم يُراقِبونه وقد يكون هو من ذوي الهيئات، ابن عائلة كبيرة أو إنسان كبير، رجل أعمال أو رجل دين أو عالم وما إلى ذلك لكنه يسرق رُغماً عنه، يمد يده ويسرق، يأكل من القمامة، يذهب إلى مكب النفايات ويأخذ بقايا الطعام ويأكلها، عجيب! أنت ملياردير فما الذي يحدث؟ يتعرى أمام الناس، يخلع ملابسه أمام الناس، وأيضاً سلوكات عنفية وتعنيفية واعتداءات جنسية، عجيب! ما الذي يحدث يا أخي؟ قال لك سبع وخمسون في المائة من المُصابين بخرف الفص الجبهي والصُدغي يرتكبون على الأقل سلوكاً واحداً مُخالِفاً للمعايير الاجتماعية، سبع وخمسون في المائة، أي أكثر من النصف، في مُقابِل سبع في المائة من المُصابين بمرض الزهايمر Alzheimer’s، سبع في المائة فقط!
الآن السؤال: لماذا نعذر هؤلاء؟ سوف تقول لي هذا السؤال واضح جوابه، لا ليس واضحاً، عند الحتميين غير واضح فانبته، بالنسبة لك واضح لأنك لست حتمياً تقوب بالإرادة الحرة، من منظور حتمي في هذه الحالة هذا الشخص المُسمى مريضاً يخضع لتيار من السببية الحتمية، أسباب! في الحالة الثانية وهي حالة الشخص السليم أو حالته هو حين كان سليماً لا يزال أيضاً يخضع لتيار من الأسباب المحتومة، هنا حتمية وهنا حتمية، السؤال: ما الذي فرَّق بين الاثنين؟ سوف تقول لي هل الذي فرَّق الوعي؟ لا ليس شرطً، ليس الوعي بشكل عام، هل تعرف لماذا؟ لأن أحياناً هؤلاء يعون تماماً ما يفعلون، في مُعظَم الأحيان هو يعي ماذا يفعل ويُدرِك أنه بدأ لكنه يقول لك أنا ما أردت هذا ثم يُعيدها، لماذا؟ يقول لك أنا ما أردت هذا، إذن هو يعي لكنه غير مُختار، إذن ليس الوعي، فلا تقل لي الوعي أو العقل حتى إذا فسَّرت العقل بمعنى قريب من الوعي، هذا غير صحيح، وطبعاً يُمكِن للعقل أن يتظاهر بدرجة أولى عبر الإرادة الحرة، لذلك يُمكِن لنا أن نُعرِّف الإرادة الحرة بأنها القدرة – Ability هي – على اتخاذ القرارات، انتبهوا إلى هذا، اتخاذ القرار لا يعني الاستجابة الغرزية أو الاستجابة التلقائية للمُنبِّهات، هذا غير صحيح، الحيوان يفعل هذا، الحيوان لا يتخذ قراراً، الحيوان يكون جائعاً وإذا رأى أحد طرائده يُطارِدها، هذه استجابة تلقائية غرائزية، هل فهمت؟ بعض الحيوانات الدُنيا تُحقَن بهرمون Hormone مُعيَّن مُباشَرةً تطلب المُسافدة، الإنسان ليس كذلك، محقون ربانياً وعنده هذه الرغبة جارفة خاصة الشاب المُراهِق، وكما قلنا في الخُطبة يمكث عشرين سنة لا يتعاطى الحرام، إذن ما الفرق هنا؟ هذا معنى القدرة على اتخاذ القرارات، قدرة على ماذا؟ النظر في البدائل، في الإمكانات، فيم يُتاح أمامك، ثم الترجيح، أي ترجيح واحدة على الأُخريات، المُهِم هنا في الترجيح أن الترجيح لا يخضع لاعتبارات نفعية أو حتى بقائية، أي تتعلَّق بالـ Survival، هذا غير صحيح، وكلكم تُمارِسون هذا، نحن ذلك الإنسان، هناك اعتبارات جمالية، أليس كذلك؟ وهناك اعتبارات أخلاقية وهناك اعتبارات قيمية عموماً ويدخل هنا الإيمان بثقله، الإيمان بشيئ مُعيَّن!
شيئ مُعقَّد جداً جداً، هذه غابة، أليس كذلك؟ إذن هذا هو السبب، نحن نقول ببساطة السبب أننا نلوم هؤلاء الأصحاء ونُسقِط اللوم والإدانة عن هؤلاء المرضى هو الاختيار، نفعل هذا بسبب الاختيار، هؤلاء مُختارون حقاً مع أنهم في منطقك الحتمي خاضعون لتيار سببية حتمية، وهؤلاء غير مُختارين وهم في منطقك خاضعون لتيار سببية حتمية، نموذجك لا يُفسِّر، أليس كذلك؟ نموذجنا يُفسِّر، نموذجنا يقول هنا يُوجَد شيئ زائد غير موجود هناك ولا تُفسِّره الحتمية السببية الموجودة في الجانبين، هذا تفكير علمي، بالطريقة العلمية نقول هذا!
بقيَ فقط – طبعاً هناك أشياء كثيرة – أن نُشير إلى المُقارَبة الكمية للموضوع لأنها قد تروق لبعض الناس، لكن في الخُطبة التالية بسرعة!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
إخواني وأخواتي:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، أعتقد أنني عقدت عليها أكثر من خُطبة ومُحاضَرة في السنوات السابقة، لكن هذه الآية لا يُفرَغ من القول فيها، ما رأيكم؟ أنا أعتقد ما تكلَّم فيه علماؤنا هو أقل القليل الذي يُتاخِم تخوم الآية البعيدة، أعماق هذه الآية نحن بمنأى قصي عنه، لماذا؟ في معنى هذه الآية وما وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ – عجيب، حتى العمر! – إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ ۩، قال الله أيضاً ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ۩، فضلاً عن أنه قال وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ۩، ماذا يتبع ماذا؟ القدر يتبع أعمالنا أو أعمالنا تتبع القدر أو القدر هو نسيج من الاثنين؟ طبعاً القدر نسيج من الاثنين، لا تظن أن قدر الله شيئ مُحتَم عليك وأنت تفعله، بالعكس في الحديث الشهير إن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يُذنِبه، يُوجَد رزق كان مُقدَّراً لك لكن ستُحرَمه لأنك أذنبت ذنباً، لكن كيف مُقدَّر وكيف حُرِمته؟ في نفس معنى حديث ولا يرد القضاء إلا الدعاء، كيف الدعاء يرده؟ الدعاء من القضاء، أليس كذلك؟ والدعاء من القدر، كيف؟ انتبهوا، هذه المُعضِلات في ظاهرها – ليست مُعضِلات هي في الحقيقة – ستجد أحسن تفسير لها ضمن ماذا؟ المُقارَبة الكمية، فيزياء الكم، سنفهمها بعمق جديد لأول مرة، ليس لأننا أذكياء وشاطرون، العلماء ذكي وشاطر، أتى لنا بمُقارَبات جديدة، الحتميون لا يُحِبون المُقارَبة الكمية، تُزعِجهم كثيراً، لأنها تفتح أبواباً غير عادية للحرية، أي للحرية الإنسانية، فتحتها السماء – بفضل الله – من يومها، أليس كذلك؟ من يوم نزل القرآن الكريم هذا الباب مفتوح، العبد يُحرَم الرزق بالذنب، قال لك لا يزيد في العمر – والحديث في الصحيح، في مُسلِم – إلا البر، البر؟ هل إذا كنت عبداً باراً يزداد عمري؟ النبي قال لك نعم يزيد، وما وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، عُمِّرت أنت، أُعطيت عمراً جديداً أو سيُنقَص من عمرك الأبعد بالبغي، هذا عكس البر، هذا الدين، هذا الإسلام الذي لم نفهمه وقمعناه وأدخلناه في إطار لاهوتي من عندنا ظننا أنه هو الحق، غير صحيح، هذه نصوص، نصوص واضحة جلية!
الأكثر من هذا – وذكرت هذا في خُطبة القدر محواً وإثباتاً عن المحو والإثبات، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ ۩ – إذا رأيت رؤيا في المنام أزعجتك وأنت تعرف أنها تُنذِر بشيئ سيئ هل تُريد ألا تتحقَّق؟ سوف تقول لي كيف وهي رؤيا من الغيب؟ النبي علَّمك، قال لك يُمكِن ألا تتحقَّق، كيف يا رسول؟ قال لك اسكت، اكتم عليها، استعذ من الشيطان الرجيم ولا تُحدِّث بها أحداً فإنها لا تضرك، ماذا لو كان لساني طويلاً ولا تُبل – كما يُقال – فولة في فمي؟ بعض الناس كذلك، أعصابه ضعيفة فلابد أن يقول لأنه مُنزعِج، فليقل وسوف تحل مصيبة على رأسه، النبي قال لك الرؤيا لأول عابر، إذا أسعدك الحظ وقلت هذه الرؤيا السيئة لإنسان طيب يُحِبك ويُحِب لك الخير سوف يقلبها إلى خير وهي شر، واضح أنها شر، سوف يقول لك لا، هذه معناها – إن شاء الله – كذا وكذا وسوف تأتيك هبرة من الأموال، والرؤيا كانت تعني أن رؤوساً ستُقطَع، لكنه قال لك سوف يأتيك مال إن شاء الله، النبي قال الرؤيا لأول عابر، ما هذا يا رسول الله؟ ما هذه القصة يا رسول الله؟ التبس علينا الأمر، لكن الرسول مُستوى عالٍ جداً جداً، ما كان أن يُفهَم إلا في القرن العشرين بالكم ومُقارَبة الكم، شيئ مُحيِّر مُذهِل رهيب، فتح رهيب جداً هذا، لم يقل أحد منهم هذا لكنه موجود عندنا في ديننا، وليس هذا فحسب، قال لك الرؤيا على جناح طائر ما لم تُقَص، إذا قُصَت وقعت، هي محمولة فاسكت عليها ولن تقع، لكن إذا قلتها سوف تتحقَّق، وسوف تتحقَّق على النحو الذي قال لك إياه، قد تقول لرجل مشؤوم Baksuz رأيت كذا وكذا فيقول لك سيموت كل أولادك أو يقول لك مثلاً كم عدد أولادك؟ فتقول له ستة فيقول لك سيظل اثنان منهم اثنان فقط، وفعلاً يحدث هذا مع أولادك، ولذلك لا تُحدِّث بالرؤيا إلا ذا ودٍ – ذوو الود الذين يُحِبونك ويُحِبون لك الخير – لأنها لأول عابر، رأي ثاني عابر ليس له قيمة، مثلما عبَّرها أول عابر – هذا الـ Baksuz – ستقع، الله! ما هذه القصة يا رسول الله؟ ما الذي يحدث؟ قال لك هذا هو، القدر ليس كما تفهمه، ليس مساراً واحداً مُحدَّداً ولا يُوجَد غيره، غير صحيح، هذا كذب على الله ورسوله، قال لك القدر طيف من الإمكانات، حقل كمومي رهيب، في كل لحظة – في هذه اللحظة أي أحد فيكم ينطبق عليه هذا – أمامك أنت إمكانات مفتوحة بحسب الكم لا نهائية، إذا أخذت في هذا السبيل ما الذي يحدث؟ إذا أخذت في هذا السبيل يتعيَّن ويتحدَّد ويبرز هذا السبيل ومن ثم تنهار السُبل الأُخرى وتتلاشى، اختفت وانتهت، الله أكبر!
أنا عندي نية الآن بعد صلاة الجُمعة أن أقوم لكي أُصلي أربع ركعات لوجه الله وسأطلب من ربنا أن يفتح علىّ بالخير وبذكره وشكره وحُسن عبادته وسأطلب أشياء طيبة، هذا حلو، هذا مسار قد يتفق مع ساعة إجابة فتتغيَّر حياتك كلها، لكن أنا عندي رغبة بعد هذه الخُطبة اللعينة المُعقَّدة – ما هذه الخُطبة يا أخي؟ – أن أخرج مُباشَرةً ركضاً لكي أُتابِع الفيلم – Movie – الذي أُريده أن أراه من يومين، هذا مسار آخر وسوف يُغيِّر حياتك أيضاً، انتبه إلى هذا، عندك مسارات عديدة، العجيب يا إخواني أن هذا ثبت تجريبياً لكن – انتبهوا – في حق الأجسام الذرية الصغيرة، الـ Subatomic كما يُسمونها، أي الجُسيمات دون الذرية Subatomic particles، كيف؟ كلكم أكيد سمعتم بتجربة الشق المُزدوَج، لن أُعيدها حتى لا أكون مُمِلاً – لا أُحِب أن أُعيد نفسي – لكن باختصار – لأن عليها تنويع وعليها تجديد – لدينا مدفع إلكترونات Electrons أو حتى فوتونات Photons ولدينا حائط – حاجز أيها الإخوة – وفيه فراغان يسيران جداً يسمحان للفوتونات Photons وللإلكترونات Electrons بالعبور منهما، ولذلك يُسمونه Double-slit، أي الشق المُزدوَج، هناك شقان، هذه Double-slit experiment، وبعد ذلك هناك شاشة حسّاسة يقع عليها الإلكترون Electron أو الفوتون Photon، هل هذا جميل؟ قال لك سوف نُطلِق الآن، اطلقت وانظر بعد ذلك إلى النمط الذي سيتكوَّن على الشريط الحسّاس، العلماء ذُهِلوا، النمط هذا نمط موجي، ولا يُمكِن – لا نشرح هذا وهو معروف في الفيزياء – أن يتكوَّن هذا التراكب والتهادم إلا إذا كان التيار الذي جاء هو تيار موجي، هي موجة – Wave – وليست جُسيمات مُفرَدة، موجة تعمل هذا، قال لك هذا موجي، هذا يعني أن نيوتن Newton المسكين كان مُخطئاً، كان يقول أن الضوء هو Particles، واتضح أن رأي هيوجينز Huygens هو الصحيح، قال لا، هو موجات، قصة كبيرة ونيوتن Newton طبعاً فاز، لكنه الآن خسر، خسر جولة نيوتن Newton، العلماء قالوا جميل، دعونا نضع عند الحائط الذي فيه الـ Double-slit مرقابين، سنضع مرآتين لكي نُراقِب الإلكترونات Electrons وهي تعبر، أول ما وضعوا المرآتان أصبح النمط نمطاً جُزيئياً جُسيمياً، تنطلق كجُسيمات واحدة تلو الأُخرى بشكل عادي مثلما تُطلِق أي كرات عادية، تدخل وتُحدِث لك النمط الجُسيمي، ضربات من الحبات، الله! ما الذي يحدث؟ إذا راقبناه يسلك الفوتون Photon أو الإلكترون Electron سلوكاً جُسيمياً وإذا تركناه في غفلة منا يسلك موجياً، سوف نرى ما دلالة هذا التي لا تُقال لنا كثيراً، هناك دلالة خطيرة، الحمد لله بعض علماء الأعصاب – ليس الفيزياء وإنما الأعصاب – الذين أقلقتهم الحتمية العصبية هذه طرحوا هذا التساؤل وكشفوا الدلالة، دلالة خطيرة بفضل الله، هناك ما هو أعجب من هذا، العلماء خطر لهم بعد ذلك أمر هام، قالوا دعونا نقوم بتجربة ثانية، الآن لن نُراقِب هذا الإلكترون Electron أو الفوتون Photon حين يعبر من الـ Double-slit، دعوه يعبر، كيف سيعبر؟ سيعبر موجات، أليس كذلك؟ نحن قبل أن ترتطم بالشريط الحسّاس – الجدار الخطير – سوف نُراقِب، مضبوط؟ المفروض بالعقل أن تصل موجات، لأنه عبر موجات، عبر من الـ Double-slit،عبر موجات فعلاً، في آخر نطاق ضيق جداً تمت المُراقَبة فانقلب جُسيمات! العلماء اقشعر بدنهم، شيئ مُحيِّر، هل تعرفون ما المُحيِّر هنا؟ هذا يعني – انتبه – أنه عبر موجات – عبر وانتهى الأمر، عبر موجات، عبر العقبة الكؤود موجات – وحين راقبته قبل أن يرتسم على الحائط الحسّاس أثره وأثر ضرباته كأنه عاد القهقرى في الزمان، قال لك أنا مُخطيء وأُريد أن أرجع، في الزمان وليس في المكان! كأنه عاد في الزمان، رجع وقالك ما دامت تُراقِبني أيها الإنسان الفضولي سأعود إلى جُسيميات، سأُخرِج لك قروناً ولن تفهمني، وفعلاً علماء الفيزياء احتاروا، طبعاً لا نُريد أن نقول ما المُقرِّرات الخاصة بهم وما نظرية كوبنهاجن Copenhagen، هذه قصة طويلة، لكن علماء الأعصاب وحديثاً – قبل سنوات يسيرة – قالوا لا، هذا الموضوع عنده دلالة خطيرة، لماذا لم تتكلَّموا عنه؟ المُراقَبة – Observation – التي نقوم بها مَن الذي يقوم بها؟ العقل الإنساني، الذكاء الإنساني، هذا الفضول الإنساني الكبير، قال لك هل – السؤال المطروح على نطاق علماء الأعصاب، ولذلك أنت الآن ستجد كُتباً من مئات الصفحات عن علماء الأعصاب وفيزياء الكم، ما علاقة هذا بموضوعنا؟ حقل جديد، حقل جديد في العلم وهو مُعقِّد جداً ومُهِم وواعد جداً – المُلاحَظة البشرية وهل تدخل الذهن البشري يُؤثِّر في المادة؟ دخلنا في الباراسيكولوجي Parapsychology، قال لك ليس لي علاقة، هذا الذي يحدث، وواضح أنك حين تتدخَّل بذهنك لتُراقِب المادة تنفعل، تنقلب طبيعتها، طبيعتها تنقلب!
سوف تقول لي إذا هذا في المادة التي هي مُتخارِجة عني – ليست أنا – لماذا لا يكون لقراري الحر – إرادتي أن أفعل أو لا أفعل أو كذا – دور كبير؟ لماذا لا يكون لها دور كبير في تحديد قدري ومصيري؟ أليس كذلك؟ وهكذا أُفلِت مُحلِّقاً بجناحين من المُقارَبة الكمية من لعنة الحتمية ومن ضيق وأوهاق الحتمية، تحرَّرت بإذن الله، أليس كذلك؟ هذه الأسئلة ما زالت قيد الدرس والبحث والتعاطي، قلت لك فيها دراسات لعلماء من جميع هذه التخصصات، شيئ عجيب جداً!
أختم أخيراً – وقد أطلت عليكم – بمُلاحَظة ينبغي أن تُطرَح بصدد تجربة بنجامين لبيت Benjamin Libet التي ذكرتها في الخُطبة السابقة، يُوجَد سؤال الآن، سؤالي ليس كيف أنا وعيت وعياً حاضراً بالقرار الذي تم اتخاذه في غير وعيي قبل هذا، قبل هذا بأجزاء من الملي ثانية، ثُلث ثانية مثلاً؟ يُوجَد سؤال الآن وهو سؤال مُهِم جداً جداً، إذا كان الكيان الواعي في أو الجُزء الواعي فيه ليس هو الذي اجترح قراراً بأن يُحرِّك يدي من رُسغها هذا يعني وجود شيئ في دماغي – في الغابة الدماغية – هو الذي فعل هذا الشيئ، السؤال: هذا الشيئ أو هذا الكيان واعٍ أم غير واعٍ؟ والأخطر من هذا: هو نفسه واعٍ وليس أنا، هو نفسه واعٍ بعيداً عني، هل هو مُختار أو ليس مُختاراً؟ قد يقول لي أحدكم ما هذا السؤال الغبي، لكنه سؤال ذكي جداً ومُهِم جداً، هل هو مُختار أو غير مُختار؟ سوف تقول لي كيف يُمكِن اختبار هذا؟ بأسهل ما يكون وهو مُختبَر أصلاً، هل تعرف لماذا؟ لأن الـ Subjects الذين وافقوا أو الأعضاء الذين وافقوا أن يدخلوا التجربة وحرَّكوا أيديهم وكتبوا لدينا الآن سؤال بشأنهم: لو أن أحدهم قال لك لن أُحرِّك هل يستطيع ألا يُحرِّك أو لا يستطيع؟ حتماً يستطيع، يستطيع ألا يُحرِّك، وسوف يُسأل لماذا لم تُحرِّك ومن ثم قد يقول لم أقتنع بهذه التجربة كلها، شعرت أنها سخف، السؤال إذن: إذن هذا الكيان السابق على الجُزء الواعي فيك أيضاً كيان مُختار، أليس كذلك؟ كيان مُختار يستطيع أن يفعل ويستطيع ألا يفعل، عنده حرية الرفض، حرية الفيتو Veto، أي الـ Free want كما قلنا، أليس كذلك؟
أنتم رأيتم أن المُصابين بالأمراض – مثل مرض هنتنغتون Huntington والأمراض الأُخرى – ليس عندهم حرية ألا يفعلوا، أليس كذلك؟ الواحد منهم ليس عنده هذا، المسكين يفعل لكن ليس عنده حرية ألا يفعل، انظر أنت ما مدى دلالة حرية أن يفعل بغير ألا يفعل؟ كأنها ليس لها أي دلالة، أليس كذلك؟ رُغماً عنه يُحرِّك يده، رُغماً عنه يسبك، رُغماً عنه يتعرى، سوف تقول لي هذا المسكين عنده حرية أن يفعل، لكن ما المعنى؟ ما الذي يتبقى من هذه الحرية ولهذه الحرية إذا لم تكن مضفورة بحرية ألا يفعل؟ مثلنا جميعاً، نقدر على خلع ملابسنا ونقدر على عدم خلعها، نستطيع هذا، هذه الحرية، الحرية مضفورة من جُزئين: أن تفعل وألا تفعل، هذا الكيان قبل الجُزء الواعي فيك أيضاً كيان واعٍ مُختار، عنده حرية أن يفعل وعنده حرية ألا يفعل، يرجع السؤال هنا: ما هذا الكيان وما طبيعته وما طبيعة علاقته بي؟
تعرفون سأقول لكم شيئاً قلته قبل سبع سنوات حين تحدَّثت عن الهندوسية في مُحاضَراتي عن الأديان المُقارَنة لكنه من أروع ما يكون، الفكر الشرقي القديم والفكر الصوفي الإسلامي أيضاً من قديم أدرك يا إخواني فعلاً أن لنا حقيقتين، هناك حقيقة روحية سماوية مُتعالية على البدن وكل مُكوِّنات البدن، وإذا أردنا أن نأخذ اختزالية دوكينز Dawkins لن نقول الجينات Genes الأنانية وإنما الروح الأنانية، هناك روح هي حقيقتنا وجوهرنا وهي التي تقود البدن وتُوجِّه البدن وتستخدم البدن، وهذا تشبيه أفلاطوني، أفلاطون Plato شبَّه بمثل هذا، تعرف العربة والأحصنة والحوذي، هذه الروح هي الحوذي، هي المُسيِّطر على المركبة كلها، هي التي في الـ Charge، أي في المُهِمة وفي الـ Control، هي الروح الأنانية وليس الجين Gene الأناني، كيف الهندوس علَّموا الناس أن يصلوا إلى هذه الحقيقة الغامضة الغائصة في أعماق ذواتهم؟ حقيقتك الروحية ما هي؟ كيف تعرف؟ قال لك دق إسفيناً – تعرفون الإسفين – أو دق إزميلاً بين حقيقتك الظاهره هذه البدنية العصبية الاجتماعية المُقوَّلبة وبين حقيقتك الحقيقة الحقة التي أنت غافل عنها، دق الإسفين، سوف تقول كيف أدق الإسفين؟ قال لك هذا سهل، تُوجَد تقنيات مُعيَّنة، حين تتحدَّث مع نفسك أو تتحاور مع نفسك تحاور بصيغة الشخص الثالث Third Person، وبالمُناسَبة نحن نفعل هذا أحياناً لا أرادياً دون أن نفهم دلالته، فالواحد يقول عن نفسه هذا يدّعي أنه يفهم – يقول هذا عن نفسه – وليس أنا أدّعي أنني أفهم، يقول هذا يدّعي أنه يفهم، فليقم يا أخي ويتحدَّث، خرَّب الله بيت شيطانه، يقول هذا عن مَن؟ عن نفسه، قال لك تحدَّث بصيغة الشخص الثالث لكي تكون هناك مسافة تسمح لك بالحضور والمُشاهَدة، سوف تُشاهِد ماذا؟ سوف تُشاهِد الشخص الثالث، حقيقتك البدنية التعيسة سوف تراها عن بُعد، الآن السؤال مَن الذي يرى؟ الحقيقة الحقة، مَن الذي يُطلِق اللوم وما إلى ذلك؟ الحقيقة الحقة، ثم تبدأ تُشاهِد الشخصية القناعية، قال لك Personality، Person تعني كلمة شخص، Persōna باللاتيني ماذا تعني؟ ما معنى Persōna؟ القناع يُسمونها، أي الـ Mask، لماذا إذن؟ قبل أن يظهروا على المسرح يضعون أقنعة في البداية،Per-sōna من جُزئين: Per باللاتينية معناها عبر، أليس كذلك؟ Per تعني عبر أو بواسطة، مثل Per فاكس Fax أو Per كذا، فـ Per تعني عبر أو بواسطة، والـ sōna تعني يُذيع، لماذا؟ حين كان يظهر المُمثِّل على خشبة المسرح في العصور الوسطى كان عبر هذا القناع يقول للناس ما الدور الذي يُؤديه هو: هذا دور الإمبراطور، هذا دور الخادم، هذا دور الفارس، هذا دور الحوذي، فـ Per-sōna تعني ما يُذاع عبره، فأنت شخصيتك هذه كلها – الأستاذ الدكتور أو الشيخ أو الجرّاح أو فلان الفلاني ابن فلان على مذهب كذا وعلى الطريقة الفلانية – Per-sōna، كل هذا Per-sōna، كل هذا قناع، ليست هذه الحقيقة، فكيف أعرف الحقيقة؟ الحقيقة تعرفها حين تدق هذا الإسفين ثم تبدأ في مُراقَبة الشخصية القناعية، سوف تقول لي لذلك الصوفية والعُرفاء عندهم قدرة على مُحاربة الألم أو بالأحرى ليست قدرة على المُحارَبة وإنما قدرة على عدم الإحساس بالألم، يقول لك أعطني لحظة فقط، أعطني لحظة ثم افعل ما تُريد بعد ذلك، العب له بعد ذلك في أحشائه أو في بلعومه – مثلاً – ولن يشعر بأي ألم، انفصلت الحقيقتان، حقيقته الحقيقة أو الحقيقية ليس لها علاقة بالألم، الألم والضجر والنكد والتعب والجوع والعطش والجنس والخوف كلها أمور لها علاقة بالـ Per-sōna، أليس كذلك؟ من قديم فهموا هذا، لكن هذه قصة طويلة للأسف ذكرناها في النهاية فاختزلناها وشوَّهناها، لعلنا نُفصِّل فيها في مرة أُخرى!
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اهدنا فيمَن هديت وعافنا فيمَن عافيت وتولنا فيمَن توليت، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم أعطنا فوق سؤلنا برحمتك يا أرحم الراحمين واكفنا ما أهمنا من أمر دُنيانا وأمر أُخرانا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله)
فيينا (3/3/2017)
أضف تعليق