“إنت بتتكلم في إيه.. دي واحدة مرتدة.. والحديث بيقول من بدّل دينه فاقتلوه.. ولا إنت مش عاجبك الإسلام أصلا؟”.
كان هذا نص، أو مضمون، رسائل كثيرة، تلقيتها عقب نشر مقال “جريمة عنصرية في الغرب المنافق”، في الأسبوع الماضي، ويبدو أن التعصب المقيت منع كاتبيها من التركيز في قراءة ما جرى للمرحومة مروة، قتيلة الفيوم، ليدركوا أن قتلها لم يكن متعلقاً فقط بتبديل دينها، فوقائع الجريمة المنشورة في صحيفة “التحرير” تروي أنها نطقت بالشهادتين، قبل أن يذبحها شقيقاها، ولو كان الذين ذبحوها حريصين على الدين حقا، لأوقفوا قتلها عقب نطقها بالشهادتين. لذا، أظن أنه كان سيتم قتلها بتلك الطريقة البشعة، حتى لو صدرت لقاتليها عدة فتاوى تحرّم ما يفعلونه، لأن الدين في مجتمعاتنا البائسة ليس إلا مجرد غطاء شرعي مصطنع، تتخفى خلفه أفكار متوارثة كريهة، تتعامل مع المرأة بوصفها “شيئاً” مملوكاً لعائلتها، وتعتبر خروجها على طاعة ذكور العائلة عاراً، يوجب القتل. ولذلك، سبق أن سُجلت حوادث قتل فتيات مسيحيات، لأنهن خرجن على طاعة العائلة، وهربن مع شباب مسلمين.
في حالة قرية طامية، كما في حالاتٍ سبقت، لم تتوقف الجريمة عند قتل مروة، بل امتدت إلى العقاب الجماعي لأهل الشاب الذي تزوجته رغما عن أهلها، ولأنها لم تكتف فقط بالهروب معه، بل وتنصرّت أيضا، فقد وجدت جريمة قتلها، ثم جريمة تهجير أهلها، قبولاً اجتماعياً واسعاً، ووجدت من يؤيد ذلك ويبرّره، حتى أن بعض من راسلوني اعتبروا أن ما حدث من تهجير لأهل الشاب أمراً يصب في مصلحتهم، ويتفق مع الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى درء الفتن، فبقاء أهل الشاب في القرية كان يمكن أن يعرّضهم للقتل، من بعض الغاضبين من أهل الفتاة الذين سيتذكرون عار العائلة، كلما رأوا أحد أفراد عائلة الشاب، وبالتالي، كان من المفترض، كما يقول هؤلاء، أن أوجه رسائل شكر إلى مسؤولي الدولة، لأنهم قللوا عدد الخسائر إلى الحد الأدنى. لم ينتبه هؤلاء إلى أنهم يستخدمون نمط تفكير المتطرفين اليمينيين في الغرب الذين يطالبون بترحيل المهاجرين إلى بلادهم، لأن في ذلك تجفيفاً لمنابع الإرهاب، ودرءاً لأي كوارث قادمة، الفرق أنهم هناك يطالبون، ولا تستجيب لهم الدولة، ولا يبرّر لهم المجتمع. ومع أن من يقرّون منطق العقاب الجماعي، هنا وهناك، يرفعون، في الغالب الأعم، شعارات دينية، إلا أن أحداً منهم لا يتذكّر، في مواقف كهذه، قيم الدين التي تتحدّث عن العدالة والتسامح والرحمة ورفض العقاب الجماعي، ولا يستعيدون نصوصاً مثل “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، أو “لا إكراه في الدين”، أو “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم”، فهي نصوصٌ تبدو جذّابة فقط في الخطب والعظات، لكنها لا تبدو صالحة للإستخدام، حين يتعلق الأمر بالواقع الذي تنتصر فيه الكراهية دائماً، لأنها تحقق للإنسان رغبته في السيطرة والتسلط.
كان من السهل أن أكتب مقال “جريمة عنصرية في الغرب المنافق” بشكل يقدّم، منذ البداية، إدانة مباشرة لجريمة القتل التي ارتكبت بحق مروة، وكان ربما سيعبر من دون أن يغضب كثيرون منه، لكنه أغضب الكثيرين، حين اكتشفوا، بعد أن قرأوا نصفه، أنه لا يتحدث عن جريمة وقعت في بلاد الفرنجة، بل عن جريمة شنيعةٍ وقعت في بلادنا التي تستمد قانونها من مبادئ الشريعة الإسلامية، فبالتأكيد ذكّرهم ذلك بتناقضاتهم المتعددة التي تجعلهم يندفعون إلى استنكار الجرائم، حين تحدث لأبناء دينهم أو طائفتهم أو إتجاههم السياسي، لكنهم يندفعون لتبريرها أو يصمتون تواطؤاً معها، حين تتعلق بمن يختلفون عنهم في الدين، أو الطائفة، أو الإتجاه السياسي، ولا أظن أنك بعد ما جرى في “ماسبيرو” و”محمد محمود” و”رابعة” وغيرها من المذابح بحاجة إلى أمثلة صارخة مخجلة على تلك التناقضات الفاضحة.
بعض هؤلاء الغاضبين حاول “الغلوشة” على المقال، بالقول إن القتيلة هربت وهي متزوجة، على الرغم من أن والدها قال، في حوار صحفي منشور، إنها كانت مطلقة، ومع أن كونها مطلقة أو متزوجة لا يغير في بشاعة الجريمة شيئاً، حاول آخرون التشكيك في القصة كلها، بعد أن تسرّعت مواقع بنشر صورة خاطئة للقتيلة، تخص ضحية سورية، تعرضت للقتل أيضا من قبل، مع أن خبر الجلسات العرفية التي حكمت بعقاب تهجير أسرة الشاب نشرته عدة صحف ومواقع إخبارية، أما الأكثر عددا، فقد تحمس لعمل حملة “ريبورتات” ضد المقال في موقع فيسبوك، دفعت إدارة الموقع إلى حجبه ثلاثة أيام، بسبب السياسة العمياء التي يتبعها الموقع في التعامل مع الإبلاغ عن المحتوى، والحقيقة أن هؤلاء الذين أغضبهم المقال، أكثر مما أغضبتهم جريمة قتل مروة، يستحقون الشكر، لأنهم ساعدوني بشكلٍ لا يتصورونه على نشر المقال، خصوصاً بعد أن طلبت من أصدقاء ومتابعي صفحتي على “فيسبوك” مساعدتي في نشر محتواه، فوصل إلى أضعاف العدد الذي كان يمكن أن يقرأه، لو تم نشره في هدوء، وهو ما أسعدني، لأنه جعلني ألمس بنفسي وجود آلاف لا زالوا يحتفظون بإنسانيتهم، ويرفضون أن ينصب أحد نفسه ظلاً لله على الأرض، فينهي حياة البشر باسم الله أو الوطن، وأزعم أنك ستجد أغلب هؤلاء، ممن سبق لهم استنكار مذابح “ماسبيرو” و”رابعة” و”محمد محمود” و”بور سعيد” الأولى والثانية، وأنهم لم يكونوا من المجاهرين بجملٍ كريهة من عينة: “إيه اللي ودّاها هناك.. هما اللي ابتدوا.. كان لازم ده يحصل عشان هيبة الدولة.. أحسن دول عايزين إبادة جماعية”.
لم أستغرب أن أجد من بين اللاعنين للمقال عدداً من أنصار عبد الفتاح السيسي ودولته القاتلة، فهؤلاء يسارعون، دائماً، إلى تأييد أي قتل أو قمع أو عقاب جماعي، يتم بأيدي الدولة، أو تحت رعايتها، لأن ذلك يرضي نزعاتهم العدوانية، المتوهمة، أن الإستقرار لن يأتي إلا نتيجة للفرم والسحق، وبالطبع، لن تجدي أي محاولة لإقناع هؤلاء بأن ممارسة الدولة القتل والقمع يقتل بالتبعية أحلام الإستقرار، ويساهم في صناعة الإرهاب، بشكل فعال، سيدفع ثمنه قتلى آخرون من ممثلي الدولة، يكونون عادةً من الطرف الأضعف والأقل حيلة. لكن، ما استغربته بعض الشيء أن يكون أغلب الرافضين للمقال من أنصار تيارات الشعارات الإسلامية، لأنني تصوّرت أنهم إن لم يغيروا أخيراً أفكارهم العدوانية المتعالية على كل من يختلف معهم، سيغيّرون على الأقل أداءهم في التعبير عن تلك الأفكار، ليكون أكثر تحفظاً، خصوصاً بعد أن تعرّضوا، في العامين الماضيين، لحملات عقاب جماعي بشعة، كان يُفترض أن تجعلهم أكثر حذراً في تأييد القتل أو تبريره، حتى لو كان المقتول قد ارتكب ما يرفضونه من الناحية الشرعية. وكنت أتصور أن أغلب هؤلاء سيتذكّرون أن ما تعرّضوا له، هم و”إخوتهم”، من قتل وقمع، تم أيضا باستخدام نصوص دينية، وعقب جلسات وعظية مكثفة، قام بها شيوخ المؤسسة الرسمية، وهو ما يكرّرونه بحذافيره، حين يستخدمون حديث (من بدّل دينه فاقتلوه) لتبرير جريمة قتل سيدة، ولا أدري إذا لم يكن الإنسان سيتعلم من محنته، فكيف يمكن له أن يتعلم.
حين أدهشني عدد الرسائل التي تحتوي على حديث تبرير القتل، فكّرت في أن أكتب نصاً قصيراً يلخص دراسات كتبها مفكرون متخصصون في الشريعة الإسلامية، والذين فنّدوا حجج وأدلة وجوب قتل المرتد، وفي مقدمتها الحديث الذي تتعارض روايتاه مع آيات قرآنية تكفل حرية العقيدة، وترجئ عذاب المرتد إلى الآخرة، وتجعله حقاً لله وحده، وهي آياتٌ محكمة، أثبت هؤلاء المفكرون أنه لا يمكن لحديثٍ، مهما كانت صحته، أن ينسخها أو يبطلها، وفي مقدمة تلك الآيات، بالطبع، الآية التي تقرّر أنه (لا إكراه في الدين)، وهي آية لم ترد في قائمة الآيات التي تم نسخها، كما يخبرنا الإمام السيوطي. كنت أفكر في كتابة تلك الأفكار التي لا تزال عالقة في ذهني، لأنشرها في تدوينة قصيرة، حين جاءتني وسط ركام الرسائل اللاعنة أو الغاضبة، رسالة هادئة من متابع يضع شعار رابعة مكان صورته الشخصية، فلمست فيها رغبته في البحث والتساؤل عن موقفي، أكثر من سعيه إلى إدانته، فنصحته بقراءة كتاب للشيخ الدكتور طه جابر العلواني عنوانه (لا إكراه في الدين)، درس فيه إشكالية حد الردة في الفقه الإسلامي دراسة وافية شافية، تسكت كل من يعتبره جزءاً من الشريعة الإسلامية، وكتاب آخر للدكتور محمد سليم العوا (الحق في التعبير) ينفي عن عقوبة الردة أن تكون حداً شرعياً، ونصحته أن يبحث عن مقالة منشورة للدكتور العوا تحمل ملخص فكرته، بعنوان (عقوبة الردة تعزيراً لا حدّاً)، ثم قلت له إنني لا أرى أن المسألة أصلا مطروحة للنقاش الآن، بعد كل ما جرى في الدنيا من متغيّرات، وبعد أن أصبحت حرية العقيدة أمراً مرتبطاً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يتذكّره الإسلاميون عند الحاجة إليه فقط، ومع ذلك، فإن هذين الكتابين يمكن أن يردّا على تساؤلاته حول عقوبة الردة من الناحية الفقهية.
وربما لأن الرجل بدا لطيفاً، في رسالته الأولى، توقعت أن يحمل رده على رسالتي وعداً بقراءة الكتابين، ثم النقاش حولهما فيما بعد، لكن رده جاء سريعاً ومخيباً توقعي، حيث قال لي إنه لم يسمع من قبل عن الدكتور طه جابر العلواني، وبالتالي، لا يمكنه أن يعتمد على شخصٍ لم يسمع عنه من قبل، كما أنه لا يعتبر الدكتور محمد سليم العوا أهلاً للحديث في الدين والشريعة، بدليل أنه رجل حليق الذقن، فكيف يأخذ الإنسان دينه عن شخصٍ لا يلتزم بالسنة النبوية، وحين رددت ساخراً: يمكن أن ألخص أنا لك أفكار الإثنين، وتأخذها عني، بوصفي ملتحياً، سمعت عنه، لم يأت رده بلطف الرسالة الأولى نفسه، فحمدت الله أنني لم أنصحه بقراءة إجتهادات مهمة، سبق أن قدمها في موضوع الردة وحرية العقيدة في الإسلام، كل من الأستاذ جمال البنا والدكتور أحمد صبحي منصور والأستاذ محمد شحرور والأستاذ نيازي عز الدين والأستاذ عدنان الرفاعي والأستاذ عدنان إبراهيم، فضلا عن كتاب سهل القراءة، جميل المحتوى، للأستاذ محمد منير إدلبي يحمل عنوانا رائعا هو (قتل المرتد.. الجريمة التي حرّمها الإسلام)، فجميع هؤلاء ـ بشكل أو آخر ـ متهمون في دينهم، من أمثال أخينا ومن هم أكثر منه تشدداً، لأن آراءهم تدعو إلى التفكير والتأمل وإعمال العقل، وهي مهام مجهدة ذهنياً. ولذلك، لا تجد لها جمهوراً عريضاً، كالذي يجده من لا زالوا يتوهمون أن بإمكانهم، في القرن الحادي والعشرين، الاستمرار في تعميم النسخة المتشددة والكئيبة والدامية من الإسلام، مع أن كتب التراث التي يعتمدون عليها في فرض رؤيتهم للإسلام، كتب متنوعة وحمّالة أوجُه ونُسَخ، بعضها أكثر تسامحاً وإنفتاحاً وعقلانية.
بعدها على بريد “فيسبوك”، تبادلت حواراً إلكترونياً مع قارئ مقيم في أوروبا، وصف نفسه بأنه “متبحر في الفقه والشريعة”، بادئاً حديثه بالإتفاق معي في خطأ ما فعله أهل القتيلة، وقبل أن أتنفس الصعداء، عاجلني بقوله إنهم كان لا بد أن يقيموا الحجة، أولاً، على أجهزة الدولة التي تقوم مقام ولي الأمر، ويطلبوا منها أن تستتيب القتيلة علناً، لكي تقيم عليها حد الردة إن رفضت التوبة، ولأنني كنت، يومها، في حالة صحية ومزاجية تسمح بالحوار، وتسمح بتخيل جدواه، فقد أرسلت إليه رداً مطولاً، مستغرباً أن يرد هذا الكلام من شخصٍ يدعي التبحر في الشريعة، ومستغرباً أيضاً عدم تأثره بالإقامة في مجتمع منفتح، يكفل فيه القانون حرية العقيدة للجميع، ليرد متعجباً مما وصفه بخلطي الأوراق، واعتقادي أن اضطراره لإحترام القانون الذي يطبقه مجتمع كافر يمكن أن يجعله يطالب بتطبيقه في مجتمع مسلم. وبالطبع، كان بديهياً لمن يتحدث بذلك الثبات الإنفعالي، أن ينفي وجود أي تناقض بين أن الإسلام دين الرحمة والعدل والعقل، وبين أنه دين يقتل من يرفض وراثته عن أبيه وجده من دون اقتناع. وحين أشرت، في ثنايا ردي، إلى كتابي الدكتورين العلواني والعوا، قال أخونا المتبحر إنه يعرفهما، لكنه لا يمكن أن يعتدّ برأيهما، ويهمل رأي كتابٍ، وصفه بأنه الحجة الساطعة في الفقه الإسلامي، بدليل أنه موجود في مكتبة كل بيت مسلم، مضيفا أن هدف مراسلتي هو إقامة الحجة عليّ بتنبيهي إلى مقتطفات من ذلك الكتاب، وأنني لو رفضتها، بعد ذلك، سأقع في طائلة الكفر والإلحاد، لأكتشف أن الأخ المتبحر حديث عهد بالقراءة لي، وإلا لكان قد عرف أن إخوة له سبق أن أوقعوني في طائلة الكفر والإلحاد، منذ سنوات خلت.
أضف تعليق